صحيفة المثقف

آفاق تغيير الروتين بعمل المؤسسات الثقافية!

ما زال بعض الكتاب والأدباء والفنانين يعولون على المؤسسات الرسمية ووزارة الثقافة بشكل خاص، لتقديم اعمالهم او كتبهم ومؤلفاتهم او معارضهم وافلامهم ومسرحياتهم، باعتبارها منتجات وطنية وفكرية وثقافية وفنية، ولا نقول كسلع، رغم انها في حقيقتها سلع، وتشبه باقي السلع في الاسواق ومعروضة للبيع، وبما انها معروضة للبيع فانها لا تختلف عن معاملة السلع الاخرى. ولكن ما يميزها، ان جمهورها ضعيف ومقتنيها فقراء، غير قادرين على اقتنائها رغم انها زهيدة الثمن، وميزة اخرى ان مقتنيها من الطلاب والدارسين والمثقفين ومحبي الادب والفن. ولا نحتاج الى اثباتات ان هذه المنتجات سلع، ولزيادة القناعة بانها كذلك، وضع الفنان جبر علوان مبلغ 15 الف دولار على احدى لوحاته في معرضه الشخصي الاخير، هل بيعت اللوحة ام لا؟ ليس هذا هو المهم: بيعت اللوحة ام لا؟ المهم حين وضع الفنان سعرا لاحدى لوحاته، اصبحت سلعة قابلة للبيع الشراء وهو ما نجده باكثرية معارض الفنون، وحين تقلب الكتاب او المجلة على صفحة الغلاف الاخيرة يطالعك سعرها او ثمنها.

وبذلك فان الفنان والكاتب والمؤلف والأديب والمبدع في جميع الحقول الثقافية والفنية، منتج، ولكن لنمط خاص من المنتجات، ولجمهور خاص من المقتنين، لا يشبه المتسوقين العاديين، ولكن ينطبق على منتجاته ما ينطبق على باقي السلع المعروضة للبيع رغم اختلاف اصنافها واستعمالاتها اليومية المحدودة او الواسعة. وهذه هي المشكلة بهذا النوع من السلع النادرة او النفيسة، ان يكون العمل الثقافي او الفكري او الفني منزها من موضوعة السلعة، ولكنه سلعة، في حقيقته، وهذه الفكرة تدفع بعض المؤلفين والفنانين الى اللجوء للمؤسسات الثقافية ووزارات الثقافة، لتبني اعمالهم او منتجاتهم، ولكن هذه المؤسسات لا يمكنها رعاية جميع المنتجات، وتقتصر على نمط خاص منها، تدخل فيها حسابات غير متوقعة من قبل المؤلفين والفنانين لانها تطمح ليس الى شراء منتجاتهم وانما شراء اصواتهم كذلك! وهذا يتعارض مع نزوع الكاتب والاديب او المؤلف والفنان، الذاتي وحريته الابداعية او استقلاله.

وعندما نفتح اي صحيفة او مجلة عربية نجد شكوى العديد من المبدعين والمؤلفين من هذه المؤسسات والوزارات التي تدفع بعضهم الى حافة اليأس او الانعزال ربما، حينما لا يجد نفعا فيها، وانها مجرد "خدعة" تحمل وسمة الثقافة الوطنية زورا او شكلا في احسن الاحوال، ولم تقدم هذه المؤسسات رغم ميزانيتها المالية الضخمة اي نفع للثقافة والفكر او اي نشاط ابداعي وفني اخر، وتتبجح باصدارات رديئة ومؤتمرات فاشلة وأمسيات ادبية وثقافية فاشلة ومحدودة، لاثبات الحضور ورفع العتب والدعاية في احسن الاحوال.

ولكن ما هو المطلوب من هذه المؤسسات والوزارات؟! انه سؤال مهم، لانه دائما ما ترمى هذه المؤسسات بالبطالة او بشكل ادق البطالة المقنعة عن طريق اقامة بعض المعارض السنوية والامسيات الادبية والمهرجات الفاشلة والمعارض وطباعة مجموعة محدودة من الكتب الرديئة، هذه هي جل نشاطاتها على مدار العام ! وفي نفس الوقت تشكو من قلة التخصيصات المالية، في الغرب اضافة الى هذه النشاطات الروتينية تقوم هذه المؤسسات بدعم النشاطات الفنية والمسرحية ودعم وتعضيد اصدار الكتب والمجلات المتخصصة، ونادرا ما يصدر كتاب ما مثلا بدون دعم مالي من هذه المؤسسات او تعضيد طباعته ونشره اي دفع جزء من تكاليف طباعته للتخفيف عن كاهل المؤلف والناشر. وبهذه الطريقة بدلا من ان تتبنى نشر 100 كتاب سنويا بالامكان نشر 200 كتاب، وضعف عدد المعارض وانتاج الافلام والمسرحيات بدون ان تتدخل في عوائد تلك النشاطات او ملكيتها الفكرية. ويمكن الاستفادة من عملية التعضيد هذه بنشر اكبر عدد ممكن من الكتب واقامة نشاطات متنوعة في جميع المجالات الثقافية والفنية على مدار العام .اضافة الى تشجيع المؤسسات الانتاجية الحكومية او الخاصة على دعم النشاطات الثقافية والفنية باعتبارها نشاطات وطنية وثقافية وترفيهيه .

ونتيجة لعدم فعالية وروتينية هذه المؤسسات والوزارات، نجد ان معظم المؤلفين يتحملون نفقات طباعة كتبهم وانتاج مسرحياتهم ومعارضهم مع التضحية بحقوقهم المالية والفكرية، وطالما قرأنا عن عمليات احتيال لناشرين يمارسون سرقة الحقوق المالية والفكرية للمؤلفين بطباعة الكتب او اعادة طباعتها، واحيانا بدون ترخيص، لتحقيق اقصى ما يمكن من فوائد على حساب حقوق المؤلفين. اما في مجال الانتاج السينمائي فالوضع اكثر تعقيدا لانه نادرا ما يمكن لمخرج العمل تحمل تكاليف الانتاج فيضطر للرضوخ لابتزاز المنتجين والممولين، وفي المسرح تجري نفس العمليات الابتزازية، ولكن بدرجة اقل لقلة تكاليف انتاج مسرحية قياسا بانتاج فيلم سينمائي، ولكن علينا ان نوازن بين ما تقدمه المؤسسات الرسمية، رغم محدوديته وبؤسه، وسعي المنتج او المؤلف او المبدع والفنان لنشر اعماله، خاصة ان عصرنا فتح افاقا واسعة للفنانين والمؤلفين باستغلال العالم الرقمي المشرع على جميع البلدان والقارات واللغات لايصال صوته، او تسويق منتجاته ومؤلفاته عبره بسهولة في البلدان العربية والاجنبية.

انه وضع حقيقي ومؤسف، يجعل من الثقافة والمنتجات الثقافية والفنية العربية، سلعة نادرة ونفيسة، ولكن صعبة، وبدون فوائد مالية للمنتجين والمؤلفين، وعبارة عن خسائر متتالية، لا تسد لو جزءا يسيرا من تكاليف انتاجها. وهذه تسبب الاحباط ليس للمؤلفين والفنانين، وانما تتعداها الى الدارسين والطلاب ومحبي الادب والفن والجمهور، وتؤدي الى تراجع الثقافة والفنون التي يمكن ان يملأ فراغها نشاطات غير ذات اهمية بدون محتوى ابداعي، ولا تتعدى مستوى الترفيه بمستوياته الهابطة او الساذجة احيانا، او لا تعكس مستوى من المستويات الثقافية والفنية الاصيلة للمجتمع بفنونه وفلكلوره وثقافته. كما نشير الى ان الابداع العراقي الفني والادبي الذي ملأ الافاق شرقا وغربا، لا يعتمد باي حال على مؤسسات بائسة ومتخلفة، لان العمل الابداعي الراقي لا ينتج بدون حرية واسعة، واستقلالية، تتناقض مع النمطية والروتين بعمل هذه المؤسسات.

مع ذلك ما زال بامكان هذه المؤسسات "المتحجرة" تغيير الروتين والنمطية بعملها للحاق بما وصلت اليه اليات عمل المؤسسات الثقافية حول العالم، وتفتح افاقا جديدة امام انتشار الاعمال الفنية والابداعية العراقية بمختلف البلدان واللغات.

 

قيس العذاري

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم