صحيفة المثقف

قتل الآباء والأمهات لأطفالهم.. تحليل سيكولوجي

قاسم حسين صالحالحدث: في الأحد (18 /10 /2020)، قامت امرأة عراقية برمي طفليها بنهر دجلة من على جسر الأئمة في بغداد، وصفته الفضائيات ووسائل التواصل الأجتماعي بأنه جريمة هزّت الرأي العام العراقي!، ووصفه اكاديمي يحمل شهادة دكتوراه بعلم النفس (بأنه لم تشهده الأنسانية من قبل!).. وكأن هذا الحدث يقع للمرة الأولى في العراق، مع ان امرأتين قبلها رمت كلاهما اطفالهما في دجلة ومن نفس الجسر (الأئمة)، وان احد الآباء في كربلاء قتل اولاده الأربعة دفعة واحدة، فيما عزا السبب دكتور في علم النفس عبر فضائية معروفة الى البطالة!.وطالب كثيرون بحرق هذه المرأة او رميها في دجلة، ليثبت هذا الحدث أن العلم يتراجع حين يصاب الناس بالهوس السياسي، فتستغله فضائيات لتقديم نفسها كم هي انسانية! فيما هي تشيع الكراهية والتحريض على قتل الآخر.

تعريف

قتل الآباء والأمهات لأطفالهم.. ظاهرة عالمية.. ففي مدينة الأسكندرية بمصر قامت أحدى الأمهات بشنق طفلتها، ورمت أمّ اخرى بطفليها في بحر يوسف بالمنيا، وألقى احد الآباء بطفليه في نيل الدقهلية.وتذكر الصحافة المصرية ان احدى الأمهات قامت بقتل طفلتها (13 سنة) لأنخفاض مستواها الدراسي، وقتل أحد الآباء طفلته (9 سنوات) لكثرة لهوها، واعترف أب آخر بقتل ابنته (9 سنوات) دون مشاعر ندم معلا ذلك بانها (ارتاحت من الفقر).

وفي اميركا اجريت دراسات على مدى ثلاثة عقود (1976 – 2007)، افادت أن هذه الحوادث تكررت 500 مرة في العام الواحد؛وان ثلاثة ارباع الضحايا كانوا أقل من ست سنوات، وربعهم بعمر أقل من عام. وتبيّن أيضاً أن نسبة 57.4% قُتلوا على يد الآباء، و42.6% قُتلوا على يد الأمهات.وفي دراسة شملت انكلترا وويلز (2013) افادت بأن 40% من القتلة كانت لديهم مشاكل في الصحة النفسية .وفي استراليا افادت دراسة لمعهد الجريمة الأسترالي بانه يتم قتل طفل واحد كل أسبوعين، مضيفة بان 27% من الآباء القتلة قتلوا أنفسهم بعد فعلتهم هذه.. والحال يشبه ما ذكرنا في معظم المجتمعات البشرية، ليطرح تساؤلا مشتركا: أن الأبوة والأمومة هما انبل غريزتين فطريتين، فمن أين تأتي هذه القسوة بارتكاب ابشع جريمة انسانية.. لاسيما اذا كان القاتل هي الأم؟!

التحليل

لنبدأ من حقيقتين الأولى: لا يمكن لأبّ أو امّ ان يقتل اطفاله ما لم يكن مصابا باضطراب نفسي او خلل عقلي، بما فيها عدم القدرة على التحّكم بالغضب.

والثانية:تتحدد باشكالية اختلافنا في تعدد الأسباب وتحديد نسب او اهمية دور كل صنف منها.

ان اية ظاهرة اجتماعية (الأنتحار، الطلاق، جرائم القتل..) تكون ناجمة عن اسباب متعددة، تتمثل مصادرها الأساسية في أربعة:شخصية القاتل، المجتمع، الأسرة،

والنظام السياسي.غير انها تختلف في حجم او دور كل مصدر، فهي في ظاهرة قتل الآباء والأمهات لأطفالهم يعود المصدر الرئيس الى الشخص القائم بالجريمة.ففي مراجعتنا لدراسات اجنبية (اميركية وبريطانية واسترالية) تبين ان الغالبية المطلقة من هؤلاء القتلة كانوا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية يتصدرها الأكتئاب الحاد، وأخرى ارتكبت جريمة القتل دون وعي. ففي استراليا قامت (رينا ميرسنا) بقتل اطفالها الستة تبين انها كانت مصابة بشيزوفرينيا لم تكن مشخصة. وفي هيوستن باميركا وجدت المحكمة (2001) ان اندريا التي قتلت اطفالها الخمسة، لم تكن مذنبة لأنها تعاني من ذهان ما بعد الصدمة وهي حالة نادرة تتصف بالهلوسة والأوهام، فيما كانت هناك حالات لآباء وأمهات بررت قتل اطفالهم بأن العالم قاسي ، وان قتلهم هو (رحمة بهم) كي لا يواجهوا وحشية هذا العالم لوحدهم بعد موتهم!

ولقد وجدنا من دراسات كنا اجريناها على مجرمين في سجن (ابو غريب) ان القتلة يتصفون باربع صفات:الغباء .. لا يفكر بنتائج جريمته، ضعف او انعدام الضمير الأخلاقي، ضعف الوازع الديني ، وتدني المستوى الدراسي او انعدامه.وتبين ايضا ان نسبة كبيرة منهم ليس لديهم تقدير للذات، بل بينهم من يرى انه تافه ومضطهد.

وهذه الصفات تنطبق ايضا على الآباء والأمهات الذين يقتلون اطفالهم.. يضاف لها صفة:ان القائم بالجريمة يستهدف الانتقام من شريكه بقتل اعز ما لديه، او (ليحرق قلبه) بالتعبير العراقي.. كما هو حال الأم التي اعترفت بانها رمت طفليها بدجلة لخلاف مع طليقها.. ما يعني انها ارادت ان تأخذ حيفها منه بقتل اطفاله.

والأم ، هذه او غيرها، لا تقدم على قتل اطفالها الا اذا كانت قد تعرضت الى اضطهاد او عنف (جسدي، جنسي، نفسي، اهمال، نبذ، تحقير.. ) وحين لا يكون هناك قانون يحميها او جهة رادعة للزوج، فانها تصل الى حالة العجز التام فتنتقم من مضطهدها بقتل اطفاله.

وبمنطق العلم فان حالات الجريمة (والانتحار والطلاق..) تكون ناجمة عن تفاعل كل الأسباب.والذي حصل ان العراقيين ينفردون عن كل الشعوب المعاصرة بأنهم عاشوا اربعين سنة (1980-2020) حروبا وكوارث نجم عنها انتهاك قدسية الحياة باستسهال قتل الآخر، وتوالي خيبات نجم عنها تضاعف حالات الطلاق لتصل بعد 2010 الى مليون حالة طلاق مقابل مليوني حالة زواج. وتضاعفت حالات جرائم (الشرف) ايضا، ففي البصرة وحدها تم قتل 47 فتاة وأمراة في سنة واحدة تحت بند جرائم الشرف التي غض عنها الطرف قانون مناهضة العنف الأسري.وازداد الفقر ليصل الى 11 مليون عراقي دون مستوى خط الفقر وفقا لوزارة التخطيط الحالية.. ما يعني ان تدني ثقافة المجتمع واستفراد احزاب السطة بالثروة تسهم ايضا في دفع الآباء والأمهات المصابين باضطربات نفسية وعقلية وخلل في تركيبتهم الشخصية الى ارتكاب جريمة قتل اطفالهم.

ما العمل؟

ذلك ما سنتناوله في مقالة أخرى.. راجين من وزارة الداخلية ان تستفيد من خبرتنا بتوفير الفرصة لنا لمقابلة هذه المرأة لتقديم دراسة علمية تكشف الحقيقة للرأي العام والأعلام، ولفضائيات اظهرت نفسها كم هي انسانية فيما هي تشيع الكراهية والتحريض على قتل الآخر.

وتبقى ثمة مفارقة..

ان هناك حالات ابشع ، بينها زوجة حرقت زوجها بالبنزين في حي الجامعة ببغداد، واخرى هشمت رأس زوجها ب (البلوكة)، واخرى تعاونت مع عشيقها فقتلا زوجها والقيا بجثته في المجاري!.. وما اهتز الرأي العام لبشاعتها!

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

20/10/2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم