صحيفة المثقف

محطات العمر

رشيدة الركيكتسير بنا الأيام على وثيرتها فتبهرنا بسرعة أيامها وتوالي أحداثها، ومع أن عدد ساعاتها نفسه، لكن حين نتذكرها نجدها مرت دون أن نتمتع بلحظات تأملها، فعلمتنا السنين المتراكمة أن الإنسان قرار واع في مواقف معينة لن تحتمل التأجيل.

ففي الوقت الذي  ننظر فيه إلى الوراء، نتأكد أنه كان علينا في محطة من محطات العمر تغيير الاتجاه، غير أن للحياة أيضا قرارات تقدمها معطيات جديدة في لحظات الازدحام.

لطالما ندم الإنسان على مواقف لم يحسم فيها لأنه اعتاد على منطقة الراحة، واجتاحته مخاوف التغيير وتلبسته فوبيا الانبثاق في زمن لم نعد نعرف ما نريد، وأي ملامح نتمناها لإنسان في وسط الطريق. ولأننا عند مفترق الطرقات نقف لمدة من الزمن في أماكننا دون أن ندري إلى أين؟  في حالة من الذهول .

هي إذن لحظات اتخاذ القرار وتغيير المسار والمطلوب تحديد سرعة السير في مناطق مظلمة، لذلك عزم على السير ببطء حيث عدم وضوح الرؤية لمستقبل المجهول، لكن كان عليه أن يواصل المشوار كدليل على استمرار إنسان صانع لقرارات ومحدد للمصير.

 ومع كل قرار نحتاج إلى الكثير من الجرأة والسلام الداخلي، بل وتقبل الذات كما هي بعيوبها والوقوف عندها من أجل إصلاحها.

 غير أننا في بعض محطات عمرنا قد نعيش كسلا ، بل يجتاح عضلاتنا جمودا أثناء الحركة فيمنعنا من المضي قدما . قد يكون الخوف من أي إحباط هو ما يجعلنا نقف في أماكننا في لحظة من لحظات العمر، فأي جرأة تلك كنا نحتاجها آنذاك ولم نمتلكها للمضي قدما لصناعة الأحداث؟

لعل هذا هو السؤال الصحيح به تبدأ الحكاية ويبدأ معها تأمل محطات العمر، خصوصا  تلك التي سادها الندم على ما فات من فرص لم نحسن استغلالها لتغيير اتجاه مركبنا الصغير وسط بحر الحياة وأمواجهه العاتية.

 هي إذن جرأة اتخاذ القرار ما يصنع تاريخ الفرد مثلما يصنع تاريخ المجتمعات، ولن يخلو ذلك أكيد من وعي ودراسة وتحليل ويقظة لما يقع من تغيرات.

 هكذا على ما يبدو أن قراراتنا هي ما يجعل الإنسان يتجاوز الأوضاع والظروف في نوع من التسامي والخلق من عدم. فأي قدرة تلك يجب امتلاكها للحسم بين محطات العمر لتحقيق وثبات مهمة لغد أفضل؟

السؤال مطروح، وسيظل مطروحا طالما نعيش أزمة إنسان اكتسب العجز وتجدر فيه نتيجة ما يعيشه من أحداث، إلى أن صار جزء من ملامح شخصيته الضعيفة أمام قسوة الظروف.

لقد اعتاد الإنسان ستر عيوبه متطاولا ومعيبا الزمن بكل وقاحة، غير أنه لم يستطع نزع القناع ليرى حقيقته التي ظل غافلا عنها ردحا من الزمن.

لقد تعلم كيف يلعن الظروف ويبرر الأحداث، ويجعل منها جامدة فيبقى الأمر على ما هو عليه،  ونسي أن دوام الحال من المحال، فحياتنا تفرض علينا في الكثير من الأحيان النزول في محطة من المحطات لنقرر إلى أين؟

إلا أن زمن كورونا محطة لا كالمحطات، تحكي قصة ضعف الإنسانية أمام فيروس مجهري تعدى كل الأفراد والمجتمعات، هي محطة الآن تدفعنا لنقرر في أي اتجاه سنسير؟ وما الذي يقع في العالم؟ وأية مسؤولية لنا اتجاهه ؟ ثم على ماذا سنركز؟ وأي تغيير نريده في الإنسان؟

 بمعنى أصح هل سنستطيع الخروج من أزمة الإنسان اليوم بعدما أتبث كورونا أن دوام الحال من المحال؟

أكيد أزمة الإنسان ما جعله يتخلى عن أحلامه بل ولا يستطيع تحديد ملامح  لصورها، معبرة عن عالمه الداخلي، مشحونة بقرار التغيير حتى يصبح فاعلا في الأحداث لا منفعلا بها.

لقد تخلى عن أحلامه مثلما تخلى عن خياله بحجة أنه غير مجد، ونسي أنه أصل كل ما وصل إليه اليوم من اختراعات كانت سرابا لكنها حقيقة اليوم بفضل إصراره .

أفلم يحن الوقت بعد لنسمح لخيالنا أن يعبر عن نفسه ولو بشكل جنوني يبعث روح الأمل في غد أفضل، فنفتح الأبواب للإبحار في عالم الممكنات؟ من يدري قد نلتقي حورية البحر فترى في عيوننا إصرارا على التحدي، وربما تعطينا شيئا من أسرارها التي سمعناها من حكايات الأجداد .

 لقد ثبت أن الإنسان اليوم يحتاج لثقافة الحكواتي المؤثرة والملذة عند سماعها، تبحر بخيال هذا الكائن العاقل الذي تعب من التعقل مختنقا بثقافة المستحيلات،  بعد انتشار تسونامي الإحتقار أو أي تقزيم لكل فكر حالم، يرى نفسه يعانق السحاب في نوم هادئ.

لعل الأحلام ما يجعلنا نغير محطات حياتنا، ونصنع مستقبلنا بخطى مفعمة بالحماس وبوثبات تتخطى كل الحواجز، لأنه بكل بساطة لا يرى سوى حلمه الذي يسكنه بجنون.

في كل لحظة كنا نطالب الناس بالواقعية وكأنه لا مجال للأحلام، لكن زمن كورونا جعل المستحيل يقع وكل ما نراه في الأفلام عشناه في الحقيقة وبكل التفاصيل، ولازالت الإنسانية في حالة من الذهول، لأننا نعيش في زمن من رابع المستحيلات، غير أنه واقع معاش ويفرض نفسه بقوانينه وبمظاهر جديدة للحياة متحديا المألوف.

و يبقى السؤال المشروع لماذا نجهض أحلامنا عوض انتظار صرخة ميلادها؟

هكذا ستظل أحلامنا الجميلة ما يجدد رغبتنا في الحياة وبإصرار، وسنواجه كل من حاول تعتيمنا بدعوى المستحيل، لأنه بكل بساطة كل شيء ممكن الحدوث وحامل لسر من أسرار حدوثه.

 إنها محطة تغيير الإتجاه وخروج الإنسان من أزمته وعودته بمختلف مكوناته، بما في ذلك الخيال الحامل لكل نظرة أمل، وصدى مستقبل جميل ومبهج بعدما ضاق بنا الحال في زمن كدنا أن نتحول فيه إلى إنسان آلي يتحرك بنابض، فاقدا لكل إرادة وقدرة على اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تمتعنا بإنسانيتنا.

وسيبقى السؤال قرر إذن: ما هو أول قرار في اتجاه الغد؟ وتذكر دائما أن مسؤوليتك مزدوجة اتجاه نفسك واتجاه الآخرين؟ فقرر إذن.

 

بقلم رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم