صحيفة المثقف

الاجتهاد الدينيّ ملكة ربّانيّة أم تخصّص بشري؟!

لا يختلف الاجتهادُ الحوزويّ عن غيره من التخصّصات العلميّة والإنسانيّة في احتياج التوفّر عليها إلى إتقان مجموعةٍ من العلوم الأخرى، ومن دون الإحاطة بهذه العلوم لا يتمكّن الطالبِ من الوصول إلى مرحلةِ التخصّصِ والقدرةِ على فهم العلمِ، وربّما توليده، والاجتهادُ في الحوزةِ ليس بِدَعاً عن هذه العلوم؛ فهو تخصّص (علميّ) يحتاجُ الوصول إليه إلى التسلّطِ والهيمنةِ على مجموعة من العلومِ، تُمَكّن الباحثَ حينئذٍ من استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلتها التفصيليّة كما يقولون، وعلى هذا الأساس: فمن يريد الوصول إلى هذه المرحلة التخصّصيّة فعليه التوفّر على مجموعة من العلوم، يعبّرُ عنها الأصوليّون والفقهاء بـ: «مبادئ الاجتهاد».

نعم؛ وقع الخلاف بين أعلام الأصوليّين والفقهاء في عددِ هذه العلوم، وطبيعتها وماهيّتها، وآليّة التوفّر عليها، وهكذا أثّر هذا الخلاف على طبيعةِ الاجتهادِ واشتراطاته لديهم، من هنا توجّب عليّ فتح البحث بدايةً في استعراض كلماتهم في هذه المبادئ الّلازمة، واتحوّل بعد ذلك إلى المقارنةِ بين اجتهادِ هذا المجتهد واجتهادِ ذاك، ولكن قبل هذا ينبغي الإجابة على السؤال التالي:

أين هو التوفيق والعناية الربّانيّة من الاجتهاد؟! أو ليس الدارج على الألسن والذي يروّج له بعض المعنيين: إن الاجتهادَ الحوزويِّ ملكةٌ ربّانيّةٌ لا تفاض إلا لمن ألقى السمع وهو شهيد؟!

وتعميقاً لهذه الفكرة أقول: ذهبَ بعضُ الفقهاءِ إلى أن الاجتهادَ عبارةٌ عن ملكةٍ قُدسيّة لا تحصل إلا من خلال الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرّمات، بل وبالمواظبةِ على أداءِ بعضِ المستحبّاتِ المهمّةِ وتركِ المكروهات، وتحلِّي النفسُ بالأخلاقِ الفاضلةِ وتخلّيها عن الرذائل؛ لأنّ العلمَ ليس بكثرةِ التّعلّمِ، وإنّما نورٌ يقذفه اللهُ بقلبِ من يشاء، نعم لا شكّ في إن الحصول على قواعد الاجتهاد والصناعة مسألة فنيّة تحتاج إلى إتعاب النفس بتعلّم العلوم المطلوبة والجدّ في طلبها مع شيءٍ من الاستعداد الفطري، ولكنّ تطبيق تلك القواعد الاجتهاديّة على المسائل الجزئيّة بغية استنباط الأحكام منها يحتاج: إلى عناية إلهيّة وتوفيق ربّاني!!

لكن هذا الكلام لم يقبله فريقٌ آخر من الفقهاء، وقالوا في إجابة ذلك:

إن أريد بالكلام أعلاه: إن هذه ملكة الاجتهاد لا تتحصّل إلا للورع التقّي الذي هذّب نفسه عن الرذائل وتحلّى بالفضائل، فهذا الأمر معلوم البطلان بالوجدان؛ وذلك لأن ملكة الاجتهاد كسائر الملكات تحصل للعادل والفاسق معاً، بل للمؤمن والكافر؛ فإن كلّ من له استعداد فطريّ، وجَدَّ واجتهد في طلبها بالطُرق المتعارفة فسوف يحصل عليها، سواء أكان عادلاً أم فاسقاً؛ فإن الله لا يضيّع عمل عامل من ذكر أو أنثى، نعم (ربّما) لا يوفّق الفاسق المتهتك لإتمام عمله؛ فإن التوفيق من عند الله لا يعطيه إلا لمن أراد، ولكنّا نتحدّث وفقاً للضوابط الطبيعيّة، أضف إلى ذلك: لو كانت ملكة الاجتهاد عناية إلهيّة لا تُعطى إلا لمن كان ورعاً وعادلاً؛ فلماذا يشترط الفقهاء العدالة والورع والتقوى في مرجع التقليد؟!

وعلى هذا الأساس: فالواجب على جميع من يريد التقليد التثبّت من شرط العدالة والورع والتقوى في مرجع تقليده، قبل التثبّت من اجتهاده وأعلميّته؛ فكما لا يُجزي تقليد من لم يثبت اجتهاده وأعلميّته، لا يُجزي تقليد من لم تثبت عدالته وورعه وتقواه فضلاً عن من ثبت له العكس، ولا ملازمة بين الاجتهاد والعدالة، ولكن يبقى السؤال الذي يبحث عن إجابة منذ عقود؟ كيف يمكن للمقلِّد أن يتثبّت من عدالة وتقوى مرجع تقليده؟!

 

ميثاق العسر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم