صحيفة المثقف

الطبع والصنعة بين الإبداع الشعري والتصور النقدي في الأدب العربي القديم .. مقاربة تاريخية نقدية

alwarth alhasanتعتبر قضية الطبع والصنعة من القضايا النقدية التي أسهب النقاد العرب في العصر القديم، في الحديث عنها، قصد التعريف بها وتفسيرها، إلا أن الغموض ظل يسيطر عليها، إلى أن جاء ابن رشيق (390هـ -456هـ ) ليدلي بدلوه في هذه المسألة النقدية . فبعد أن بين أن الشعر ضربان: مطبوع ومصنوع راح يبين مدلول كل منهما بقوله «فالمطبوع هو الأصل، الذي وضع أولا وعليه المدار . والمصنوع وإن وقع عليه هذا الإسم فليس متكلف تكلف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمل، لكن بطباع القوم عفوا، فاستحسنوا ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف، يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفا من التعقب»(1).

فالمطبوع عند ابن رشيق، هو الأصل الذي يدور حوله الكلام، لأنه يقدر على قول الشعر دون تكلف . أما المصنوع، فهو بعيد عن الصنعة المتعمدة وإن أسقطنا عليه هذه التسمية . ومن تم، فالمطبوع أصل النظم الشعري، لأن الشعر مر بمرحلة أولى هي مرحلة الطبع، وفيها كان الشعر يعبر بغريزة ذاتية دون حاجة إلى التكلف أو صنعة إلا أن أول من اتخذ الصنعة بمفهومها الآخر، هو الشاعر زهير بن أبي سلمى، عندما كان يصنع القصيدة وتمكث عنده حولا كاملا، ولا تداع إلا بعد التنقيح والمراجعة، حتى سميت قصائده بالحوليات .

من هنا، وضح ابن رشيق، كيف امتزج الطبع والصنعة عند العرب، حيث أن العرب عنده لم تكن تتعمد استعمال المحسنات في شعرها، من جناس وطباق ومقابلة، ولكن ما كان يشغلها هو بسط المعاني وتوضيحها والإتيان بقافية غير مستكرهة، يستدعيها المعنى، مما يؤدي إلى تلاحم الكلام بعضه ببعض. وبعد ذلك، ذهب القيرواني إلى أن العرب استحسنت الصنعة التي تتخلل أبيات القصيدة، كوصف أبي ذؤيب الهذلي لحمر الوحش:

فَوَرَدْنَ والعَيُّوقُ مَقْعَدَ رَابىءِ الـ * ضُّرَباءِ فوق النظم لا يَتَتَلَّعُ

لأنها تدل على صدق صاحبها وإحساسه الصادق، هذا إذا قلت هذه الصنعة، أما إذا كثرت فتعدها عيبا وبعدا عن الطبع (2).

إثر ذلك، تناول ابن رشيق، الصنعة عند المحدثين ومثلها بأبي تمام والبحتري، ونص على أن الاعتماد على الصنعة في النظم هو مناف للطبع، فهو يرى أنه لا يمكن أن تأتي القصيدة كلها متصنعة من غير أن يكون وراء ذلك تعمد لهذه الصنعة، من ذلك ما يأتي في أشعار الطائيين وسواهما، حيث كانا يسعيان إلى الصنعة بشعف متزايد .و قد وازن في هذا الشأن بين مسلم وأبي تمام، حيث توصل إلى أن بينهما تفاوت، مفاده أن مسلما أسهل شعرا وأقل تكلفا من حبيب، ثم كتب: «أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد وابن هرمة وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره، ثم اتبعهما مقتديا بهما كلثوم بن عمر العتابي ومنصور النمري ومسلم بن الوليد وأبو نواس واتبع هؤلاء حبيب الطائي والوليد البحتري وعبد الله بن المعتز فانتهى علم البديع والصنعة إليه وختم به»(3). وهو بذلك يستعمل صيغة التفضيل للمقارنة بين البيت المطبوع والمصنوع، حتى تتضح المفارقة النوعية بينهما .كما يذهب إلى أن المصنوع أحسن وأفضل من المطبوع بشرط أن يخرج الكلام فيه كله، طلاوة وبعيدا عن التكلف الشديد .

فابن رشيق إذن، لا ينفي مطلقا كما يردد أفضلية البيت المصنوع المستوفى للشروط المذكورة على البيت المطبوع المحبوك، وذلك لأن الشاعر إذا كان قريبا إلى طبعه، كان شعره متقاربا غير متفاوت أما إذا استغرق في الصنعة وقتا طويلا ظهر الفرق واضحا بين جيده ورديئه، لكن الغلو والإغراق في الصنعة يؤثر على الطبع تأثيرا ملموسا فينتفي الطبع ويزول، وإذا كان الحادق بالصناعة يترك مجالا للطبع فقد أحسن وأجاد وإلا صار متصنعا ينفي الطبع ويجور عليه، والشاعر الصانع يظهر جيدا إنتاجه من سائر إنتاجاته، أما الشاعر المطبوع لا يظهر جيده كل البينونة، مثل أبي تمام .يقول ابن رشيق: «إذا كان الشاعر مصنعا بان جيده من سائر شعره كأبي تمام، فصار محصورا معروفا بأعيانه،وإذا كان الطبع غالبا عليه لم يبن جيده كل البينونة، وكان قريبا من قريب كالبحتري ومن شاكله »(4) .

و يورد ابن رشيق رأي ابن الرومي في قول محمد بن أبي حكيم يصف فرسا:

فله شهامة سوذنيق باكر * وحوافر حفر ورأس صنتع

فقد عاب ابن الرومي على الشاعر استعمال عبارة (الحافر الأحفر ) وذكر أن الحافر الوأب والحافر المقعب، أشرف في اللفظ من الحافر الأحفر . ويؤكد ابن رشيق احترامه وتقديره لرأي ابن الرومي، بل إنه يمنحه مكانة لائقة به بقوله: «و الذي أراه أن ابن الرومي أبصر بحبيب وغيره منا »(5) لكن ابن رشيق كعادته لا يتوانى في إبداء رأيه مفسرا تلك العبارة تفسيرا بلاغيا محضا، إذ يرى أن الشاعر الطائي يميل إلى الاهتمام بالتجنيس الذي يعتبر من المحسنات البلاغية المعروفة والمحمودة في الشعر .

بكل احترام يقدر ابن رشيق رأي ابن الرومي، لكن ذلك لم يمنعه من إبداء رأيه، ويؤكد في الوقت نفسه، أن أغلب النقاد أيدوا هذا التفسير البلاغي، وانحازوا إليه نظرا لدقته وصلاحيته .

من جهة أخرى، فقد كان الاتفاق بين ابن رشيق وغيره من النقاد، حاصلا حول الأساس في تقسيم الشعر من أن المطبوع هو الأصل، وقد أيد ابن رشيق في تفسيره لمفهوم الطبع قول الجاحظ من قبله حين كتب: «و كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ...و إنما هو أن يصرف همه إلى الكلام ...فتأتيه المعاني إرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا »(6) .

إلى ذلك، ذهب ابن قتيبة (213هـ-276هـ ) بدوره إلى نفس المذهب في القرن 3 الهجري،حين وصف الشاعر المطبوع «بأنه من سمح بالشعر واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته، وتثبت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة »(7) . وهذا يعني أن الطبع عنده يشمل القول على البداهة مثل ما يشمل (الصنعة الخفية)، التي لاتظهر على وجه الأثر الفني فإذا قلت شعر (شعر متكلف) بفتح اللام المشدد عنيت ظهور «التفكر وشدة العناء ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني إليه حاجة وزيادة بالمعاني عنه »(8)، وهو ما يعرف حسب إحسان عباس (برداءة الصنعة ) على أن بعض التكلف في الشعر قد يكون جيدا محكما في رأي ابن قتيبة، حيث يذكر سمة أخرى للتكلف في النظم الشعري - سوى رداءة الصنعة – وتلك السمة «أن ترى البيت فيه مقرونا بغير جاره ومضموما إلى غير لفقه »(9)، وهذا مقياس هام لأنه أول الطريق إلى الوحدة الكلية في القصيدة عامة حسب إحسان عباس، وفقدان القران بين الأبيات ليس من صفات شعر المنقحين . ومن ثم، يتضح لنا تماما، أن لفظة المتكلف إذا اقترنت بالشاعر عنت شيئا متميزا عن معناها حين يوصف بها نوع من الشعر ولذلك قال ابن قتيبة في الوصف أبيات الخليل «و هذا الشعر بين التكلف رديء الصنعة »(10) .

وفي تقابل لفظة الطبع، عند ابن قتيبة ما يسمى عند الجاحظ (159هـ -255هـ ) (بالغريزة ) والتي ترد عند ابن قتيبة في تعليله عسر قول الشعر حيث يقول: « إنه قد ينشأ من عارض يعترض على الغريزة »(11) أي: يؤثر في الطبع . فالطبع كلمة تتعدد دلالتها، فهي قد تعني قوة الشاعرية أو الطاقة الشعرية وذلك في مثل قوله: « والشعراء أيضا في الطبع مختلفون منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء ومنهم من تيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل »(12) . وقد تعني عنده (المزاج )، حين يتحدث عن تعسر القول على الشاعر في وقت دون وقت وفي مكان دون مكان، ثم هي تختلف اختلافا دقيقا عنها عندما تصبح بصيغة المفعول (مطبوع) إلا أن تتخذ لفظة مطبوع لتعني من كان مزاجه يسمح للنظم في كل حين وهذا شيء ينكره ابن قتيبة نفسه، بحيث لما وقع في نطاق الحديث عن الطبع بمعن المزاج، كان لابد له من أن يلتفت إلى الحالات النفسية وعلاقتها بالشعر .

و قد عاد القاضي الجرجاني (322هـ - 392هـ) من جهته، إلى قضية الطبع والصنعة والتي وضحها ابن قتيبة في باب التكلف في الشعر، فكتب مردفا:« الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه »(13) . وهو يعني بالطبع هنا ما يسمى عند النقاد (بالموهبة الشعرية)، على أن الموهبة وحدها لا تجدي إلا إذا انضافت إليها الرواية وحاجة المحدث إلى الرواية أشد من حاجته إلى غيرها،« فإذا استكشفت هذه الحالة وجدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العرب إلا رواية ولا طريق للرواية إلا السمع وملاك الرواية الحفظ »(14) . ويعزو الجرجاني تفاوت الشعر إلى اختلاف الطبائع ويعني بها هنا (الأمزجة)،« فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة . وأنت تجد ذلك ظاهرا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجلف منهم ثر الألفاظ معقد الكلام، وعر الخطاب حتى أنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته وجرسه ولهجته »(15). فالطبع بمعنى الموهبة والطبع بمعنى المزاج أو تركيب الخلقة هو سر التفاوت في الأسلوب والأداء.

وأمام هذا التصور النقدي للطبع والصنع الذي شغف به نقاد القرن الرابع الهجري، يقبل أبو إسحاق الحصري (ت 413 هـ) على التعديل من شأنه أن يؤدي الغرض الذي وضع لأجله فيقول:،« والكلام الجيد الطبع، مقبول في السمع قريب المثال بعيد المنال أنيق الديباجة رقيق الزجاجة، يدنو من فهم سامعه كدنوه من وهم صانعه، والمصنوع مثقف الكعوب معتدل الأنبوب يطرد ماء البديع على جنباته ويحول رونق الحسن في صفحاته كما يحول السحر في الطرف والأثر في السيف الصقيل وحمل الصانع شعره على الإكرام في التعمل وتنقيح المباني دون إصلاح المعاني، يعض آثار صنعته ويطفىء أنوار صيغته ويخرجه إلى فساد التعسف وقبح التكلف وإلقاء المطبوع بيده إلى قبول ما يبعثه هاجسه وتنفثه وساوسه من غير إعمال النظر وتدقيق الفكر يخربه إلى حد المشتهر الرث وحيز الفث»(16) . فالحصري يرى أن الكلام المبني على الطبع الجيد مقبول ومن شأنه أن يسهل على المرء ما يرومه، كما أن المصنوع منه يضفي على الكلام حللا من الزينة والحسن، إلا أنه ينبغي لصاحب الصنعة أن يتجنب التكلف، وذلك بأن يهذب المعاني ويقد ألفاظه على ما اقتضته قدود المعاني، أن صاحب الطبع فيجب عليه أيضا ألا يقبل كل ما يهمس به خاطره من غير إعمال النظر والفكر، وينتهي الحصري إلى رأي وسط في هذه القضية فيقول: «و أحسن ما أجري إليه وأعول عليه التوسط بين الحالتين والمنزلة بين المنزلتين من الطبع والصنعة »(17) .

و على هذا كله، نستنتج أن ابن رشيق وإن كان مسبوقا بالحديث عن قضية الطبع والصنعة من قبل ابن قتيبة والجاحظ وغيرهما، فإنه «أحسن بلورته وتلخيصه وهو تلخيص جيد عليه طابع علمي مصبوغ بالصبغة الفنية »(18) وهذا وجه تفوقه.

بقلم: الدكتور الوارث الحسن - المغرب

أستـاذ باحث في الدراسات الأدبية والتربوية

.......................

الفهارس:

1-العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 1/129 .

2- العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 1/130.

3-العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 1/131 .

4- العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 1/131-132 .

5- العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 1/132 .

6- البيان والتبيين، للجاحظ: 2/8-9 .

7-الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص: 34 .

8- المصدر نفسه، لابن قتيبة، ص: 34 .

9- المصدر نفسه، لابن قتيبة، ص: 34 .

10- المصدر نفسه، لابن قتيبة، ص: 34 .

11- الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص: 34 .

12- المصدر نفسه، لابن قتيبة، ص: 37 .

13- الوساطة، للجرجاني، ص: 15 .

14- المصدر نفسه، للجرجاني، ص: 16 .

15- المصدر نفسه، للجرجاني، ص: 16 .

16- النقد الأدبي في القيروان في العهد الصنهاجي، لأحمد يزن، ص: 355/356 .

17- المرجع نفسه، ص: 355/356 .

18-المرجع نفسه، ص: 355/356 .

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم