صحيفة المثقف

رواية (حب في المنفى) للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي

جمال العتابيمغامرة الحكايتين برواية واحدة

ان وضوح التجربة يضيء هذه الرواية ومغزاها، لكن ثمة أسئلة تثيرها رواية عتيق رحيمي  الصادرة عام 2008 عن دار الساقي، والفائزة بجائزة غونكور، هل تمكنت الرواية من تحقيق التوازن والتناسب بين أركان الرواية، والأدوات اللازمة لبناء روائي متماسك نابض بحياة جديدة، فثمة صوتان يتناوبان، كما لو كانا روايتين منفصلتين، إلا ان المغامرة قدمت الحكايتين بإطار ولون وإيقاع وكأنهما رواية واحدة، كلاهما يشترط الآخر لظهوره وتناميه، وتشدهما علاقة إثراء متكافيء متبادل، فلا تعود الأولى إطاراً يضم الأخرى، الرواية تركيبة من نوع آخر، يبتعد فيها الروائي عن الشكل الكلاسيكي، ملتزماً بوحدة الحدث والمسار.

لكل من النصين خطابهما الخاص، في الأول يهاجر تميم من أرضه ووطنه، الى فرنسا الى اللاشيء، يغيّر أسمه الى توم، يريد الإنسلاخ من جذره وتاريخه، الهوية لا معنى لها عند التخلي عن الذات، وعن عائلته: الزوجة رينا، والطفلة لولا، يهرب بنفسه نحو امستردام، هروباً عن حياة كلّنها في المنفى على مدى خمسة وعشرين عاماً، من دون أي ندم، أوحنين، أو أسف على طفولته، أو سماء كابول الزرقاء، ولاشموخ الجبال التي أبصر عند سفوحها النور، تميم دفن كل شيء في مقبرة أجداده حتى إسمه الأصلي. يلتقي بنوريا في الطريق، التي تكتشف كذبه، والتعتيم على أصوله الافغانية، فتهجره بعد تجربة عشق سريع وعابر، وتغيب عنه نهائياً. يتشبث بصديقتها روسبينوزا عسى ان ان يجد سبيلا للوصول الى نوريا، ويخيب في النهاية، يعود منكسراً محبطاً عاجزاً، يدركه رثاء غريب لنفسه وكراهية لكل ماضيه، لتنتهي حياته  بحادث في طريق العودة الى فرنسا.

في النص الثاني قدم لنا عتيقي شخصية يوسف السقا، وهو يعيش كابوساً جاثماً على الروح، دراما موحشة مكتظة، مركبة، بأداء متقن ذكي وبليغ، مستفيداً من خبراته في الفن الروائي، ومعرفة طيبة بالفن الروائي العالمي، وتمرسه بمشكلات البناء والشكل حتى إستقامت لديه بلاغة الفن الروائي، ان الصورة الخارجية للواقع السياسي والإجتماعي، في أفغانستان الخاضعة لسيطرة طالبان، تبدو في حقيقته المرعبة والمأساوية في الحياة الخاصة ليوسف، إذ يعيش حالة إغتراب أشد وطأة من إغتراب توم، ويعاني من حالات فشل عاطفي في محاولته الاقتراب من شيرين ابنة عمه، التي تتقاسم العيش والسكن معه بعد غياب زوجها سليمان، تدفعه رغبات ملحة تستبد به للدخول الى احلام المرأة الشابة، أحلام خرساء لدى الإستيقاظ، توم إنسان مسحوق ومرعوب، يخاف إمام المسجد، ومسلحي طالبان الذين يرمون بجثث قتلاهم تنهشها الكلاب، بتهم ملفقة، مثل الزنا، أو تعاطي الأفيون، أو تهمة خيانة الاسلام، يحاول يوسف تجنب نظرة الاتهام وإحتقار الإنسان بقدراته العقلية المتواضعة والمشوشة.

لا وظيفة لهذا الرهان الأليم، إلا أن يوظف الروائي إحتدام الإيقاع الداخلي لإنفعالات يوسف، التي تتطلبها ذاته الممزقة بين مخالب المتناقضات، وفي كلمات بصدق الإعتراف، تضيء أعماقه المخرّبة بهذا العذاب القاسي.

وهكذا كان الصدق في الرؤية، والصدق الفني في العمل، هما جناحي الإطلالة على الحياة في افغانستان طالبان، وأنفاقها المعتمة، إن الأشياء تتحدث عن نفسها في هذا النصف من الرواية، نص تتوالى فيه الخيالات والإفتراضات والإضافات الدرامية والعاطفية، ان القاريء يجد في يوسف شخصية تراجيدية، مادام مشدوداً إلى مركز زوبعة تتجاذبه فيها إتجاهات ونزعات تتناقض إتجاهاً، وتتكافأ قوة، وتسيطر عليه رغبة طاغية في خلاص لن يتحقق، انما انتهى برصاصة في الظهر، وعثر على جثته، يجرها كلب في صقيع كابول الجليدي، وفي اليوم ذاته، رجمت شيرين حتى الموت بتهمة الزنا، وشنق عشيقها وهو تاجر هندوسي في حديقة عامة.

وزع الراوي نفسه وتجربته بين يوسف وتوم، فإلتقت جوانب أساسية مختارة من التجربة، بأحلام خاصة في الحياة، فأقصت العمل أن يكون سيرة ذاتية، وأحسب ان شخصية توم  في هواجسها وأحلامها، إمتداد للشخصية الأثيرة لدى الكاتب، تلك التي إلتقت فيها عناصر الواقع والحلم والتوق إلى الإغتراب، مستخدماً إسلوب تعدد الأصوات وتمكينها من التعبير بوضوح وتلقائية، وحافظ الروائي على التوازن عندما تر ك الأحداث تتجه وجهتها الطبيعية.

هذا الإسلوب جاء لتمكين الروائي من أن يجمع أكبر قدر ممكن من حكايات الافغان، وعن اللجوء والتشرد، والحرب الأهلية، والحصار والاحتلالات، ليعيد من خلال تلك الحكايات كتابة التاريخ الأفغاني دون المساس بفنية العمل الروائي. كما. ان الإستخدام الواعي والتقني في تداخل الحكايتين، حقق نجاحاً للسارد في الإنتقال من ظروف سردية إنغمس فيها القارئ، إلى ظروف أخرى مغايرة، نتج عنها دمج عناصر سردية جديدة، الأمر الذي يجعل السرد جامعاً لفضاءات متعددة من الواقع، والخيال، ومتداخلة على مستوى الزمن، أو الحدث، أو الشخصيات.

تنبغي الإشارة إلى ان راوية تحمل العنوان نفسه للكاتب المصري بهاء طاهر، صدرت عام 1995،تدور أحداثها في بيروت قبل الاحتلال الإسرائيلي بداية الثمانينات، بطلها صحفي مصري يطلّق زوجته منار، ويهاجر الى سويسرا، يرتبط بقصة حب مع فتاة نمساوية، يعدّها بعض النقاد انها وثيقة تاريخية بإطار إبداعي، بينما يرى البعض الأخر، انها خلاف ذلك، لا تنتمي الى الروايات الفنية الناجحة.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم