صحيفة المثقف

سُها الملائكة

عبد الرضا عليفي صباحِ السادسّ عشرَ من آذار، من العام 1935م، وفي بغداد ـ منطقة الكرّادة الشرقيّة (أبوقلام) وُلِدت سُها الملائكة، وكانت سابعَ عقبٍ لأبويها، علماً أنَّ نازكَ الملائكة (1923-2007 م) كانت أول عقبٍ لهما.

وهؤلاء الملائكة هم: نازك (المولودة في 1923) وإحسان (المولودة في1925)،وسعاد (المولودة في1927)،ونزار(المولود في1928)، وعصام (المولود في1929)، ولبنى (المولودة في 1932)،وسابعتهم سُها (المولودة في 1935) أطالَ اللهُ في عمرِها، ومتَّعها بموفورِ الصحّةِ، والخير العميمين، ومن خلال هذه التواريخ يتبَـيَّنُ أنَّ نازك أكبر من سها بـ اثنتي عشرةَ سنةً.

إذاً هم سبعةٌ من الملائكةِ، يُذكِّـرُونَ المرءَ بالنجومِ السبعةِ الذينَ يُطلق عليهم تسمية (بنات نعش)، والمفارقةُ الجميلةُ هنا أنَّ النجمةَ السابعةَ في بناتِ نعشٍ اسمُها (سُها) ولعلَّكم تتذكَّـرون قولَ الشاعر العربيِّ القديم الذي عرَّض بالحجّاج توريةً:

شَـكونا إليهم خَرابَ العراقِ

فعابـوا عليـنا لُحومَ البقـرْ

فكُـنَّا كمـا قيلَ فيما مضى:

أُريهـا السُّها وتُريني القمرْ

تخرَّجتْ سُها في قسمِ اللغةِ الإنجليزيَّةِ، وصدرَ أمرُ تعيينها في محافظةِ كربلاء، لكنَّها رفضتْ تركَ بغدادَ، فعمِلتْ بعدَ حينٍ من تخرّجها موظفةً في البنكِ العربيِّ، وبقيتْ فيه ما يقربُ من خمسةٍ وعشرينَ عاماً.

كانت سُها في طفولتِها تُحِبُّ الغناءَ كثيراً،على وفقِ ما ذكرته الراحلة نازك الملائكة في دفترِ مُذكَّراتها عن سُها الذي بدأتْ تدوينه في يومِ الاثنينِ 30 حزيران من العام 1941م، أي قبلَ أن تُصبحَ نازكُ شاعرةً معروفةً، وهي تُشيرُ إلى أنَّها علَّمتْها حفظَ قصائد لـ صفيّ الدين الحلِّي، وأمجدِ الطرابلسي، وبدوي الجبل، وغيرهم؛ فضلاً عن أنَّ سُها كانت تحفظُ أغانيَ المطربة ليلى مراد، وتترنَّمُ بها.. ومن المفارقات التي تذكُرُها نازكُ في تلك المذكَّراتِ أنَّ سُها كثيراً ما كانتْ تزعلُ، وتلجأُ إلى البكاءِ، لكنَّها تقطعُ بكاءَها حينَ تسمعُ نازكَ وهي تُغنّي إحدى أغاني الراحلِ محمّد عبد الوهاب، أو الراحلةِ أُمِّ كلثوم، وتشاركُ أختها نازكَ في الغناءِ، مستبدلةً غناءها بالبكاءِ.

لا تزالُ سُها (كما علمنا) تميلُ إلى سماعِ الموسيقى الكلاسيكيَّةِ، فضلاً عن معرفتِها أسماء المعزوفاتِ، وصانعيها، إلى جانبِ عشقِها لأغاني عبد الوهاب، وأُمّ كلثوم، لكنَّها تستمعُ أيضاً إلى الأغاني العراقيّةِ لحقبةِ السبعينيَّاتِ، لاسيّما أغاني حسين نعمة، وفاضل عوّاد، وياس خضر، وغيرِهم .

***

1449 سها الملائكة في دفتر مذكّراتِ الخالدة نازك الملائكة حكايا عن موهبةِ أختها الصغيرة سُها ذات الربيعِ الرابعِ في الشأنِ الموسيقي، والغنائي، ما يجعل من يطّلع على تلك الحكايا ينبهرُ بما لتلك الطفلةِ من أُذنٍ مرهفةِ الإحساسِ،عميقةِ الطبعِ، دقيقةِ المعيارِ، وقد حاولتُ أنْ أختصرَ ماجاء بحديثِ نازك عنها، فتردَّدتُ، لأنه استهواني شخصيَّاً ـ وأزعمُ أنّه سيستهوي المتلقينَ الذين يقرأون هذه المقالة جميعاً ـ، لذلك رأيتُ أن أستشهدَ بمعظمهِ، وأجعلَ القارئ الكريمَ يشاركني الانبهار به.

قالت نازك في تلك المذكَّرات: {وصادفَ أنْ كنتُ مرَّةً أُديرُ اسطوانةً – ياما بنيت قصر الأماني- للأستاذ محمّد عبد الوهاب، فلمَّا انتهيتُ نادتني إحسان، وصاحتْ: (نازك.. تعالي استمعي إلى سُها كيفَ تُغنِّي يا ما بنيت) وفي الحقِّ أنّي لم أُصدِّقْ أوَّلاً، لأنَّ سُها كانت إذ ذاكَ حديثةَ العهدِ بالتكلُّمِ، فكيفَ تغنِّي؟. وذهبتُ إلى صحنِ الدارِ فسمعتُ سُها أوّل مرَّةٍ ترنِّمُ الموسيقى التي تسبق الأغنية، ثمَّ بدأتْ تغنِّي حتَّى بلغت المقطع الأخيرَ من الأغنيةِ، فلم يسعني إلاّ أنْ أُصفِّقَ لها وأنا بينَ الدهشةِ والإعجابِ.. كيفَ استطاعتْ هذه الطفلةُ التي لم تتعَدَّ الرابعةَ من غناءِ هذه القطعةِ المعقَّدةِ، ومتى تعلَّمتْها.؟..ومضتِ الأيامُ، فإذا بها تُغنِّي [ما أحلى الحبيب] و[يا نبعة الريحان] ومجموعة الأغاني المعاصرة، فعرفنا أنْ سيكونُ لها شأنٌ في الموسيقى.

وفي عام 1939 تعلّمت أُنشودة (حبيت وشفت كثير وقليل) للآنسة ليلى مراد. وفي عام 1940 ظهرت ميزاتُها الموسيقيّةُ تماماً، وبدأ صوتُها يحلو لي، وتعمق نبراته.. وفاجأتنا يوماً بأنْ راحتْ تغنّي القطعة الخالدة [الجندول] بصورةٍ مدهشةٍ.. وأصبحتْ تُميِّزُ الأغاني حالَ سماعِها للموسيقى التي تسبقها . ومنذُ ذلك الوقتِ أصبحتُ أُدربُها على الغناء، وآخذُ بيدِها .

وهي تجيدُ الآن جلَّ [أُغنية الكرنك] للأستاذ عبد الوهاب.. وقد حدث [هنا انتهت الصفحة الثالثة من مذكرات نازك] منذ أسبوعين أنْ كنَّا جالسينَ في السطحِ وأنا أُغنِّي:

أنا هيمـانُ ويا طـولَ هُيامي

صورُ الماضي ورائي وأمامي

وهو أعقدُ أبياتِ الأُغنيةِ ألحاناً، ولم أُحاولْ أنْ أُعلِّمهُ لها خوفاً على ذهنها من التعبِ . وصدفَ أنْ قلتُ: [أنا هيمانُ] وصمتُّ قليلاً، فظنَّتْ سُها أنَّني لا أستطيعُ تكملةِ النغمةِ، فأكملتها قائلةً: [ويا طولَ هُيامي] بصوتِها الجميلِ،.. وكانَ النغمُ الذي غنَّيتُـهُ وأكمَلَـتْهُ معقَّداً، ولم يكررْهُ المطربُ في الأُغنيةِ قطُّ، فدهشتُ دهشةً عظيمةً.. وعرفتُ أنَّني يجبُ أنْ أعترفَ بأنَّ سُها مِمَّنْ يحقُّ الافتخارُ بهم. وهي تجيدُ الأغاني التالية الآن: - (من غير ميعاد بيني وبينك) و(يا جارتي ليلى) و(ولا كلمة) و(هو الدلال) و(ياريتني أنسى) و(انت وعذولي وزماني) و(الجندول) و(الكرنك) و(حبيت وشفت كتير) و(يلّي زرعتوا البرتقال) و(يا ورد مين يشتريك) و(على بلدي المحبوب) و(ما أحلى..)

وهي تُحبُّ الموسيقى حُبَّاً عظيماً، ومن ذلك أنَّها ما تسمعُني أُغنِّي حتى تقبل فتقف بجانبي صامتةً أوّلاً، ثمَّ تضيف فتقول: (نازك.. نغنّي الجندول)، وقد يصدفُ أنْ أكونَ أنا أُغنِّي الجندول، فتقول إذ ذاك نغنيها من أوّلِها..،، فأنزلُ عند طلبِها .

وزارنا تيسير صابر مساء يوم الجمعة 18 نيسان 1941، فجلستْ سُها بجانبي تنظرُ إليهِ.. وأخذ يغنّي أغنية الجندول، فأصغت بانتباهٍ، فلمّا أن بلغ قوله [هنا انتهت الصفحة الربعة من مذكرات نازك]:

أنا من ضيَّعَ في الأوهامِ عُمْرَهْ

نسـيَ التأريخَ أو أُنسيَ ذكْرَهْ

غنّاها باقتضابٍ، فلم يتفق ذلك لا مع الاسطوانة، ولا مع الشريط، فنظرتْ إليَّ وهتفتْ مستنكِرةً: (هذا خطأ.. إنَّه لا يُغنِّـيها هكذا)، ولمّا قالَ المطرب:

قُلتُ والنشوةُ تسري في لساني

هاجتِ الذكرى فأينَ الهرمـانِ؟

لفظَ كلمة الذكرى بقولهِ [الزكرى] فردّدتْ سُها لفظهُ مقلِّدةً، ولمسَ تيسير جابر فيها هذا الحبَّ العميق للموسيقى، وذاك الاطلاع النادر، فسألها أن تغنّي، فتملَّكها الخجلُ الشديدُ، وفرَّتْ من الغرفةِ مرعوبةً لا تلوي على شيء، وعبثاً حاولتُ أنْ أُقنعَها بأنْ تُغنّي.. وكانت النتيجة أنَّها ذهبتْ إلى سريرِها، وتظاهرت بالنومِ لكي لا تُغنّي أمامَ الحاضرين. والواقع إنَّ هذه نقطة ضعفٍ فيها، ولا أدري كيفَ أحتالُ لإزالتِها.

ومن الحوادثِ الطريفةِ التي تُشيرُ إلى حُبِّها العظيمِ للموسيقى أنَّنا كُنَّا نتعشّى في صحنِ الدارِ في أمسيةٍ من أماسي صيف 1938 على ما أتذكَّرُ وكانت سُها جالسةً على كرسيٍّ صغيرٍ وهي تأكلُ وتترنَّمُ بإنشودةِ الأستاذِ عبد الغني السيَّد:

قوليلـي إيـه غيّـرْ حالي

ما اعرفش إيـه اللي جرالي

فلمّا أنهتْ البيتَ الأوّل، وعادت إلى [القرارِ] قالت: (قوليلي) ولم تكملْ إذ انقلبَ بها الكرسي، فسقطت على الأرضِ، وانسكبت الملعقةُ وفيها حساءٌ ساخنٌ على ثيابها.. وفزعنا جميعاً، فنهضنا لنساعِدها في القيامِ.. ولكنَّها نهضت وكان أوّل كلامٍ لفظتْهُ هو بقيَّة اللحنِ الذي عاقها السقوطُ عن إكماله وهو (.. غيّر حالي) وكان صوتها مرتجفاً من أثرِ سقطتها..}¹

تميلُ سها الملائكة أيضاً إلى المطالعةِ اليوميّةِ، والقراءةِ المستدامةِ للشعرِ، لكنَّها ليست شاعرةً على الرغمِ من أنَّها كانتْ تنظمُ في طفولتِها بعضَ المقطوعاتِ على وفقِ ما وردَ في مذكَّرات نازك التي نسخنا بعضَ أوراقها، وحفظناها في أرشيفنا، وسيرى القارئ الكريمُ صورةً لإحدى صفحاتها مع هذه المقالة.

لكنَّ أجملَ شيءٍ في هذه المذكّرات التي تسميها نازك (كتاب سُها) هو أنَّ هذه الأسرةَ الشاعرةَ كانت ذات تكوينٍ ثقافيٍّ رصينٍ لم نرَ مثيلاً له في أُسرٍ بغداديَّةٍ أخرى، فمنذُ الصغر كانوا يحفظون النصوصَ التي يكتبُها الوالدُ صادق الملائكة لهم، وهي نصوصٌ ذات شأنٍ عائليٍّ، وعلى مجزءات البحور القصيرةِ كي يسهلَ استظهارها، وتكونَ لصيقةً بهم ليس غير، (ومن طريف ما يذكر هنا ـ على وفق قول نازك الملائكة في تلك المذكّرات ـ أنَّ أبي جمعنا ذات ليلة، وأُمّي لمَّا تلد سُها بعدُ، فنظم لنا نصين عائليين كان أوّلهما بعنوان [تحيّة أُمّي] ومطلعهُ:

يا أُمَّـنا يا غاليـةْ

يُعطيكِ ربّي العافيةْ

*

أنـتِ لنا مـعـاذُ

ومـلـجأٌ مــلاذُ

وثانيهما بعنوان [نحنُ] وهو هكذا:

نازكُ بنتٌ نافعـةْ

لأُمِّـها مطاوعـةْ

*

ومثلـُها إحسـانُ

حـجـالُها فـتَّانُ

*

وهكـذا ســعادُ

يُحِــبُّها الأولادُ

*

وحـبَّـذا نِــزارُ

يحمـدُهُ الأبـرارُ

*

وشبـهُـهُ عصامُ

مبجـَّـلٌ هُـمامُ

*

أمَّا لُبيني الحلوةْ

فهيَ لنفسيْ سلوةْ

*

وفـي سُها الجمالُ

قد تمَّ والكمـالُ)²

***

أسرةُ الملائكة أسرةٌ مبدعةٌ في الشعرِ، والبحثِ الأدبيّ، والنقدِ، والترجمةِ، وما إليها، وقد وقفتُ على ما كان لها من آثارٍ إبداعيّة حين كتبتُ أطروحتي للدكتوراه الموسومة بـ [نازك الملائكة الناقدة]، فربُّ الأسرةِ صادق الملائكة كان شاعراً له أرجوزة من ثلاثة آلاف بيت، وله دراساتٌ أدبيّةٌ عديدةٌ لاسيّما موسوعته المخطوطة [دائرة معارف الناس] التي تقع في عشرين مجلَّداً، وربّةُ البيت سليمة الملائكة التي عُرفت باسمها الأدبي (أمُّ نزار الملائكة) شاعرةٌ أيضاً، ولها ديوان (أنشودة المجد) صدر بعد وفاتها، أمّا نازك الملائكة، فلا يمكن إيراد مالها من آثار شعريّة، ونقديّة، وقصصيّة، ودراسات، ومقالات، وكتب في هذه المقالة،ولعلَّ الببليوغرافيا التي خصصتُها لها في مجلة الأقلام البغداديّة دليل على ذلك، فقد شكّلت ما يوازي كتاباً.

أمّا إحسان، ونِزار فقد نظما الشعرَ أيضاً،وكانت لإحسان مشاركات إبداعيّةٌ في الكتابة والترجمة، ولعلَّ من المفيد هنا أيضاً تذكير المتلقّي أنَّ خالي سُها وهما: الدكتور جميل الملائكة، وعبد الصاحب الملائكة شاعران لهما آثارٌ مطبوعة³.

1449 مذكرات نازك الملائكة

سُها الملائكة التي عُرفت باسمها الأدبيّ (سُها والقمر) في صفحات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) على درايةٍ في ما يهدف إليه الشعر من شأوٍ فنّي، وقد كانت وفيّةً لتراثِ شقيقتها نازك، لاسيّما تراثها الشعريّ، وهي تنشرُ بين الحين والآخر نصوصاً لنازك أظنُّ كلَّ الظنِّ أنَّ شبيبةَ اليومِ من الشعراءِ لم يطّلعوا عليها، لذلك فإنَّ نافذتَها الهادفةَ ستكونُ معيناً لهم لو انتبهوا إليها، فهذه السيّدة، وإن لم تكن شاعرةً إلاّ أنّها تمتلكُ لغةً صافيةً لا تمتلكُها بعضُ من يكتبنَ النصوص المفتوحة من الشواعر، وهي حريصة على نسيجها البياني، وكثيراً ما تتبرَّمُ من كثرةِ الأخطاءِ التي تردُ في كتابات بعضهم، (وبعضهنَّ)، وقد دعتهم إلى الاهتمام باللغة، ومعرفة أسرارها، وتجنّب الوقوع في الخطلِ اللغويّ،والإملائي، ولعلَّ تبرَّمها لن يجدي نفعاً مع هذا الكمِّ الهائل ممَّن عُرفوا بشعراءِ الصدفة، وشواعرِها.

وإليكم لمحة واحدة ممّا نشرته سُها الملائكة (سُها والقمر) في نافذتها، كي تتبيَّنوا كيف تهتمُّ بما تنسجه من كلام:

[سها والقمر

26/ آذار/مارس/2019

أهوى الكتابة، خلال سنوات دراستي كلها كنتُ أحصلُ على درجةٍ كاملةٍ في اللغة العربية، وفي مادة الإنشاء بشكل خاص، وفي نهاية كل عام كنت أُعفَى من امتحان اللغة العربية واللغة الإنكليزية على السواء، أتذكرُ فيما أتذكرُ أنَّ إحدى مدرّساتي وأنا طالبة في الصف الثاني المتوسط همّشتْ على موضوع إنشائيّ كتبتُه بالقول: (أتمنى أن تكوني أديبة العراق في المستقبل !) وقد اعتبرتُ ذلك الهامش أعظمَ وسام نلته في حينه!!.. وخلال دراستي الجامعية، وهي أحلى فترة دراسيّة عشتُها كنتُ ألتقطُ الأحداثَ الغريبةَ التي تحدثُ في الفصل وأنا طالبة في قسم اللغة الإنكليزية، فأدوّنها ثم أحيلها إلى موضوع شيّقٍ أكتبه، لم أكنْ اكتب لذاتي، لا، لم يكن ذلك طموحي، بل كنتُ أطمحُ في أنْ انشرَ ما أكتب !

في تلك الفترة كانت هناك صفحة خاصة في إحدى الصحف المحليّة اليومية التي تصدر في بغداد يحررها القرّاء تصدر أسبوعياً بدا لي أنها أُنشئتْ من أجلي !! فبدأتُ بالنشر فيها تحت عنوان (مذكرات طالبة جامعية) وذلك باسمٍ مستعار وليس اسمي الحقيقيّ حيث أن أبي كان يرفض أن انشر شيئا باسمي، وكنت أتابع ما يرد من تعليقات حول ما أنشر، فكانت جميع التعليقات تسعدني وتُرضي غروري، لكنها لم تكن كافية، فكنتُ أطمحُ في معرفة رأي أختي الأديبة والشاعرة نازك ومن ثَمّ رأي أختي الأديبة إحسان الملائكة فيما أكتب، فكيف السبيل إلى ذلك وأنا أنشر باسم مستعار؟!

كانت الصفحة تصدر كل ثلاثاء، فكنت أغادر الدار صباحاً وأبتاع الجريدة، ثم أضعها في زاوية من زوايا غرفة الجلوس أُدرك تماماً أنَّ نازك ستمرّ بها، وكنتُ أراقب ما تقرأ، وأنتبه جيداً إلى تعليقاتها حول ما تقرأ هي وأختي إحسان، ولم يطل انتظاري طويلا فقد لفت نظري ذات ثلاثاء أنَّ نازك كانت تقرأ مذكراتي باهتمام، الأجمل من ذلك أنها التفتت إلى أختي إحسان وقالت لها: (هل تتابعين ما تكتب س..؟) ردّتْ إحسان قائلة: (نعم أنا أُتابعها باستمرار) قالت نازك: (أسلوبها راقٍ جداً، كما أنها تتناول مواضيع شيّقة وممتعة، ولا أدري ما سبب إحساسي بأنها ليست بعيدة عنّا كثيراً!)

تنفستُ الصُعَداء ! وسحبتُ نفَسا عميقاً فيه فرح الدنيا وسعادتها كلها! إذن فقد نجحتُ في الاختبار، وهاهي أرقُّ أديبة وشاعرة تشهد لي بذلك !!

تمالكتُ دموع الفرح وكتمتُ ابتسامةً بدتْ على وجهي في محاولة لإخفاء أيّة أحاسيس بالفرح لئلاّ يكتشفوا أنَّ الفتاة الجالسة أمامهم هي نفسها تلك التي كتبتْ ما قرأوا، واستحقّتْ إطراءهم !!

سها الملائكة].

حفظ الله سُها الملائكة، وأطالَ في عمرها، ونفع الناسَ بما تكتبه ومتَّعها بالسعادة، وأحاطها بالأمان، مع أولادها سؤددٍ، وديار، وحفيديها: عوني، وأحمد .

 

عبد الرضا عليّ

....

إحـــالات

(1) من دفتر مذكرات نازك الملائكة عن أختها سُها. ص6.

(2) من دفتر مذكرات نازك الملائكة عن أختها سُها. ص: 1 ـ 2.

(3) يُنظر كتابنا: نازك الملائكة الناقدة،26 ـ 27،ط2، دار الحكمة ـ لندن 2013م.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم