صحيفة المثقف

الخيمياء كفرع من فروع التصوف

بشار الزبيديبقلم: إبراهيم بوخاردت

ترجمة عن الألمانية: بشار الزبيدي

***

الخيمياء في المسيحية والإسلام

[...] يتساءل المرء كيف كان من الممكن إدراج الخيمياء وخلفيتها الأسطورية في الديانات التوحيدية، المسيحية واليهودية والإسلام. يُمكن للمرء ايجاد تفسير لذلك في حقيقة أن وجهات النظر الكونية التي تخص الخيمياء وتتصل بالطبيعة المعدنية الخارجية و الطبيعة الداخلية أو الروحية, كانت مُرتبطة عضوياً بالمعادن القديمة بحيث تم تملك هذه الخلفية الروحية ببساطة باعتبارها معرفة بالطبيعة ومتصلة بالعمل الحرفي بالمعنى الواسع للكلمة، كما اعتمدت المسيحية والإسلام تقليد فيثاغورس في الموسيقى والهندسة المعمارية ودمجته في عالمهما الروحي.

من وجهة النظر المسيحية كانت الخيمياء بمثابة مرآة طبيعية للحقائق المكشوفة: وهي حجر الفلاسفة القادر على تحويل المعادن الخسيسة إلى فضة وذهب وهي صورة للمسيح وولادته من "النار غير المحترقة". للكبريت و"الماء الدائم" للزئبق مثل صورة ولادة المسيح عمانوئيل.

تلاقحت الخيمياء من الناحية الروحية من خلال تقريبها من الدين المسيحي في حين اكتسبت المسيحية طريقًاً يمكن أن يؤدي إلى غنوصية حقيقية من خلال التأمل في الطبيعة.

كان من السهل بالنسبة للفن الهرمسي أن يتناسب مع العالم الروحي للإسلام. كان هذا دائمًا مُمكناً للاعتراف بأي "فن" لما قبل الإسلام الذي يبرز نفسه تحت رؤية الحكمة باعتباره وريثًاً للأنبياء السابقين. وهكذا كان هرمس الهرامسة في العالم الإسلامي غالبًا ما يُماثل أنس الله (إدريس).

لقد كانت عقيدة "وحدة الوجود" هي التفسير الباطني لعهد الوحدة الإسلامية التي استطاعت منح الهرمسية محورًا روحيًا جديدًا أو وضعتها بطريقة أخرى في أفقها الروحي الأصلي بكامل اتساعها واستعادتها وحررتها من عوائق العصور الهلنستية المتأخرة. [...]

أن الاختلاف بين الخيمياء وأي فن مقدس آخر يكمن في حقيقة أن الإتقان فيها ليس كما في الهندسة المعمارية أو في الرسم, إذ لا يُصبح مرئيًا على المستوى الخارجي "الحرفي" ولكن له تأثير داخلي فقط، لأن تحول الرصاص إلى الذهب  الذي يتألف من رُسابة خيميائية يتجاوز إمكانيات الحرف اليدوية. أن روعة هذه العملية التي تمثل قفزة طبيعية التي لا يمكن أن تحدث وفقًاً للخبراء الخيميائيين إلا في فترة طويلة بعيدة، وهي تشير إلى الفرق بين الإمكانيات المادية والروحية: في حين أن المادة المعدنية ومحلولها وتبلورها وذوبانها واحتراقها بطريقة معينة قادرة أحياناً على عكس تغيرات الروح وتبقى مرتبطة بقوة الاستمرار، فيما يمكن أن تتغلب الروح على حتمية نفسية مُماثلة بفضل مواجهتها للروح غير المرتبطة بأي شكل.

يُمثل الرصاص الحالة الفوضوية الغامضة للمعادن أو للإنسان الداخلي، في حين أن الذهب باعتباره "النور الثابت" و "الشمس الدنيوية" يُعبر عن كمال الوجود المعدني والإنساني. الذهب وفقاً للخيمياء هو الهدف النهائي للطبيعة المعدنية. جميع المعادن الأخرى هي تقريباً مراحل تمهيدية أو محاولات لذلك ؛ فالذهب وحده لديه توازن قائم بذاته لجميع الخصائص المعدنية وأيضاً لديه صفة الاستمرارية. يقول ميستر إكهرت: "النحاس لا يستريح ولا يستقر حتى يتحول إلى ذهب"، ويعني بذلك الروح التي تتوق إلى طبيعتها الأبدية.

لذلك لم يرغب الخيميائيون صناعة الذهب من المعادن العادية، كما يقولون ببعض الوصفات السرية التي آمنوا بها. ومن أراد ذلك هم فقط أولئك الذي يُطلق عليهم حارقي الفحم والذين لا تربطهم أي صلة بالتقاليد الخيميائية الحية وهم يسعون لانجاز هذا العمل العظيم فقط من خلال دراستهم للكتابات التي فهموها بشكل سطحي. [...]

استعادة النبالة الأصلية للطبيعة البشرية

[...] كطريقة تقود الإنسان إلى معرفة كيانه الخالد، يُمكن للمرء أن يُقارن الخيمياء بالتصوف. إذ تم اعتماد التعبيرات الخيميائية في المسيحية. كما يُشير التصوف الإسلامي إلى ذلك أيضاً. تشير الرموز الخيميائية للتكامل إلى التمكن الروحي للحالة البشرية والعودة إلى الوسط، الذي يصفه التصوف الخاص بالديانات التوحيدية الثلاثة بأنه استرداد الجنة الأرضية. كتب نيكولاس فلاميل (1330-1417)، الذي عمل كخيميائي للغة إيمانه المسيحي، عن كمال العمل الذي يجعل الإنسان صالحاً، ويقضي على جذور جميع الخطايا  والجشع الذي في داخله، بحيث يكون كريمًا، رقيقًا وتقياً ومؤمنًا ويخاف الله، مهما كان سيئًا قبل ذلك. ليُصبح من هذه اللحظة فصاعدًا مُمتلئًا بالنعمة والرحمة العظيمة التي يتلقاها من الله والتي تكتمل بعمق أعماله الرائعة.

إبادة جذور جميع الخطايا هو العودة إلى الكمال الآدمي

جوهر وهدف التصوف هو الاتحاد مع الله. الخيمياء لا تتحدث عن ذلك. ومع ذلك فإن طريقة التصوف هي استعادة "النجابة" الأصلية للطبيعة البشرية ورمزيتها لأن الاتحاد مع الله ممكن فقط بوجودها على الرغم من المسافة الغير قابلة للقياس التي تفصل بين المخلوق والخالق وهذه هي صورة آدم التي تم تشويهها أو جعلها غير فعالة من خلال هبوط الإنسان من السماء. ولذا يجب أولاً استعادة نقاء الصورة البشرية قبل أن تنغمر معالمها في النموذج الإلهي غير المحدود.

إذن تحول الرصاص إلى الذهب لا يُفهم روحيًا سوى استعادة النبالة الأصلية للطبيعة البشرية. مثلما لا يمكن إنتاج الجودة الفائقة للذهب من خلال التكوين الخارجي للميزات المعدنية مثل الكتلة والصلابة  واللون، وهكذا فإن الكمال في الآدمية ليس مجرد تراكم للفضائل ؛ فهو لا يُعد مثل الذهب والإنسان الذي أنجز هذا الأمر لا يُقاس بالآخرين. كل شيء عنه يأتي مباشرة وبهذا المعنى تكون طبيعته مستقلة.

نظرًا لأن إدراك هذه الحالة ينتمي بالضرورة إلى مسار التصوف، فيمكن أيضًا اعتبار الخيمياء فرعًا من التصوف. [...]

الخيمياء: تصوف بدون إله؟

إن "النمط" الروحي للخيمياء يختلف اختلافًا كبيرًا عن التصوف الذي يقوم على تعاليم إيمانية بحيث ليس من الواقعية أن يتحدث المرء عن "التصوف بدون الله". ومع ذلك  فإن التعبير غير مناسب ولا يعني القول أنه خاطئ تمامًا لأن (الخيمياء) تتطلب الإيمان بالله وكل أسيادها تقريبًا يولون أهمية كبيرة لإقامة الصلاة. هناك شيء ما يصح في هذا التعبير, عندما لا تمتلك الخيمياء إطارًا لاهوتيًا من بداية الأمر بحيث أن التوصيف اللاهوتي للتصوف لا يحصر بالضرورة الأفق الروحي للخيمياء.

التصوف اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي هو بطريقته انعكاس لحقيقة مكشوفة أو رؤية إلهية أو فكرة بالمعنى الأعمق للكلمة. هو التصور الذهني والامتثال الطوعي لهذه الفكرة. والخيمياء من ناحية أخرى لا يمكن توظيفها في المقام الأول لاهوتياً (أو ميتافيزيقياً) ولا أخلاقياً. إنها تنظر إلى لعبة القوى النفسية من وجهة نظر كونية بحتة وتتعامل مع الروح باعتبارها "مادة" يتم تطهيرها وحلها وإعادة بلورتها. تتصرف بالطريقة نفسها التي يتصرف بها العلم أو فن الطبيعة فكل حالات الوعي الداخلي ليست سوى طرق "للطبيعة" الوحيدة التي تشمل كل من الأشكال الخارجية والمرئية والمادية وكذلك الداخلية والعاطفية. [...]

السر الحقيقي للخيمياء

يقول الخيميائيون أن المعادن الخسيسة لا يُمكن تحويلها إلى فضة وذهب حتى يتم إرجاعها إلى موادها الأصلية. وإذا نظر المرء إلى المعادن الخسيسة من جانب واحد باعتبارها حالات سائلة غير نقية للروح فإن المواد الأولية التي ترجع إليها ليست سوى"جوهرها الأساس" وأن الروح في حالتها الأصلية غير مشروطة بالانطباعات ولا العواطف أو حالة  شكلية معينة.

فقط عندما تكون الروح خالية من كل جمودها وتناقضاتها الداخلية تصبح المادة القابلة للتشكيل التي يمكن أن تفرض عليها الروح القادمة من الأعلى شكلاً جديدًا وهو شكل لا يحد ويرتبط ولكن على العكس يُحرر لأنه يأتي من جوهره الخالد. إذا كان شكل المعدن الأساسي عبارة عن نوع متصلب وبالتالي كان مُقيد فإن شكل "المعدن" النفيس يُمثل رمزًا وبالتالي يمثل ارتباطاً مباشرًا بالنموذج الأصلي الخاص بالله.

أن الروح في قيامها المستمر بالنسبة للخيميائيين مُتحدة أساساً مع المادة الأولية لمجمل العالم. وهذا هو مجرد افتراض نظري للعمل الخيميائي الناتج عن التكافؤ المُتبادل بين العالم الكبير والعالم المصغر وبذلك يمكن التعبير عن هدف العمل الخيميائي: بأن وحدة الروح والعالم تُصبح مكشوفة ومفهومة مع اقتراب الفعل الخيميائي من الانتهاء. نحن نتطرق هنا إلى السر الحقيقي للخيمياء ولهذا السبب يجب أن يظل كل ما يمكن قوله حول هذه النقطة تلميحًا وتشبيهًا.

إن المادة الأولية التي تشكل أساس الروح هي في المقام الأول المادة البدائية لمركزية الذات ثم المادة البدائية لجميع الأشكال العقلية بشكل عام دون تمييز بين الكائنات الفردية وأخيراً المادة البدائية للعالم كله. كل هذه التفسيرات مُمكنة لأن "أنسجة" العالم إذا لم تكن لها طبيعة مثل نسيج الروح فسيكون من غير المنطقي تضمين كل كائن في رؤياه.

إذا كان العالم أيضًا رؤيا مقارنة للروح الثابتة فإن الرؤيا ثابتة بطبيعتها. يقول شكسبير في مسرحيته العاصفة: "العالم مصنوع من أشياء مثل الأحلام." إذ أن نقيض هذا العالم "الداخلي" و "الخارجي" أو النفسي والجسدي منسوج في هذا الحلم. [...]

 

مجمل الطبيعة والجانب الأنثوي الأمومي لفعل الخليقة

"الفن"، كما اعتاد الخيميائيون القول،هو تقليد الطبيعة في مؤثراتها. نموذج العمل الخيميائي هو الطبيعة التي تصنع الخيميائي والذي بدوره يُدرك طريقة عمله ويستكمل بسهولة ما بدأه بصعوبة بالغة. مصطلح "الطبيعة" له معنى محدد هنا. فهي لا تعني مجرد التحول اللاإرادي للأشياء وإنما أيضاً قوة مُتجانسة أو سبب يتم التعرف على طبيعته الحقيقية من خلال إدراك إيقاعه الشامل الذي يحكم العالم الخارجي والداخلي على حد سواء.

ونظرًا لأن الخيمياء الغربية تستخدم عمومًا اللغة الميتافيزيقية الأفلاطونية, فيجب على المرء أن يشير إليها لمعرفة ما يعنيه تعبير الطبيعة. ربما أكثر العلامات ذات مغزى للطبيعة نجدها في تاسوعات الفيلسوف أفلوطين , إذ جاء في كتابه:

لو قُدر للمرء أن يسأل الطبيعة لماذا تُظهر مؤثراتها، فسوف تكون إجابة الطبيعة كالتالي إن كان هناك إجابة أصلاً: "الأفضل لا تطرح أي سؤال ولا تتحرى ذهنياً حيال ذلك وإنما تعلم بصمت كما أنا صامتة ؛ لأنني لا أهتم بالتحدث [على عكس الروح التي تكشف عن نفسها بالكلمات].

يجب عليك أن تتعلم أن كل ما يُصبح موضوعاً لرؤيتي الصامتة، رؤيتة كانت ملكًا لي في الأصل، لأني أنا شخصياً نتاج رؤية ؛ أحب النظر، وما يبدو لي يخلق في نفس الوقت موضوع رؤيته. يستخلص علماء الرياضيات الأرقام من رؤيتهم الروحية. لكنني لا أرسم أي شيء ؛ أنا أنظر فقط، وتظهر أشكال العالم المادي وكأنها خرجت مني.

وفقًا لما مذكور فإن الطبيعة ترتبط في جوهرها بالمادة الأولية التي تكمن في النظريات الثلاثة البارزة في الكون الأفلاطوني (الهيولى): ثم فوقها روح العالم (النفس) وفوق النفس الإدارك (النوص), الذي يسعى بمفرده إلى فهم (الواحد) المتعذر وصفه ؛ الذي تكمن فيه المادة البدائية وهي الأساس لجميع المظاهر، والتي بدورها لا تشارك في عملية التكوين، وبالتالي تظل إلى الأبد "عذرية". يُمكن للمرء أن يطلق على الطبيعة الرؤية "الأمومية" للمادة البدائية لأنها "تلد" ؛ وهي مؤثرة ومتحركة، في حين أن المادة البدائية، وهي المادة الأولية، غير قادرة على الحركة في حد ذاتها.

مُحي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر) للتصوف الإسلامي، الذي ندين له بأوسع التفسيرات للمبادئ الهرمسية، يتصور بأن الطبيعة هي الجانب الأنثوي الأموي لفعل الخليقة, وهي (نفس الرحمن)، التي تعطي وجودًا متنوعاً لإمكانيات ترقبية غير مُتمايزة في "اللاوجود". وأن الرحمن يمثل هذه النفس،  لأن هذه الإمكانيات لا بد لها أن تتجلى وتتوق لذلك؛ إلا أن هذه القوة ذاتها لها مظهر مظلم ومربك، فالتعددية على هذا النحو هي تضليل وتناء عن الله.

إن تفسير ابن عربى لمجمل الطبيعة باعتبارها قوة أمومية وفي نفس الوقت قوة مربكة من أصل إلهي له أهمية خاصة هنا لأنه يربط بين الفكرة الهندية لشاكتي، القوة الإبداعية الأنثوية للإله. لكن فكرة شاكتي تشير إلى كل تلك الأساليب (التنترية) الأكثر ارتباطًاً بالخيمياء من بين جميع الفنون الروحية والتي يعتمد عليها الهنود أيضًا في الخيمياء. [...]

الهدف من "التناسل الخيميائي"

يعتبر تزاوج الكبريت والزئبق والشمس والقمر والملك والملكة رمزا رئيسياً للخيمياء، ولا يمكن تمييز أهميتها عن التصوف من ناحية وعلم النفس من ناحية أخرى.

في حين أن التصوف بشكل عام وبصورة تقريبية، يفترض أن الروح قد انعزلت عن الله بالانتقال إلى العالم ويجب أن تتحد معه وتعترف بوجوده الفوري والشامل داخلها. تستند الخيمياء على نظرة مُفصلة بأن الإنسان مُنقسم داخل نفسه بفقدان حالته "الآدمية" الأصلية ويستعيد وجوده الكامل فقط عندما يتم التصالح بين القوتين اللتين سبب خصامهما أضعافه.

إن التقسيم الداخلي والعضوي للطبيعة البشرية هو نتيجة ارتدادها عن الله، تمامًا كما أدركا آدم وحواء خلال سقوطهما للأرض (خصامهما) الذي دفعهما لدائرة الإنجاب والموت. وعلى العكس من ذلك، فإن استعادة الطبيعة الكُلية للإنسان والتي تعبر عن الخيمياء في صورة (الزنمردة) الجامعة لخواص الذكورية والأنثوية، هي شرط أساسي وهي من وجهة نظر أخرى ثمرة الاتحاد مع الله.

 

....................

* المقال يُقدم مُقتطفات مختارة من كتاب إبراهيم بوخاردت: الخيمياء – المعنى والنظرة العالمية.

* تمت ترجمة النص عن موقع: Chalice verlag

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم