صحيفة المثقف

اختزال الزمان!

منتصف التسعينيات تقريباً، كتبتُ عن مجموعة محمد خضير «المملكة السوداء» في جريدة القدس العربي أو بتاريخٍ مقارب في لندن، فسألني أكثر من صديق من الصحفيين والكُتّاب العرب في المهجر، بدافع الفضول، أو معرفة المزيد عنه، اخبرتهم، بأنّهُ ليست لدي أيّةُ معرفة سابقة به، ولكنهُ من أبرز كتّاب القصة العراقيين والعرب،

 لا ادّعي إنّهُ كان مجهولاً، ولكن كان المقال بمثابة إعادة مجموعته الى الواجهة من جديد.. في المؤسسات الصحفية والإعلامية العربية، والقرّاء في المهجر، التي تكاد تكون عالماً منفصلاً عن الإعلام العربي الرسمي الروتيني والممل، وتتمتعُ بهامشٍ كبير من الحرية، ولا بدّ من إعادة تسليط الاضواء على الأعمال الابداعية المتفردة أو المتميزة، تناولت في نفس المقال قصته :"بصرياثا"، كانت حقّاً قصة جديدة بعوالمها وبنائها الشبيه بالبناء الهندسي المنظم، ولكن بالكلمات وليس بمواد البناء التقليدية، قصص محمد خضير، إضافة الى لغتها المتفردة، تمتازُ بعوالم وشعبية ومثيولوجية بالمعنى الوقائعي وليس اللاهوتي او الديني، احياناً واضحة واحياناً خفية، إضافة الى بنائها الهندسي المتفرد، ولكن الطبيعي أو غير المفتعل.. سواء مخطط لهُ بعناية أو بشكلٍ عفوي، وحين تبدأ بقراءة المجموعة، تستحوذُ عليك، لدرجة تنسى العالم الخارجي المحيط بك، وتنغمسُ في عوالم القصص.. وعند توقفك عن القراءة، تحتاجُ الى وقتٍ إضافي للتخلص من تأثير القراءة، وتعود الى الواقع المقارب أو المتوازي أو المتناقض معها أو البعيد عنها أشد البعد،

 ووردت لدي فكرةٌ غريبة، إن مجموعة «المملكة السوداء» من الممكن أن تكون رواية على درجة عالية من التفرد، لأن شخصيات المجموعة، أكثرها منتميٌ للوسط الشعبي إن جاز التعبير، اجوائها مشحونة ومميزة، تختلط فيها عوالم مثيولوجية وواقعية بشكلٍ عفوي احياناً، سواء في السلوك أو المقتنيات أو الأفكار أو الأماكن والبيوت والغرف التي تقيمُ بها وتدور احداثُ القصص فيها،

 وعادت لي نفس الفكرة مرّة ثانية بعد أن قرأت قصة : «بصرياثا»، كان معمارها أو بناءها عملاً متفرداً هو الآخر، يصلحُ لعملٍ روائي على درجة عالية من الاتقان، أخذتُ منه المشاهد الوصفية والخيال وهندسة المكان مساحة كبيرة من القصة، بحيثُ اصبح دور الشخوص ثانوياً احياناً في القصة، وهي قصة غنية شكلا وهندسة ولغة .

 قد نكون احيانا بحاجة الى التوقف قليلاً عند الأعمال الأدبية المتقنة والمميزة التي تركت أثراً كبيراً في الحياة الأدبية العراقية والعربية، اوأساليب الكتابة والتقنيات الجديدة في الكتابة التي اُدخلت فيها منذُ الستينيات الى الآن، بما في ذلك قصيدة النثر التي ما زال النقاد يختلفون بشأنها، ودورها وأهميتها،

 ورغم انقضاء كل هذه السنين، ربّما بزمنٍ طويل من قبل، مازال المبدع العراقي والعربي بشكلٍ خاص، يعاني من نفس المشكلات، ومهما اجتهد، فإنهُ واقع بين الإعلام الرسمي الممل والمليء بالمبالغات والتبعية للمسؤول، والروتين والجمود والانحياز للسلطة، بشكلٍ مطلق،

 والحريةُ التي هي شرطٌ أساسي للابداع، رغم أختلاف أجناس الكتابة، اورغم الآفاق الجديدة غير المحدودة التي اوجدها العالمُ الرقمي الذي يهددُ الجمود الذي يعاني منه الإعلام الرسمي على مستوى الانفتاح، وعدد القراءات، وسرعة الوصول الى القارىء بحرية تامة وفي اللغة التي يشاء،

 كذلك التفاعل معه بشكلٍ مباشر او فوري، وربّما في المستقبل البعيد، أو القريب، سوف لا نلاحط أي وجود أو تأثير من أي نوعٍ للإعلام الرسمي البائس - بشقّه السياسي اوالحزبي بشكلٍ خاص، بسبب العالم الرقمي و تأثيره وفعاليته وسرعة انتشاره،

 ومواقع التواصل الاجتماعي، مثالٌ على سرعة التأثير والانتشار، اوعدد القراءات، والتواصل المباشر بين طرفيّ العملية الإعلامية : «المرسل والمتلقي» بالمفهوم المهني للاعلام، التي اختزلها العالمُ الرقمي الى طرفين متفاعلين، بشكلٍ مباشر وحر، فقرب الاتجاهات واختزل الزمان الى الثانية او الى اجزاء الثانية .

ما ذكرني يذلك وللمرة الثانية، صدور الكتاب الجديد : "احلام باصورا" للاديب محمد حضير، وتم الاحتفال به في الوسط الثقافي والادبي العراقي مؤخرا .

 

 قيس العذاري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم