صحيفة المثقف

المجاهد المجتهد عبد المتعال الصعيدي

عصمت نصاريعتقد الكثيرون أن مصطلحات (الحرية، الاستبداد، العنف، الراديكالية والإرهاب) لا يمكن الوقوف على دلالتها إلا في الحقل المعرفي الذي لفظها وأنتجها واستخدمها.

وقد تجاهل بعضهم أن تلك المعاني المستنبطة من استخدام هذه المصطلحات ليست حكرًا على ميدان بعينه، فالحرية في ميدان الفكر أوسع وأشمل من حصر دلالتها في ميدان السياسة أو الاجتماع، كما أن الاستبداد والعنف والإرهاب إذا ما مارسته السلطات القائمة على المفكرين وأصحاب الأقلام والمجتهدين تكون قسوته لا تقل خطرًا على الإنسانية من استبداد الحكام والساسة والملوك والسلاطين.

كما أن المنطق الإطاحي الراديكالي ليس ضربًا من ضروب الفاشية فحسب، بلا هو الحُمق بعينه ذلك الذي يعتقد أن للحقيقة وجهًا واحدًا وأن الصواب دومًا في ما يعتقد أدعياؤه، وأن دونهم لا يحق لهم المناقشة أو النقد أو التحاور والجدل حول أمرٍ قد كرروه أو انتهوا إليه.

ومن هذا الباب نجد الرجعيين في شتى الحقول المعرفية يعتقدون بأن الموروث والتليد من الأفكار والعريق من الرؤى والتصورات لا ينبغي المساس بقداستها المزعومة بل يجب احترامها واقتفاء أثرها، لأنها تحوي فصل الخطاب وعين الحقيقة ومن ثم يصبح الخروج عليها مروقًاً يستحق صاحبه الصفع بناصيته والتنكيل به وكسر قلمه.

وقد شاهدنا ذلك في العصر الوسيط وما فعلته الكنيسة بالفلاسفة والعلماء والمجددِّين والمجاهدين وقد مارسه عصبة من الفرق الإسلامية الجانحة عن الأصول الإسلامية والمقاصد الشرعية وسار في ركابهم ما نطلق عليه الجماعات السلفية ومعتنقي الوهابية والقطبية الإخوانية.

والغريب أن نجد الأزهريين من بدايات القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين قد ظهرت فيهم مجموعة رافضة وناقضة لأي شكل من أشكال النقد أو التجديد وسجنت الاجتهاد في ضرب التقليد.

فحاربت ـ تلك المجموعة الرجعية المستبدة ـ كل محاولات النهوض بالأزهر كمؤسسة تعليمية وقمعت المجتهدين في العلوم الإسلامية بداية من "الشيخ حسن العطار(1766م - 1835م)" حتى "الشيخ عبد المتعال الصعيدي(1894م - 1966م)" ـ في هذا السياق ـ فأصابه العديد من أشكال العنف والاضطهاد بداية بالقدح والشتم والاتهام بالجهل إلى التهديد بالفصل وحرمانه من راتبه والوقوف دون ترقيته وصد الناس عنه والتشكيك في عقيدته.

فعلى الرغم من نبوغه وسعة علمه وكثرة تآليفه المبتكرة، ظل في دائرة النسيان حتى أخريات القرن العشرين، وجهل معظم المثقفين المعاصرين قدره ومكانته بين علماء الأزهر وهو الثائر المجدد والعالم المدقق الذي كان يعتز بعمامته الأزهرية ولم يحد قط عن نهج المصلحين المستنيرين.

ولا نكاد نجد من بين مفكري النصف الأول من القرن العشرين على اختلاف نوازعهم واتجاهاتهم، من هو أكثر عناية بتحديد المصطلحات وتوضيح المفاهيم وبسط الأفكار والرؤى والتصورات وترتيبها في نسق منطقي لا نكوص فيه ولا اضطراب، أفضل من "الشيخ عبد المتعال الصعيدي" ذلك الشيخ الأزهري العصامي، الذي نشأ خلوقًاً، صبورًا، شغوفًاً بطلب العلم، شجاعًا جريئًا، عاقلًا في التناظر والتثاقف، مجتهدًا مجددًا مبدعًا في مؤلفاته وتصانيفه، وتشهد بذلك كتاباته التي تجاوزت الخمسين مؤلفًاً في النحو والبلاغة والمنطق والفلسفة وعلم الفقه والكلام والحديث.

وأعتقد أن أهمية كتابات "عبد المتعال الصعيدي" ليست فيما قدمته من معارف مستنبطة عن قراءات متأنية في أدق المشارب العلمية بل إن أهميته الحقيقية ترجع إلى وجهته النقدية ونهجه الإصلاحي الذي اجتاز الكثير من المعوقات لتجديد العقل الجمعي، وتحرير الفكر الأصولي من جموده الذي حاق به لابتعاده عن ميدان العلوم العقليّة والمعارف العلميّة الحديثة.

ولا ريب في أن "عبد المتعال الصعيدي" يعد من أكبر تلاميذ الإمام "محمد عبده (1849م - 1905م)"، ولاسيما في ميدان النقد والإصلاح وكيف لا؟ فقد صاحب "الشيخ الأحمدي الظواهري (1878م - 1944م)" و"الشيخ مصطفى المراغي (1881م - 1945م)" و"الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885م - 1947م)" أثناء عمله بالأزهر فقد أخذ عنهم الكثير من مبادئ مدرسة الأستاذ الإمام.

أمّا وصف "الشيخ عبد المتعال الصعيدي" بأنه المجترئ المناضل والمجتهد الحكيم فيرجع إلى عدة أسباب، أولها : تعريفه الطريف لمصطلح "الأصولية الإسلامية" ذلك الذي جاء فيه أن الأصولية هي إحياء الأسس الجوهرية والمبادئ الشرعية، وقد أجمل الأصول في قسمين : اعتقادية وتشريعية، وتتمثل الأولى في أصلين هما التوحيد الذي يعني عبادة الله الواحد المنزه في صفاته عن التشبيه والتجسيد والغني بذاته عن أي سلطة كهنوتية لتقربه من عباده أو تكون سيفًاً على رقابهم، فتحجر على حريتهم في الكفر أو الإيمان به.

والأصل الثاني هو التصديق بجميع الرسل والإيمان بوجود الملائكة والكتب المنزلة واليوم الآخر وغير هذا من أصول الإيمان وفروعه، ويكشف هذا الأصل عن عالمية الإسلام التي تنئ عن التعصب الملي والجنسي والعنصري.

أمّا الأصول التشريعية فتتمثل في ثلاثة أصول: أولها : جلب المصلحة ودفع المفسدة التي توازن بين صالح الفرد ومصلحة الجماعة من جهة وسائر البشر من جهة أخرى.

وثانيها: مراعاة الزمان والمكان وهي القاعدة التي تثبت أن التشريع الإسلامي يحمل بين طياته بذور تطوره، وإمكانية موائمته للمتغيرات الحضارية لكل البشر وتتمثل هذه البذور في نسخ الآيات القرآنية والحديث الشريف، والاجتهاد الذي لم يغلق بابه أبدًا منذ نشأته بداية من اجتهاد الصحابة إلى ما شاء الله.

وثالثها: التوسط بين الإفراط والتفريط، ويبدو في موازنة التشريع الإسلامي بين متطلبات الروح والجسد، والدنيا والآخرة.

أمّا السبب الثاني في تسميته بـ المجترئ المناضل والمجتهد الحكيم، يرجع إلى أرائه المبتكرة في قضايا التراث، التجديد، الحرية، الوعي والإصلاح. تلك التي جاءت مغايرة إلى حدٍ كبير مع أقرانه من شبيبة الأزهر آن ذاك.

أضف إلى ذلك اجتهاداته في العديد من المسائل الفقهية مثل حجاب المرأة وعملها، والطلاق الرجعي، والخلع وتولي المرأة القضاء واشتغالها بالسياسة والعمل بالشرطة والجيش وموقف الإسلام من الفن الغنائي والتصويري، وتفرقته بين أمة الدعوة وأمة الاستجابة ومشروعية الأخذ عن الأغيار، وتجديد فقه الحدود وتحديث العلوم الأصولية (الفقه، الكلام والحديث الشريف) ونقضه التصوف الفلسفي والتصوف البدعي، رده على المستشرقين ودعوته إلى تجديد المناهج التعليمية بالأزهر وغير ذلك.

أمّا مكمن أصالته وعلو مكانته بين تلاميذ مدرسة الإمام "محمد عبده" فيبدو بوضوح في نجاحه في تطوير منهج الأستاذ الإمام في التجديد والإصلاح والرد على المستشرقين.

أزمة التجديد وغيبة المدارس الفكرية:

لعل أكثر الروابط اتساقًا بين هذين المصطلحين هي علاقة التداخل وما يتبعها من تلازم فإذا ما استعرضنا تصانيف المفكرين عن التجديد والمجددين وكتاباتهم عن المدارس الفكرية سوف ندرك أن كل المعنيين بدراسة هذا الموضوع قد اتفقوا فيما بينهم على تحديد المفاهيم ووقفوا كذلك على أهم المعوقات والأزمات التي تحول بين التقدم الثقافي وغيبتهما؛ فالتجديد هو وسط بين التقليد والتبديد، وأن آلياته هي الاجتهاد والنقد لتحديد الثابت والمتغير في القضايا المطروحة، وأن مقصده هو إيجاد حلول للمشكلات التي تعوق العقل الجمعي عن النهوض والتقدّم. أمّا المدارس الفكرية، فتتشكل عقب رسوخ مناهج التجديد التي تشغل نقطة مركز الدائرة وعلى طرفيها تحتل منابر المحافظين والمُحَدِثين كفتي الميزان.

وكلما اتسعت وكثرت المساحة التي تشغلها منابر التجديد، تتراجع وتضعف سلطة المحافظين والمُحَدِثين.

وتشهد الواقعات التاريخية أن وجود أشكال التطرف والجموح، وظهور الجماعات الرجعية والجماعات الفوضوية مرتبطًاً بضعف مدارس الوسط أي المدارس الفكرية التي تحمل لواء التجديد والإصلاح والتنوير والوعي وتنجح في إعادة بناء الطبقة الوسطى باعتبارها المسئول الأول عن دفع المجتمع قدمٌ للأمام.

وإذا ما انتقلنا إلى ميدان التفكير الديني ومدارسه التي تنتج الخطابات والمشروعات، فسوف نتبيّن أن معظم المجددين في الفكر الديني كان مقصدهم الأول هو توضيح الثابت الذي يجب اقتفاؤه والمتغيّر الذي ينبغي تطويره وتحديثه (المنقول والمعقول)، وذلك استنادًا على استنباط مقاصد النصوص واستقراء حاجات الواقع.

والجديرُ بالذكر في هذا السياق أن جل المنابر الفكرية التي ظهرت منذ أخريات القرن الثامن عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، قد اتسمت خطابتها بالجدة والأصالة والاتساق والموضوعية في مناقشة القضايا والواقعية في انتخاب الحلول لمشكلات الواقع والتفاؤل في استشراف المستقبل، ذلك فضلًا عن تواصل روادها المتمثل في وحدة المقصد من جهة، والمنهج من جهة أخرى؛ وذلك دون أدنى تقليد للاحق عن السابق، أو التعلق بالمذهب والنهج دون إعادة تقييمه ومراجعته وتطويره.

والشيخ "عبد المتعال الصعيدي" كان من هذا الطراز فقد سار على نهج منابر المجددين ولم يخرج عن نهجهم في الإصلاح ولا منهجهم في الاجتهاد، الأمر الذي أثمر خطابًا أكثر تقدُّمًا ومشروعًا أقدر موائمة مع متغيرات العصر.

وسوف نحاول في السطور التالية توضيح قواعد منهجه وسمات آراءه التي تعد بحق تطورًا فائقًا لمدرسة الأستاذ الإمام "محمد عبده".

(1) التأليف بين التراث والتجديد في استنباط الحلول المناسبة للقضايا المطروحة: فلم يكن التراث عند شيخنا عائقًاً أمام التجديد أو التطوير أو التحديث، وذلك بعد عرض الموروث الثقافي والعقدّي على مائدة النقد، لاستبعاد الدخيل والمتوهم والمنحول والمدسوس، والإبقاء على قطعي الثبوت وقطعي الدلالة من التراث العقدّي (القرآن وصحيح السنة)، والنافع من العادات والتقاليد التليدة.

فالإحياء عند "الصعيدي" لم يكن تكرارًا أو إعادة للموروث من الأفكار أو الآراء الفقهيّة أو المؤلفات والتحقيقات والحواشي والشروح الثقافية، بل غربلة وانتقاء لانتخاب ما يصلح للواقع المعيش؛ ليثبت أن في مقدور الفكر الإسلامي مواكبة العصر والتصدي لمشكلاته الحديثة دون عنت أو جمود. وقد نجح "الصعيدي" بذلك في تطوير القاعدة الأولى من منهج الأستاذ الإمام: "تحرير الفكر من قيّد التقليد والرجوع بالدين إلى سذاجته الأولى".

(2) الاتساق في الرأي: لا نكاد نجد من بين آراء "الصعيدي" ما يناقد المفاهيم التي وضعها للمصطلحات الرئيسة لخطابه ألا وهي "الأصولية، التجديد، الإصلاح، التساجل، حرية الفكر، عالمية الإسلام، حقوق الأغيار في بلاد المسلمين، المواطنة، رفض الإسلام للإرهاب والتطرف والشطط والمجون وانتصاره للوسطية والعقلية الإسلامية الجامعة بين الدين والعلم والأخلاق والسياسة في بناء الأمة".

(3) النسقيّة في بناء الخطاب المشروع من حيث ترابط الأفكار والتصورات والرؤى بنهج منطقي يتفق مع العقل من جهة ويتناسب مع مقتضيات الواقع من جهة أخرى؛ فيمتاز خطاب "الصعيدي" بأن آراءه في نقد الموروث لا تتعارض مع تمسكه بالأصول العقدّية والمقاصد الشرعية، وأن انتصاره للمعقول لا يناقض الصحيح والثابت من المنقول، كما أن تأثره بالنهوج الغربية والاتجاهات الحديثة في معالجة بعض القضايا الشرعية لم يجنح به إلى منحدر الاجتراء والمروق والتجديف، وقد سار على نفس النهج في تطبيق اقتراحاته وتصوراته الإصلاحية في شتى الميادين (التعليم، السياسة، الفقه، التصوّف، الأوضاع الاجتماعيّة والمنابر الثقافية).

(4) تقديم المعقول على المنقول في التناظر مع الأغيار، ويبدو ذلك واضحًا في رده على أكاذيب المستشرقين وادعاءاتهم التي أرادوا بها تشويه صورة الإسلام. وقد أقبل كذلك على التحاور مع الجهلاء وقليلي العلم من المتطاولين على المبادئ الشرعية والأوامر الإلهية. وكذا تبصير الجامدين من العلماء بما فاتهم من حقائق وإخبارهم بحسن مقصده وسلامة رأيه، وكان مُوفقاً إلى حد كبير في مخاطبته الخواص والعوام، وقد انتحل منهج ابن رشد (1126م - 1198م) ومن بعده منهج الأستاذ الإمام "محمد عبده" في مناظرة الأغيار وتفهيم العوام وتوعيتهم وتقويم معارف العلماء من المخالفين. وقد قدم المعقول على المنقول حتى لا يلزم مناظره بما يرفض أو يصادر على المطلوب.

ويبدو ذلك بوضوح في كتابه المشهور "لماذا أنا مسلم؟"، الذي صدر عام 1936م، ذلك الذي رد فيه على ادعاءات القس "صموئيل زويمر (1867م -1952م)"، الذي جمع جل مزاعم دوائر الاستشراق العقدّي وأكاذيب غلاة المبشرين، وراح يروج لها بين الشباب العربي المسلم الذي جهل حقيقة التراث الإسلامي وراح يلتمس معارفه من الدوائر الغربية التي لا تخلو من العنت والتعصب وطمس الحقائق.

وقد اختار "عبد المتعال الصعيدي" هذا المستشرق للرد عليه وتفنيد آرائه لإدراك مدى خطورة أحاديثه وكتاباته على العوام والخواص، ثم دعم الاحتلال الإنجليزي له وتمكينه من التواصل مع مختلف طبقات المجتمع المصري، أضف إلى ذلك نهج "صموئيل زويمر" في التبشير الذي كان يعتمد على تشكيك محاوريه في الثوابت العقدّية، وها هو يصرح بذلك في قوله "إنّ تبشير المسلمين يجب أن يكون بلسان نفرٍ منهم نستقطبه نعلمه، ثم ندسّه بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أبنائها".

والأخطر من ذلك أن "زويمر" قد صرح في مؤتمر المبشرين المنعقد في "القدس عام 1935م"، أن الهدف الحقيقي لجماعات الاستشراق والتبشير هو إبعاد المسلم عن دينه في المقام الأول حتى يكون تابعًا للاحتلال الغربي، ومعاونًا في الوقت نفسه لهدم الإسلام من الداخل، ونشر الإلحاد في الطبقة الوسطى المثقفة.

والجدير بالإشارة في هذا السياق، أن "عبد المتعال الصعيدي"، قد ألف كتابه هذا في قالب قصصي حواري بين طرفين أولهما "القس زويمر" وثانيهما "محمد" الشاب المثقف العارف بأسلوب دينه. ويعني ذلك أن المناظرة بين الشيخ "الصعيدي" و"زويمر" ليست حقيقية بل متوهمة بل من تأليفه على غرار (قصة علم الدين) لعلي مبارك (1823م -1893م)، و(حديث عيسى بن هشام) لمحمد المويلحي (1858م -1930م).

وإذا كان الصعيدي قد طوُّر كثيراً في نهجه الجدلي مع المستشرقين؛ فإن خطابه مع أواسط المثقفين من غير المتخصصين في العلوم الشرعيّة كان نموذجاً في الوضوح والبساطة في العرض، والدقة العلمية في المناقشة، ويبدو ذلك واضحاً في كتابيه (حرية الفكر في الإسلام) و(الحرية الدينية في الإسلام).

أمَّا معاركه الفكرية؛ فكانت أقرب إلى منطق المحاججة ولغة البرهان وأبعد ما تكون عن أسلوب القدح الشخصي وتجريح الخصم وتخويفه أو الكذب والتدليس عليه، الأمر الذي كان شائعاً في مناظرات معظم المثقفين آنذاك، ويمكننا أن نراجع في ذلك محاورته مع الشيخ عيسى منون (1889م - 1956م)، ورده على الشيخ خالد محمد خالد (م1920-1996م)، وعلي عبد الرازق (م1888-1966م)، وطه حسين (1889م - 1973م)، وإسماعيل أحمد أدهم (1911م -1940م)، وغيرهم من قادة الرأي في عصره، وتشهد بذلك كتاباته (في ميدان الاجتهاد)، (تاريخ الإصلاح في الأزهر وصفحات من الجهاد في الإصلاح)، (المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر)، (في الحدود الإسلامية).

حريّ بي توضيح أن خطاب "عبد المتعال الصعيدي" في تجديد الفكر الديني الموجه إلى الصفوة لم يكن من اليسير على البيئة الأزهرية المحافظة تقبُّله، ولاسيّما بعد وفاة الأستاذ الإمام "محمد عبده" وظهور الأحزاب السياسية المصرية (عام1907م) وما تبعها من ذيوع الاتجاهات الفلسفية الغربية وتأثر قادة الرأي بها، وعقد العديد من المناظرات العقدّية بين دعاة التحديث الغربي وأعلام الاتجاه الجامد الرجعي، ذلك فضلًا عن المجادلات الكلامية بين الأزهريين والسلفيين المحدثين والصوفيّة، وحملات المستشرقين وجماعات الإلحاد والمحافل الماسونية ودعاة "الديانة البهائية" وفرقة "الإخوان المسلمين".

أضف إلى ذلك كله، تزايد أعداد الجامدين من شيوخ الأزهر، الذين لم يترددوا في قدح وإقصاء وتكفير مخاليفهم، ولاسيّما بعد تشكيل هيئة كبار العلماء (عام 1913م) من معظم أولئك الشيوخ الإطاحيين، وقد عبَّر عن ذلك تمردهم وشجبهم لكل حركات الإصلاح وتطوير نظام التعليم بالأزهر، وعلى الرغم من وجود بعض تلاميذ الأستاذ الإمام داخل المؤسسة الأزهرية من أمثال "الشيخ مصطفى المراغي (1881م - 1945م)"، و"الشيخ الأحمدي الظواهري (1878م - 1944م) "إلا أنَّ صوت الرجعيين كان الأعلى ومصاولاتهم كانت هي الأعنف.

الأمر الذي عطل مشروع "الصعيدي" في تجديد العلوم الأصوليّة وإصلاح المناهج التعليمية الأزهرية، والوقوف بينه وأفكاره دون أن تصل لشبيبة الأزهريين أو تكوين مدرسة لتفعيل ما كان ينادي به وتحقيق مقصده.

الأمر الذي دعاه إلى توخي الحذر في الاجتهاد، وذلك عن طريق حشد الحجج وترتيب البراهين تبعًا لطبيعة المسألة وبنية القضية المطروحة مسار الخلاف، ذلك فضلًا عن توضيحه المقصد والمآل وإفصاحه عن العلل والأسباب التي تأنى في دراستها قبل إدلائه باجتهاده. وذلك يتضح في اجتهاداته في تجديد علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الحديث وتحديث أليات فقه الحدود وفقه المعاملات.

كما اتسمت كتاباته بالمجاهدة والمصابرة في تحمل تبعة آراءه، والوقوف بشجاعة في وجه المعارضين لمشروعه ووجهته في التجديد والإصلاح غير عابئ بالأضرار المادية والمعنوية التي أسفرت عنها معاركه المختلفة وصولاته المتباينة. ومع ذلك كله، فكان ينحاز دومًا للبراهين الواضحة والأدلة الثابتة أيًا كان مصدرها مادامت لا تخرج عن سياج صريح المعقول وصحيح المنقول، وذلك بعد تعديلها وتطويعها وفق مشاعره ورؤيته الخاصّة.

وكان، رحمه الله، يردد بيتاً "لأبي العلاء المعري (973م -1075م)"

حظي كدقيق يوم ريح نثروه.. وجاءوا بحفاة فوق شوك يجمعوه

كما التزم بالاعتماد على المنهج الاستنباطي والاستقرائي في اختبار الآراء والحجج قبل قبولها، ويبدو ذلك في مراجعته للقضايا الفقهيّة بداية من التحليل الدلالي للنص القرآني أو الحديث الشريف، ومقابلته باستنباط الأحكام المستخلصة منها، ثم استقراء نتائج تطبيقها في الواقع والتعويل بأبعاده الثلاثة (العقل، الواقع، الشعور) في الحكم على مقاصد اللغة، واعتمد أيضاً على المنهج الفونولوجي وغايات الاجتهادات، والمنهج التأويلي (الهرمونيطقا) في حديثه عن حرية المرأة وقضية السفور والحجاب وقضية الخلع والطلاق الرجعي والطلاق ثلاثة، ومخالفته في الكثير من المسائل جمهور الفقهاء، أضف إلى ذلك حديثه عن حجية الإجماع والناسخ والمنسوخ، وحد الردة وموقف الإسلام من الفنون الجميلة، وتولي المرأة القضاء والعمل بالجيش وجواز ولايتها الولاية الكبرى، الأمر الذي عرضه إلى الخصم من راتبه تارة، والفصل تارة أخرى وعدم ترقيته تارة ثالثة؛ للتصريح بأن الخطابات الكاملة هي تلك الخالية من الاضطراب والنكوص - فيما تطرحه من أفكار- والقادرة على توصيل مضامينها للرأي العام القائد فيحميها، والرأي العام التابع ليتقبل تطبيقها، فالخطابات المعادية للسلطات القائمة (الحاكم، أصحاب النفوذ، الرافضين للمذهب أو الوجهة) سوف تواجه بالرفض والتسفيه من شأن أصحابها، أمّا الخطابات التي لا تلقى استحسانًا من الرأي العام التابع فيصعب استحالتها إلى مشاريع والوصول إلى مقاصدها، ويعني ذلك أن "الصعيدي" قد فطن إلى أن علة نجاح خطاب "محمد عبده" في ميدان التجديد والإصلاح يرجع إلى كثرة تلاميذه الذين حملوا الرسالة جيلاً بعد جيل للوصول إلى الغاية المنشودة، لذا نجد "الصعيدي" يأسف على خلو عصره من المدارس الفكرية، وتعملق الأقزام، وشهرة المجترئين، وذيوع الآراء الفاسدة الشاغرة من الحجج العقلية والبراهين العلمية، وعلى الجانب الآخر تجاهل العلماء وانزواء ذوي الدربة والدراية خوفًاً من بطش ذوي السلطة أو اتهامهم بالكفر من قبل الخصوم أو تطاول الجمهور عليهم.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم