صحيفة المثقف

دراسة في أقاصيص مجموعة: في درجة 45 مئوي

حيدر عبدالرضاللكاتب محمد خضير.. وقفة مبحثية مع قصة: إله المستنقعات

تقطيع بنية السرد وتتابع خطية العلاقات المحورية


توطئة:

كنا قد أشرنا في مباحث سابقة من دراساتنا الأولى، حول قصص مجموعة (في درجة 45 مئوي) عن ذلك الاحساس بالزمن (التقطيعي) في بنية السرد القصصي، وعبر أهم محاور العلاقات الدلالية ـ الخطية، في مبنى تتابعات الوحدات المكانية والشخوصية، وهذا الأمر ما يظهر أيضا في مكونات قصة (إله المستنقعات) حيث تراتب بنية السرد الحكائي في محاور وقائعية ووصفية ذات توجهات عاملية متوغلة في حلقات متوازية من متحكمات رؤية السارد العليم . 

ـ العتبة العنوانية ومؤشرات الرؤية النواتية .

تواجهنا في دلالات العتبة العنوانية في النص، ثمة مقاربة مرجعية خاصة بزمن خلفية المحمول الملحمي والاسطوري والحكائي القادم من مدلول الحكاية الخرافية في الأدب الرمزي . وعند التدقيق في مستهل المتن الأولي من النص، توافينا مثل هكذا وحدات إجرائية: (آخر من شاهد الإله المتوطن، إله الأنوفلس ـ الذي أعتبر حتى وقت قريب منقرضا ـ طيار طائرة إبادة بعوض الملاريا التابعة لمديرية الصحة الوقائية .. كان عائدا من الأهوار الشرقية القصية إلى مدرج طائرته في مركز محافظة ميسان .. فلاحظ من ارتفاع 300 قدم غمامة كثيفة تتصاعد من مستنقع محاط بالبردي والقصب . / ص69) وتسهم تقانة الانقطاع السردي في الوحدات الأولى الخاصة بذلك الإله المتوطن، ثم بالأشارة إلى جهة ذلك الطيار المكلف برش ذلك المضاد الوقائي ضد غمامة البعوض المتصاعد من مواطن المستنقعات والقصب، كما وتتضاعف علاقات ذلك الطيار في أحوال تحليقاته فوق أجواء الأهوار وعلاقته التكوينية بجسد طائرته وظلالها التي أخذت تمسح وتغطي مساحات شاسعة من حركة أهالي المستنقعات ودوابهم المنتشرة في لوحة غرفة قيادة الطيار، وبعد زمن من التفصيل المسهب في وصف فضاءات الطيار وطائرته وخيوط الدخان، تواجهنا وقفة مفصلية ـ مشهدية تخبرنا عن حكاية (لنتذكر أدريس !) وفي حدود هذه البنية التتابعية المتوافقة واستجابة الحسية المكانية والزمانية المتشيئة في تفاصيل أكثر توغلا وأفعال وحدات متنوعة من النص: (أدريس أبن مؤذن المسجد / لنتذكر عطلات أيام الجمعة / الدراجات التي رفعنا منها واقيات عجلاتها / قصبات الصيد الديدان الوردية من طين الأنهر / السمكات الملفوفة بأوراق الموز / الظل الساخن للسعف / كنا تلك الأيام نعد العدة لسفر صيد السمك / اكتشفنا نهرا من تلك الأنهر الظليلة. / ص70) أن مقاربة أجواء دلالات النص للبيئة الأهوارية، تقودنا نحو مألوفية عناصر القص، دخولا منها إلى ذلك المضمر من فحوى موضوعة القصة حيث نعاين موقعية السارد المشارك وحدوث نوعية تمظهراتها في علاقاتها بشخصية أدريس، إذ تقدم لنا ذلك المحفز الوظيفي في صياغة أندر الحالات دقة في مواقف النص . 

1ـ الشخصية القصصية والوعي المرجعي:

أن عملية التتابع في وجهات المواقف والأحوال في حكاية صحبة الشخصية أدريس، حيث تتم ضمن كيفية سردية أخذت تعتمد على وجود ذلك الاستخدام المتواز في مركب وعي الشخصية ذاتها، أي بمعنى ما أن عاملية الشخصية أدريس قريبة نوعا ما من مرجعية الحس الصوفي أو الديني، وذلك لكونه سلسل عائلة متدينة، ناهيك عن كون والده مؤذنا في المسجد، وهذا الأمر ما يطرح ذاته كونه مختارا في التمثيل المدرسي لدور الفتى الصالح، وهذه العوامل بذاتها جعلت منه الفعل المنتقى في محاسن انتقائية النص .. ولكن أدريس بالنتيجة ورغم شفافية روحه المعتدلة أصابته الحمى، فكان متغيبا في اللحاق بصحبته إلى المدرسة والصيد وفي المشاهد الأكثر توغلا في محافل الصبا من أقرانه: (رقد أدريس مريضا بالحمى .. وفي الأسبوع التالي كان متغيبا عن المدرسة، عندما أفتقده معلم الحساب . كنا أترابا وآباؤنا يقصدون الجامع في ثياب كلها بيض نظيفة / وكنا خمسة أصحاب نشغل الرحلات الكبيرة في مؤخرة الصف السادس .. كان أدريس يجلس في الزاوية، آخر من يحل المسائل، لكنه يعطي دائما في التمثيليات دور الفتى الصالح / شجعه المعلمون على أن يمثل هذه الأدوار الجادة مع الجميع خارج المسرح، فأصبح قائدا لنا . / ص71) وهو ما يظهر كذلك في حادثة رقدته مريضا في أحدى حجر الجامع، وهذا التماثل المرجعي في مكونات وعي وشخصية أدريس هي ما جعلت السارد المشارك ـ الشخصية، يتعقب أخباره ومكان وجوده في غرفة محكمة النافذة في المسجد: (كان أدريس يرقد في الحجرة الثانية .. أسفل نافذة مسمرة بعارضة خشبية . كانت يده المستريحة على وركه تمسك بمروحة خوص .. كان يرتدي ثوبا من قماش خفيف يرتديه عادة الصبية المختونون / قال أدريس: ـ كنت راقدا أتطلع للخارج . كان هناك شيء .. كان ينظر إلى نور أول الصباح في الفناء وأعمدة المصلى، والقبة الترابية المفرطحة الواطئة فوقه . / ص72 ص73) وأهم ما يظهر في وحدات هذا القسم من النص، هو الإشارة المرجعية إلى قدسية المكان وبصورة بدا أثرها واضحا في خاصية ذلك التلويح الوصفي إلى لباس أدريس (قماش خفيف = الصبية المختونون = علامة تطهيرية) وبمثل هكذا تواصيف في متن النص، توافينا أيضا مساحة الإشارة المضافة حول مكان المسجد (اتطلع للخارج ـ كان هناك شيء ـ نور أول الصباح ـ الفناء ـ القبة الترابية) ومجموع هذه العلامات المرجعية ـ الإيحائية، تدخلنا في مشهد من دلالة التطهير والخصوصية في أحوال الذات الشخوصية المتمثلة في شخص أدريس بطريقة خاصة .

2 ـ فضاء السارد الشخصية وأفعال المسرود:

وما يعنينا في وظيفة السارد الشخصية في النص، هو خلق ذلك المستوى الكيفي من عملية الربط بين فضاء حكي المسرود ومجريات الواقع المحتمل من فعالية الأشارات والتأويلات الضمنية من النص . فقد لاحظنا بدءا كيفية إجراء عملية المسرود العرضي وعبر ذلك الزمن من المواقف المحكية من قبل جهة السارد: (نقلنا القارب إلى نهرانا / وكنا خمسة أصحاب / كان يختتم المشهد الأخير / كنا وأهل أدريس نسكن دارين / كنت لا أميزها ولكنها هناك / كان الجامع أكثر قدما من الداخل / كان طريقي للمدرسة يمر بالجامع وبمغسل الموتى الملحق به) نعاين بأن جميع أداة أفعال السارد هي علاقات زمنية ومكانية ودلالية عبر ذلك الزمن المتصل بمحور شخصية أدريس، لذا فأن زمن وقوع الحكاية هي الأخرى علاقة مسرودة ضمن رابطة (السارد الشخصية ـ أدريس = مرجعية المكان) فالزمن المكاني في وحدة رقاد أدريس في أحدى غرف الجامع، مع اجتماع السارد الشخصية إلى جانبه، بمثابة زمن التدوين للحكاية في النص، غير أن الأحداث اللاحقة في محصلة دلالة النص تكشف لنا عن حادثة آثار الملاريا الطافحة على ملامح وجه أدريس، وعن ذلك الشيء الذي يشبه شكل البعوضة أو الطائرة: (جاءت جدتي أمس بعد الظهر، وذوبت رصاصا ثم رمته في طاوة ماء أمسكتها فوق رأسي .. حدثت قرقعة وتصاعد البخار وملأت الغرفة رائحة الرصاص / ثم ظهر ذلك الشكل .. ماذا يشبه ؟ قلت: يشبه بعوضة أو طائرة / أمضى ليلة كاملة مع قطعة الرصاص حول رقبته، ليلة في العزلة، زارته الملاريا ثلاث زورات أو أربع، كان يرى بعد خفوت كل نوبة ذلك الشيء الذي يشبه طائرة أو بعوضة جبارة . / ص74) .

3 ـ توظيف المعادل النصي في علاقة الترميز الامكاني:

و تجدر الاشارة منا في سياق هذا الفرع المبحثي، إلى أن توظيف المعادل النصي وليس الموضوعي قصدا، في وحدات النص القصصي، جاءتنا كعلامة من زاوية الاظهار الدلالي والذي هو بمثابة الترميز الامكاني أو الممكن في مجال علاقة وحدة مستهل القصة بحكاية ذلك الطيار في صراعه مع غمامة وحوش الملاريا، والأمر ذاته وجدناه في خاتمة القصة، المتجسد في ذلك الشكل من قطعة الرصاص المشابهة لشكل الطائرة أو البعوضة، ومن وراء كل هذا أراد القاص الكبير محمد خضير خلق ذلك الوازع المعادل من رمزية مصارعة أدريس للمرض وإلى ذلك الشكل الشبيه بالبعوضة وتلك الطائرة التي تذكرنا بطائرة بداية القصة لإبادة البعوض، ولكن الدلالات مكرسة الآن في هذا المجسم الرمزي في مصارعة الممكن من إبادة مرض الملاريا عن جسد أدريس: (قال أدريس: لنتخلص منها .. لنرمها من النافذة / وفي الحال بدأت انتفاضات وزفرات تنسلخ عنه وتعرج إلى الأعلى في هبوب أغبر .. واستمرت سورات البعوض في الهبوب والهيجان والصعود إلى أن اندمجت في غمامة دائرة حول نفسها على بعض من أذرع النافذة . / ص74 ص75).

ـ تعليق القراءة

هكذا تنتهي قصة (إله المستنقعات) للفذ الأستاذ محمد خضير، وكأنها معادلة للزمن الأحوالي في سر مستنقعات رمزية آله الوحوش البعوضية وهي تتلمس لذاتها طرائقا من الاستدعاء والترميز في صيغ مؤسطرة من تقاطعات المعنى السردي في أحوال رمزية متصلة داخل علاقات خاصة من المعنى العضوي العلائقي في الجسد القصصي الأثير .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم