صحيفة المثقف

من هنا ننجح

منير لطفي"التخطيط: نشاط يساعدك لتصبح الشخص الذي تتمناه" .. بيتر دراكر

جاء على لسان قلم (جبران خليل جبران) قوله: "لكي تفهم قلب الشخص وعقله؛ لا تنظر إلى ما أنجزَه بالفعل، ولكن انظر إلى ما يطمح إلى إنجازه"، بما يعني أنّ النظرة المستقبلية هي المقياس الذي نقيس به الرجال والمكيال الذي نزنهم به. ومع أنّ هذا المستقبل يرقد في كنف الغيب ولا يحيط به إلّا العليم الخبير1، إلّا أنّنا عاكفون في هذه اللحظة على غزْل نسيجه وحياكة ثوبه من فوق ماكينة الحاضر وعبر قماش الإعداد وخيوط الاستعداد وأصواف التخطيط، لا مِن قَبيل الافتئات على الأقدار ذات السيف الباتر والسهم النافذ، ولكن مِن قَبيل الأخذ بالأسباب والسعي في الدّروب والفِجاج.

والتخطيط حالة واعية نرسم فيها المستقبل بالشكل والإطار الذي نريده، ومرحلة إبداعية نتنبّأ فيها بالغد ونضع التدابير اللازمة للسيطرة عليه وقيادة زمامه، مع أخْذ جميع المتغيّرات في الحسبان. وهو مهارة الجادّين الذين لا ينفقون أوقاتهم في أمنيات كسيحة ولا يبدّدون طاقاتهم في أحلام اليقظة ولا يُسقطون العثرات على الزمان والظروف والناس؛ بل يؤمنون بأنّ الاستعداد يوقظ الحواس ويحفّز المَلَكات ويُطلعنا على ما نمتلكه من إمكانات وقدرات. وهو سمْت الناجحين الذين يوقنون بأنّ التخطيط يُجلِّي الأهداف، ويهزم المفاجآت، ويُجنّبنا العثرات، ويقينا التسويف. وهو أيضا ديْدن القادة الذين يعتقدون أنّ الفشل الذريع في التخطيط لا يعني سوى التخطيط المحكَم للفشل.. وهو ما نبّه إليه الفيلسوف الإيطالي ميكيافيللي بقوله: "حيث تكون الاستعدادات كبيرة، لا تكون الصعوبات كبيرة" وأكّد عليه عبد الله الغذّامي قائلا: "كلّ ساعة تُقضَى في التخطيط الجيّد توفّر ثلاث أو أربع ساعات عند التنفيذ".

وفي إشارة إلى أهمية الاستعداد قبل المواجهة والتخطيط قبل التفيذ؛ سرد محمد علي كلاي بدايته مع الملاكمة، فعاد بنا إلى سنّ الثانية عشرة، عندما ذهب برفقة أصدقائه لمشاهدة مسابقة للكلاب، وبعد دخوله القاعة واستمتاعه بالعرض وأكْله للفشار المجاني، إذْ به يُفجَع بسرقة دراجته التي تركها خارج القاعة، وعندها ذهب إلى مقرّ الشرطة وقال للشرطي بغضب: "سأنهال بالضرب على من سرق دراجتي مهما كان هو"، وإذْ بالشرطي يَهبه نصيحة العمر قائلا: عليك أنّ تتعلّم القتال قبل أن تفكّر بالضرب. كما جاء في سيرة تشي جيفارا؛ أنه دُعي بوصفه ثوريا إلى النزول للشارع والمشاركة في إحدى المظاهرات السياسية، فردّ قائلا: "نخرج إلى الشارع لنمكِّن رجال الشرطة من ضربنا بهراواتهم، دون أن نفعل شيئا! أجل أتظاهر ولكن عندما تكون في يدي بندقيّة". ولعلّنا نذكر جنرال الحرب العالمية وقائد بريطانيا الأشهر(تشرشل)، حين كان يجلس منتفخا على مائدة الحرب مؤكّدا أنه يملك خططا بديلة بجانب خطّة الحرب الرئيسية. وكم من مواقف تاريخية مشهورة سطّرها أصحابُها تحت شعار" كن مستعدّا وامضِ قدُما"، وكم من معارك حربية كانت الغلبة فيها للأحْكم تخطيطا والأشدّ استعدادا لا الأكثر عدّة وعتادا.

والخُطّة لَبِنة ذهبيّة ماؤها الوقت والمال، وترابها الموهبة والخبرة والجهد، نتوسّط بها المسافة بين الرغبة والتطبيق، ونردم بها الهوّة بين ما نحن فيه وما نطمح إليه، ونشيّد بها جدارنا الداخلي بجوانبه الروحية والفكرية والبدنية، فضلا عن الجدار الخارجي بجناحيْه الاجتماعي والاقتصادي. ومنها ما هو قصير المدى يضيء طريقنا لشهور، ومنها ما هو متوسّط المدى تمتدّ خطوته لسنوات، ومنها ما هو استراتيجي بعيد المدى يحلّق بنا على مدار عقود. ويُراعَى في أيٍّ منها الواقعيّة والمرونة والوضوح والاتزان، وبالطبع لابدّ أن تتجه نحو هدف يحمل صفات الذكاء من حيث النبل والأهمية والمنطقيّة والتحديد وقابلية القياس والخضوع لسلطان الزمن وإشعال جذوة التحدِّي، وتجاه رسالة سامية تهدف إلى خير النفس والناس على مراد ربّ الناس، ويا حبّذا لو كانت مكتوبة ومعلّقة في متناول العين، على اعتبار أنّ البعيد عن العين بعيد عن البال، وبالنظر إلى الضوضاء والتشويش الذي يلفّنا إلى حدّ تتداخل فيه الأصوات وتتوه المشاهد ويضمحل التركيز.

والواقع أنّ الخُطةَ ضرورةٌ ملحّةٌ تمليها ظروف الحياة التي باتت معقَّدة ومتشابكة حتى عجّت بالدوائر والمربّعات والمثلثات وكادت تخلو من الخطوط المستقيمة، ويفرضها إيقاع العصر الذي صار سريع الخطى حار الأنفاس حتى بدى وكأنه يقف على صفيح ساخن أو في فوهة قِدر يغلي. وهذه الضرورة والفرضية تنسحب على الأفراد في قمّة هرم المجتمع أو سفحه، وعلى المجتمعات في الريف أو الحضر، وعلى الأمم في الشرق أو الغرب. بل وتصبح قلب الحياة وروحها في حقّ هؤلاء الذين يُمنّون أنفسهم بصناعة لحظات فارقة وترك بصمات مؤثرة. وهو ما أشارت إليه مصفوفة أيزنهاور لإدارة المهام، والتي ابتدعها الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور(1890-1969م)؛ فأَسَرّت إلى المربع الثاني فيها بسرّ النجاح، ولقّبته بمربّع المستقبل، وأوْكلت إليه المهام المهمّة وغير العاجلة، ونصحت فيه بالتخطيط والبحث عن أمثل الطرق للإنجاز وتحقيق الأهداف. بينما كان المربع الثالث مربّعا للزيف والخداع إذْ ينشغل بأمور عاجلة وغير مهمة، والمربع الرابع مربّعا للتيه والضياع إذْ ينشغل بأمور غير عاجلة وغير مهمّة، عدا عن المربّع الأول الذي يقتصر على إنجاز المهام العاجلة والمهمّة ويُعرف بمربّع الطوارئ والأزمات.

وقد حكت الأساطير عن مدينة عانت من ظلم الحكّام واكْتوت باستبداد الملوك؛ فاشترطَت في دستورها أن يكون حاكمها غريبا عن المدينة، ولا يمكث على العرش إلّا لعام واحد، يذهب بعده للعيش في جزيرة معزولة نائية طيلة عمره. وفي أحد الأعوام تولّى المُلكَ شابٌّ نابه، وما إنْ تَسلّم الحكمَ حتى تسلّل خفية إلى الجزيرة التي أُعدّت لسكْناه، وهناك هاله ما رأى من غابات تسكنها الضواري من الحيوانات وما خيّم عليها مِن وحشة تفرّ لهولها الوحوش، كما انقبض قلبه حين تعثّر أثناء تجواله في جماجم وعظام مَن سبقه مِن الملوك، وهو ما دفعه خلال فترة حكمه لإرسال العمّال سِرّا إلى الجزيرة؛ فقطعوا الغابات وأقاموا البساتين وشيّدوا القصور ومهّدوا الطريق. وما إن انتهى العام وحان الرحيل حتى لبس الديباج وطاف بالمدينة وسط موكب من الأفيال، وذلك على عادة سابقيه مِن الحكّام، إلّا أنّ السكان لا حظوه ضاحك المُحيّا مستبشِر الفؤاد مبتهِج النفس، وذلك بخلاف سلفه الذين خيّمت عليهم سحائبُ الحزن وأمطرتْهم غيومُ الكآبة في ذات الموقف.. وهو ما فسّروه لاحقا حين تبيّن لهم أنّ هذا الشاب كان من النباهة بحيث لم ينشغل بحاضره عن مستقبله، ومِن الحصافة بحيث خطّط في عام ما يكفل له النعيم فيما بقي مِن أعوام.

 

بقلم: د. منير لطفي - طبيب وكاتب من مصر

...........................

1-  "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" لقمان 34

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم