صحيفة المثقف

المستقبل الوظيفي بين الخيار واتخاذ القرار

محمد العباسيكطفل صغير يسأله مذيع تلفزيوني عن آماله المستقبلية.. فتحدق عينا الطفل في فضاء لامتناهي باحثاً عن دليل به يستنير، ورجاء بأن يشرح له أحد عن ماهية هذا "المستقبل" الذي يتحدث عنه المذيع.. وما هي "آمال المستقبل"الذي يقصدها صاحب السؤال.. في حين نعلم نحن الكبار المقصود من طرح هكذا سؤال.. فيضطر المذيع أمام هذا الوضع أن يعيد صيغة السؤال ليتلائم مع ذهن الطفل، ليعيد السؤال بشكل مبسط عن نوع المهنة أو الوظيفة التي يرغب فيها الطفل عندما يكبر.. ماذا تحب أن تعمل عندما تكبر وتتخرج من المدرسة؟

غالباً،عند توجيه هذا السؤال للصغار تلمع عيونهم وتتسع حدقاتها لأنهم يظنون السؤال بسيط وأن الجواب الطبيعي قد تم تلقينه لهم عن أنواع المهن والحِرف والوظائف الشريفة التي درسوها وشاهدوا لها صوراً ورسومات في كتبهم المدرسية.. فيرددون مسميات وظيفية قيل لهم بأنها من أشرف المهن وأعظمها، فيرددون بدورهم: أريد أن أكون إطفائياً.. حارساً.. حداداً.. نجاراً.. مزارعاً.. وهكذا.. دونما تمييز وتقدير للعواقب المترتبة على حقيقة مشقة هذه الوظائف الكريمة من حيث المردود المادي أو النظرة الدونية لها من قِبل المجتمع بشكل عام.

لكن هذا الطفل ذاته بعد عدة سنوات في المدرسة وحين يقترب من الإختيار المحتوم لتوجهه وتخصصه الدراسي أو الوظيفي ينسى تلك المهن والوظائف الشريفة ليذكر مهناً في مجالات براقة كالطب والهندسة والطيران والحقوق.. واضعاً نصب عينيه ما يعطيه المجتمع من هالة "برستيجية" ونظرة مادية ومكانة عالية المستوى لحملة الشهادات في مثل هذه التخصصات دون سواها.. فينصب جل جهد وعناء الشاب أو تلك الشابة في فرض الأمل كواقع من أجل إرضاء وإشباع الطموحات الغالية الثمن.. وفي أحيان كثيرة يكون قرارهم مبنياً على إرضاء رغبات ذويهم وضغوطم عليهم طمعاً منهم (أي أولياء الأمور) في تحقيق أمنياتهم بأن يكون لأبنائهم مستقبلاً واعداً ورقي في مستوى الحياة!

قد لا يُلام الآباء على توجيه أبنائهم نحو مثل تلك المهن العالية الشأن بشكل عام، ولكن من حيث المبدأ، قد يستحقون اللوم عندما يكون للأبناء آراء مخالفة ورغبات مختلفة.. والأدهى والأّمر أنه في حالات عديدة يصطدم الأبناء بصعوبة تلك التوجهات وقد تكون إختياراتهم تلك غير مبنية على تقييم سليم ويفتقر للتوجيه المناسب لمتطلبات تلك التخصصات.. وقد يكابد البعض ليواجه بعد سنوات الدراسة والجد والجهد والضغوطات النفسية بأن سوق العمل لم يعد شاغراً وربما يكون مكتظاً بالخريجين العاطلين ممن سبقوهم.. فتضيع أحلى سنوات العمر، وليعود أغلبهم إلى محاولات بائسة لرأب الصدع والإنخرط في مزيد من الدراسة لعلهم يخرجون من مآزقهم.. وبطبيعة الحال، كلما يمر الوقت، تتقلص الفرص أكثر فأكثر، ويتضاعف عدد الخريجون العاطلون، ليزداد شقاء الأجيال اللاحقة وليتضاعف بؤس أولياء الأمور وحسرتهم على إضاعة المال والوقت والجهد في إستثماراتهم المكلفة على عيالهم وهدر طاقات الأبناء في سبيل تحقيق طموحات ربمات كانت واعدة في وقت ما، لكنها أصبحت واهية !!

وبطبيعة الحال ينتهي الأمر بالأبناء على إلقاء اللوم على الآباء.. ليصبح الطرفين ضحايا لقصور النظر وعدم تقييم وضع سوق العمل ببعض من بُعد النظر منذ البداية.. وأنا شخصياً ورغم درجتي العلمية والأكاديمية وقعت في ذات المطب حين أقنعت أحد أبنائي بدارسة تخصص كان واعداً جداً قبل سنوات في مجال الـ"لوجيستكس".. حيث تنبأت الجامعة التي درس بها لهذا التوجه مستقبلاً واعداً ومردوداً رفيعاً، ليمضي على تخرّج إبني أربع سنوات دون توفر تلك الفرص الموعودة.. الرواتب في هذا المجال متدنية والمؤسسات العاملة في هذا المجال شواغرها محدودة.. وهذا هو حال المئات وربما اللآلاف من الخريجين في كافة المجالات والتخصصات والدرجات العلمية، حتى بات شبابنا بسبب اليأس وفقدان الأمل يفكرون في الهجرة أملاً في بناء حياة أفضل في أقاصي الدنيا.. حالهم حال العمالة الآسيوية المنتشرين حول العالم بحثاً عن مصادر للرزق.. بحثاً عن حياة.. بحثاً عن هدف.. بحثاً عن مستقبل.. فهل لم يعد لأبنائنا أي مستقبل واعد في وطنهم وقد تكالبت علينا الظروف المعيشية، والغلاء وتكالب الضرائب، التي لم تزل تتعقد، وفرص العمل التي تتبدد، حتى بات التوجه لديهم نحو الهجرة دون تردد؟

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم