صحيفة المثقف

رشيدة الركيك: حوار مع الذات (5): مع الذاكرة

rasheeda alrakikأتذكر في صمت الخشوع، بنوع من التأمل والاستقراء للأحداث، أعود لأعيش الوقائع من جديد في زمن غير الزمان وفي مكان غير المكان.

بالذاكرة أستحضر الصور والأصوات والأحاسيس في غياب الوجود الواقعي لها، أستحضرها بداخل ذاتي، فهي تفكيري المصحوب بإحساسي ، تفكيري الذي يرافقني في نوستالجيا فريدة ممتعة.

تسبح الذات فيه من جديد بتصويرها الواقعي واللاواقعي لما مضى ولم يعد: هو تصوير واقعي لأنه يكتسب دلالته في الماضي، غير أنه أيضا لا واقعي لأنه لا علاقة له بالحاضر سوى في ارتباطه بالذات والذاكرة.

لكل بلد تاريخ وهو تاريخ الإنسان في حقيقته، ولكل ذات تاريخها كما تفهمه تعيشه ومن أي زاوية تراه تتحدث عنه، فالذاكرة إذن هي تاريخ الذات. فهل فكرتنا عن ماضينا تعكس حقيقتنا أو حقيقته؟ أم أن الفكر هو تلك الحقيقة التي نلبسها بذوقنا ويعكس ذواتنا بنوع من التفرد بحيث من المستحيل أن يشاركني الآخرون إحساساتي بذكرياتي؟ أم أن الجانب النوستالجي في الإنسان له مساحة تأخذ بعين الاعتبار تفاعل الإنسان مع الأحداث وتقييمه لها؟

لا شك أننا مخلوقات زمنية إذن، لها القدرة على تذكر الماضي واستحضاره في الحاضر بل إنها تهاب

المستقبل بسببه. نحن كائنات تتخبط في أزمنة تتداخل على مستوى الفكر، لتعيش الزمن وينظم حياتها باعتباره دائما ما كان وما هو كائن وما سيكون.

يتشكل الزمن كحبات السبحة كما يقال أو كتيار يتحرك باستمرار وكأننا لا يمكن أن نعيشه مرتين، بل لا نستطيع أن نفصل الأحداث عن بعضها، وأن الوعي عليه أن يسير بشكل ملازم للحاضر، بل إنه لا يحمل أية دلالة بعيدا عن الزمن.

يبدو إذن أن حياتنا فيلما سينمائيا بطلها ذاتي وسط ذوات أخرى، والحديث عن ذكرياتها فيه نوع من التشغيل لعملية التصوير السينمائي الداخلي، تتكرر فيها المشاهد بصور شتى مع أشخاص آخرين وتبقى دائما ذاتي بطلة حقيقية واقعية لفيلم حياتي، تلعب فيه الحواس دورا أساسيا، وتبقى كل ذات هي موضوع لهذا الفيلم ، وكل لحظة من لحظات وجودها تسجل في كتاب محفوظ تتقادم أحداثه ولكن نرى بصماتها واضحة في كل فعل.

يجري الزمن دائما، وبالذاكرة تتوقف الأحداث، لعلنا نستقي منها ما نريد من لحظات الحنين بنوع من اللذة وكأننا خلقنا لنعيش الماضي من جديد على مستوى المخيلة، ونوطد علاقتنا بذواتنا من خلالها،

 

و نتمتع في استرخاء وتأمل، لكوننا نستطيع تذكر الأشياء في غيابها، بمجرد أن أقول:

في هذا المكان وفي هذا التاريخ ترافقني المشاهد بشكل منظم ومرتب...في نوع من الإدراك الحسي، نوع من الوعي في صورته الإختبارية يكون فيه الشعور مصحوبا بإحساس إنساني، ولم لا وقد وهبت الذاكرة بقدرة تستطيع تخزين ثلاثة مئة آلاف السنين من الصور...

إنه إذن نوع من الوجود المختلف تستطيع الذوات الإنسانية التميز بصيغة فريدة من التمرد على العالم الكرونولوجي وعلى الحاضر. فالذاكرة إذن آلة السفر عبر الزمن تمتلكها الذات لتختصر السنين

و الأحداث في لحظات فقط، ثم تعود لتعيش الواقع كما هو، ملزمة بالعودة إلى الحاضر لأنه ينتظرها لتعيشه، وليصبح بدوره في خبر كان لنسافر به عبر الزمن من جديد.

تتذكر الذات فتتكلم مع الماضي وعنه بنوع من الحنين اللامفقود كما عودتنا الذاكرة وبشكل أبدي، وإن كانت معرضة للإتلاف والشيخوخة فتشيخ وتهرم ، عندها تتخبط الذات في نوع من الضياع ليستمر الحاضر بدون ماضي يعطي معنى للوجود.

يبدو إذن كلما ارتبطت الذات بالذاكرة شعرت بنوع من الإستمرارية والتناغم مع نفسها بشكل متزن، بل تسمح باسمرارية الوعي لما تخلق من اتصال عبر الزمن، فأكون أنا أنا كأساس لكل هوية وإن تغير شكلي بفعل السنين لكن هويتي هو ما حافظت عليه الذاكرة لأتطابق مع نفسي، فقراراتي اليوم حصيلة لما مضى عبر السنين وهي الحاملة لكل معنى....

ليس كل ماض جميل، بل إن كل ذكرى جميلة من خلالها تستحضر الذات كل مقوماتها بنوع من الفخر تبدو أثناءها ملامح العيون براقة من شدة الفرح.

الذاكرة إذن هي الشاهد على أن الذات عاشت وتعيش وتستمر في العيش، فكل خلل فيها أو تلف يؤدي إلى فقدان التوازن في هويتها. ولا شك أننا نفتخر بتأليف مجلدات عن ذكرياتنا وكأنه عالم يستحق أن يتقاسم وأن يعرفه الآخر، فندعو من خلال كتاباتنا وكلماتنا لتفقد هذا الفقيد بتعابير لها وقع سحري تسرد أحداثا يعاد صياغتها بمنطق الحاضر وزمن اليوم ولغة اليوم.

فتحكي بعض النساء في بلدنا عن فترة ظهور التلفاز وعن خوفهن من هذا الغريب لتلقبه بصندوق العجب، تحمل ذاكرتهن الكثير عنه كثقافة جديدة شكلت مصدر خوف، فيرتدين خمارهن عندما يتم تشغيله على اعتبار أن الغرباء دخلوا البيت، هو حنين إذن يعكس جمالية الماضي بالنسبة للذات، واعتراف لها به ...

هي أحداث تحكي عن حقائق معاشة وعن إحساسات الذات بعقلية زمنها بنوع من الاستقراء لحالها الذي مضى.

نعلن بصوتنا اليوم للزمن: لماذا تشكل جزءا من هويتنا؟ وهل سيكون للحياتنا معنى بدونك؟

نعود لنكرر القول نحن كائنات زمنية، نسافر للماضي ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نغير فيه شيئا، ونستحضره في الحاضر مع أنه قد يكون سبب مخاوفنا وقلقنا من المستقبل.

طفولتنا جزء من ذواتنا وحنيننا لطفولتنا هو حنين للماضي، ويكون دائما هو القريب البعيد الذي نتناوله بحب واستلطاف.

شبابنا قوتنا استهتارنا تسرعنا في جل لحظاته، وبخطوط عريضة نتكلم عنه وعن أخطائه وزلاته، وقد نضحك من أنفسنا في الكثير من الأحيان ونشرح ما كنا نعتقده ، بل إننا لا نتذكر الأحداث فقط منعزلة إنما أيضا في سياقها العام والظرفية التي تجعلنا نقوم بذلك الفعل فنلتمس الأعذار لأنفسنا.

لذلك تتمسك الذات بالذاكرة وتجعلها جزءا لا يجزأ من هويتها، هي آلة سفرها المحقق عبر الزمن وبرخصة منها طبعا وبقدرتها تلك على التصور وبدون جواز سفر أو ثمن لتذكرة وفي لحظات وجيزة.

فشكرا لكل مخيلة ألهمتني القدرة على تراص الصورة في ذهني من جديد لأرى الأموات واسمع نبرات صوتهم، ومع أن الذات تقف عاجزة عن التغيير في الحاضر لتقول معبرة بحسرة مقبولة: لو أنني استطعت أن أفعل كذا وكذا...

وفي مقابل الماضي تعيش ذواتنا نوعا آخرا من الزمن هو الحاضر، تعيشه وتتحرك فيه وتصنع الأحداث من جديد وتبنيها وفقا لنماذج من الماضي ، مستعدة لزمن لاحق ولمستقبل يمكن أن تعيشه.

فعجبا لك أيتها الذات ومن تأرجحك، بين ماض ولى ولم يعد وبين حاضر أنت فاعلة فيه ومستقبل عليك أن تستعدي له. فلماذا لا أحاورك وأنت ملهمتي، تحاوري نفسك وتاريخك بنوع من الحنين دائما توثقي لنفسك عبر الذاكرة لأزمنة تلاحقك؟.

لذلك سيستمر الحوار معك دائما بنوع من الخشوع والهدوء والتأمل لعلنا نخرج من أعماقنا ونفهم ذواتنا ونستطيع تأويلها والتصالح معها دون انقطاع ودون أية محاولة لتفسيرها والوقوف عن الحتمية في سلوكياتها .

 

بقلم :رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم