صحيفة المثقف

محمد بنيعيش: المشروع السياسي للجماعات الإسلامية وعوامل الإخفاق

محمد بنيعيشأولا: استحضار التاريخ والواقع في بناء المشاريع

كل مشروع لا ينبني على أسس وقواعد هندسية مترابطة ومتعاضدة،من زوايا وخطوط طول وعرض وارتفاع وتقويس ومنحنيات عند التصميم، هو مشروع قابل للهدم والتهديم بأيسر الوسائل وأتفه الأسباب !.

وإذا كان هذا الحكم قد ينطبق على قضايا البناء والتشييد والعمارة والصناعة كمادة ملموسة قابلة للاختبار والاعتبار والإجبار فإن الأمر سيشكُل ويبهم أمره حينما يتعلق بقضايا السياسة والمجتمع وما يختلجها من ذاتية وموضوعية، لا يكاد ينفك بعضها عن بعض إلا بمجهر دقيق قوته ما فوق الأشعة البنفسجية.

والحكم وتقلده يدخل ضمن هذه المعادلة الصعبة التي غالبا ما يخفق في تحقيقها طالبوها،بالرغم من حنكتهم ودهائهم وقوة استبصارهم في قراءة الواقع والأحداث والمجريات.

وإنه في تاريخنا العربي الإسلامي لمرتع خصب لرصد هذه الظواهر بإيجابياتها وسلبياتها،التي امتزج فيها الديني بالمجتمعي والسياسي لحد الالتحام مرة والالتطام والاصطدام أخرى.بحيث يكون في البداية مطلب العدل المطلق والمصداقية هو اللوحة المرفوعة عند الواجهة كشعار ومختبر.

وباختصار سنعالج هذا الموضوع من خلال استعراضنا لبعض العناصر الأساسية وراء نجاح بعض الحركات السياسية  نجاحا قطعيا لحد تأسيس دولة، مع أنها ظاهرا تبدو ضعيفة من ناحية الالتزام الديني وتحقيق العدالة المنشودة للشعوب، في حين قد أخفقت أخرى بالرغم من رفعها لشعار العدالة ونشدان الحق وسلامة العقيدة والمذهب .

فالجماعات الإسلامية منذ التاريخ قد تصدرت المسرح السياسي كمذاهب فكرية وعقدية وفقهية محضة، ثم بعد ذلك تحولت إلى معارضة سياسية مدنية أو مدججة بالسلاح والعتاد والاستعداء بالداخل والخارج ...

وكنموذج على هذا ما كان من ثلاثية التوجهات في ظل عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث وجد نفسه أمام تيارين مختلفين ومتحدين في نفس الوقت، بينما التيار الثالث قد كان من ضمن الموالاة التي في عمقها تمثل معارضة مبطنة بسبب الخذلان أكثر منها تأييدا ومناصرا إلى النهاية.

فنحن هنا أمام شيعة علي بن أبي طالب باعتباره خليفة وذا عصبية دينية ونسَبية وقومية وشيعة معاوية بن أبي سفيان الذي يشترك مع علي في نفس العصبية ولكن بصورة متفاوتة،في حين هناك الخوارج الذين تشبثوا بالعصبية الدينية وقليل من القومية ولكنهم لم يرتكزوا على العصبية النسبية .أي أنهم كان لهم نقص في الارتكاز الرئيسي الذي هو محور الدولة وقوتها حينما يحتكم إلى ميزان القرب والبعد.

فعصبية علي ومعاوية تكاد تتكافأ من حيث النسب والانتماء إلى الشعب المكون لهذا الفصيل السياسي ألا وهو شعب مُضر الذي كان شعب النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه.ناهيك عن محور القرشية التي كانت عبر التاريخ ميدانا للتنافس بين الهاشميين والأمويين على الزعامة.ولهذا فعند المواجهة كان التكافؤ هو الحاصل بين الفريقين لغاية أن عليا كان هو المنتصر في النهاية لولا تهور الفريق الثالث المعارض للجانبين وهم الخوارج وارتكاب أكبر حماقة سياسية في التاريخ باغتيالهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وهذا الحدث المؤسف هو الذي أضعف قوة الفريق العلوي نظرا لأن معاوية كان قد استتب له الأمر في الواقع ممارسة بتوليه لمناصب عليا في الشام ونجاحه نجاحا باهرا هناك.ومعاوية هنا سيكون ناجحا بقوة العصبية كما يعبر عنها ابن خلدون وأيضا حنكته السياسية ذات التاريخ العريض الموروث في الزعامة والمكتسب من خلال الولايات المتعددة التي تقلدها في عهد الخلفاء الراشدين قبل علي، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ثانيا: النجاح والإخفاق من مستلهم الاستحقاق

ومن هنا فقد نجح الأمويون وأخفق الخوارج وتوقف العلويون عن المطالبة العلنية من خلال اتفاقية السلم التي أبرمها سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي.بحيث إن إخفاق الخوارج بالرغم من شدتهم وحماستهم الدينية قد كان بسبب عدم توفرهم على قاعدة نسَبية وتاريخ سياسي موروث ومكتسب على طول مدة كافية لتأسيس دولة كاملة الأركان.وهكذا اندثر الخوارج وضعف شأنهم لحد الغياب الكلي عن الساحة السياسية والفكرية وخاصة في دولة العباسيين، الذين هم بدورهم قد كانوا شركاء للعلويين في النسب والتاريخ والشعب والقرشية . هذا مع اعتمادهم على الحدائق الخلفية لسياساتهم وقوتهم العسكرية في فارس وغيرها،وأيضا دعوتهم بالتركيز أولا على العنصر النسبي قبل الاعتبار الديني واللغوي.

والذي يقرأ الحوار والحِجاج الذي كان بين العلويين والعباسيين حول الأحقية في الحكم سيجد أن هذا المحور، أي النسب القريب والمتسلسل، قد كان هو العنصر الأساسي المتكأ عليه .لكن العباسيين كان لهم السبق في توسيع دائرة المعادلة السياسية لتقوية مواقعهم وتثبيت دعائم حكمهم.وهكذا كان الحكم على مر العصور ينبني على مبدأ السلالات les   dynasties باعتباره عاملا حاسما لضمان الاستمرارية والاحتواء.

وبقدر ما استقرأنا التاريخ الإسلامي فسنجد هذا العنصر قائما سواء في الأندلس وغيرها،بل في أوروبا الإفرنجية المتوسطية نفسها، أو حتى عند الدولة العثمانية التي ضمنت بشكل ما استمرار الدولة الإسلامية كخلافة ذات قواعد سياسية مبنية على النسب أولا ثم العرقية اللغوية والقومية ثم الدين.

وبعد سقوط الدولة العثمانية لم يعد هناك حضور قوي لدولة ذات ارتباط بالنسب والدين سوى لدى بعض الدول العربية، وخاصة المملكة  العلوية المغربية التي احتفظت بهذا الزخم التاريخي والسياسي والنسبي والديني العريق تليها المملكة الأردنية الهاشمية.

في حين نرى أن الدولة السعودية حديثة العهد قد كانت نموذجا ذكيا للجمع بين العصبية الدينية والسياسية.بحيث قد استغلت هذه الأخيرة الجانب الديني في تأسيس الدولة من خلال اللقاء بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود.فلولا محمد بن سعود كأمير لما كان لمحمد بن عبد الوهاب كشيخ حضور ولا تأثير، سواء على الساحة الاجتماعية أو السياسية بل حتى الدينية.والسبب في هذا،حسب رأينا المتواضع، هو أن محمد بن سعود قد كان يمثل عصبية نسَبية لها جذورها ومكتسباتها في باب الحكم مما ضمن لها الاستمرارية .وبهذا فقد كان محمد بن عبد الوهاب ناجحا في طرحه واختياره لأنه سلم الأمر لأهله واكتفى بمنهج الدعوة، بالرغم من عثراتها وثغراتها وعيوبها في بعض القضايا العقدية والسلوكية.

ومع هذا الاعتماد على عامل السلالة أو النسب ذي المكاسب التاريخية والوراثية هناك عنصر آخر كان مواكبا لكل الصراعات والمنافسات على الحكم وإدارته ألا وهو القوة العسكرية والأمنية الضاربة في كل دولة والتي بدورها قد يكون ولاؤها لهذه السلالة الحاكمة أو التي في طور نشاط اليرقات المتأهبة كجهاز سري، هذا مع وجود صلة نسب على مستوى الشعب أو القبائل.بحيث من دونها لا يمكن لدولة أن تقوم أو تنجح في قيامها مهما اكتسبت من صيت وجماهير لا تملك سوى قوة الحناجر.

وهذه الأمور أو العوامل الثابتة هي التي أهملها وما يزال  يهملها رواد الجماعات الإسلامية بشتى أطيافهم في انخراطهم السياسي وتوهمهم أن الجماهير المحيطة بهم والهتافات في الميادين العامة هي التي ستصنع لهم الدولة وتوفر لهم القوة،وهذا كله وهم وجهل بالتاريخ والسياسة،بل حتى بالدين وإشاراته في هذا المجال حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش".

فهل هذه الجماعات على أرض الواقع تجمعها سلالة وقبيلة قرشية أم مضرية أم ربيعية أم أموية أم عباسية أم عثمانية أم علوية أم هاشمية؟

الجواب سيكون بالتأكيد أن لا شيء من هذا حاضر في قوامهم وقومتهم المزعومة، اللهم إلا دعاوى متقطعة الأنساب قوامها: أننا نحن أصلح من الجميع لقيادة وتوجيه الجميع .وهذا الادعاء هو عينه قد تتبناه الدول القائمة بمؤسسات علمية رسمية وعلماء منصبين وتمويل ضخم،كما قد يمكن أن يستغل هذه الشعارات أي سفيه ووضيع ودخيل مريب داخل تلك الجماعات أو خارجها فيثير المشاكل والمشاغب ويهدم أكثر مما يصلح، فلا ظهر أبقى إذن ولا أرضا قطع.وسل جميع الدول في العالم تجدها تنبني على عصبية نسَبية إما مصرح بها أو مخفية بين الدساتير والدفاتر ودواليب الدولة العميقة رغم مزاعم الديمقراطية والانتخاب الحر ،كما قد تكون بجانبها قوة عسكرية وأمنية توظف سريعا وبالحسم حينما يجد الجد ويشتد الوطيس.وهذا سر الاجتماع وخصائصه التي لا يعرفها كثير من الناس ينبغي مراجعته جيدا "وفوق كل ذي علم عليم".

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم