صحيفة المثقف

العراق: نهاية حقبة أم نهاية دولة؟

طارق الكنانيقسم ابن خلدون في مقدمته اطوار الدولة الى خمسة اقسام (طور الظفر بالبغية، طور الاستبداد، طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك، طور القنوع والمسالمة، وطور الاسراف والتبذير. وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة متلفا في سبيل الشهوات واصطناع اخدان السوء وتكليفهم بعظيمات الامور التي لا يستقلون بحملها ولا يعرفون ما يأتون منها وما يذرون، مستفسدا لكبار الاولياء من قومه وصنائع سلفه.. الى ان يقول مضيعا من جنده بما انفق من اعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته... في هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها معه برء الى ان تنقرض).انتهى. (ابن خلدون ..مقدمة:ص214طبعة دار الحياة.

هكذا هي الدول تنشأ وتترعرع وتكبر ثم تبدأ بالانحدار ثم تنتهي مؤشرات القوة لتقوم محلها دول اخرى بمفاهيم جديدة واسس مغايرة ونظم مختلفة فما كان سببا في فشل الدولة السابقة بالتأكيد سيتجنبه الجيل القادم وما كان من اسباب القوة سيتبناه الذي يليه، وهذا ما اتفق عليه اصحاب نظريات نشوء الدولة وعلماء الجغرافية البشرية في كل عصر ...

الدولة العراقية الحديثة ليست بمعزل عن هذا القانون فهي قد وصلت ذروتها في نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم وكان يراد لها ان تكون الدولة الصناعية رقم واحد بالمنطقة فهي تمتلك احتياطي نقدي كبير جدا في سلة العملات والمتكونة من ثلاثة عشر عملة آنذاك ومشاريع صناعية واعدة وبرنامج نووي متطور كاد ان يصل مراحله النهائية واحتياطي نفطي كبير جدا، وهذا ما استدعى الدول الكبرى باتخاذ قرار حاسم لإعادة هيكلة هذه الدولة وايقاف عجلة التطور لأنها وحسب منظورهم خرجت عن السيطرة .فعملية تغيير الحكام والتأسيس لحرب مدمرة طويلة الأمد بين العراق وجيرانه كانت ضمن عدة خطط لتدمير العراق، ومن ثم عملية احتلال الكويت والخروج منها كدولة اعيدت الى عصر ما قبل الصناعة والحصار الغير مسبوق ومن ثم احتلال العراق لتقضي على كل احلام العراقيين ببناء بلد متطور وفاعل اقليمي يحسب له اكبر الحسابات، ففي عملية الاحتلال كرّس المحتل نشاطاته لتفتيت هيكل الدولة ومؤسساتها التي يمكن ان تؤمن اعادة العراق الى وضعه الطبيعي خلال مدة قصيرة فالأمن والأمان ووجود البنى التحتية والموارد البشرية والاقتصادية الكبيرة كلها عوامل تساعد على استعادة الدولة فكانت الخطط ان يفقد العراق ترف الأمان هذا، فعملية حل الجيش والقوى الأمنية الاخرى من امن داخلي ومخابرات واستخبارات عسكرية والقوة الجوية والقوة البحرية جعل من العراق ساحة لعمل المخابرات المعادية والمنظمات السرية والارهابية .

عملية تسليط طبقة سياسية فاسدة مهمتها نهب ثروات وخيرات العراق كان من ضمن الخطط التي وضعها المحتل ليجعل من العراق بؤرة فساد وارهاب وجعل العراق منطقة غير صالحة للعيش وفقدان امتياز الامن وترف الاقتصاد وايقاف عجلة الصناعة كان ضمن الحلقة الاهم في عملية اعادة هيكلة الدولة .

ولكن بقيت حلقة مهمة يجب ان تقوم بها دوائر المخابرات الاقليمية في انهائها وهي العقل العراقي في كل مجالاته سواء العلمية او الانسانية او الاقتصادية فقد تمت تصفية اكثر من خمسة الاف عالم من حملة الشهادات العليا في مجال اختصاصهم ومن تبقى منهم اجبر على مغادرة العراق حفاظا على حياته وحياة عائلته .

وهنا اصبح العراق مركزا تسويقيا لمنتجات الدول الاقليمية وكانت مكافئتهم على مساعدة امريكا باحتلال العراق كما اعترف بهذا الرئيس خاتمي ومن ثم روحاني وقد تم تقديم العراق على طبق من ذهب الى ألدّ اعدائه كغنيمة حرب .عندما يستورد التاجر العراقي التمور من دول كان هو المصدر الوحيد لها فهذا مصدر اذلال وتنكيل بالفلاح العراقي .عندما يقوم التاجر العراقي باستيراد الاباريق المصنوعة من اللدائن من دول مجاورة فهذا غاية في اذلال الصناعي العراقي، لا اريد ان اورد امثلة اخرى عن هذه العملية، فالقصد من هذه الافعال هي قتل روح الانتماء وتعطيل فكرة الدولة وجعلها اشبه بالمستحيلة في الفكر الجمعي العراقي، ووسط تراكمات تخريبية وطبقة سياسية تجاهر بالعمالة للأجنبي لا يمكن ان تنهض فكرة اعادة بناء البلد الذي تصدر قائمة الفساد والارهاب بالعالم واصبح من اسوء المناطق الغير صالحة للعيش وفق تقارير تم اعدادها ونشرها من قبل منظمات دولية .

لم يعد بإمكاننا كعراقيين ان نفكر باستعادة الدولة من ايدي المتسلطين الذين جاؤا مع الاحتلال ونشروا الفوضى والدمار في كل ارجاء المعمورة، ولكن حسابات البيدر ليست كحسابات الحقل، فالعراق مازال امة حيّة وولاّدة، ان خروج جيل ولِدَ اغلبه في تاريخ الاحتلال وربما بعده او قبله ببضع سنوات ليفاجئ العالم ويطالب باستعادة الوطن، هذا لم يكن بحسابات الدوائر الاستعمارية وقوى الاحتلال المركّب، ومع كون الجيل الجديد لم يعايش اية حقبة زمنية اخرى غير هذه الحقبة الفاسدة الا انه نشأ متمردا عليها رافضا لأسلوب حكمها غاضبا من خيانتها وقد اسقط كل المراهنات التي عوّلت عليها الدوائر الخارجية وقلب المعادلة بالكامل، مما فاجأ العالم فتوحد الجميع على قمع هذه الانتفاضة بشتى وسائل القمع والاختطاف والتغييب والاغتيالات والتسقيط بكل مفرداته الاخلاقية والسياسية مستخدمين كل نفوذ السلطة للتنكيل بهم وسط صمت عالمي، ولكن كل هذا لم يردعهم ولم يتوقفوا عن المطالبة باستعادة الوطن وفرضوا على الحكومة الاستقالة وتغيير قانون الانتخابات وتغيير المفوضية وقانونها ومازالت ثورتهم مستمرة لاستعادة الوطن وانهاء حقبة من الظلم .لبداية جديدة في بناء الدولة من جديد .

 

طارق الكناني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم