صحيفة المثقف

صالح الطائي: على قدر جلد ثور

صالح الطائيمنذ ولادة مصطلح الاستعمار الجديد؛ والمستعمر الذي أبدل ملابسه وسياساته وقرر الخروج من أغلب مستعمراته وإدارتها عن بعد؛ لا يغادر أرضاً ما طائعاً أو مكرهاً إلا ويحرص على الحفاظ على قطعة صغيرة منها ولو بقدر جلد ثور، لكي يدير عملياته المستقبلية من خلالها، وكم تسببت هذه الرقعة بأحداث جسام لا حدود لها.

ولأن ما حدث في أفغانستان البارحة، وهو الأمر الذي كنا نتوقع حدوثه منذ زمن ليس بالقصير لأسباب كثيرة، ونتوقع حدوثه بالعراق، أو حدوث ما يشبهه، هو أحدث وأسخن حالات المغادرة؛ التي كانت طوعية بامتياز، ومخطط لها بعناية، لتكون رسالة ساخنة جدا موجهة للعراق وإيران والصين وروسيا بشكل خاص، وللمنطقة كلها بشكل عام، فهو يبدو صورة واضحة لعودة ممارسة سياسة جلد الثور، ويتمثل هذا في ولاية أفغانية اسمها (بانج شير)، أي الأسود الخمسة، أو الخمس أسود، وتقع في شمال أفغانستان وقريبة إلى طاجكستان. سميت بهذا الاسم نسبة إلى واد كبير فيها يحمل هذا الاسم، وهذا الوادي يبعد حوالي 120 كلم عن شمال كابل، فهذه الولاية هي الوحيدة التي بقيت خارج سيطرة حركة طالبان إلى الآن، وهي واحدة من 34 ولاية أفغانية، ويبلغ عدد سكانها حوالي (150) ألف نسمة، يمثل الطاجيك فيها نسبة 98.9% من مجموع السكان.

لقد صمدت هذه المدينة بوجه الزحف الطالباني عام 1996 يوم لجأت إليها القوات الحكومية والرئيس برهان الدين رباني عقب استيلاء المسلحين على كابل في سبتمبر/ أيلول من ذلك العام، وتمكنت قوات المقاومة من منع طالبان من السيطرة على كامل البلاد، فبقيت شوكة في جنب طالبان، ومركزا لبث عدم الاستقرار في البلاد، وشجعت على طرد طالبان، وإعادتها إلى الجبال التي تتحصن بها.

والظاهر أن التاريخ يأبى إلا أن يعيد نفسه في بلداننا الإسلامية والعربية، ربما لأننا نرفض أن نغادره، ولأننا لا زلنا نتمسك به بفخر، وعالقين في أجوائه تماماً مثلما كان قبل 1443 عاماً، ولا زلنا نبحث من خلال تطبيق مناهجه المتآكلة الصدئة  المتهرئة والمتعفنة عن حور العين في مكبات النفاية، ونعتقد أن الطريق إلى الله يجب أن يعبد بدم الأبرياء وبتهديم البلدان وسبي النساء والغلمان، ولبس زي الأفغان، وإطالة اللحى إلى حد (الخصيان). لأجل هذا صرنا الأرض الخصبة لممارسة التجارب والتمارين، ومنها التذكير بجلد الثور!

واليوم تستعد ولاية الأسود الخمسة للتصدي  للزحف الطالباني بعد أن تجمعت القوات الحكومية المنهزمة والمليشيات المحلية فيها، وانتشرت على طول حدودها استعدادا للدفاع عنها، وقد تصبح هذه الولاية حصنا لمقاومة طالبان، ومركزا لإزعاجها، وبث عدم الاستقرار في بلد لم يعرف الاستقرار منذ عقود، إذ أفادت وكالات الأنباء ومنها وكالة أنباء "سبوتنيك" الروسية بأن قادة رجال المقاومة في "بانج شير" يستعدون لخوض حرب كبرى ضد طالبان، مستعينين بوجود (20) قاعدة عسكرية في الوادي، وهو عدد كبير يفوق عدد القواعد الثمان التي كانت موجودة فيها خلال المعارك السابقة مع طالبان.

والذي أراه أن هذه الولاية سوف تحظى بدعم كبير ولاسيما من قبل الأمريكان، لا لمعاونتها ومساعدتها في دحر طالبان؛ التي احتلت البلاد كلها بمباركة أمريكية مكشوفة وواضحة، وإنما لكي تبقى ورقة ضغط على طالبان، تتحكم أمريكا من خلالها بالوضع العام، وتحرك بيادق اللعبة، وستثبت الأيام القادمة مدى أثر وتأثير الأسود الخمسة على الوضع الخاص في أفغانستان والوضع الدولي العام، ولاسيما دول الجوار الأفغاني، وربما ستنتصر سياسة جلد الثور على نبوءات المنجمين، وحينها تضطر طالبان للعودة إلى الجبال، تتهيأ لغزوة جديدة، وتبقى شعوبنا محصورة في المربع الأول، خلافا للبلدان التي أحرقت المربعات والمثلثات وانطلقت في دنيا التطور والتقدم، ونحن لا يعجبنا سوى السبات، وحينما نصحوا نرتكب المآسي والخيبات.

 

الدكتور صالح الطائي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم