صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: ابن جُبير.. رحالة يعتني بالآثار والغرباء وأحوال الناس

يسري عبد الغنيولد أبو الحسن محمد بن أحمد بن جُبير الأندلسي البلنسي، في ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة 540 هـ الموافق الأول من سبتمبر سنة 1145 م، ببلنسية أحد مدن الأندلس على مصب نهر الوادي الكبير في البحر المتوسط، ولكن آخرين قالوا: إنه ولد بشاطبة الأندلسية التي ولد بها الإمام / الشاطبي مؤلف الشاطبية في قراءات القرآن الكريم والمدفون بالإسكندرية، وكانت وفاة ابن جُبير في رحلته الثالثة بمدينة الإسكندرية سنة 614 هـ = 1217 م .

وحينما صار صبيًا شغف بالعلم شغفًا ملك عليه حواسه، ولم يفارقه طوال حياته، فكان يسعى إلى أهل العلم والرأي والفكر في كل مكان ينزل به، فكان في قائمة أساتذته من لقيه في مدينة سبته الأسبانية على ساحل المغرب قرب طنجة، ومن لقيه بمكة المكرمة وبغداد عاصمة الخلافة العباسية وحران الفارسية ودمشق السورية وغيرها بالإضافة إلى علماء الأندلس .. وعلى وجه الإجمال فقد تلقى العلم على يد علماء عصره فأجازوه وقدروا

كانت العلوم التي عني بها ابن جُبير علوم الدين من فقه وحديث وقراءات وما اتصل بها من علوم اللغة والنحو والأدب، وعندما بلغ السن التي يستطيع فيها أن ينفرد بحياته وينهض بأعبائها احترف الكتابة فعمل لبعض الأمراء الذين كانوا يسيطرون على الأندلس وبلاد المغرب في ذلك الوقت .

ولم يشتغل محمد بن جُبير بالكتابة وحدها بل عمل بالتدريس أيضًا، وخاصة بعد رحلته الثانية إلى المشرق حيث انقطع مدة في مدينة فاس  لتدريس التحديث وروايته، والتعمق في علوم التصوف الإسلامي، ووصف الأديب الأندلسي المعروف / لسان الدين بن الخطيب محمدًا بأنه كان فاضلاً عفيف الهمة، شريف النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة ذا فضل بديع وتقوى، يحقق أعماله الصالحة، وتروى له أشعار تمتلئ بالتواضع وتنهى عن الحمق وسوء التصرف، وتحذر من الاغترار بالدنيا، ويظهر في رحلته حرصه الشديد على زيارة قبور أعلام الدين ولقاء المشهورين من رجاله الذين عرفوا بالصلاح والتقوى، كل ذلك جعل الرجل يميل إلى الزهد، وأخذ هذا الميل يزداد إلى أن جعله يترك ويطرح الدنيا العريضة التي نالها بالأدب ويلازم التصوف .

لم يقم محمد بن جُبير برحلة واحدة بل قام برحلات ثلاث قصد فيها جميعًا الحج إلى بيت الله الحرام الذي هو مقصد معظم الراحلين من المغرب إلى المشرق، إن لم يكن كلهم، والذي وهب الأدب العربي مجموعة من أجمل ما عرف من أدب الرحلات، وخاصة إذا أضفنا إليه طلب العلم، ولم يدون ابن جُبير أخبار هذه الرحلات كلها في كتابه بل قصره على الرحلات الأولى وحدها، وذكر المؤرخون بواعث معينة أثارة في نفس الرجل الشوق إلى الحج، وبعثت فيه العزم على قصده، ودفعته على القيام برحلاته لأدائه .

مر ابن جُبير في رحلته بمصر، وشبه الجزيرة العربية، والعراق، وبلاد الشام، وصقليه تلك الجزيرة الإيطالية التي فتحها المسلمون في العصر الأموي وينسب إليها القائد / جوهر الصقلي قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي الذي أسس مدينة القاهرة وبنى الأزهر الشريف، شاهد ابن جُبير كبريات مدن هذه البلاد فصورها في كتابه تصويرًا يتفاوت طولاً وقصرًا وفقًا للمُدة التي أقامها بها، والانطباع الذي خلفته في نفسه، والأهمية التي رأى أنها تستحقها .

والمتأمل في رحلة ابن جُبير يستطيع أن يستخلص أنه كان يعنى في وصف المدن بنواح ثلاث: المرافق (المنافع)، والمشاهد، والأرباض (ما حول المدينة )، وتضم المرافق عنده : الأسوار والحصون والمساجد والمدارس والحمامات، ومصادر المياه، والأسواق، والبيمارستانات (المستشفيات)، والمنازل، والشوارع، والأبواب، كما تضم المشاهد المقابر والموالد (ذكرى مولد العلماء والأولياء) وآثار الأنبياء والعلماء والأولياء والمواقع الإسلامية والمعابد والكنائس والآثار غير الإسلامية، وتضم الأرباض الأحياء والضواحي، ولا نقصد هنا أنه وصف ذلك في كل مدينة زارها بل أنها هي ما يتعرض له عند وصفها فيأتي بأثرها تارة ويهمله أخرى .

رحالة يهتم بالغرباء والحكام وأحوال الناس:

لقد عني ابن جُبير في رحلته أو في كتابه الذي سجل فيه رحلته بالغرباء والفقراء والمهمشين وبخاصة مواطنيه المغاربة، رأى الناس وتحدث معهم وشاهد كيف يعاملهم حكام الأقطار التي مر بها وشعوبها فيشيد بصاحب الفضل عليهم، ويعدد ألوان بره بهم، وينبذ من يبعدهم أو يسيء معاملتهم، وهو يتغنى بأفضال الناصر / صلاح الدين الأيوبي الحربية والسلمية وينتهز كل فرصة للثناء عليه .

وهو يتجول في كل إقليم فيسجل ما يتميز به وما يغلب عليه من طبيعة أو خصائص، وبمعنى آخر لون الحياة فيه، فأكثر ما تحدث عنه في مصر: المشاهد والآثار، وفي بلاد الحجاز الشعائر والمواسم والاحتفالات الدينية، وفي بلاد العراق الوعظ والوعاظ، وفي بلاد الشام المسجد الأموي بدمشق، مسجلاً الجوانب السياسية والحربية والاقتصادية من الحياة بين المسلمين والصليبيين الذين كانوا يحتلون أجزاء من بلاد الشام في الآونة التي زارها ابن جُبير، ولم يتجاهل الحياة الاجتماعية لأهل دمشق وما حولها، وفي صقلية يرصد أحوال المسلمين، ومشاعرهم تحت سيطرت حكم الملك غليوم (وليم الصالح) وسياسته .

وأذكر أنني ذكرت في ملتقى علمي حول الرحلات في تراثنا، أن رحلة ابن جبير هذه تعد بحق من أحسن الرحلات في تراثنا، تلك التي قام بها من غرناطة الأندلسية إلى الحرمين 572 هـ = 1176 م، واستغرقت 27 شهرًا، وقد أكدت على أن هذه الرحلة، وبقدر ما تهم الجغرافي تهم دارس العمارة والآثار، وكما ذكرنا فإنه يصف آثار البلاد التي زارها وصفًا دقيقًا فنيًا، فعند زيارته للقاهرة يصف آثارها تفصيلاً، كما هو الوضع بالنسبة للمشهد الحسيني (ص 45 من الرحلة)، وكما في وصفه لمسجد الإمام الشافعي والمدرسة الصلاحية التي بجواره (ص 48 من الرحلة)، وأيضًا وصفه للجامع الطولوني والبيمارستان المنصوري (ص ص 51 ـ 52) .

وقد ذكرنا وصفه لمدينة أخميم بصعيد مصر حيث وصف آثارها الإسلامية، يضاف إلى ذلك الوصف الدقيق الذي كتبه للحرم المكي (ص ص 81 ـ 109) وقراءته للنصوص التاريخية، أضف إلى ذلك وصفه للحرم النبوي وصفًا هندسيًا مستوفيًا (ص ص 160 ـ 195)، وزيارته لحلب الشهباء السورية حيث قام بوصف قلعتها المشهورة وحدثنا عن تاريخها (ص 250 )، كما وصف مسجدها الجامع ومنبره مع ذكره للمصطلحات الفنية المعمارية .

وهذا شأن الرحالة ابن جبير في جميع البلدان، على أن وصفه للجامع الأموي بدمشق السورية يعتبر أهم مرجع في تاريخ هذا الجامع من الناحيتين التاريخية والهندسية (ص ص 261 ـ 273 )، ومن منا ينسى وصفه الرائع لساعة المسجد الأموي الدقاقة .

وما سبق يدل على أن كتاب رحلة ابن جُبير كتاب مهم قيم يمتلئ بالعديد من الدراسات والأبحاث يمكن أن يعود إليها أهل البحث في مختلف المجالات .

ولما كان الرحالة محمد بن جُبير دقيق الملاحظة، صادق التعبير، متنوع الالتفات، وكان العصر الذي قام فيه برحلته عصر الحروب الصليبية عظيم الأهمية لدى الشرقيين والغربيين والمسلمين والمسيحيين، فقد لفتت رحلته الأنظار منذ صدورها، وجذبت القراء، ومنحت الدراسيين في النواحي المختلفة ما يسعون ورائه من معلومات فكثر الحديث عنها، وكثر الأخذ منها وعظمت العناية بها، يبقى أن نذكر هنا أن أول طبعة من كتاب رحلة ابن جُبير صدرت في ليدن بهولندا في سنة 1907 م .

 

بقلم: د.  يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم