صحيفة المثقف

مولدات الغموض في فصوص الحِكم لابن عربي.. دراسة بلاغية

مقدمة: يُعد كتاب فصوص الحكم لابن عربي من الكتب المتميزة في التصوف، وقد عبَّر بنُ عربي ـ في هذا الكتاب ـ تعبيرا واضحا عن مذهبه، وهو " وحدة الوجود "، غير أن فصوص الحكم لا يقتصر على الجانب الفلسفي فحسب، بل يطرح إشكالات أدبية بلاغية، تتمثل ـ بشكل أساسي ـ في إشكالات اللغة والأسلوب، حيث إن المُتأمل لخطاب بنِ عربي في فصوص الحكم يلمِس غموضَ معناه، وهو ما أكده " نيكلسون " وغيره، ومن أسباب هذا الغموض، غلبة الإشارة على العبارة، ولجوء بنُ عربي إلى تكثيف المعاني واختزالها، فالجملة في فصوص الحكم تقبل أكثرَ من معنى، فهي عرضة لتأويلات القارئ، وعليه فقد اقتصرنا ـ في تحليلنا ـ على فصل من كتاب الفصوص وهو الموسومُ بـ: " فصُّ حكمة إلهية في كلمة آدمية "، وقد سعينا في دراستنا لهذا الفصل إلى الكشف عن أدبيته من خلال التركيز على بلاغة الغموض، بمعنى دراسة العناصر والمقومات البلاغية التي اهتدى إليها بنُ عربي لإخفاء تصوره ورؤيته، لذا فإن دراستَنا لا تبحث عن المضمون الفلسفي في فصوص الحكم، بل تُحاول أن تُجيب عن سؤال: كيف عبَّر بنُ عربي عن مذهبه أسلوبيا؟

ـ بلاغة الغموض في فصوص الحِكم: (فص حكمة إلهية في كلمة آدمية أنموذجا ).

ـ أسلوب الإشارة:

إن المتأمل لخطاب فصوص الحِكم لابن عربي يلمس ـ بشكل واضح ـ حضور الغموض في أسلوبه، ومن بين مولدات هذا الغموض، توظيف بن عربي أسلوب الإشارة والإيماء، فالمتصوفة يميزون دائما بين " الإشارة  و العبارة "، " حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل المعنى أفقا منفتحا دائما. أما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مغلقا ونهائيا "[1]، ومن الأمثلة التي تدل على توظيف بنِ عربي أسلوب الإشارة، قوله: " فإن رؤية الشيء، نفسَه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسَه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يُظهر له نفسَه في صورة يعطيها المُحل المنظور فيه مما لم يكن يَظهر له من غير وجود هذا المُحل ولا تجليه له "[2]، يتضح لنا من خلال هذا المقطع أن الأسلوب الذي اعتمده بن عربي هو أسلوب غير مباشر، فعوض أن يُصرح بفكرته بعبارة واضحة، لجأ إلى الإيماء والإشارة، فقد اعتمد تعقيد التبسيط وإخفاء الظاهر لأغراض في نفسه[3]، ونجد مثل هذا الأسلوب في الخطاب القرآني، فكلام الله عز وجل المُوجه إلى الرسل والأنبياء يكشف ويُصرح من جهة، لكنه يومئ ويُشير أيضا، وعليه يبقى قابلا لانفتاح المعنى في الزمان والمكان[4]، فأسلوب الإشارة معروف في كتابات المتصوفة عامة، وفي كتابات بنِ عربي بشكل خاص، وهو من أهم أسباب غموض فصوص الحكم، هذا الكتاب الذي استعصى على مجموعة من الباحثين، أمثال: " أبو العَلا عفيفي " الذي علق على الفصوص، وكذلك المستشرق " نيكلسون " الذي ترجم الفصوص إلى اللغة الإنجليزية، ولكنه عَدل عن فكرته قائلا: " هذا كتابٌ يتعذر فهمه في لغته مع كثرة الشروح عليه، فكيف إذا تُرجم إلى لغة أخرى؟"[5]، إن سبب استعصاء الفصوص غلى الباحثين يَرجع إلى أسلوب كتابته، حيث اعتمد بنُ عربي طريقة غبر مباشرة في سرد الأحداث تقوم على السَّتر والإخفاء بدلَ التصريح، ومن شأن هذا الأسلوب أن يزيد من الغموض فلا يدري المتلقي عن ماذا يتحدث المتكلم في خطابه، فما فعله بن عربي في فصوص الحكم هو إعادة صياغة نصوص القرآن، مثل ما نجد في الفصل الذي نحن بصدد تحليله، حيث أعاد قصة آدم عليه السلام، وهو في هذه الإعادة لم يلتزم بالنص الأصلي كما هو بل يؤوله وَفقا لتصوره ولمذهبه الصوفي وهو وحدة الوجود الذي يُعبر عنه لغويا، وقد نتج عن هذه الطريقة نوع خاص من الأسلوب يتسم بالغموض من حيث الفهم والإدراك، وهذا ما أكده "نيكلسون" في قوله: " إنه يأخذ نصا من القرآن أو الحديث ويُؤوله بالطريقة التي نعرفها في كتابات فيلون اليهودي وأريحن الإسكندري. ونظرياته في هذا الكتاب صعبة الفهم، وأصعب من ذلك شرحها وتفسيرها، لأن لغته اصطلاحية خاصة، مجازية معقدة في معظم الأحيان"[6].

ـ تكثيف النص وتجريد المعنى:

لقد بُني فصل " فص حكمة إلهية في كلمة آدمية " على مكون بلاغي، وهو "التكثيف"، ويختلف التكثيف عن الإيجاز، فالإيجاز عند البلاغيين القدماء هو أساس البلاغة، وقد عرفه " السكاكي " في " مفتاح العلوم " حين قال: " هو أداء المقصود من الكلام بأقلٍّ من عبارات متعارف الأوساط "[7]، نستنتج من هذا التعريف أن الإيجاز غرضه الإيضاح لا الغموض، ويظهر هذا في قول السكاكي: هو أداء المقصود من الكلام بعبارات مألوفة لدى المتلقي، غير أننا إذا طبقنا هذه القاعدة على النص الذي نحن بصدد تحليله نجد العكس، حيث حضر في النص التكثيف لا الإيجاز، وقد استخدم التكثيف في النص من أجل الغموض لا الإيضاح وهذا يتماشى مع طبيعة اللغة التي وظفها بن عربي والتي يمكن وصفها " باللغة الغيبية "، ومن علامات  التكثيف في هذا النص، اعتماد بن عربي على طريقة المقاطع التي جاءت قصيرة إلى حد كبير، حيث إن أطول مقطع في النص يصل إلى خمسة أسطر كحد أقصى، ويظهر في قول بن عربي: " لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحُسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصُر الأمر كلَّه، لكونه متصفا بالوجود، ويُظهر به سرَّه إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثلُ رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة؛ فإنه يُظهر له نفسه في صورة يُعطيها المُحِلُّ المنظور فيه مما لم يكن يَظهر له من غير وجود هذا المُحلِّ ولا تجليه له "[8]، وأقصر مقطع في النص، قول بن عربي: " ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به "[9]، إذ يصل هذا المقطع إلى نصف سطر، أما باقي المقاطع فتتراوح بين سطرين وثلاثة أسطر إلى أربعة أسطر، والمتأمل لهذا التكثيف الذي وظفه بن عربي يجد له أصلا في الخطاب القرآني، فبنية القرآن حاضرة بقوة في بنية فصوص الحكم، وهذا أمر مألوف في كتابات المتصوفة عامة، وفي كتابات بن عربي خاصة، والتكثيف ـ بوصفه مكونا بلاغيا ـ ساهم بشكل كبير في غموض المعنى في فصوص الحكم بأكمله، وفي فصل فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الذي هو مناط اهتمامنا، فالمتصفح لهذا الفصل يصعب عليه فهم معناه، نظرا لصعوبة أسلوبه، وعليه فالجملة في هذا الفصل تقبل أكثر من معنى، فهي تختزن معانٍ عدة، لذا فإن الأمر يستدعي التأويل من قِبل القارئ، غير أن التأويل يطرح إشكالات، حيث إنه يفتح النص أمام تعدد الدلالات أو بشكل أصح أمام لا نهائية الدلالات فيصبح من الصعب القبض على معنى كلي للنص، هذا المعنى الذي انتقل من الملموس إلى المجرد بفعل شدة التكثيف، وكذلك بسبب الطريقة التي اعتمدها بن عربي في معالجة موضوعه، حيث أخذ قصة آدم عليه السلام وحولها من معطيات تاريخية إلى غيبيات ورؤى ذهنية مجردة، وعليه انتقلنا من المعنى التاريخي لقصة آدم، إلى المعنى الغيبي المجرد الذي صاغه بن عربي وفقا لرؤيته الصوفية.

ـ إستراتيجية التلاعب بالألفاظ:

من مولدات الغموض في هذا الفصل، حضور ما يمكن أن نسميه بـ " لعبة الألفاظ " التي تشكلت بوسيلتين، وهما: التكرار وتوظيف الكلمات المتشابهة من حيث النطق، ومن الأمثلة التي تُوضح حضور هذه الثنائية في النص، قول بن عربي: " اعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة ـ لا تزال ـ عن الوجود العيني، ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عيني؛ بل هو عينها لا غيرُها أعني أعيان الموجودات العينية، ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها. فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتُها. فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجوداً تزول به عن أن تكون معقولة، وسواء كان ذلك الوجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت، نسبة المؤقت وغير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة. غير أن هذا الأمر الكلي يَرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية "[10]، يوضح لنا هذا المقطع من النص حضور التكرار والكلمات المتشابهة في آن واحد، فهو حضور متداخل، ففي هذه الفقرة تكررت كلمة " عين " ثلاثة عشرة مرة واشتقت منها كلمات مختلفة بحسب السياق، كما تكررت كلمة " وجود " إحدى عشر مرة، والتكرار ـ في هذا النص ـ لم يقتصر على الجانب الموسيقي الإيقاعي فحسب ـ وإن كان هذا حاضرا ـ لكن الوظيفة الأساسية للتكرار في نص بنِ عربي هو السَّتر وإخفاء المعنى، وإلى جانب التكرار حضرت ـ في هذا المقطع ـ الكلمات المتشابهة في النطق، وتظهر في قول بن عربي: " بل هو عينها لا غيرها أعني أعيانُ الموجودات العينية "[11]، ففي هذه الفقرة وظف بنُ عربي حروفا من مجموعة معجمية واحدة، حيث تكرر حرف العين والنون مرات عدة، مما أنتج رنة موسيقية لدى السامع، لكنه أنتج أيضا صعوبة في الفهم والقبض على المعنى، فاللفظ مُرتَبَط دائما بالمعنى، وهو ما أكده " ابن جني " في " الخصائص " وبالضبط في فصل " قوة اللفظ لقوة المعنى "، غير أن بنَ جني ركز على علاقة اللفظ بالمعنى من خلال القوة والضعف، لكننا نحن نهدف إلى النظر إلى علاقة اللفظ بالمعنى من حيث الوظيفة، فالألفاظ التي انتقاها بنُ عربي في فصوص الحكم بصفة عامة، وفي هذا الفصل بشكل خاص تخدُم الغرض الرئيسي لابن عربي، وهو الغموض، فالنص بُني بناءً لفظيا معقدا سواء في نطق حروف هذه الألفاظ نظرا لتشابهها وتداخلها، أو في فهم معناها، وعليه فإن انتقاءَ بن عربي للألفاظ مقصودٌ، فغايته الإخفاء لا الإفصاح، لذا وظف ألفاظا خاصة ورتبها ترتيبا يتماشى مع قصده، لذا نقول إن غموضَ ألفاظِ النص لا يَرجع إلى الألفاظ نفسها، فكلمات، مثل: (أعني، وأعيان، وعينية...) إذا أخِذت معزولة تبدو واضحة ومفهومة، وبالتالي فإن الغموضَ يكمن في النظم بين هذه الألفاظ، حيث ربط بن عربي هذه الكلمات وصاغها في تراكيب وجمل، مما أنتج ـ لدى المتلقي ـ الغرابة والغموض، وعليه يمكننا القول إن الألفاظَ لم تحضر بوصفها وسيلة تنميقية للكلام فحسب، بل كانت في خدمة الوظيفة الأسلوبية للنص، وهو الغموض.

خاتمة: 

إن الغموضَ في فصوص الحكم هو غموض لغوي بلاغي، فمذهب بنُ عربي واضح وسهل الفهم، لذا فإن الصعوبةَ تكمن في الأساليب التي عبَّر بها بنُ عربي عن مذهبه، والطرق الغريبة الملتوية التي اختارها لبسط تصوره[12]، كتوظيفه لأسلوب الإشارة، وكذلك تكثيف النصوص...، وعليه يمكن القول إن البلاغة كانت سببا مباشرا في غموض معاني فصوص الحكم، وهي أيضا الوسيلة الأساسية التي اعتمدها بنُ عربي لإخفاء تصوره على المتلقي.

 

صلاح الدين أشرقي

طالب باحث دكتوراه

........................

الهامش 

1)ـ ناصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2006م، ص: 90

2)ـ محيي الدين بن عربي، فصوص الحِكم، علق عليه، أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص: 48 ـ 49

3)ـ مصطفى بن سليمان بالي زاده الحنفي، شرح فصوص الحِكم لابن عربي، وضع حواشيه، الشيخ  فادي أسعد نصيف، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2002م، ص:5

4)ـ ناصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، ص: 89

5)ـ نفسه، ص: 84

6)ـ محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، ص: 12

7)ـ السكاكي، مفتاح العلوم، ضبطه ورتب هوامشه وعلق عليه، نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1983م، ص: 277

8)ـ بن عربي، فصوص الحكم، ص: 48 ـ 49

9)ـ نفسه، ص: 53

10)ـ نفسه، ص: 52 ـ 51

11)ـ نفسه، ص: 51

12)ـ مصطفى بن سليمان بالي زاده الحنفي، شرح فصوص الحِكم لابن عربي، ص:5

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم