صحيفة المثقف

مجدي ابراهيم: وفي التجربة يجود البيان

مجدي ابراهيمتتصل بنظرية المضمون الديني التي نقررها هنا كما قررناها في السابق في أكثر مصنفاتنا، مسألتان جوهريتان تدوران حول التصوف ما له وما عليه، ومن يتأمل كتابات المدرسة الشاذلية وأقوال الإمام أبي الحسن الشاذلي وتلميذه أبي العباس المرسي ثم كتابات ابن عطاء الله السَّكندري على وجه التحديد، وبخاصة "الحكم" و"التنوير في إسقاط التدبير "؛ تركيزاً من جانبه على فكرة أدب العبودية، واتصالها مباشرة بإسقاط التدبير، سيلاحظ أن هاتين المسألتين هما من الأهمية بمكان بحيث لا تخلو مجمل الكتابات العطائيّة من الإشارة إليهما على طريق التحقيق سواء من قريب أو من بعيد.

ومن يتعمّق في مقولات الإمام الشاذلي ومقولات تلميذه المرسي وكتابات ابن عطاء خاصَّة، لن يجد غضاضة فيما نقوله حول هاتين المسألتين؛ لأن لهما من الأصول الصوفية كتجارب روحية، ومن مقررات المدرسة الشاذلية سنداً أصيلاً من شأنه أن يعطي الاتصال المباشر بحقيقة التصوف كونه تجربة فردية وحالة روحيّة مباشرة، تتأتى من حُسن الظن بالله؛ فحيثما يكون حسن الظن يكون الإيمان، وإذا فُقدت الثقة بالناس لم يبق لك إلا حُسن الظن بالله؛ وحسن الظن بالله من أولى علامات الإيمان، ولا إيمان مع فقدانه، ولا خوف من أحد مع وجوده، ولا لوم على أحد إذا هو أحسن الظن بالله، وقُوبِل من الناس بفقدان الثقة وسوء التقدير.

المسألة الأولى هى أدْلجَة النَّص الصوفي، والمسألة الثانية هى لغط حول التصوف، وربما اتصلت الأولى بالثانية اتصالاً وثيقاً نظراً لتداخل معطياتهما وتشابك أهدافهما من قريب، لذلك ستبدأ بطرح المسألة الأولى ثم نعقبها بالثانية مباشرة.

(1) أَدْلَجَة النّص الصوفي:

كثيرون من المنظّرين، أصحاب الرؤى والاتجاهات الفكريّة والمعتقدات العلميّة، يعرضون للتصوف قدحاً، وعلى غفلة، فيتعرّضون؛ في زعمهم، لأخطر ما فيه، فلا يرون منه - مع ما فيه من خطورة - إلا ما يُشْبه الهوس؛ يُحلق صاحبه بعيداً عن واقعات الحياة وفروضها، مع أن هذا الشيء الخطر ليس من التصوف في شيء، هو فقط من أدمغتهم، تحليلاً وتخريجاً، وتلويثاً إنْ شئت قلت: ومن أبخرة عقولهم الملوثة بلوثات الفكرة الأرضيّة.

فتارة ينسبون إليه ضعف التوجّه، وينعتون صاحبه بفقر القوة على ملاقاة الحياة الصاخبة بمتطلباتها اليومية، وتارة يضفون إليه الحيل الهروبية والانسحابية لهزال نفسي يمس تكوين الشخصية، وتارة يقارنون بينه وبين الابتكارات العلميّة بغية إخضاعه عنوة إلى تطبيقات المنهج العلمي مع أنه ليس بعلم، وتارة يصفونه بالمرض العصابي يلمُّ بأشخاص فقدوا تحقيق رغباتهم الدنيوية، فتمكن منهم المرض العضال فلم يجدوا سوى التصوف يريحهم من عناء الأزمات، وتارة ينسبونه إلى مصادر غير إسلامية: يونانية أو فارسية أو هندية أو مسيحية كما فعل قادة الفكر الاستشراقي، مع فارق في التخريج غير قليل، في نسبة الإبداع الفكري الإسلامي برمته إلى مصادر غير إسلامية؛ وهكذا دواليك: حالات غربية من الإسهال النظري المُدْلج لمعرفة كُنه الحقيقة الروحيّة بغير طرقها ومناهجها وأدواتها ووسائل الاتصال بها. وإنما في بطن التجربة تجود المعرفة ويجود البيان!

أقول؛ إنّ هذا الشيء الخطر هو توهم كشف حقيقة التصوف مع أن ما كانوا تعرّضوا له ليس بتصوف؛ لأن الكلام عن التصوف شيء وحقيقة التصوف شيء آخر، وكذلك تجئ الكتابة عن التصوف شيء، والاتصال بالحالة الصوفيّة شيء آخر؛ تماماً كحلاوة العسل أو تجربة الحُب، أو لذة الجماع، كلها أمور مهما وصف لك الواصفون من شأنها، فلن تستطيع أن تتحقق منها ما لم تحصّلها بنفسك: تتذوقها، وتباشرها، وتعايشها حياة خالصة، وتجرّبها بنفسك غير خاضع فيها لرأي سالف ولا بمعرفة نظريّة سابقة على التجريب.

وهذا هو الفرق الفارق بين القراءة الأيديولوجية للنصوص الصوفية كونها مجرّد كلمات خاضعة لمشارط التحليل والنقد والتنظير، ثم لمناهج تستنها مدارس فكرية بعينها وتوظّفها توظيفاً حسب مقتضياتها وأهدافها فيما تراه، وبين التصوف في ذاته؛ كونه سلوكاً له قواعده النظريّة غير أنها موقوفة على الاستشعار والاستبصار، والاستغراق في قلب هذه القواعد إلى حياة مُحَقَّقة في الواقع الفعلي.

فلن تكون متصوفاً مهما قرأت ألآلاف ألآلاف المصنفات الصوفية، أو كتبت في هذا الميدان ما لا يُحصى عدّه من المؤلفات. لن تكون متصوفاً على الحقيقة ما لم تضرب نفسك بأقدم حذاء، وتتجرّع مرارة الصبر في غير تعبيس، وتأخذ الحقيقة من أهلها لا من عقلك أو من نفسك! أما العنجهية الفكريّة والصَلَف المعرفي والأيديولوجيات النظرية؛ فهى تخريج بليد فاسد؛ بل وموغل في الفساد، يفسد أذواق النصوص الصوفية ويُلقي بها في متاهات الأوهام.

كل ما كتب في التصوف أو عنه ليس بتصوف، إذا نحن عددنا التصوف بالفعل هو:" الأخذ بالحقائق"، على حد تعبير معروف الكرخي المتوفى عام ٢٠٠ من الهجرة، والحقائق لا تدوّن في كتب، ولا يُنَظّر لها، ولا تكشف للباصرة النظرية، أو للمعوان العقلي، ولكنها مع ذلك تكشف. إنما تكشف بتجليات باطنة تتجلى (فضلاً) من عون الله على قلوب الأتقياء، لذلك كان التصوف أمراً باطناً، لا يُطلع عليه، هو علاقة خاصّة مخصوصة بين العبد وربّه، هو الإخلاص وكفى.

مَنْ يودْلِج لهذه العلاقة دون أن يعرفها أو يشم منها رائحة، يضرب في واد غير ذي زرع، ثم لا يخرج بشيء إلا كما يخرج به غربال من بئر.

(2) لغط حول التصوف !      

وقد ردّد بعض علماء علم النفس الذين اخضعوا التصوف لمقاييسهم المادية، واعتبروه مرضاً نفسياً ومجرَّد حالات غير سويّة، بعض العبارات الجائرة عن التصوف، وتابعهم فيما رددوه بعض أذنابهم المقلدين؛ لأنهم حصروا أنفسهم في دائرة التجربة الحسيّة وحدها، وصار اختلاف المنهج من العوائق المُسدلة أمام فهمهم للحالات الصوفية. ومادام المنهجُ مختلفاً فلابد أن تجئ الرؤى متباينة والنتائج لا شك مختلفة. هذا يبحث في الحسِّ والتجربة الحسيّة، وذاك منهجه الذوق والتجربة الروحيّة، والذي يقيس هذا بذاك هو من الجهالة بمكان بحيث يريد أن يقيس الشيء، وهو يجهل كيف يُقاس!

ولو رجع هذا الذي ردّد بعض عبارات علماء النفس إلى مؤلفات عالم النفس الأمريكي وليم جيمس، أو إلى كتابات ليوبا، وباستيد، وأندرهيل، وثولس، وغيرهم من علماء النفس الديني تحديداً؛ لعرف أن هذه الآراء قتلت طرحاً وبحثاً من قبل، ولكفى نفسه مؤنة التقليد الأعمى لآراء تمّ الرد عليها من قبل علماء النفس الديني أنفسهم. أضف إلى هذا، أن المرض النفسي أو العقلي يصاحبه فقدان لشعور مستمر للأنا، والصوفي في كل حالاته لا يفقد استبصاره لذاته مطلقاً ولا شعوره بوحدته الذاتية مع الحق .. الحالة الصوفية، كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم: فناءُ وبقاء، غيبةُ وحضور، سُكر وصحو، جمع وتفرقة، قبض وبسط، أوجاع لا حصر لها تعانيها الذات العارفة بين وصال وجذب، ونكوص وانقطاع ممّا لا يخطر على بال مخلوق سواه.

وإذا نحن جعلنا من الصوفي شخصاّ مريضاً؛ لجعلنا من الشاعر والكاتب والمُلهم والفنان والموسيقى جميعاً مرضى عصابيين، لا لشيء إلا لأنهم يعانون مشاعر خاصّة تنزع بهم إلى التفرّد والامتياز، وتفْرِقهم عن غيرهم مِمَّن لا يعانون معاناتهم، إنما هى تجارب روحيّة ذاتيّة لا يعانيها غيرهم من أفراد الناس العاديين.

مَنْ يقول بنسبة التصوف إلى المرض، يصطنع منهج المماثلة في دراسة حالات التصوف، وهذا خطأ في الحكم العلمي؛ لأنه لم يقم بتجربتها فيتعذر مماثلة الصوفي في حالاته الوجدانية والشعورية مماثلة حقيقية، وعلماء النفس الذين يعتمدون التجربة الحسيّة، ويصدرون أحكامهم على المتصوفة من خلالها، ليسوا بصوفيّة ولا مسّت قلوبهم حقائق التصوف العلوية، ولا هم يدرسون صوفية موجودين بالفعل، يتعاطفون معهم أو يفتقدون التعاطف معهم، سيّان. وإنما يكتفون بتحليل قشور عرضيّة مِمّا كان تركه قدماء الصوفية من آثار أدبية، ويقيمون عليها أحكامهم جُزافاً في غير تحقيق، الأمر الذي يعني أن دراستهم ليست دراسة تجريبيّة مُنصفة بالمعنى الحقيقي للكلمة.

التقليد للآراء السابقة، والإيغال في ترديدها ترديد الببغاوات دون صدور الرأي تحقيقاً عن صاحبه، هو عندي لا يدل على تفكير؛ بل يدل على خروقات وتجاوزات، ولا يسمح على الإطلاق بوصف قائله بالمفكر، بخساً وجوراً لصفة التفكير. والاستناد على مغالطات منهجية وتقويم قيم الحوار العلمي على أساسها، شيءٌ يقدحُ في جديّة هذا الحوار. والتقليلُ من شأن معارف أثبتتها وقائع التجربة الحياتيّة على حساب علوم أخرى يُرَاد لها الغلبة والانتصار، هو تقليل في الوقت نفسه من شأن الإنسان: مواهبه وملكاته وقدراته؛ لأن إعلاء جانب على جانب فيه فضلاً عن كونه يفقده التوازن المطلوب ويقدح قطعاً في ميزان العدالة لديه، فهو أيضاً يُلقيه مدحوراً في حماة الاعوجاج. ويمكن التركيز على هذه النقاط الآتية كإجابات قاطعة لما يتردد في أذهان البعض ممَّن يدور بيني وبينهم حوارات، وهى لا شك إجابات تعطيها تجارب المتصوفة وآثارهم العِرْفَانِيّة:

فالأولى: وهى هل بالفعل أن الصوفية يعتقدون إن حواسهم شديدة الرهافة لدرجة أنهم يستقبلون رسائل إلهية؟ والجواب، نعم! الحواس لدى الصوفية مرهفة، ومشاهداتهم بالطبع أعلى وأرقى من غيرهم؛ لأن الوعي لدى الصوفي عالي ليس بالعادي. الصوفي صاحب مجاهدات مضنية شاقة، وعن هذه المجاهدات تصدرُ أحوال هى ثمرة ونتيجة، وبالتالي لا تستغرب عنه مثل هذه الهواتف الربانية، أو الرسائل الإلهية، ولا أشياء من هذا القبيل، وغير هذا الكثير والكثير.

والثانية: هى دعوى الخلاص؛ بوصول الصوفي إلى قرار الولاية فلا يقوم بواجبات الشريعة ولا بفروضها، وليس يلزم عن وصوله تطبيقاتها اليومية والوقتية، على حين يعدُّ غيره من الهالكين إذا هو لم يقم بتطبيق هذه الواجبات أو تلك الفروض، وهى دعوى من الكذب والافتراء على الصوفيّة بحيث لا يمكن أن تمر على عقل عادي له مِسْكَة من وعي أو من تفكير. الصوفي دائماً لنفسه مُتّهم، شاعراً بالتقصير يتوب ويستغفر، ويجعل من الاستغفار عادةً له وديدناً .. فكيف يشعر أنه من أهل الخلاص؟!

والثالثة: وهى عداوة الواقع ومجافاة جوانب الحياة المادية ومتعها التي أتاحها الخالق جل وعز، وهذه النقطة فيها أغاليط كثيرة إذْ الحياة الواقعية من خلق الله، والصوفي يعبد الله فكيف بالبداهة ينكر ما خلق؟ نعم هو على عداء ولكن مع الفساد.

والرابعة: وهى اعتقاد الصوفي أن كبت الشهوات وتعذيب الجسد والعزلة عن الناس طريق لصفاء النفس، وهذا يتناقض مع الحياة الطبيعة الفطرية التي تقوم على التواصل والتفاعل. والواقع أن هذا نقداً برانيّاً غير متغلغل في وقائع التجارب الصوفية؛ فليست عزلة المتصوف دائمة، وإلا كانت مرضاً؛ بل عزلة للتصفية والاختبار، ولا تعذيبه للجسد يؤدي به إلى قتل النفس بل هو من جنس إرادة الامتناع عن الرغائب من أجل القدرة على مواجهة الحياة الروحية الشاقة؛ هو نوع من التطهير. وليس الصوفي وحده من يقطع الشهوات من أجل التصفية والتطهير، ولكن قطع الشهوات ـ كما يقول ابن رشد إمام العقلانية ـ شرط في صحة النظر .. ليس قطعها بالمرة ولكن ترويضها.

والخامسة: وهى مدى تأكيد تجارب المتصوفة الروحية عن طريق الوسائل والقياسات العلمية لكي يقتنع الآخرون بها، وهذا يرتد إلى المنهج والموضوع بين التصوف وغيره من علوم، وهما بالطبع مختلفان، ولا يمكن إقناع الغير بحقيقة التصوف إلا بالتجربة الصوفية نفسها، خوضها ومباشرتها، وإلّا بالسلوك المروّض على ارتقاء المعالي.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم