صحيفة المثقف

عدنان الظاهر: المِعرّي.. جحيمُ بغداد ونعيم الجنّة

عدنان الظاهرمرحباً يا صاحبي يا طيّب ويا أبا الطيّب وكل ما في الكون من طيوب، كيف أموركم؟ بخير، بخير… ماذا لديك من أخبار سارّة في هذا الصباح الباكر؟ إنها الساعة العاشرة يا عزيزي، فلا مجال لتسمية هذا الوقت بالصباح الباكر. قال صاحبي أعذرني يا أخي، فنحن سَكَنة كوكب المريخ لا نعرف الساعات ولا نفرِّق بين الساعة الثامنة صباحاً والساعة  الثانية عشرة ظُهراً على سبيل المثال. زماننا ثابتٌ متّصل لا قطع فيه لذا فإننا لا نحسُّ بفروق الزمن التي تعرفون على سطح (أو بطن) أُمِّكم الأرض. ثمَّ، لا ليلَ على كوكبنا فإنه مُضاءٌ ساطع لامع لا نعرف عَتمةً أو ظلاماً. بإختصار، نحن متفوقون عليكم فنحنُ الأعلوَن وأنتم الأدنوَن. صدقتَ أبا الطيّب صدقتْ، وما عرفتك إلاّ صادقاً وأميناً. نحن ما زلنا في مراتبنا الدنيا في حياتنا وفي آخرتنا. ضحك المتنبي أو تضاحك هازئاً رافضاً فكرةَ أن نكونَ متخلفين حتى في موتنا وفي دنيانا الأخرى. إندفعتُ شارحاً له الفروق الأساسية بيننا وبين الكثير من الشعوب الأخرى سواء في طقوس دفن الموتى وتفصيلاتها أو الفروق الهائلة بين مقابرهم ومقابرنا وكيفية بناء قبور موتاهم وموتانا. مقابرهم يا أبا الطيّب جناتٌ تجري من تحتها الأنهار لذا فإنَّ موتاهم خالدون أو كالخالدين. مطر من السماء ومياهٌ تحت الأرض، وزهورٌ ورياحين وشموع وصور ورخامٌ فوق الأرض ثمين محفورةٌ عليه أسماؤهم وتواريخ ميلادهم ووفاتهم. تظللهم الأشجار الباسقة ويزورهم ذووهم في شتى المناسبات. كان صاحبي يتابع ما أقول بشيء من الفضول. بعد فترة صمت سألني: وهل يُصيب المتوفى كل هذا النعيم مجاناً؟ قلت كلاّ، الناس هنا يستأجرون قبورهم بعقود، ويجددون هذه العقود  مرّةً كلَّ عشرة أعوام. قال وما الذي يحصل للمتوفى إذا ما عجز ذووه عن تجديد العقد؟ قلتُ ترفع الجهاتُ المسؤولة عن المقبرة رفات المرحوم وتضعها في مقبرة أخرى خاصة بالمجهولين أو من ذوي الدخول المحدودة أو الغرباء. قال وما مصير القبر الذي تركه صاحبه للسبب المذكور؟ يُستأجرُ من قِبلِ ذوي مرحومٍ جديد. هزَّ صاحبي رأسه مردداً: تماماً كما في الحياة، يتبدل المستأجِر وتبقى الدار المؤَجّرة هي هي لا تتبدل. ميّتٌ متحرك في العالم الآخر ودار في الدنيا ساكنة لا تتحرك. قال يبدو أنَّ مقابر [الغرب] تعجبك وتستهويك. قلتُ أجل يا أيها الخِضرُ الأخضرُ الغائب الدائم الحضور. تعجبني حتّى إني أتمنى أن أقضي فيها عمري !! ضحك صاحبي ثم قال إنها واللهِ لنكتة بارعة، يتمنى حيٌّ أن يقضي عمره في مقبرة للراحلين، أية أُمنية هذه؟ أطلَّ المرحومُ أبو العلاء المعرّي على شاشة الكومبيوتر مُنشِداً بعضَ شعر المتنبي:

يُدفِّنُ بعضُنا بعضاً وتمشي

آواخِرُنا على هامِ الأَوالي

إختفت صورة أبي العلاء، شيخ مِعرّة النعمان، قبل أن يتسنى لي أنْ أسأله عن تفاصيل رحلته الشهيرة في [رسالة الغُفران] التي زار خلالها الدار الأخرى وقابل الكثير من زملائه الشعراء وجادلهم في بعض شعرهم وكيف حاول دخول الجنة.

قال المتنبي لا عليك، سأقصُّ عليك ما عانى أبو العلاء من مَشقّات محاولاً الوصول إلى جنان الخُلد. كانت رحلة شاقة إبتدأها برضوان خازن الجنان فتملّقه بالكثير من الأشعار لكنَّ رضوانَ أنكرَ معرفته للشعر ثم قال له [إنكَّ لَغبين الرأي، أتأملُ أنْ آذنَ لك بغير إذنٍ من ربِّ العِزّة؟؟]. ترك رضوانَ وتوجّه إلى خازنٍ آخر من خَزَنَة الجنة يُقالُ له زُفَر. قرأ له وفيه أشعاراً كثيرةً كما فعل مع رضوان لعله يُشفِقُ أو يلين فلم يستجب. أُضطُر أبو العلاء أن يخاطبه قائلاً [رَحِمُك الله !كنّا في الدار الذاهبة نتقرّب إلى الرئيس والملك بالبيتين أو الثلاثة، فنجدُ عنده ما نُحب. وقد نظمتُ فيك ما لو جُمعَ لكان ديواناً، وكأنك ما سَمِعتَ زجمة، أي كلمة، فقال لا أشعرُ بالذي حممتَ، أي قصدتَ…]. علّقتُ قائلاً: مسكين أبو العلاء، يتملّق حرّاس أبواب جنات النعيم ـ وهو الضرير الضعيف ـ وينظم فيهم الشعر علّهم يفهمون فيفتحون له باباً من تلكم الأبواب الموصدة ولكنْ هيهات، لا من أمل لرجل كفيف فقير في دخول الجنة. قال صاحبي لا تتعجل الأمور، إصبرْ قليلاً حتى أنتهي من رواية ما أعرف من تفاصيل رحلة هذا الرجل الضرير إلى العالم الآخر إسراءً ومعراجاً ومحاولاته في أن يعيش هناك خالداً كما يحيا في الآخرة أصحاب النعيم الذي لم يعرف في الحياة الدنيا له لوناً أو طعماً. قلتُ آسف، أعتذر، تفضّل وأقصصْ عليَّ ما قرأتَ أيام بَطَرِك في كتاب (رسالة الغفران). قال أليس عندك ما نشربُ أو نأكل قبل أن أواصل الحديث فإنه حديث ذو شجون؟ قلتُ بل ما لذَّ وطاب. قال يرحم والديك، هات فإني لشديد الجوع. قال وما زالت يده في صحون الطعام: نصحه الخازن الثاني زُفَر أن يقابل (حمزة بن عبد المطَّلب). وجده مع نفرٍ من شهداء المسلمين في معركة أُحُد. عمل [أبياتاً على منهج كعب بن مالك التي رثى بها حمزة وأولها]:

صفيّةُ قومي ولا تعجزي

وبكّي النساءَ على حمزةِ

إقترب منه فنادى [يا سيدَ الشهداء، يا عمَّ رسولِ اللهِ، يا إبن عبد المطَّلِب!]. ثمَّ أنشده الأبيات فقال له [ويحك ! أفي مثل هذه المواطن تجيئني بالمديح؟]. إعتذر الرجل حمزة بن عبد المطلب لكنه بعث مع أبي العلاء رسولاً إلى إبن أخيه علي بن أبي طالب لكي يخاطب النبي في أمره. فلما قصَّ الرسولُ قصته على أمير المؤمنين قال لأبي العلاء [أين بيّنتك؟ يعني صحيفة حَسَناته]. وهل أدخله أمير المؤمنين الجنة؟ تساءلتُ وفي ريقي يبوسة وفي اللسان مرارة وفي النفس حاجةٌ لمعرفة مصير هذا الرجل الفريد. أترع لي صاحبي كأس شاي ثقيلٍ آخر ـ لعله السابع أو الثامن ـ ثم قال: تَلَهَّ بهذا الشراب ودعني أُكمل القصة. تذكّرت شراب أهل الجنة فتمنيت أنْ أعُبَّ من أنهارِخمرها ولبنها وعسلها ثم أستحمَّ فيها أبدَ الدهر. نعم، يا صاح، تفضّل، أكمل. قال المتنبي: ثم ذهب أبو العلاء ليقابل فاطمةَ الزهراء زوج عليٍّ وإبنة الرسول الكريم فقال لها نفرٌ من آل أبي طالب [هذا وليٌّ من أوليائنا قد صحّتْ توبَتهُ ولا ريبَ إنه من أهل الجنّة وقد توسّل بنا إليكِ، صلّى الله عليكِ، في أنْ يُراحَ من أهوال الموقِف ويصيرَ إلى الجنّة فيتعجّل الفوز. فقالت لأخيها إبراهيمَ، صلّى الله عليه، دونكَ الرجل. فقال لي: تعلّقْ برِكابي. وجعلتْ تلك الخيلُ تُخلّلُ الناس وتنكشف لها الأمم والأجيال، فلما عَظُمَ الزَحامُ طارت في الهواء وأنا متعلِّقٌ بالرِكاب]. إنها والله لقصة طريفة يا أبا الطيّب، لكأنك تقص عليَّ حُلُماً أو شيئاً مما يعرض لبعض الناس في لحظات الغيبوبة. قال إنها قصة حقيقية لم أقم بتأليفها من بنات أفكاري لأقصها عليك وأشغلك بها عن الكثير من أمور دنياك الفانية. تعلّم يا رجل وأفهم الطريق السليم لدخول الجنة. ألا تتعلم من الغير وتتعظ بسواك؟ بقيتُ صامتاً لا أصدِّق ما يقول صاحبي، لا أُريدُ أن أُصدِق. لا أملَ لي في دخول الجنة. بل لا رغبة لديَّ في دخولها حتى لو جاءتني مجاناً. أأطمعُ في دخولِ جنّات السماء وما زالت أرض العراق مُحرَّمةً عليَّ وأبوابه مُوصَدةً أو كالموصدة في وجهي؟ قرأ المتنبي أفكاري وما كان يدور في خلدي فإبتسم وهو يعب الشاي عبّاً ثم قال: زهدَ في الجنة قبلك الكثير من البشر. ثم قد ندموا إذ ماتوا وفات الآوانُ حيث لا ينفع ندمٌ. ثم سألني هي يواصل الحديث أم يسكت؟ إمضِ يا أبا الطيّب، إمضِ، حديثك مُغرٍ ومُسلٍّ، ولعله أن يغيّرَ موقفي من دخول الجنة. قال مثلك كأبليس عنيد لا يتغير. أقصُّ عليك قصة أبي العلاء لا طمعاً في أن تتغير فتعدل عن رفضك لدخول الجنّة، إنما لكي أُسليّك وأخفف عنك شيئاً من همومك. طيّب يا أبا الطيب، واصل حديثك: وصل المسكين أبو العلاء إلى الصراط المستقيم فلم يستطعْ عبوره. قال: [… فوجدتني لا أستمسك. فقالت الزهراء صلّى الله عليها لجاريةٍ من جواريها: يا فُلانة أجيزيه. فجَعَلتْ تُمارِسُني وأنا أتساقط عن يمينٍ وشَمال … فلما جزتُ قالت الزهراءُ عليها السلام: قد وهبنا لك هذه الجارية، فخذها كي تخدمك في الجنان]. علّقتُ قائلاً: ألا نِعمَ ما وهبت الفاطمةُ الزهراء، فأبو العلاء رجل كفيف البصر وطالما كان في حياته يقول (أنا المستعين بغيره). ستعينه لا شكَّ هذه الجارية. ثم؟ ثم وصل الرجلُ أخيراً إلى مدخل الجنّة ليجد رضوان خازنها أمامه فيسأله هذا هل معه من جواز؟ فيقولُ لا. وكان جواب رضوان قاسياً صارماً [لا سبيلَ لك إلى الدخول إلاَ به]. مسكين أبو العلاء، رهين المحبسين، ما رأى الراحة في حياته وحُرِم منها في مماته، فأين العدالة يا أبا الطيّب؟ قال ألم أقلْ لك إصبرْ ولا تتعجلْ الأمور، فلكل شأن ميقات معلوم وأَجَلٌ مقدور؟ إصبر وتعلّم مني مطاوعة الزمن والتكيّف لأحكامه وتقبّل ضرباته ومفاجآته. حاولْ أن تفهم قانون الزمن الأبدي الذي يتحكم بالكون لا بالبشر حسبُ. كنتُ أُصغي لما يقول صاحبي وأستعرض سِفرَ حياتي وما فعل به الزمن وما قد خطَّ عليه من سطور وما حفرَ عليه من لوحات وملاحم. إعتذرتُ لصاحبي ثانيةً وإلتمستُ منه أن يواصل حكايته مع تلميذه أبي العلاء. قال: لم يتخلَ عنه إبراهيمُ وقد مكّنه من الوصول إلى الباب. هل تعرف ما فعل إبراهيمُ في تلكم اللحظات الحرجة؟ قلتُ كلاّ، لا أعرف. (ما كنتُ يا عمّ فيهم). قال على الفور: قبّحَ اللهُ وجهك. كان هذا جواب قيس حين سأله عمه والد ليلى (أين كنتَ إذن؟). ضحكنا كأننا ما عرفنا الضحك قبلاً. ضحكنا وتناولنا المزيد من أقداح الشاي المستورد من بساتين جنات الخُلد المُداف بالعسل المصفّى تحف بها أباريقُ ألبانِ الجنانِ التي لا تتأسّن ولا يصيبها تَلَفٌ مهما طال عليها الزمن. واصل صاحبي كلامه ليقول: لم يتخلَ إبراهيم عن الشاعر الضرير وكيف يتخلى عنه وهو من أتى به حتى أبواب الجنة. فلما رأى موقف رضوان الخازن المتعنت وغير المُنصِف بحق أبي علاء إلتفتَ وقد تخلّف عنه ثم [رجعَ إليَّ فجذبني جذبةً حصَّلَني بها في الجنّة]… حسب ما قراتُ في كتاب رسالة الغفران. تنهدّتُ بعمق ثم قلتُ: الحمد لله، دخل الجنّةَ أخيراً أبو العلاء المعرّي. دخلها شاعر ومفكِّرٌ كفيف ورجلٌ قرمطي إسماعيلي مُتَّهمٌ أو مشكوكٌ في دينه. هممتُ أن أسألَ صاحبي ألديه رغبة في دخولها؟ لكني أحجمت. أعرف أن الرجل مثلي راغبٌ عنها لا فيها. بعد فترة راحة قصيرة أغمض كلانا فيها عينيه للإسترخاء، إلتفتُّ إلى صاحبي فوجدته مهموماً محزوناً كمن فقد عزيزاً. ما بكَ يا صاحْ؟ قال أحزنني غياب تلميذي النجيب المفاجيء. كنتُ مسروراً برؤيته على شاشة الكومبيوتر. أردتُ أنْ أُوجِّه إليه الكثير من الأسئلة لكنه آثرَ ـ على ما يبدو ـ فُرقتَنا والغيبةَ عنا لأسباب مجهولة. ما زال الرجلُ شديدَ الحَذرِ من البشرِ ويكره السفرَ والأسباب معلومة. ويتوجس من زيارة بغداد ثانيةً بعد أن أهانه [الشريفُ المُرتضى] ضيفاً في مجلسه. الأشراف يهينون الشعراء ويستهينون بالضعفاء منهم وذوي العاهات. تركتُ صاحبي يُنهي كلامه فسألته عمّا يدور في خاطره من أسئلة كان يود أن يوجهها لأبي العلاء. قال سأوجهها له حين يُطلُّ علينا ثانيةً، أو حين تستضيفه فضائية [الفيحاء] في برنامج خاص ويوجه له الدكتور [هشام الديوان] بإسم الحكومة العراقية الحالية ووزير ثقافتها دعوةً رسمية لزيارة العراق للإطلاّع على ما جرى فيه بعد سقوط [هُبَلْ]… صنم بغداد وتكريت، من تغييرات هائلة سواء في مجال الأمن أو السياسة والإقتصاد ثُمَّ ـ نعم، ثُمَّ !!! ـ الثقافة. لكنك قلت قبل قليل إنَّ الرجلَ يتوجس من زيارة بغداد بعد أنْ أساء بعض (أشرافها) التصرف معه. قال حدث له ذلك مع البعض من ذوي الحظوة والنفوذ في بغداد. لكنْ كانت له علاقات جدَّ متينة مع البعض الآخر وفيهم الكثير من أدباء ومثقفي العراق ومنهم رجل يسميه صاحب الدولة هو [أبو أحمد عبد السلام بن الحسن البصري] الذي كان يُكثِر عنده أيامَ إقامته في بغداد، على حدِّ قول أبي العلاء نفسه في ديوانه " سَقْط الزَنْد " في مُقدِمة القصيدة المسماة (أمير المغاني). ثم لا تنسَ  علاقاته المتينة مع خازن دار العلم ببغداد الذي خصّه بقصيدة أسماها (ما قسطوا إلاّ على المالِ). لا أعرف إسم هذا الخازن إذ لم يذكره أبو العلاء. أرجو الإنتباه إلى أمرين: علاقة متينة مع إبن الرجل الشهير الحسن البصري، وعلاقة ثانية هي الأخرى متينة مع الرجل المسؤول عن مكتبة دار العلم في بغداد. فأية بوصلة كان يهتدي بها هذا الرجل الكفيف الضعيف الزاهد في الحياة؟ أية قوّةٍ تجذبه لمثل هذين الرجلين؟ لكأنَّ روحه في الكتب والدار التي تخزنها وتحويها. قال في بعض أبيات هذه القصيدة ما يشير بقوة إلى شدة تعلّقه ببغداد حتى إنه يتوسل أن يعلِّمه علماءُ الجانبين (الكرخ والرُصافة) ما يسميه ب (عِلم السلوّ):

خليليَّ ! لا يخفى انحساري عن الصِبا

فحُلاّ  إساري، قد  أضرَّ  بيَ   الربطُ

 

ولي  حاجةٌ  عند  العراقِ  وأهلهِ

فإنْ تقضياها، فالجزاءُ هو الشرطُ

 

سَلا  عُلماءَ  الجانبينِ،   وفتيةً

أبنُّوهُما، حتّى مفارِقُهمْ شُمطُ

 

أَعندَهُمُ  علمُ   السلوِّ   لسائلٍ

به الركبَ، لم يعرفْ أماكنَهُ قطُّ؟

 

ولعلمك، أضاف المتنبي، كتب في بغداد والعراق غير قليل من الأشعارالرائعة،

هل تريد أن تسمع نماذجَ من حنينه وحبه وشوقه لبغداد وما كال من مدائح

فيها؟ أجبتُ كالمَشوقِ المستهام أجلْ، هيا يا أبا الطيب، ومن مثلك يجيد فن السرد وقراءة الشعر؟ قال في قصيدة (إهدِ السلامَ إلى عبد السلام):

يا عارِضاً  راحَ  تحدوهُ   بوارقهُ

للكرخِ، سُلِّمتَ من غيثٍ ونُجِّيتا

 

لنا ببغدادَ من نهوى تحيتَهُ

فإنْ تحملّتها عنا فحُيّيتا

 

سَقياً لدجلةَ والدنيا مُفرِّقةٌ

حتى يعودَ اجتماعُ النجمِ تشتيتا

 

وبعدها لا أُريدُ الشَربَ من نَهَرٍ

كأنما أنا من أصحابِ طالوتا

 

أعدُّ من صلواتي حِفظُ عهدكُمُ

إنَّ الصلاةَ كتابٌ كان موقوتا

كنتُ أتمايل إذ كان صاحبي يُغرّد بإنشاد شعر أبي العلاء. كنتُ منتشياً إذ أسمع عبارات الود الصادق لبغداد وساكنيها وشوقه لماء دجلة الذي سبق وأن قال فيه (شربنا ماءَ دِجلةَ خيرَ ماءٍ // وزُرنا أشرفَ الشَجرِ النخيلا). كنتُ كالغائب عن وعيه. تركني صاحبي لشأني برهةً من الزمن ثم سألني رأيي فيما قرأ من أشعار. قلت متململاً: ألا ترى شَبَهاً كبيراً بين البيتين الأولين وبعض ما قال الشاعر الأندلسي إبن زيدون من شعر في صاحبته ولاّدة بنت المستكفي؟ قال تقصد البيتين:

يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ واسقِ به

من كانَ صِرفَ الهوى والودِ يسقينا

 

ويا  نسيمَ   الصَبا  بلِّغْ     تحيتَنا

من لو على البُعدِ حيّا كان يُحيينا

قلتُ أجل. قال نعم، هنالك مشابه كثيرة ولكن لا تنسَ: يأخذ الشعراء من غيرهم ويعطون. يؤثِّرون ويتأثرون وهم في نهاية الأمر زملاء في المهنة وأقارب دون رَحِم، ونسيج عصبي واحد وتركيب نفساني مشترك وتنظيم نقابي واحد هو: إتحاد الغاوين الهائمين في كل وادٍ والقائلين وليسوا فاعلين [والشعراءُ يتبِّعُهمُ الغاوون. ألمْ ترَ أنّهم في كلِّ وادٍ يهيمون. وأنهم يقولونَ ما لا يفعلون / من سورة الشعراء].  عدتُ أسأل صاحبي وهل في رأسه أشعارٌ أخرى قالها أبو العلاء في العراق أو في أهل العراق؟ قال إنَّ في رأسي الكثير لكني سأقرأ عليك الأقل من القليل. قال أبو العلاء المعري مُودِّعاً بغداد في قصيدةٍ إسمها " ليتَ حِمامي حُمَّ في بلادكم ":

أُودِّعكمْ يا أهلَ بغدادَ والحشا

على زَفَراتٍ ما يَنينَ من اللَذعِ

 

وداعَ  ضنىً  لم يستقِلَّ   وإنما

تحاملَ من بَعدِ العِثارِ على ظَلعِ

 

فبئسَ البديلُ الشامُ منكمْ وأهلهُ

على أنّهم  قومي وبينهمُ  رَبعي

 

ألا   زوِّدوني   شَربةً  ولو أنني

قَدَرتُ، إذاً أفنيتُ دِجلةَ بالجرعِ

 

وأنّى لنا من ماءِ دِجلةَ نُغبَةٌ

على الخِمسِ من بُعدِ المفاوزِ والرِبعِ

 

غُذيتُ النعامَ الرَوحَ دون مزارِكمْ

وأسهرني زأرُ الضراغمةِ الفُدْعِ

 

لَبِستُ حِداداً بعدَكمْ كلَّ ليلةٍ

من الدُهمِ لا الغُرِّ الحِسانِ ولا الدُرعِ

 

أظنُّ الليالي وهي خُونٌ غوادرٌ

بردّي إلى بغدادَ ضيِّقةَ الذَرعِ

 

وكانَ اختياري أنْ أموتَ لديكُمُ

حميداً فما ألفيتُ ذلكَ في الوِسعِ

 

فليتَ حِمامي حُمَّ لي في بلادِكمْ

وجالت رِمامي في رياحكمُ المِسعِ

صحوتُ من إغفاءة النشوة وسحر الإلقاء وصدق عاطفة أبي العلاء وشدة تأثره بإقامته في بغداد. صحوت ولم أفتح عينيَّ إلاّ وقد وجدتُ نفسي وحيداً. إختفى صاحبي. أنجز ما عليه وقام به خير قيام فغاب، كعادته التي أَلِفتُ. غاب دون كلمة وداع. غاب المتنبي وهو المُغرَم بها فظهر أمامي وجه شيخ معرّة النعمان شاحباً كئيباً فسألته ما الخير؟ قال إنه أحسَّ أنَّ لديَّ بعض الأمور التي أروم تداولها معه، وأنَّ لديَّ أخباراً أودُّ أن أقصها عليه فسارع بالعودة تاركاً وراءه جنّاتِ الخُلْد وحورَ العِين والوِلدانِ المُخَلَّدين وأنهار اللبن والعسل والخندريس وكؤوسَ الفضة وصِحافَ الذهبِ والزَبَرجد والزُمرّد والياقوت. قلت له لم يبقَ شيء عنك لم يقصّه لي أستاذك المتنبي بعد أن تركتنا وعُدتَ بسرعة البرق إلى كِناس ظِبائك في الجنائن المُعلَّقة. قال بلى، في صدرك أمر لا بدَّ أنك مُفضيهِ إليَّ عاجلاً أم آجلاً. قلت له: ها قد تذكّرتُ، إنك لعلى حق، كل الحق يا سيدي الضرير الذي فاق جميع أهل البصرِ والبصائر. معك حق، أردتُ أن أسألك هل قرأ الشاعر الإيطالي (دانتي) كتابك (رسالة الغفران) فتأثّر به وأخذ منك أموراً كتبها بعدك بقرون في كتابه الشهير ب (الكوميديا الآلهية)؟ قال لم أقرأ كتاب الكوميديا الإلهية وما سبق وأنْ تشرّفت بمعرفة هذا الرجل الطلياني لا في حياتي ولا في الآخرة. لذا لا أستطيع أن أؤكدَّ أو أنفي هل أخذ الرجل مني وهل تأثر بكتابي أمْ لا. الحكم متروك لكم أنتم الأحياء ـ الأموات. قلت له يا سيدي ونور عيوني ومهجة قلبي جُعِلتَ فداك، أردتُ أن أقولَ لك إنَّ هذا الشاعر الإيطالي المولود في مدينة فلورنسة قد قسّم الجحيم إلى مناطق أو دوائر متداخلة لها مركز واحد. ثم قسّم الجحيم ـ وهوالنار بلغتنا نحن المسلمين ـ  إلى جحيم خارجي وآخر داخلي. فهل تجدُ شَبَهاً في هذا التقسيم ولو ضئيلاً بينه وبين تقسيمك للعالم الآخر إلى جنة ونار ثم منطقة ثالثة أطلقت عليها إسم (في أقصى  الجنّة)، حيث وجدتَ الخنساء جاءت لتنظرَ أخاها صخراً فوَجَدَته (كالجبل الشامخ والنارُ تضطرمُ في رأسه)… حسبَ زعمها في بعض ما قالت من شعر في رثاء أخيها:

 

وإنَّ صَخَراً لتأتمُّ الهُداةُ بهِ

كأنه عَلَمٌ في رأسهِ نارُ

قال لا أرى أيَّ وجهٍ للشبه. وصفت الجنة ومن وجدت من أهلها فيها ووصفت حال أهل النار من زملائي الشعراء وغيرهم من أئمة اللغة والنحو. هذا هو التقسيم الذي إعتمدتُ وإنه كما تعلم لا يعود أصلاً لي، إنما هو التقسيم الثنائي الذي عرفناه في قرآننا ولا أكثر من ذلك. الشاعر دانتي ما كان مسلماً، لذا فلقد متّع نفسه بأقصى ما يمكن من دَرجات الخيال والتصرف وإبداع العوالم التي يريد أن يُحلِّقَ فيها ويقول ما يريد أن يقول بمطلق حريته حيث لا حاكم أو سلطان يسجنه ولا معتوه يقطع رأسه ولا مأفون مشبوه يغتاله بالسموم. أبدع هذا الرجل أموراً لم يعرفها زماننا لأنه جاء بعدنا بقرون، فضلاً عمّا كان يتمتع به من أجواء الحرية شبه المطلقة. من المحتمل إنه ـ كشاعر إيطالي، وإيطاليا ليست بعيدة عن الشمال الإفريقي ـ سمع بكتاب رسالة الغفران أو ربما قرأ شيئاً منه مُتَرجماً إلى اللغة الطليانية، لكني أجزم أنَّ الرجل لم يقلدني في أمري ولم يتأثر بما كتبتُ في كتابي وإنَّ الفروق ما بين الكتابين لأكبر من الشُبُهات. أحسنتَ عزيزي أبا العلاء، أحسنتَ، بارك الله فيك. قد أفاجئك بالقول إنَّ دانتي ذكر في كتابه كلاًّ من القائد صلاح الدين الأيوبي والفيلسوف إبن سينا. بل وذكر كلاًّ من سمير أميس الآشورية أو البابلية ثم كليوباترا التي يُقال عنها إنها كانت تنتمي إلى آخر سلالات فراعنة مصر. وكانت معه في كتابه صديقته (بياتريس) وأُستاذه (فرجيل). قال بلهجة عتب خفيف: أفلم يكن معي صديقي إبن القارح علي بن منصور؟ وهل نسيتَ حديث الجارية التي ساعدتني في عبور الصراط المستقيم بأمر سيدتنا فاطمة الزهراء ومن ثُمَّ وهبتني إياها كيما تخدمني في الجنان؟! إعتذرتُ وطلبت الصفحَ والمغفرة.

متى نلتقي مرةً أخرى سيدي شيخ المعرة ورهين المحبسين؟ قال ذاك يتوقف على مزاج صاحبك المتنبي. كان دوماً يقول: لا مكانَ واحداً لشاعرين عظيمين ولا يجمعهما زمنٌ واحد. قلتُ أفلا يجمعهما موتٌ واحد؟ قال ذلك شأن آخر. مقاييس الآخرة والعالم الآخر تختلف عما هو مألوف ومعروف في الدنيا أو الدنيّة أو العاجلة. بلى، يجتمع الموتى وإنْ كانوا عِظاماً أو رُفاتاً للعظماء. الرميم يتوق للرميم.

 

د. عدنان الظاهر

.....................

هوامش

1- كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي (الطبعة الأولى 1990 . دار الكتب العلمية. بيروت، لبنان).

2-  ديوان سقط الزَنْد لأبي العلاء المعرّي (دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1980).

3- القرآن الكريم.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم