صحيفة المثقف

محمد العباسي: بين الحفظ والتعلّم والإبداع

محمد العباسيكلنا نتعلم.. في كل لحظة من الحياة.. منذ الطفولة الأولى، نتعلم النظر من حولنا.. نتعلم الابتسامة للوجوه الباسمة.. نتعلم أن البكاء والعويل يجلب نحونا من نحب ويحبوننا.. نتعلم كيف نستدرج الأمهات ليطعموننا.. نتعلم أننا بحاجة لرعايتهم لنا طوال أوقات صحوتنا.. ثم نكبر قليلاً ونتعلم الإمساك بالأشياء.. نتعلم الحبو قبل المشي.. ونستكشف العالم الصغير من حولنا.. وأحياناً نتعلم من السقوط كيف نحاول تارة أخرى.. ونتعلم من الألم كيف نتفادى بعض الأمور.. وهكذا دواليك، حتى تتفتح بصائرنا ونزداد علماً غصباً عنا.

فالتعلم عملية لا يصيبها كلل أو ملل.. فالإنسان يتعلم بمشيئته أو دون إدراكه في كل لحظة من حياته.. طالما كان يرى ويسمع.. ويشعر بما حوله.. بل حتى الأحلام، نتعلم منها أموراً.. شيئاً من هنا.. تجربة من هناك.. نصيحة من هذا وذاك.. وهكذا.. نتعلم الكثير.. نتذكر القليل.. ونرفض أن يوصمنا أحد بصفة الجهل.. ونحن أعلم كم نحن جهلاء.  فكلما نزداد علماً نزداد جهلاً.. كيف ذلك؟  أرى أننا كلما تعلمنا من الأمور أكثر.. كلما علمنا أن مقدار جهلنا كان كبيراً.. وأدركنا أن ما لم نزل نجهل لا بد أكثر بكثير.. ومن المفروض أن نزداد تواضعاً.

يقول الأستاذ "محمد زهران "على موقع (الشروق) أن أول ما يتبادر إلى الذهن حين نسأل كيف نتعلم هو عبر تلقي المعلومات في قاعة المحاضرات والفصول الدراسية، ولكن هذا نوع واحد من التعليم.. هناك أنواع أخرى: تعليم نفسك مهارة جديدة أو معلومات جديدة، توصيل العلم للعامة بطريقة أكثر فعالية، تعليم الأهل لأبنائهم، توصيل معلومة لصانع القرار بطريقة جيدة.. إلخ..  بل ربما يمكننا أن نتخيل أننا نمتلك ذاكرتين: واحدة قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد.. فعندما نريد تعلم شيء ما فيجب أن ننقله من الذاكرة القصيرة الأمد للذاكرة الطويلة الأمد لأن القصيرة الأمد لا تحتفظ بالمعلومات طويلاً ولا تحتفظ بمعلومات كثيرة.. وعندما نواجه شيئاً جديداً فإنه يدخل أولاً في تلك الذاكرة القصيرة، فكيف إذاً ننقله للذاكرة الطويلة الأمد؟ هناك عدة طرق لذلك يمكننا استخدامها كلها أو بعضها.

احدي هذه الطرق تتلخص في وجوب أن نربط ما نكتسبه للتو بما نعرفه من قبل، حيث أن العلم كل مترابط ولكل علم تأثيره على العلوم الأخرى ويتأثر بها.. هنا أيضاً نفس الشيء، فعندما نقرأ معلومة تاريخية مثلاً يقوم العقل بربطها بما نعرفه عن تاريخ تلك الفترة أو تاريخ تلك الأسرة أو الشخص أو البلد، فيكون الأمر كوضع لبنة في بنائنا المعرفي.. وكلما تعلمنا أكثر يرتفع الصرح أكثر.

و يمكننا أيضاً ترسيخ كل ما نتعلمه عبر إعادة مراجعة ما نعرفه على فترات متباعدة، فلا نتعلم شيئاً اليوم ونراجعه في اليوم التالي مباشرة، بل يجب ترك فرصة للعقل ليراجعه في اللاوعي ثم نراجعه بعد أسبوع مثلاً، وهكذا وبعد عدة مرات من المراجعة المتباعدة نأمل بأن تنتقل المعلومات للذاكرة الطويلة الأمد وسنرى أننا قادرون على استرجاع المعلومات أو المهارات الجديدة بعد وقت طويل بنفس الكفاءة.. وهنا يجب أن نذكِر الطلاب أن تعلُم شيئاً جديداً قبل الامتحان بوقت قصير لن يجعلنا بالضرورة أن نتعلمه ونحفظه بشكل كامل وبفهم متكامل، بل يجعلنا نحفظه لفترة محدودة حتى نضعه على الورق في الامتحان قبل أن نفقد حاجتنا المؤقتة لتلك المعلومات!

و يعتقد البعض بوجوب استخدام أمثلة كثيرة عند التعلم، وإن لم نجد أمثلة في البحث أو المعلومة التي نقرأها فعلينا أن نحاول أن نأتي بأمثلة من تأليفنا ومن مخزون تجاربنا.. فكلما زادت الأمثلة كلما سهل التعلم، وكما قيل في المثل العربي "بضرب المثال يتضح المحال"، وهكذا، يمكننا مثلاً أن نحاول أن نشرح المعلومة لشخص آخر لا يعرفها وهذا عادة يساعد على تأليف أمثلة متنوعة لتسهيل التعليم، وقد قيل أنه عندما يقوم شخص بتدريس شيئاً لشخص آخر فهناك شخصان يتعلمان.

و يرى آخرون بضرورة تنويع الأساليب واستخدام عدة وسائل لتوصيل المعلومة الجديدة مثل القراءة وفيلم تسجيلي مثلاً، أو القراءة ثم حضور محاضرة أو دورات تعليمية، أو حضور محاضرة مثلاً ثم مناقشة الموضوع مع شخص آخر، ويمكننا استخدام هذه الطريقة مع الطريقة الثانية (الاسترجاع) فنقرأ المعلومة ولكن نسترجعها عن طريق إلقاء محاضرة  بدورنا أو شرحها للغير عبر الرسوم البيانية أو الإحصائيات والصور حتى تترسخ في أذهاننا.

و يضيف الأستاذ "عبدالرحمن يوسف إدلبي" في موقع (كراكيب) رؤيته لموضوع التعلم بأن المتعلم يتلقى أو يتلقف المعارف والعلوم كما تُقدَّم له، فهي تُصب في ذهن المتعلم (أو المتلقي) صباً، وتكون وظيفة المعلم أو المربي حينئذ هي ملء ذلك الوعاء الفارغ الذي يحمله المتعلم فوق كتفيه بكل ما يستطيع.. وبالتالي فإن أي محاولة لإصلاح التعليم تركز على المعلم الذي هو العنصر الفاعل في العملية، بينما يبقى المتعلم عنصراً خاملاً مسؤوليته الوحيدة هي التأكد من كون "رأسه مفتوحاً" لتدخل المعلومات إليه وخالياً من الثقوب والشقوق كيلا تتسرب منه.

أما في الرؤية الثانية فإن المعرفة تُصنع أو تُبنى بناءً في الذهن، فالمتعلم هو العنصر الفاعل في عملية التعلم والمسؤول عنها، والتعلم عملية يحدث فيها تفاعل وتفاوض بين الخبرات والمعارف التي يتعرض لها المتعلم والمعارف والخبرات التي كوّنها سابقاً، فيربط ويحلل ويركب ويربط للخروج ببنية ذهنية متناسقة.. مما يعني أن المتعلمين المختلفين سيخرجون من الموقف أو الخبرة نفسها بنتائج متباينة تبعاً لخلفياتهم ومجموع خبراتهم السابقة.

قد يرى البعض بأن الرؤية الأولى بالية أو تقليدية وعفا عليها الزمن، وقد يبدو لهم أنه من البديهي إنكارها وتجاوزها.. صحيح أن أصل هذه الرؤية قديم (بل كلاهما في حقيقة الأمر كذلك)، ولكنها بعيدة عن أن تكون قد تجاوزها الزمن، سواء في الثقافة الشعبية أو حتى العمل الأكاديمي والإبداعي حسب المفاهيم الحديثة.

أما "أ. د. هشام العوضي" في موقع (القبس) فيتطرق للموضوع من باب أن الدراسات تبين أن لكل شخص طريقته أو اسلوبه في التعلم، وأن التحدي الذي يواجه المعلم مع طلبته أو أي شخص يتعامل مع شخص يتعلم هو أن يعرف الاسلوب الخاص لكل شخص في استقبال المعلومات وتعلمها، وأن يقوم بدوره بعرض المعلومة أو الفكرة على أساس هذه المعرفة.. فمن الناس من يتعلم عن طريق التجريب، ومن الناس من يتعلم عن طريق التأمّل، ومن الناس عن طريق التخيّل ومن الناس عن طريق التحليل.. وغالباً ما نفترض كل وسيلة من وسائل التعلم سمات ما في شخصية المتعلم، فالذي يتعلّم عن طريق التجريب غالباً ما يكون اجتماعياً وأكثر تفهماً وتقديراً لمشاعر الآخرين.. والذي يتعلم عن طريق التحليل غالبا ما يكون أكثر تنظيماً في ادارته للوقت وجمع المعلومات.

وتقول بعض الدراسات أن التحدي لم يعد هو معرفة تعدد أساليب التعلم فحسب، ولكن أهمية أن يمتلك المتعلم المرونة في تغيير اسلوب تعليمه بحسب طبيعة الموقف أو الظرف.. لذا يجب أن تربي المدارس الحديثة في المتعلم المرونة الكافية لأن يكون متمكنا من ممارسة أساليب التعلم المختلفة.. وهذا الأمر مهم جداً لأن طبيعة العصر وتعدُّد مصادر المعلومات يتطلبان هذه المرونة في القدرة على التنقل بين التخيل والتجريب والتأمل والتحليل.. فالتعليم لصناعة أجيال من القادة ليس أمراً يسيراً كما قد يتصور البعض، ولكنه مهمة صعبة، تطوّرت بتعقد عصرنا وتنوع طرق المعرفة وقنواتها، والدراسات التي تنشر عن التعلم والتعليم وكيفية اكتساب المعلومات والإدراك تتجدد باستمرار.

و يبقى السؤال الأهم: إلى أي مدى يكون المعلم في مدارسنا وجامعاتنا مؤهلاً لهذا التحدي، أو على الأقل قد تم إعداده أصلاً وتدريبه ليكون عنصراً فاعلاً في طريقه ليكون بدوره عاملاً مؤثراً ومؤهلاً في عملية التعليم والتدريب؟  ويضيف الأستاذ "سيد صلاح العلوي" في موقع (الأيام) بأن رعاية الموهوبين والمبدعين وتحقيق ميولهم، والوصول بهم إلى أرقى مستويات التفكير الإبداعي أمر لا يستهان به.. فكل هذا يحتاج إلى معلم مبدع في الأساس، قادرٌ على اكتشاف القدرات الكامنة في عقول الموهوبين ويعمل على تنميتها وصقلها، ويشبع حاجاتهم النفسية والاجتماعية والمعرفية.. فالمتعلم المبدع هو نتاج لعوامل كثيرة، ومن أهمها المعلم المبدع.

 

د. محمد العباسي

أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم