صحيفة المثقف

صوت الحقيقة لا يُسكته طنين الذباب.. قراءة في رواية: يسمعون حسيسها لأيمن العتوم

كـان الزمــن في سـجن "تدمر" شيطاناً ذا أربعة وعـشــرين قرنـاً يدور في مكانـه كتلة من اللهب، لم يكن الزمن يدور!! من قال إن الأزمنة تدور؟!

يؤرخ (أيمن العتوم) في روايته "يسمعون حسيسها" ليال من العذاب والحزن والمعاناة التي يعيشها السجناء في سجن تدمر.. تدمر ليس إلَا إنموذجاً مُشابهاً للكثير من السجون التي جعلتها الأنظمة القمعية العربية مسكناً ومأوى وقتل للمعارضين لها وموطن لقطع ألسنة الناطقين الأحرار للمحافظة على سلطتها. رغم ذلك فالسجون لا تحمي الأنظمة القمعية، والمذابح لا تُثبت سلطتها، فظلم الحاكم كفيلٌ بإسقاط نظامه ولو بعد حين.

شكلت شخصية الدكتور اياد محور سردية (أيمن العتوم) في روايته "يسمعون حسيسها".

لم يكن دكتور أياد سوى مواطناً عادياً يذهب الى عمله بالمشفى ويعود مُنهكاً الى منزله الدافئ بالحب، فيقضي يومه مع زوجته وإبنته الجميلة لمياء التي يعشقها. كان كغيره من الناس له زملاء عمل ورفقة دراسة لا تتعدى حدود المعرفة السطحية.

سبعة عشر عاماً قضاها الدكتور أياد ظلماً في السجن فذبُلت سني العمر، بتهمة باطلة لفقها له مُناوؤه وتلفيق التهمة له على أنه مُنتمن إلى (جماعة الأخوان المُسلمين)، فعاش سنوات من التعذيب، وتساقطت أوراق عمره، وبان خريفها، بين جدران يملؤها العفن والأمراض والعذابات التي لا تنتهي، كل يومٍ منها يمر كأنه عام. تُشرق الشمس على أصوات السياط والهراوات على ظهورهم وتغرب على تحودبها من الأسى.

التعذيب المستمر لا يتوقف والجلادون لا يتعبون، بل يتلذذون بموسيقى الألم التي يعزفون سمفونيتها على جسد أياد ومن معه من السُجناء، يُقهقون عالياً حينما ترسم سياطهم خطوطاً (سوريالية) للوحة الألم على أجساد المُعذبين. ينتشون كلما أحدثت ضرباتهم أثراً بيَناً أو صرخة مُدوية فيضحكون مُتشفين بدوي الصوت، صوت الرفض، حتى إنني لم أستطع وأنا اقرأ تخيل شكل الجلَادين هل هم فعلاً على هيأة بشر.

لا يمكن أن يكون هؤلاء من عوالم البشر. كيف لبشر أن يفعل كل ذلك دون أن يرف له جفن! كيف ينام على وسادته وقد كان سبباً في إيذاء آخرين!! ..

" كان حريق اللحية قد فاقم من عطشي، كما يقول أياد، صرت أُحوَلُ العرقَ النازل من جبهتي بلساني محاولاً إدخاله الى فمي لعلني أشربه..غير أنه كان مالحاً، فلا تُزيدني ملوحته إلَا توقاً كبيراً الى رشفة ماء واحدةٍ باردة.

كانت رشفة الماء في تلك اللحظة تعادل عمراً بأكمله"، وأنا أقرأ هذه السطور بدأت أقول في نفسي (أي وحوش بشرية هذه) لأجد أياد يُردد معي في ذات الوقت أو أنا تحسست لحظة مٌعاناته هذه, عشت بعض من لحظات ألمه، أي وحوش هؤلاء الذين يفعلون هذا؟! أي سادية هذه التي يتمتع بها هذا الصنف من المخلوقات؟!. من يستطيع أن يُحدد ليَ ماهية هؤلاء السفاحين؟! هل هم كائنات أخرى تلبس ثياب البشر حتى يفعلوا ما فعلوا؟!!.

كنت أتسائل كيف يتحمل أياد وباقي السجناء كل هذا العذاب! كيف بعد كل طرق التعذيب المبتكرة التي تُمارس على أجسادهم النحيلة والضعيفة من فرط الجوع والعذاب أن تقوى على الإستمرار؟! لماذا لم ينتحر؟ لماذا يعيش ويتحمل سبعة عشر عاماً من شبابه تذوي أمام عينيه، وهو صامت مُتحمل للألم، وفي بعض اللحظات متكيف معه؟! وكأن أياد عَرِف أن الكثيرين ممن سيقرؤن الرواية سيسألون الأسئلة ذاتها، فقد وجدته وأنا أكمل قرآءتي قد أجاب على ذلك في حديثه مع نفسه وهو ينظر لصورة إبنته (لمياء) فيقول "يا ابنتي.. احب الحياة لأنني أحبك..أعشقها من أجل أن أراكِ.. أقاوم الموت بالحياة لكي ألتقيكِ" وفي موضع آخر يقول "انتفضت شعلة الحياة في أعماقي، لن أموت قبل أن أرى أبنتي، لن أستسلم للموت أيها الحمقى، أحب الحياة لأنها تتشكل بكامل زينتها في عيني إبنتي.. كلكم ينتظر موتي.. أما هي فتنتظر حياتي".

في هذه الكلمات لمت نفسي لأنني تمنيت أن يموت أياد بدل أن أتمنى أن يُطلق سراحه، ليخرج من سجن تدمر ليعيش سجن الحياة وعذاباتها المرسوم في حدقات عيني إبنته الصغيرة... فقد كان يعرف مقدار الحزن الذي سيخلفه إذا مات وترك صغيرته وحيدةً دونه.

لم يكن أياد بطلاً يحاول مقاومة التعذيب في سجون القهر، ولكن بطولته رسمتها دموع أب كان يحلم بصنع حياة لإبنته وزوجته، فكم من مرة نازع الموت ليعيش بقية عمر ولحظات كثيرة التي إستنجد الرب لا خوفاً من الموت، إنما محبة بعاشقين لم يألفوا فُقدان المعنى (الأب) كي يلمهم تحت ظله يوم لا ظل لهم بعد ظله سوى ظل الله في أرضه في رحمته ببني البشر من "عيال الله".

لقد تجرع اياد وباقي المسجونين عذاباً لا يمكن أن يتحمله بشر لكن رغم هذا لم تستطع ساعات التعذيب الطويلة أن تقتل الطيب في نفوسهم، فقلوبهم لم تصدأ فقد ساعد وآزر بعضهم بعضاً في الأزمات والمحن التي مروا بها، ولم تخلوا أيامهم من الإبتسامة التي كانوا يصنعونها عبر جلساتهم، يؤدي كل واحد منهم ما يعرفه، فيحكي النكات ممن له حس الدعابة، ويُطرب الآذان من له حنجرةٌ تصدحُ بصوتٍ جميل، ويؤدون المسرحيات من لهم موهبة في التمثيل، لكن جلستهم غالباً ما تنتهي بالذكريات الموجعة والدموع الحزينة التي تتغلب على محاولتهم في مقاومة الكآبة.

(مهجع 27) كان مجتمعاً متنوعاً مختلفاً من حيث الشخصيات مُتماثلاً من حيث الوجع، فقد كان فيه أطباء لهم دور مع الدكتور اياد في معالجة السجناء العاجزين والمرضى والداخلين في (قاووشهم) حفلات التعذيب التي لا تنتهي.

كان قسطنطين المسيحي ملاذاً لبعض السُجناء من الذين يرغبون في قراءة القرآن، فإتخذ له زاوية لتعليمه وتفسيره، وعلى الرغم من أن قسطنطيناً هذا كان حافظاً للقرآن وفق قراءاته السبع المعروفة، ومن حافظي شعر العرب ويقرأ أبياتاً من المعلقات ويقول "المعلقات كلها هنا" ويُشير الى رأسه حتى أنه أدهش الكثيرين فأصبح مقبولاً وأتخذه الكثير من السجناء معلماً لهم في مجال القرآن والحديث، إلَا أنه ساعة موته لم يقبل كثير من تلامذته من المُسلمين الذين علمهم حفظ القراءات، لم يقبلوا (صلاة الجنازة) أو (صلاة الميت) على جُثمانه.

أما عميد (السُجناء) فقد كان رجلاً طيباً يتحمل عناء إدارة السجن، فأقل ما كان يحدث في المهجع (القاووش) تقوم القيامة على رأسه فيأكل من التعذيب أصنافه، إلَا أنه لم يشكوا يوما،ً وبسمته الخفية لا تكاد تفارق مُحيَاه.

أما الزعيم (كبير السُجناء) فقد كان أقدم السجناء، شجاعاً يُساعد العميد في مهمته فتحمل عناء (السخرة) وهي مهمة جلب الطعام، ففي كل وجبة يحمل الطعام، يتلقى فيها الضربات من الجنود بالأرجل والسياط الى أن يُدخل الطعام الى زملائه، وكذلك كان من خلال مهمته هذه ينقل الأخبار الى صحبه السجناء ويروي لهم ما يحدث في الخارج ويُهّرب إليهم بعض الأشياء التي يستطيع الحصول عليها فقد كان حقاً شخصاً يُعتمد عليه.

لم تكن زاوية قسطنطين هي الزاوية الوحيدة في (قاووش) السجن، فقد تشكلت ثلاث زوايا الى جانب زاوية القرآن، فهنالك زاوية للشعر والأدب وزاوية للطب والصحة وزاوية للحديث. تتوزع على الزوايا عدد من البارعين في كل مجال من هذه المجالات.

أما الشيخ صفوان الهادئ الوقور، رجلٌ في الستينيات من عمره. قليل الكلام، ولكنه لا يتكلم إلَا في حلقته، إذ كان يعقد ندوات للتفسير والفقه، فكان من العارفين والقارئين لكتاب (الجامع لأحكام القرآن الكريم) للقرطبي. كان يحفظه تقريباً عن ظهر قلب. مُتبرعاً في التدريس، يُدرس في الإسبوع مرتين تفسير القرآن، يجتمع حوله الكثير من التلاميذ، وتلامذته يلهجون بمحبته، بل يُبالغون في خدمته والعمل على راحته. كان السجن مُكتضاً بالأشخاص المختلفين من الذين جمعتهم مع اياد علاقة طيبة، أستفاد منهم وأفادهم.

ومرت سنوات السجن أو سني العمر بين دمعة وضحكة ومرض وألم ومعاناة، إلَا إنها اخيراً وبعد سبعة عشر عاما تقرر أن تنقضي!! فيأتي قرار بالعفو عنه وعن بعض السجناء. قرر الرئيس العفو عنهم !!!!.

هكذا يسرق من عمر الفقراء ما يشاء السُلطان، ويمنحهم ما يشاء؟!! بكلمة منه هكذا؟!!.

بقدر فرحي بخلاص أياد من السجن، لعل في خلاصه بعض من نسيان لعذاباته التي لا تنتهي ولن تنتهي بمُجرد العود لأحضان عائلته إلَا إنني في الوقت ذاته أشعر بالغيض الشديد لأن الرئيس بقيَ رئيساً يتحكم في حياة الآخرين في السراء والضراء، كأنه إله متحكم بحياة الآخرين، فكم من شاب يزهو بريعان شبابه كالقمر وترف يُزهر كوردة ياسمين، بكلمة منه!!.

بكلمة واحدة سلب من أناس حياة، فاليحمد الله أياد ومن مثله بأن شملتهم الرعاية الملكية لأنها أعادت لهم حياة جديدة .. لكن هل أياد الذي قضى سبعة عشر عاماً خلف القضبان سيخرج مثل الدكتور أياد الذي كان في السابق؟ بكل تأكيد لا، فكم سيعاني في حياة لا تشبههُ.

الرواية رغم دقتها في وصف الأحداث إلَا إنني وجدتها كثيرة التكرار فأنا كقارئة شعرتُ في لحظاتٍ كثيرة عندما أتقدم بقراءة الصفحات كأنني قد قرأتها في صفحاتٍ سابقة.

هذا لا يمنع من كون موضوعة الرواية مهمة وتسلط الضوء على الإنتهاكات التي تحدث لحقوق الإنسان في السجون التي هي مرفوضة عالمياً حتى وإن كان السجينُ مذنباً فليس لأحدٍ الحق مُطلقاً بتعذيبهِ، لأننا لا نعيش في غابة يقتل أحدنا الآخر ويستغل القوي الضعيف، بل هنالك قوانين تُعيد الحقوق الى مستحقيها وتعاقب المخالف وتُحدد الواجبات. هذا ما جعلني أفكر، كم من أياد الآن يقبع خلف القضبان، يعاني كما عانى أياد في رواية "يسمعون حسيسها".

لذلك أتمنى أن يستمروا بالكتابة ليؤرخوا الظلم والفترات الحالكة من تاريخ الحيوانية ليكونوا شهداء على الحق ورفض ظُلم الظالمين .

 

هيام علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم