تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

السهروردي المقتول.. فيلسوف الإشراق (3)

محمود محمد عليلقد كان لمصير السهروردى أثره في أن يظل إنتاجه الفلسفي مختفياً لبعض الوقت، نظراً لما شاع عنه من مروق في الدين، إلا أن تلامذته قد اهتموا بتتبع أخباره، وعلى الأخص الشهرزورى، الذى ذكر في ترجمته لمصنفات السهروردى تسعة وأربعين كتاباً ورسالة، فضلاً عما ذكره من مصنفات منثورة ومنظومة تصور عبقرية السهروردى في النثر والنظم . ولم تصل إلينا معظم تلك الآثار والمصنفات التى يعددها الشهرزورى للسهرورى، اللهم إلا كتباً ورسائل نشر أقلها وما يزال أكثرها مخطوطاً حتى الآن، وتوج منه نسخ خطية تختلف كثرة وقلة في مكتبات الشرق والغرب، يضاف إلى هذا أن صحة نسبة ما يذكره الشهرزورى إلى السهروردى ما يزال في حاجة ماسة إلى تحقيق وموازنة تكشف عن وجه الحق فيها .

ومهما يكن من شئ، فإن إثبات الشهرزورى لمصنفات السهروردى يمكن أن يعد إثباتاً كلياً، إذا قيس إلى ثبوت غيره من المؤرخين والمترجمين، من أمثال أبن أبى أصيبعة، وابن خلكان، وياقوت الحموى، وحاجى خليفة، والتي من أخص خصائصها أنها جزئية ذكرت شيئاً وأغفلت أشياء، وما أغفلته كان أكثر بكثير مما ذكرته . غير أننا نجد أن محاولة الشهرزورى ليست بحثاً في العلاقة بين ترتيب كتب السهروردى وتطور فلسفته، بل إنها تعداد لكتبه ورسائله دون مراعاة لأى اعتبار تصنيفى.

أما أول من قام بمحاولة التصنيف هذه من الكتاب المحدثين فهو ماسينيون، الذى يقسم كتب السهروردى إلى ثلاثة أقسام بحسب مراحل ثلاث من حياته الفلسفية وسمت كل منهما تفكيره بطابع معين، وهذه المراحل هى:-

1- مرحلة الشباب أو " العهد الإشراقى " وتشمل الألواح العمادية، وهياكل النور أو الرسائل الصوفية، وكان ذلك بالاستناد إلى ما أورده الشهرزورى .

2- مرحلة العهد المشائى: وتشمل التلويحات واللمحات والمقاومات والمطارحات.

3- المرحلة الثالثة: وهى العهد الأخير الذى تأثر فيه بالأفلاطونية المحدثة وابن سينا، وتشمل حكمة الإشراق واعتقاد الحكماء .

ولقد فتحت محاولة " ماسينيون " باب الخوض في تصنيف كتب " السهروردى " أمام المستشرقين فذهب سبيز ختك Spies Khattak ، ليقررا أن رسائل السهروردى الصوفية والفلسفية، مثل " مؤنس العشاق " و" لغة موران " و" صفير سميرغ "، هى من أعمال السهروردى المبكرة .

إلا أن المحاولة الرصينة التى قام بها المستشرق الفرنسى الأستاذ " هنرى كوربان Henery Corbin، بعد ذلك، نقلت هذه المسألة، من بحث تاريخي لتصنيف السهروردى إلى بحث فى فلسفته والإبانة عن تطور فكره، منذ تحصيله الأول فى " مراغة " إلى امتلاك أساليب الجدل في " حلب " . كما يذهب أيضاً " هنرى كوربان " إلى أن كتب السهروردى لا يمكن أن تصنف تبعاً لمراحل سيرته، بل أن هذه المؤلفات، المتجانسة في الغاية تشير الواحدة منها إلى الأخرى بشكل ظاهر أو خفى . ولذلك اعتمد تصنيفه على الوحدة الجوهرية لآثار الشيخ، وعلى المنهج المعنوى الذى ينظم ويؤلف بين هذه الآثار في دلالتها على مثال واحد . فأهمل تصنيفه، وبالتالي التسلسل التاريخي، واعتمد الأواصر المعنوية والنفسية في تقدير المشكلة . وهو يقسم كتب السهروردى إلى أربعة أصناف:

1- صنف يشتمل على رسائل يمكن أن يطلق عليها اسم " الرسائل الاعتقادية الكبرى " وهى مكتوبة بالعربية، وقد وضعت الرسائل الثلاث الأولى: " وهى التلويحات والمقاومات والمشارع والمطارحات " . على أن تكون إعداداً وتمهيداً لدراسة الرابعة، وهى حكمة الإشراق التى يعدها السهروردى أهم مصنفاته جميعاً.

2- صنف يشتمل على طائفة من الرسائل الاعتقادية الصغرى بعضها كتب بالعربية وكتب بعضها الآخر بالفارسية، كما هو الشأن في هياكل النور ويدخل تحت هذا الصنف " الألواح العمادية " و" بستان القلوب " و" اعتقاد الحكماء " و" كلمة التصوف " و" كشف الغطاء " و" اللمحات في الحقائق " .

3- صنف يشتمل على طائفة أخرى من الرسائل وضعت في صورة أمثال وحكايات توجيهية وقصص رمزية وقصد بها الإرشاد والتوجيه، ويكاد كلها يكون مكتوباً بالفارسية إلا القليل منها، فقد كتب بالعربية، أو كتب بالعربية والفارسية، كما هو الشأن في رسالة " الغربة الغربية "، ويدخل تحت هذا الصنف: رسالة عقل، ورسالة " آواز بر جبرائيل "، وكلمات ذوقية ( = الأبراج )، ولغة موران، " مؤنس العشاق " ( = العشاق )، رسالة " درخالة طفولية "، رسالة " روزى باجماعت صوفيان "، " ورسالة الطير "، ورسالة " صفير سميرغ " .

4- صنف يشمل على مجموعة من الواردات والتقديسات التى هى أشبه ما تكون بالمزامير، وتدور حول طقوس يومية تقديساً للملائكة القائمين على أمر الكون والمخطوطات التى عثر عليها من هذا الصنف ما تزال نادرة حتى الآن . ويقول الأستاذ كوربان " إنه لم يقف منها إلا على مخطوطات استانبول.

ويساير الدكتور سيد حسين نصر  هذا الترتيب، وذلك في خمسة أقسام:-

القسم الأول: مؤلفات كلها باللغة العربية، وأهمها أربعة، منها ثلاثة عن الفلسفة المشائية: تلويحات ومقاومات ومطارحات، أما الأخير فيدور حول حكمة الإشراق .

القسم الثانى: مؤلفات مكتوب بعضها باللغة العربية وبعضها الآخر باللغة الفارسية، تتناول بالتفصيل الموضوعى الدقيق بعض الجوانب المتصلة بالمؤلفات الأولى . وهى عموماً موجزات وتشمل العناوين التالية الرئيسية: " هياكل النور، الألواح العمادية، بارتا نامة اعتقاد الحكماء، اللمحات، يزدان شناخت " التى تنسب أحياناً إلى " عين القضاه " الهمذانى وبستان القلوب الذى ينسب بدوره إلى السيد الشريف الجرجانى أحياناً بعنوان " روضة القلوب " .

القسم الثالث: مؤلفات كلها باللغة الفارسية، وهى أقاصيص وحكايات كتبت بلغة رمزية، تصف الطريق التى يجب على مبتدئى السالكين . وإتخاذها كى يصلوا إلى المعرفة الباطنية والإشراقية . وأهمها عقلى سرخ، وأوازبر جبرائيل والغربة العربية ( وهو نفسه مكتوب بالعربية )، لغة موران، رسالة في حالة الطفولية، روزى باجماعت صوفيان، ى صوفيات، رسالة في المعراج، صفير سميرغ .

القسم الرابع: مؤلفات تشتمل على شروح وترجمات لنصوص فلسفية قديمة ضمنها كتب في المدخل للمذاهب الباطنية، وينبغى أن نعد بينها ترجمته الفارسية لرسالة الطير لابن سينا، والشرح الفارسى لكتاب " الإشارات والتنبيهات " لنفس المؤلف ورسالته في حقيقة العشق التى تعتمد على رسالة أخرى لابن سينا بعنوان " رسالة العشق " وشرحه لبعض آيات القرآن ولمجموعة من الأحاديث .

القسم الخامس: مؤلفات تشتمل على صلوات وأدعية وأوراد وأذكار يسميها السهروردى الواردات والتقديسات .

ولا يشير الدكتور  سيد حسين نصر إلى تصنيف تاريخى لكتب السهروردى فهى على غرار الأستاذ " هنرى كوربان "، يقيم علاقة معنوية بين كتب السهروردى، ويصنفها بحسب تقارب المضمون .

أما الدكتور  محمد على أبو ريان، فيرى، هو أيضا، أن كل محاولة تاريخية لتصنيف كتب السهروردى تعد بعيدة كل البعد عن الروح العلمية، لأن التداخل بين أفكار هذه الكتب، وظروف تأليفها يحولان دون التصنيف المنهجى السليم . ويذهب إلى أن مؤلفات الشيخ يجب أن تصنف تصنيفاً تعليمياً . ثم ينصح القارئ أن يبدأ بقراءة " التلويحات " ثم " المقاومات " ثم " المطارحات "، وذلك قبل الشروع بقراءة " حكمة الإشراق "، وهو يرى أن تكون قراءة هذا الأخير تحت إشراف موجه مرشد هو " القائم بالكتاب "، حتى يقف المريد على بعض مبادئ " الإشراق " .

والجدير بالذكر أن السهروردى ينصح بإتباع هذا التركيب في قراءة بعض كتبه، وخاصة المطارحات فهو يقول: " وهذا الكتاب أى المطارحات ينبغى أن يقرأ قبل حكمة الإشراق، وبعد التحقيق المختصر المرسوم بالتلويحات، فإذا استحكم الباحث هذا النمط، فليشرع في الرياضيات المبرقة بحكم القيم على الإشراق، حتى يعاين بعض مبادئ الإشراق، ثم يتم له مبانى الأمور ...... وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلية، وآخره لا نهاية له " .

ومن هذا النص نجد أن الدكتور محمد على أبو ريان أراد أن يكمل افتراض ما أوصى به السهروردى، وهو لذلك يستحسن أن يقرأ المريد الرسائل أثناء قراءاته من حكمة الإشراق لأنها تساعده على مشاهدة الأنوار القاهرة . ويفطن الباحث أخيراً، إلى أن السهروردى لم يجعل " لهياكل النور " مكاناً خاصاً في ترتيب قراءة الكتاب، فيعود إلى الأخذ بطريقة الأستاذ " هنرى كوربان " في اختيار مكان له " بحسب محتوياته "، ولما كان محتوى هذا الكتاب وثيق الصلة " بما ورد في " حكمة الإشراق "، فقد وجد الدكتور محمد على أبو ريان أنه من المستحسن قراءاته قبلها مباشرة، وهكذا بدأ الدكتور  محمد على ريان تصنيفه معتمداً على نصح السهروردى في قراءة بعض كتبه، ثم انتهى إلى طريقة الأستاذ " هنرى كوربان " – في البحث عن محتويات للكتب الموضوعية التى تؤلف بينها، ثم تحديد مكانها من " حكمة الإشراق " .

ولا شك في أن كل المحاولات التى بذلت من قبل الباحثين لتصنيف كتب السهروردى تنطوى على دقة وإبداع، ومن ثم يمكن حصر مؤلفات السهروردى في مجال المنطق الإشراقى على النحو التالى: التلويحات اللوحية والعرشية، والمقاومات،والمشارع والمطارحات، واللمحات في الحقائق، وهياكل النور، وحكمة الإشراق.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم