صحيفة المثقف

لماذا تخلت جبهة التحرير الوطني عن أعظم قادتها؟

232 محمد الصالح يحياويلقد بات ضروريا طرح السؤال التالي: لماذا حالة الاغتراب داخل الحزب وقادته متفرقون؟، ومنهم من مُنع من دخول مقر الحزب والمشاركة في مؤتمراته وفي صنع القرار فخروج المجاهد العقيد محمد الصالحة يحياوي عن صمته ليدوّن "مذكراته" كانت مفاجأة للجميع، ولطالما انتظروها، هي في الحقيقة شهادة حية لمواقف رجلٍ آمن بالنضال والكفاح مذ كان في صفوف الثورة التحريرية، إلى أن أصبح مسؤولا تنفيذيا في الحزب، فنحن نلمس في كتاب محمد الصالح يحياوي نوعا من المؤانسة، إذ الكتاب يرسم لوحة للإنسان الحميم، لأنه لا يحمل أعراف اللغة المستبدة الطاغية ولا عصا القاضي الذي يقسم البشر إلى شياطين وملائكة

الكتاب حمل عنوان: "رحلة في زمن الحزب الواحد"، صدر عن دار الأوطان في السداسي الأول من سنة 2018 أهداه العقيد إلى رفاق الكفاح المسلح وإلى جميع الأصدقاء الذين جمع بينه وبينهم حب الوطن والإخلاص له، كما أهداه لوالديه لاسيما والده الشيخ عيسى احد جنود الحركة الإصلاحية، ، وهو شبيه إلى حد ما بـ: "المذكرات"، حيث جمع فيه خطبه وأظهر فيه مواقفه وآراءه إزاء العديد من القضايا، مذ توليه مسؤولا تنفيذيا للحزب وشرع في ترميم الحزب وإصلاحه، وبلا شك أن هذه المذكرات ستبقى نافذة للأجيال القادمة يطلون من خلالها على تاريخ بلادهم وما صنعه أبناؤها الأبطال، خاصة وأن الرجل وضع معايير خاصة وهو يجري مسحة تاريخية للحزب وذكر الحقائق كما حصلت في الواقع، وكأنه اراد القول أن العمل الحزبي يتطلب وجود كادر مناسب، ولذا فالحديث عن هذه الرحلة التاريخية والسياسية في آن واحد وتركيزنا عليها، لا يجوز أن يحجب عنّا ما تعاني منه البلاد من مشاكل في غاية الأهمية، لم يفلح المسؤولون في إيجاد الحلول لها مثل مشاكل التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية، والديمقراطية، والحكم الراشد.

وإن كانت المسؤولية جماعية، فهي تقع بالدرجة الأولى على حزب جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم في البلاد، وقد يطرح البعض السؤال التالي: ولماذا الأفلان وحده من يتحمل المسؤولية طالما الجزائر تعيش التعددية السياسية؟ والجواب سيكون بـ: " نعم" ..، الأفلان وحده مسؤول عن وضع البلاد، لأن الحزب كانت له رؤية استشرافية وإستراتيجية لمستقبل البلاد سياسيا واقتصاديا، في تلك الفترة، أيام كان العقيد محمد الصالح يحياوي مسؤولا تنفيذيا، ولو عين خليفة للرئيس الراحل هواري بومدين كما يقول بعض من عايشوه، لما كانت البلاد على ما هي عليه، وضعٌ سيئ مسّ صميم الوطن والمواطن على حد سواء، والأمثلة كثيرة، وعدم الإقرار بالوضع السيئ للبلاد يعني القصور في استيعاب احتمالات مستقبل هذه المسيرة وما تحمله من تحديات، فقد أراد العقيد محمد الصالح يحياوي وهو يؤرخ رحلته في زمن الحزب الواحد أن يعرض مواقفه وآراءه، ليؤكد أن الوطن في عالم اليوم ليس مجرد حفنة من تراب أو راية ترنو إليها العين أو صورة لزعيم تعلق في كل مؤسسة، بل الوطن أكثر من هذا كله، إنه شعور آخر، شعور بالإنتماء.. انتماء يدعو للإعتزاز والثقة، فالوطن والمواطن توأمان، فلا حرية ولا أمن ولا تقدم لأحدهما على حساب الآخر، وهذا ما كان يدعو إليه العقيد محمد الصالح يحياوي الذي كان واضحا في كل خطاباته السياسية ولغته النضالية، والمتتبع لخطاباته من القادة التاريخيين الذين ما زالوا على قيد الحياة يدرك أن الرجل لم يكن يحمل في فكره الثقافة الإنقلابية أو استراتيجية إلغاء الآخر، بل كان ضحية مؤامرة لإبعاده من الساحة.

و لعل خطاب العقيد محمد الصالح يحياوي في المؤتمر الرابع للحزب قد ترك صدى كبيرا لدى الجماهير، حيث وضع أصبعه على الجرح كما يقال ، سلّط فيه الضوء على كل المشكلات التي ما تزال عصية أو ربما تفاقمت، والمتتبع للقضايا التي تناقش اليوم في قبة البرلمان، يلاحظ أنها قديمة، فقد تطرق إليها العقيد محمد الصالح يحياوي بشيئ من التفصيل، وأبدى منها مواقفه ، ونشير هنا بالذات قضية "الديمقراطية التشاركية" أو ديمقراطية المشاركة التي أراد من خلالها بناء الحياة وفق حاجات العصر، وقد عبّر عنها يوما بديمقراطية المشاركة لا ديمقراطية الموافقة، والحقيقة كانت للعقيد مواقف عديدة إزاء بعض القضايا، لاسيما ما تعلق بالإشتراكية التي ربطها بعض خصومه بالماركسية أو بالتناقض مع الإسلام، رغم أن مواقفه كانت واضحة عندما قال في إحدى حواراته: "الإشتراكية بالنسبة لنا مرفوضة في غير إطار الإنتماء الحضاري العربي الإسلامي" مثلما جاء في الصفحة 105 من الكتاب.

لقد كانت للعقيد رؤية مستقبلية لعصر في أعماقه صوت يعلو، يرفض و يبحث عن المعنى، فقد كان يرى أن هذا البناء ينطلق من القاعدة التي تمثل أساس كل بناء سليم، بدل حصر السلطة في القمّة وعزل القاعدة ، طبعا مثل هذه المواقف لا ترضي من يمكن تسميتهم بالمراهقين السياسيين، الذين همهم البقاء في الحكم على حساب الشعب، لا يسعنا طبعا أن نذكر ما جاء في الكتاب الذي يحوي 380 صفحة، لكن الملاحظ أن العقيد محمد الصالح يحياوي كان حاملا مشروع بناء الإنسان، ففي خطابه يقول: " إن تشييد هياكل الدولة وتنظيمها على أسس عصرية لا يحقق نتائجه المرجوة إلا إذا استكمل ببناء الإنسان الذي هو هدف كل تقدم وتنمية"، قد يقول قائل أنها مجرد أحلام رومانسية، ولكنها في الواقع هي نظرة فيلسوف للحياة، إذا قلنا أن هذه النظرة كانت نظرة الأنبياء في بناء الإنسان والمجتمع الصالح وآفاق المستقبل، وإن كان العقيد يرى أنه ليس من الحكمة التوقف عن مجرد استنطاق الماضي وسرد حوادث تخطاها الزمن ، لكن مهم جدا تذكرها حتى تُصَحَّحَ الأخطاء وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وهذا الإصلاح ينبغي أن يشمل جبهة التحرير الوطني أولا، ولعل الانطلاقة كما جاء في الكتاب تكون بالتخلص من الأجهزة البيروقراطية، ووضع حد للتصرفات اللامسؤولة لبعض المسؤولين التي هزت ثقة الجماهير في الجبهة وفي مؤسسات الدولة.

من وراء مخطط اغتيال العقيد محمد الصالح يحياوي؟

تلك هي الحقيقة المرة التي لم يستسغها خصومه، الذين أبعدوه عن الحكم ،عندما نادى بالتغيير الديمقراطي باعتباره ممارسة ديمقراطية حقيقية ومسؤولة، فرضتها مستجدات موضوعية عرفتها الساحة السياسية الوطنية والخارجية معا، وربما أحرجهم أكثر عندما تحدث عن "الزعامة " وقال أن الزعامات لا يصنعها إلا النضال المستميت ويزكيها المناضلون الشرفاء وليس الأبواق المأجورة، والجميع طبعا على علم بالمؤامرة التي حيكت ضد العقيد محمد الصالح يحياوي، ومن حبكها وخيّطها، لإسقاطه من غربال الخلافة، وتعيين في مكانه خليفة لبومدين، وهو السؤال الذي ما زال يشكل لغزا، لدرجة أنه يتعرض لمحاولة اغتيال، وقد كشف العقيد محمد الصالح يحياوي تفاصيل مخطط الاغتيال في الصفحة 219 من الكتاب، عندما جاءه الرائد قاصدي مرباح، ويعلنه بان الرئيس يبلغ له رسالة مضمونها أن يأخذ حذره ويحتاط لأنه معرض لعملية اغتيال، وقد عين له مجموعة من حرسه لحراسته وحمايته، ولعل مخطط الاغتيال تم بعد رفض وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة أن يكون المرشح للرئاسة، وكان من الضروري اختيار العقيد محمد الصالح يحياوي باعتباره الرجل الثاني بعد بومدين، خاصة وأن هذا الأخير لقي تجاوبا كبيرا من طرف الأغلبية ليكون الرئيس القادم، لكن قرار خلافة الرئيس بومدين كان بيد جهاز المخابرات التي كان على رأسها الرائد قاصدي مرباح نفسه، حيث جيئ بالشاذلي بن جديد، وكان قاصدي مرباح قد أعطى تعليمات بعدم الوقوف ضد قرارات المخابرات، بدليل أن رابح بيطاط أطلع العقيد محمد الصالح يحياوي أنه تلقى تعليمات وأوامر من قاصدي مرباح في مرحلة البحث عن حاكم بديل في قصر المرادية، وهذه تطرح عدة تساؤلات لمعرفة من وراء مخطط اغتيال العقيد محمد الصالح يحياوي، هل هي المخابرات أم أطراف أخرى؟ فقد تحدث العقيد محمد الصالح يحياوي كيف تمت خلافة بومدين، ويفهم من خلال تصريحه أن الشاذلي بن جديد أراد أن يختار العقيد محمد الصالح يحياوي، عندما فاتحه في قضية الخلافة وقال له ( أي الشاذلي ليحياوي) " هل أنت مستعد لشغل هذا المنصب؟ ، ولنقف أيضا على شهادة الدكتور محي الدين عميمور في الصفحة 333 من الكتاب عندما قال أن يحياوي أصبح الرجل الثاني في الجزائر بعد انتقال الرئيس بومدين إلى جوار ربه، وهذا يؤكد أن العقيد كان من المفروض أن يكون الخليفة الشرعي للرئيس هواري بومدين بعد وفاته.

أول فعل للنقد إسقاط الحصانة على "المُقَدَّسِ"

حسب شهادة محي الدين عميمور كانت بداية الثمانينيات بداية انزلاق النظام وانهيار حزب جبهة التحرير الوطني، الذي فقد مضمونه الديمقراطي، ذلك في التصفيات التي عرفها في المؤتمر الخامس في ديسمبر 1983 ، تم فيها التخلص نهائيا من يحياوي وبوتفليقة وعبد السلام بلعيد، وأشار في الصفحة رقم 154 من الكتاب أن التخلص من يحياوي على وجه الخصوص خطيئة سيدفع النظام ثمنها غاليا فيما بعد، يدفعنا هذا التصريح إلى التساؤل من جديد لماذا تخلت جبهة التحرير الوطني عن أعظم قادتها؟ كان على الجيش أن يرشح العقيد محمد الصالح يحياوي في 1999، بصفته كان رئيس الأكاديمية العسكرية بشرشال ولأنه كان عسكريا، ومسؤولا تنفيذيا للحزب بمباركة الرئيس هواري بومدين، وجيئ برجل من خارج الحزب، كان في الأصل غائبا عن الجزائر، وكان على حزب جبهة التحرير الوطني أن يتذكر عطاءات هذا الرجل، رحل لم يشارك الشعب مأساته كسلة العشرية السوداء وحتى قبلها، ومن الجرأة السياسية أن نقرأ عن مواقف العقيد محمد الصالح يحياوي تجاه رفيق دربه عبد العزيز بوتفليقة، وهو يطبق المقولة الشهيرة: "أول فعل للنقد هو إسقاط الحصانة على المقدس"، حينما أعلن معارضته لبعض سياسات ومواقف بوتفليقة غير المنسجمة مع مبادئ وتضحيات الشعب، خاصة ما تعلق باللغة العربية التي تكاد أن تمحى غيب المحررات الإدارية، وتكاد أن تختفي تماما في الخطاب السياسي الوطني والرسمي، ونقف إلى موقف العقيد بأن التخلي عن لغة الضاد في جزائر العروبة يعد استهتار بلغة القرآن وبهوية الشعب الجزائري.

و لعل هذا التقزيم لثورة الشهداء المجيدة كان دافعا قويا في تأجيج المعارضة والمطالبة بوضع الحزب العتيد في المتحف، وكان على الأفلان ومن باب الحفاظ على الحقوق النضالية أن يعمل بنصيحة العقيد محمد الصالح يحياوي والشروع في تصحيح الأخطاء وعدم الإستمرار في استنساخ الأساليب والأخطاء السابقة التي وقعت في المؤتمر الثامن للحزب وما قبله ذلك باحترام ما تقرره الأغلبية، ثم الأخطاء التي ارتكبت في ملفات عديدة والتي هي مستمرة إلى اليوم، ومنها ملف المنظومة التربوية الوطنية، وملف التشبيب، ومسايرة الجبهة لقانون المحروقات، والتحالف الرئاسي، كان موقف قيادة الجبهة موقفا سلبيا وكارثيا ، اختفت معها المرجعيات الوطنية والحزبية، والدليل ما يحدث داخل جبهة التحرير الوطني من صراعات، تحولت إلى ساحة ساخنة للمناورات والمؤامرات، وكما قال هو أصبح الحزب عبارة عن بندقية خاوية (الصفحة 161) بعد تبني بلخادم لكل المشاريع التي طرحها بوتفليقة والمتماشية مع أطروحات رئيس الحكومة أحمد أويحي، ويفهم من هذا أفي ن التجمع الوطني الديمقراطي هو من يقود الأفلان وليس الأفلان هو القائد، ونقف عند أهم كلام للعقيد محمد الصالح يحياوي عندما أكد أن أزمة "الوطنية " في الجزائر هي أم الأزمات، واستعادتها بالنسبة لحزب جبهة التحرير الوطني هي أقدس الرهانات حاضرا ومستقبلا، وأخيرا ماذا يمكن أن نقول في هذا الرجل في حسه الإنساني العميق، سوى أن هذا الرجل يأبى أن تنزع القدسية عن تاريخ الجزائر وعن جبهة التحرير الوطني، ولذا كان هدفه هو إقامة مشروع سياسي تحرري ينقذ الدولة من كل أشكال التبعية وتكرسها وهذا بغية التطلع إلى دولة وطنية حرة وحديثة، هي رسالة أراد من خلالها العقيد محمد الصالح يحياوي أن يقول : إننا في جبهة التحرير الوطني نتعلم ألف باء الوطنية ونذرك حقيقتها الجوهرية، وذلك عبر الممارسة العملية والنضال المبني على العطاء والتضحية ، وليس الجبهة التي تأكل أبناءها، أو الجبهة التي تتصادم فيها الطروحات، لأن أساليب القيادة والعمل الإرتجالية والفوضوية والعشائرية أعاقت إلى حد كبير قيام الحزب بدوره، فأصابه ضعف شديد في العمل الفكري وألإيديولوجي.

 

قراءة علجية عيش بتصرف

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم