صحيفة المثقف

في مفهوم الاغتراب

علي اسعد وطفة(وَما غُربَة الإِنسانِ في بُعدِ دارِهِ

وَلَكِنَّها في قُرب مَن لا يُشاكلُ)

الحكم بن أبي الصلت

 يعد مفهوم الاغتراب Aliénation من أكثر المفاهيم الإنسانية استخداماً وشيوعاً في مجال العلوم الإنسانية، ومن أكثرها قدرة على وصف مظاهر البؤس الإنساني والقهر الاجتماعي عبر علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع، وهو فوق ذلك يشكل مدخلا منهجيا مميزا تعتمده العلوم الإنسانية في تحليل الظواهر الاستلابية في واقع الحياة الاجتماعية (1). وإذا كان مفهوم الاغتراب يُعتمد كأداة تحليل منهجية في دراسة القهر الذي تفرضه الأوضاع الاجتماعية القائمة على الإنسان، فإنه في الوقت نفسه يشكل منطلقا منهجيا لدراسة الأوضاع السيكولوجية الاغترابية للفرد في سياق تفاعله مع معطيات وجوده الاجتماعي، وهو وفقا لهذا التصور يأخذ بأهمية التفاعل الجدلي بين الاجتماعي والنفسي في دراسة ظواهر الضياع والاستلاب عند الإنسان المعاصر.

وإذا كانت نظرية ماركس الاغترابية تشكل منطلق التحليل الكلاسيكي في ميدان الضياع والاستلاب والاغتراب فإن الأبحاث السوسيولوجية والسيكولوجية الجديدة حول المفهوم ذاته لا تقل أهمية وخطورة. لقد ألحّ كارل ماركس على وأكد أهمية الجوانب الاقتصادية في مفهوم الاغتراب، وهذا التأكيد أدى في غالب الأحيان إلى إغفال وتهميش الجوانب السيكولوجية والإنسانية لهذا المفهوم(2). ولكن الأبحاث في مجال علم النفس حول مفهوم الاغتراب عملت وبصورة مستمرة على تحقيق التوازن وإعادة الاعتبار إلى الجوانب السيكولوجية للمفهوم في دائرة التوازن والتناغم من المعطيات السوسيولوجية. وفي ظل التطورات الفكرية الجديدة فإن التيارات الفكرية الحديثة تعمل باستمرار على تحقيق المصالحة والتوازن بين مفهوم الاغتراب الماركسي ومفهوم الاغتراب في التحليل النفسي. لقد أدى تأكيد ماركس على أهمية الجوانب الاقتصادية في مفهوم الإنتاج أدى إلى إهمال الجوانب الإنسانية لهذا المفهوم حتى عند ماركس نفسه. فالإنتاج الإنساني لا يقف عند حدود الاقتصاد فحسب بل يرمز إلى الفعالية الإنسانية برمتها، ويجسد قدرة الإنسان نفسه على توليد المعطيات المادية والنفسية لوجوده.

فالإنسان كما يقول هنري ليفيبفر Henri Lefebvre: "يؤثر في الطبيعة ويتأثر بها وهو عندما يغيرها يتغير معها في الآن الواحد، وبالتالي فإن العلاقة النشطة بين الإنسان والطبيعة لا تنطوي على خفايا وأسرار لأن هذه العلاقة تتم عبر العمل بصورة مركزية، فالإنسان يستطيع عبر العمل أن يتجاوز حدود الحياة العفوية المباشرة في الطبيعة، فهو ينتج ويبدع أشياء متعددة، وهذه الأشياء تلبي حاجاته، ولكنها في الوقت نفسه تولد حاجات جديدة دون انقطاع، وهي في الوقت نفسه تعمل على تعديل الحاجات القائمة، وفي مجرى تحقيق الإنسان لذاته في عالم الأشياء، فإن هذا الحضور الذاتي لا يعني ضياعا للإنسان واستلابا له، بل يرمز إلى نمائه وازدهاره " (3).

يرى ماركس في الاغتراب العملية التي يتحول فيها الإنسان إلى حالة تشيؤ حيث يستعبد من خلال العمل، ويصبح بقوة عمله سلعة تباع في الأسواق. فالعمل برأي ماركس هو الذي طور الإنسان، وهو الذي زج به في أكفان العبودية وزنزانات القهر. فالعمل كما يرى ماركس يخلق الإنسان ويطوره ولكنه يمتص في الوقت نفسه كل قواه ويستعبده (4) .

وفي هذا السياق يقول أريك فروم إن الاغتراب " نمط من التجربة يعيش فيها الإنسان كشيء غريب، ويمكن القول إنه أصبح غريبا عن نفسه، إنه لا يعود يعيش نفسه كمركز للعالم وكمحرك لأفعاله" (5). فالإنسان وفقا لفروم يبدع أوثانا يسجد لها وأصناما يعبدها، وهنا يكمن جوهر الاغتراب. في عملية الاغتراب، كما يرى إريك فروم، يتنازل المرء عن نفسه إزاء استسلامه لقيم المجتمع السائدة خاصة في المجتمع الصناعي الحديث، يقول في كتابه الخوف من الحرية :" إن الفرد يكف عن أن يصبح نفسه إنه يعتنق نوعا من الشخصية المقدم له من جانب النماذج الحضارية ولهذا فإنه يصبح تماما شأن الآخرين وكما يتوقعون منه أن يكون (6). وهذا يتطابق إلى حدّ كبير مع رؤية جون هولت في وصفه لأكثر مفاهيم اغتراب الوعي خبثا وأكثرها خطورة بقوله " إن قلة من العبيد تفكر في الحرية، أما جمهرتهم فكل يباهي بأن سيده هو الأفضل والأقوى والأغنى " (7).

والخلاصة المستفادة هي أن الإنسان كينونة جوهرها الروح والعقل، وكل ما من شأنه أن يمس هذه الأبعاد الأساسية لجوهر الشخصية يدفع الشخصية إلى حالة اغتراب واستلاب. فالاغتراب هو الوضعية التي ينال فيها القهر والتسلط والعبودية من جوهر الإنسان، وهو الحالة التي تتعرض فيها إرادة الإنسان أو عقله أو نفسه للاغتصاب والاعتداء والتشويه. وبالتالي فإن أدوات الاغتراب هي مختلف أدوات القهر، وكل ما من شأنه أن يعيق نمو الشخصية الإنسانية وازدهارها وتفتحها. وتتبدى مظاهر الاغتراب في أشكال أحاسيس مفرطة بالدونية، واللامبالاة، والقهر، والضعف، والقصور والسلبية، والانهزامية (8).

 

علي أسعد وطفة

.....................

 (1) علي وطفة، المظاهر الاغترابية في الشخصية العربية: بحث في إشكالية القمع التربوي، عالم الفكر الكويتية، المجلد 72، العدد الثاني، أكتوبر/ديسمبر، 1998، صص 241-281.

 (2) علي وطفة، الخلفيات التربوية المبكرة للاغتراب النفسي والعاطفي، التربية القطرية، مجلة تربوية فصلية محكمة، السنة 28/ عدد 31، ديسمبر /2000، صص 108- 118.

 (3) Henri Lefebvre, peur connaitre la pensée de kart Marx, Paris, Bordas, 1948, P 119.

 (4) انظر: حسن محمد حسن حماد، الاغتراب عند إيريك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1995.

(5) مجاهد عبد المنعم، في الفلسفة المعاصرة، سعد الدين للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 1984، (ص14).

 (6) أريك فروم، ثورة الأمل، ترجمة ذوقان قرقوط، دار الآداب، بيروت، (ص150)

(7) محمد جواد رضا: أزمات الحقيقة والحرية والضرورة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية والموسمية المتخصصة، العدد 22، يناير، الكويت 1991، ص27.

(8) علي وطفة، المظاهر الاجتماعية للاغتراب الإنساني، مجلة المعلومات (مركز المعلومات القومي)، العدد 43، نيسان 1996.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم