صحيفة المثقف

لماذا الثورة الوطنية العراقية، وما هو فكرها الجديد؟!

سليم مطران اية (ثورة) هي عادة نتاج طبيعي للعلاقة المشوهة والمأزومة بين الاطراف الثلاثة التالية:

ـ (الدولة) و(الشعب) و(الثقافة ـ الفكر) السائد!

ان (الثورة) ما هي إلّا عملية ولادة: (الشعب) هو الأم. (الفكر) هو الأب. (الثوار والثائرات) هم الفريق الطبي للولادة. اما (الوليد) فهو دائما(توأم): دولة جديدة، وفكر جديد!

أما (الدولة العتيقة الحاكمة) فأنها دائما تقوم بدور (الحارس الشرير) الذي يجهد لمنع هذه (الولادة الخطيرة)، معتبرة اياها (غير شرعية ومحرمة)، لانها ستطيح بها وبـ(الفكر العتيق المهيمن)، لتحل محلها(دولة جديدة) و(فكر جديد)!ّ

هذا يعني ان هنالك اختلاف جذري بين (الثورة) و(الانتفاضة):

ـ ان (الانتفاضة والتمرد والانقلاب.. الخ) تبتغي اساسا تغيير (الحكومة والزعماء) وتنفيذ بعض المطالب والاصلاحات، مع الابقاء على (الطبقة الماسكة بالدولة) و(الثقافة والفكر) السائد.

ـ اما(الثورة) فانها تبتغي التغيير الجذري لنوعية (الطبقة الماسكة بالدولة) ومعها (الثقافة والفكر السائد). لهذا فأن اية (ثورة) لا يكفي لحصولها وجود(مجموعات سرية ثورية)، بل يتحتم قبل ذلك توفر شرطين اساسيين:

1ـ ان (الدولة) بقيت متحجرة لخدمة (مصالح الطبقات والجماعات الحاكمة)، ولم تعد قادرة على استيعاب وتمثيل (غالبية الشعب) الذي تجدد جذريا بعد ان تراكمت فيه خلال سنين طويلة المتغيرات العميقة واعيد ترتيب وتكوين فئاته الاساسية( طبقات، قوميات، طوائف، مناطق.. الخ).

2ـ ان (الدولة) بقيت منغلقة ومتمسكة بـ(الفكر والثقافة العتيقة) التي تدافع وتبرر(مصالح الطبقات والجماعات الحاكمة)، ولم تعد قادرة على استيعاب وتبني (الفكر والثقافة الجديدة) التي اصبحت سائدة بين غالبية الشعب المحروم من المشاركة بالدولة.

الحالة الثورية العراقية

لو طبقنا هذه الفكرة على الوضع الثوري العراقي الحالي، فأننا نلاحظ توفر هذين الشرطين كالتالي:

أولاـ شيخوخة الدولة: واستحالة تلائم الطبقة الحاكمة مع المجتمع العراقي الجديد الحالي. ان الدولة الحديثة منذ تأسيسها عام 1921 وحتى الآن، ورغم جميع الانقلابات والمتغيرات الحكومية حزبيا وعسكريا، ظلت دائما في جوهرها(جزئية انعزالية وليست وطنية شاملة)، أي انها محتكرة من قبل (طبقة تمثل طائفة وقومية) تعزل وتخشى باقي طوائف وقوميات الشعب. هكذا كالتالي:

ـ حتى عام 2003 ظلت الدولة لاكثر من ثمانين عام محتكرة من قبل(السنّة العرب) وتعزل وتخشى الغالبية (الشيعية ـ الكردية).

ـ بعد 2003  لم يتغير جوهر هذه الدولة إذ بقيت ايضا(جزئية وليست وطنية شاملة)، لكنها اصبحت ممسوكة من قبل (الطائفيين الشيعة العرب) مع عزل(السنّة العرب) وتهميشهم. اما (الاكراد ) فبقوا معزولين فعليا عن الدولة في (اقليمهم الخاص) رغم نفوذهم السياسي (مهم لكنه محدود) في الدولة المركزية ومشاركة قياداتهم في الفساد والارهاب والعمالة.

ثانيا ـ شيخوخة الفكرالانعزالي (الطائفي ـ القومي) السائد: من المستحيل لدولة ان تستمر بسياسة معينة طيلة اجيال واجيال دون تواطئ(ثقافي فكري) من قبل غالبية الشعب والنخب(الثقافية والحزبية والدينية) حاكمين ومحكومين. ان (الدولة العراقية الانعزالية) ما تمكنت من الاستمرار طيلة قرن، رغم جميع المتغيرات في الحكومات والزعامات والاحزاب، إلا بفضل ديمومة(الفكر والثقافة الانعزالية الطائفية والقومية). هاكم هذه الجردة السريعة لطبيعة (الفئات العراقية الاساسية) وقواها الحزبية التي بقيت مهيمنة على المجتمع وعقليته طيلة قرن:

ـ السنّة العرب (ملكيون ثم قوميون وبعثيون) قد لجأوا الى (الفكر العروبي) لمواجهة (الخطرين، الشيعي الايراني، والكردي)، وراحوا يحلمون بـ(الوطن العربي الاكبر) لتعويضهم عن (الواقع السنّي الاصغر) في العراق!!

ـ الشيعة، فأن مرجعياتهم ثم احزابهم التابعة بمعظمها الى ايران ظلّت تغذيهم بالانعزالية عن (الدولة السنّية الظالمة) وبأنهم اقلية مسكينة لا تحميهم غير (ايران) الأُم الشيعية الحنون!

ـ الاكراد، فأن انعزاليتهم الجبلية الموروثة وحذرهم التاريخي من اهل السهول (العرب الحيّالين)، قد استثمره أغواتهم وملاليهم(النقشبندية البرزانية والقادرية الطلبانية) للإرتزاق من جميع الدول التي تدفع، ولها مصلحة بتدمير العراق.

ان أكبر دليل على غياب (الفكر والثقافة الوطنية) في الدولة وفي المجتمع، انه منذ تأسيس الدولة الحديثة1921 وحتى الآن لم يتأسس أي (تيار وطني عراقي)، وجميع المحاولات ظلت نخبوية وانتهت بالفشل، واشهرها وآخرها في العهد الملكي (الحزب الوطني: جعفر ابو التمن والجادرجي). حتى النخب الحداثية الحزبية، بصورة لا شعورية، ظلت منقسمة طائفيا وقوميا: التيار العروبي، بغالبية وقيادات سنّية. / التيار الشيوعي، بغالبية وقيادات شيعية وكردية./ اما الاحزاب الكردية فكانت صريحة الانتماء القومي. ثم منذ ثمانيات القرن الماضي، دخلت الى الساحة الاحزاب الصريحة التوجه الطائفي الشيعي والسنّي بالاضافة الى الكردي، والتركماني والآشوري ووووالخ..

كيف ولد (الفكر الجديد)؟

يمكن بكل بساطة تسمية (الفكر الجديد) الذي انتج الثورة، وسيكون هو فكر(الدولة الجديدة) و(العراق الجديد)، بـ: (الواقعية الوطنية)، الذي نشأ بالتدريج مثل الجنين في رحم المجتمع والنخب الفعالة، خلال قرن من تراكم التجارب والخيبات والكوارث التي عاشها العراق بطوائفه وقومياته، هكذا:

ـ ان السنّة، بعد ان فقدوا السيطرة على الدولة بعد 2003 لصالح الشيعة، اقتنعوا بأنهم ما عادوا، لا قادرين ولا حتى راغبين بالاستحواذ وحدهم على الدولة مثل السابق، بل من المحتم اشراك الجميع. وان شعاراتهم الوحدوية العروبية، فقدت صلاحيتها ولم تعد تقنعهم حتى هم انفسهم.

ـ ان الشيعة، بعدما استولت احزابهم على الدولة بعد 2003، توصل غالبيتهم الى القناعة الجديدة والجذرية التالية: ان حجّة (مظلومية الشيعة) من قبل (دولة السنّة) التي استخدمتها مراجعهم وقيادتهم طيلة قرون للسيطرة عليهم والاستحماء بأيران، لم تعد صالحة ابدا، بعد ان تبين بصورة يقينية ان (مظلومية الشيعة) الحقيقة ليست من قبل (السنّة) بل من قبل (مراجع وقيادات الشيعة) انفسهم التابعين لايران(الأم الشيعية الحنون!!). بل هم اكثر ظلما وقسوة وخيانة من قيادات السنّة.

ـ ان (اكراد العراق) منذ عام 1996 وهم يعيشون تجربة سلطتهم شبه المستقلة عن الدولة المركزية. بل هم منذ 2003 يساهمون بدرجة ما في مسار الدولة المركزية الفاسدة والعميلة. ان هذه الاعوام المقاربة للثلاثين، اقنعت غالبية الاكراد بصورة شعورية ولا شعورية بالحقيقة الجذرية التالية: ان مصائبهم وفقرهم لم تكن بسبب(العرب) وحدهم، بل قياداتهم التي اثبتت انها لا تقل فسادا وقمعا واحتكارا للسلطة. ثم ان حلم( الانفصال وكردستان الكبرى) الذي كانت تستخدمه قياداتهم للسيطرة عليهم، قد اتضح انه فعلا حلم ولا يمكن تحقيقه ابدا في ارض الواقع، مثل حلم (الوطن العربي الاكبر). اكراد تركيا وسوريا لهم مصالحهم وقياداتهم وحتى لغتهم(الكرمنجية) وعلمهم الخاص. كذلك اكراد ايران. بالتدريج راحت تترسخ القناعة لدى (اكراد العراق) بأن امكانات الانفصال مستحيلة وغير مفيدة. حتى عاصمتهم (اربيل) هي جزء جغرافي ومتداخل مع باقي شمال العراق، ولن تعيش كردستان اسبوعا واحدا دون سهول نينوى والعراق. وما عليهم الا الاقرار بالواقع والتفاهم مع الدولة المركزية للحصول على الحقوق والمشاركة بادارة الوطن العراقي.

*   *   *

ان هذه التجارب والكوارث التي عاشها العراقيون خلال قرن باكمله، بجميع طوائفهم وقومياتهم ومناطقهم، خلقت ولا زالت مستمرة بخلق، القناعة التالية لدى غالبيتهم:

ـ كل الفئات والطوائف والقوميات العراقية منذ فجر التاريخ، في مركب جغرافي واحد اسمه(وادي النهرين)، وأي انقسام وتنازع واستحواذ، يؤدي الى غرق المركب بالجميع، وهذا بالضبط الذي نعيشه منذ اجيال واجيال، فنحن في حالة غرق مستمرة، ولن نعود الى الحياة الا بوحدتنا واشتراكنا المتساوي بادارة دولتنا وبلادنا بالأعتماد على(الفكر الواقعي الوطني).

 

سليم مطر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم