صحيفة المثقف

في كتاب: المفصل في تاريخ أربل

محمدـحسينـ الداغستانيفرادة في التأصيل التأريخي لمدينة عريقة جامعة

ترتقي مدينة (أربيل) الى مصاف المدن العريقة ذات الهوية التاريخية الخاصة بها، فخزينها حافل بالعلامات الفارقة ومنها أنها كانت مركزاً لعبادة (عشتار) آلهة الحب والحرب والجمال والتضحية في الحروب في حضارات بلاد الرافدين. وتعاقبت عليها عبر عمقها الزمني الموغل بالقدم حضارات الاشوريين والباراثيين والساسانيين والعرب واخيراً العثمانيين، وبالتالي فإنها تنتمي الى تأريخ يتصل بالقرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وبثباتها أفلحت في مقارعة التغييرات النوعية في الزمكانية واستطاعت بالبقاء كَمدينة نابضة بالديمومة والحيوية، غير تقليدية، وذات حضور تأريخي آخاذ .

وفي خضم هذا السفر المديد يتوقف البروفيسور الدكتور حسام داود خضر الأربلي في محطة تاريخية مهمة ليكتب عن مدينته الآثيرة كتابه الماتع الصادرعن دار التفسير (المفصل في تاريخ إربل - قصة المدينة حتى تسوية مشكلة الموصل 1926م) المطبوع في اربيل في العام 2019 م، وهوكتابه الثالث فيما كتبه ودرسه في تاريخ الترك وثقافتهم في العراق، والسابع فيما كتب في علم الانسانيات عامة .

يلاحظ المؤلف أن أغلب المتصدين قبله لكتابة تأريخ أربيل من المؤرخين والدارسين كانوا يتناولون بالتفصيل المدة البكتيكينية على عكس ما وجد بأن القارئ المهتم بالتأريخ يتطلع الى من يقف به على تأريخ مجتمعه وأصوله وطبائعه وعاداته وقيمه، لهذا فهو بادر الى تقسيم كتابه الى قسمين تناول فيهما تأريخ المدينة والنزوح التركي إليها ، ومن هذا المنطلق فهو بحث في القسم الأول تأريخ (أربِل) قبل الإسلام (لغاية 640 م) ثم تأريخه فترة إنتشار الإسلام مروراً بالفترة التي كانت المدينة تحت حكم الاسرة الهذبانية الكردية لفترتين (640 -1128 م) ثم حكم الاسرة البكتيكينية التركمانية (1128-1232 م) وحكم الخلافة العباسية (1232 - 1258م) والحكم المغولي ـ الإيلخانية والجلائرية ـ (1258ـ 1411 م) وحكم التركمان ـ القوينلية والصفوية(1411 ـ 1518م) والحكم العثماني (1518ـ 1918م) ومن ثم فترة حكم الاحتلال البريطاني والانتداب والحكم الوطني تحت الإنتداب ولحين تسوية مشكلة الموصل في 1926م .

ويتوغل الأربلي عميقاً في إسم أربيل (أربِل) ويشير إلى أنه ورد في كتابات الملك السومري (شوليكي) قبل ألفي سنة قبل الميلاد بصيغة(أوربيلم) أو جاء بصيغة (أربا ـ ئيلو) وتعني الألهة الأربعة في السلالة الأشورية وهي مصطلحات قيد التخاطب اليومي لدى مستعمليها في أربـِل .

وكانت أربيل عند ياقوت الحموي الذي زارها سنة 617 هـ كما ورد في معجم البلدان (.. قلعة حصينة ومدينة كبيرة في فضاء من الأرض واسع بسيط ولقلعتها خندق عميق وسور المدينة ينقطع في نصفها وهي على تلٍ عال ن التراب عظيم واسع الرأس وفي هذه القلعة أسواق ومنازل للرعية وجامع للصلاة وحمام وهي شبيهة بقلعة حلب إلاّ أنها أكبر وأوسع رقعة . فيما هي في عصرنا مدينة كبيرة، عريضة وطويلة، قام بعمارتها وبناء سورها وعمارة أسواقها وقيسرياتها الأمير مظفرالدين كوكبوري بن زين الدين كوجك علي فأقام بها وقامت المدينة بمقامه لها سوق وصارت لها هيبة ونازع الملوك ونابذهم بشهامته وكثرة تجربته حتى هابوه وصارت مصراً كبيراً من الأمصار) .

ولكن من الواضح تماماً تركيز البروفيسور حسام الإربلي على التناول الفريد لدراسة الشخصية التركمانية الأربيلية في أربعة مباحث تفصيلية ضمت الأصول والإنتماء ـ اللسان والنطق ـ الدين والعقيدة ـ العادات والطبائع ، وهو يتعامل مع مفردتي (الترك) و(التركمان) بإعتبارهما مفردتان لشعب واحد وليس شعبين . ولهذا فقد كرس القسم الثاني من كتابه بفصليه الأول والثاني للحضور التركي في أربل وللشخصية التركية الاربلية إبتداءً من قبل الإسلام ولنهاية الاحتلال الإنكليزي للعراق وهو قسم ماتع وغني بالمعلومات المستمدة من فيض من المصادر التأريخية الموثقة، وربما يكون قد انفرد بين المؤرخين والباحثين في دراسته التأريخية المعمقة والموثقة في اصل هذه الشريحة الرئيسية في المجتمع الاربلي و إنتسابها إلى العشائر والقبائل او الى المهن التي مارستها أو انتماءها إلى المدن والبيوتات المعروفة فضلا َ عن اللغة واللهجة المتداولة بين أتراك أربيل ودياناتهم ومذاهبهم الى جانب عاداتهم وطبائعهم.

فعن اصل الارابلة الأتراك يشير المؤلف الي انهم كانوا اتراكاَ من بلاد تركستان الكبرى بقبائلهم المختلفة والتي من أكثرها دخولاَ إلى إربل هي قبيلة الغزّ (الأوغوز) وهم من أصل السلجوقية وهؤلاء الأتراك ما يزالون يسكنون في إربل ويعود تاريخ بعضهم الى قبل ١١٠٦ سنة. ومن عشائرهم القرة قوينلية والآق قوينلية والقزلباش إستوطنوا فيها بحكم استيلاء رؤسائهم عليها بعد الحقبة المغولية.

ويتوسع البروفيسور حسام في دراسة أصول أربيل القومية فيشيرالى إنها لا تزال تسكنها الترك والكرد والعرب مع تباين حجم هذه الأطياف عبر مرحلة وأخرى تبعاً للأوضاع السياسية والإجتماعية السائدة وكان أبنائها من هذه الأصول متحابين تعزو صلاتهم دين الأكثرية من أهلها وهو الإسلام فيما بقيت الحياة الثقافية ثابتة نوعاً ما ولم تتغير مع تغير الأوضاع السياسية فيها وإنتهج علماؤها وأدباؤها وشعراؤها على ما كانوا عليه في الفترة العباسية وما تلاها بذات النهج ويفكرون بذات التفكير مع التسليم بما طرأ من تحول الى الفارسية والتركية فيها بعد الفترة المغولية .

و يتناول البروفيسور حسام لغة التركمان ولسانهم في أربل فيثبت بأن لغتهم التركية ( وليس بينها وبيت تركيات العالم إختلاف فالتركية واحدة إن كانت في أربل أو في تبريز أو في أستنبول أو في إستانة أو في قبرص ولعل الإختلاف الوحيد هو اختلاف اللهجة ليس إلاّ).

الحياة الدينية والعادات الاجتماعية

ويذهب المؤلف الى تثبيت إمكانية القول بأنها على الرغم من تنوع الديانات في أربل من مسلمة ومسيحية ويهودية فلم تكن تحدث فيها صراعات أو مناوشات .وباستثناء بعض التعامل غير المحسوب من لدن بعض الشباب ‏المتهوّر في الجانب الاسلامي أو بعض الصبية الاغيار فيهم ما كان المرء يسمع شكوى من يهوديّ أو مسيحيٌ تُقدّمْ إلى السلطات المحلية أو المؤسسات الدينية المتواجدة في إربل . فقد (كان اليهود تجمعهم محلة خاصة بهم في المدينة تسمى عند أهل اربل (يهودلر كوجاسى) اي محلة اليهود وكانت قائمة بسكانها حتى نزوحهم منها في العام 1948 وكانوا يعيشون فيها أحراراً، يحتفلون بأعيادهم ومناسباتهم ويتكلمون بلغتهم . فيما كان المسيحين يعيشون في (عينكاوة) وكانوا مع اليهود يشاركون المسلمين احتفالاتهم، وقد ذكر الكابتن هاي الحاكم الإنكليزي لأربيل بداية الاحتلال إلى أنه حضر إحتفالا َ للمدينة بعيد الأضحى في سراي القلعة وأنه إستقبل بإطلاق مدفع عند وصوله إلى أرض الاحتفال) .

الإنتساب الى المهن والمدن

كما أن من تركمان إربل من انتسب الي المهنة التي كانوا يمارسونها بزيادة حرفي (جي) و(الياء) إلى المهنة نحو قولهم (دمير) للحديد ليقال (دميرجي) أي الحداد. والجايجي والكبابجي وكذا في المهن (الكوره جية) وهم متخصصون في صناعة الطابوق داخل مواقد كبيرة و(التوتنيجية) المنسوب للتجار العاملين في تجارة التبغ و(البامبوغجية) ومنهم تجار القطن والندافة و(الصندوقجية)، وهناك من ينتسب إلى صناعته أو المهنة التي يمارسها مثل (القصاب) و(البقال) و(النجار) و(الخياط) و(الحلاق) و(البزاز)، وفي الكتاب أسماء لامعة في مجتمع أربيل ممن يحمل اسماء هذه المهن.

ومن الارابلة من انتسب إلى مدن اجدادهم في تركستان الكبرى كالكورلية وهي مدينة كبيرة في مقاطعة (شين جيانغ) ذات الحكم الذاتي في جنوب الصين والكرديزية الأفغانية وهم اليوم أسر وعوائل كثيرة ومعروفة من نسل المغول بسمات مغولية او قوقازية. فضلا َ عن انتساب بعضهم إلى البيوتات كبيوتات (الشيخ) و (الاغوات) و(الجلبية) و(الجُعو) و(كوربيا) و(الجاوشلي) و(العصافي ) و(العزيرية) و(الأكمكجي) و(آلتي برماق) وغيرها، وفيها شخصيات واعلام معروفين في مجتمع أربيل.

ويتطرق المؤلف الى عادات وتقاليد أهل أربل ويشير الى أنها كثيرة وجميلة حتى الى بعض السنوات الأخيرة ومنها خروج النساء الى أماكن عامة مخصصة للنساء في أطراف المدينة خلال أيام الأربعاء من كل اسبوع بعد إنقضاء فصل الشتاء فيما كان الرجال يتوجهون الى موضع (آوبار) شمال أربل أثناء الاعياد ومراسيم الزفاف للإحتفال والترويح عن العريس وأصدقائه.

كما وكان لأهل أربل عادات وطبائع وسجايا تأصلت في أعماقهم ليومنا هذا ومنها الأنس خلاف الوحشة، والنظافة، ونبذ التطرف، والابتعاد عن الشر، واذا كان زائرهم على غير لسانهم فإنهم يبادرون الى ترك لغتهم ليتحولوا إلى لغة زائرهم، وقد أورد المؤلف ابيات عديدة لشعراء عبر التأريخ في مدحهم لأهالي اربل والإشادة بكرمهم ووفاءهم كأبي نصر الأموي الأندلسي وطه الاربلي وغيرهما.

‏ومن عاداتهم وتقاليدهم إنهم بعد أن يقيموا مناقب نبوية بمناسبة زواج أحد ابنائهم ينظمون له حفلة ساهرة بجلسة غنائية تستمر الى الفجر، ترتفع فيها قراءات في (القوريات) يقرأها قرّاء إربل وأحيانا يشاركهم فيها قراء المقامات في كركوك بدعوات خاصة .

وفي تقليد آخر كان القلعي التركماني قبل ان ينزل الى باب رزقه في السوق الكبيرة يقف عند باب القلعة وأمامه المقبرة العامة ليقرأ (الفاتحة) على أرواح أمواته وأموات المسلمين المدفونين فيها ويترحم عليهم . ثم ( ينزل الى عمله في الربض ويفتح دكانته باسم الله ويزاول ما يزاوله فيها ولا يغلقها في يومه إلا قبيل المغرب بقليل ليعود الى منزله ويصلى المغرب، ويفكَ حزامه ويتعشى ويصلِّي العشاء وينام) .

ويختتم المؤلف كتابه الفريد والممتع متذكراً مدحة إبن الحداد الموصلي (626 هـ ) لها في قوله:

كيف أخلص الود الصحيح لمغناكِ    الأنيس - رعاكِ الله ـ من وطنِ

وفي مغانيك مياد القـــــــوام، له      لحظٌ يغـّل سيوف الهند واليمن ِ

إن (المفصل في تاريخ أربـِل) كتاب بطبعة أنيقة يشتمل على 561 صفحة من الحجم الكبير وهو جدير بالقراءة فعلاً .

 

محمد حسين الداغستاني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم