شهادات ومذكرات

عطية أبو زيد الكشكي: عاشق التّجديد في الدّراسات القرآنية الحديثة

محمود محمد عليأعلام الفكر الإسلامي العربي، تراث خالد يتوجه كتاب الله بتاج الشرف، والعزة، والجلال، والخلود، تراث يستند عبر الزمن إلي العصر الحديث، تراث مجيد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين العراقة والتجديد، بين الفكر والأدب، بين العبقرية والخلق، بين الروح، والسلوك، والأخلاق، والعقائد والتشريع.

قصدت أن أفتتح مقالي بهذه الكلمات لأقول بأنه : خلال الأسابيع الماضية غيّب الموت الأخ والصّديق الأستاذ الدّكتور"عطية أبوزيد محجوب الكشكي" - أستاذ ورئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب – جامعة سوهاج، تاركاً سمعة وسيرة عطرة ستخلّده في قلوب من عرفوه..  صمتّ وحدي عندما عرفت الخبر الفاجع.. تعطّلت قواي، عادت بي الذّاكرة إلى مواقف كثيرة لا تنسى..  وإن مما يصبِّر النفس على الفراق، ويُهوِّن لوعة الاشتياقِ: إيمانَنا بأن الموتَ قَدَرٌ محتَّم على كل حيٍّ، لا ينجو منه صغيرٌ أو كبيرٌ، ولا غنيٌّ أو فقير، ولا شريف أو حقير، ولا حاكمٌ أو محكوم، ولا عالمٌ أو جاهل، ولا ذكرٌ أو أنثى، نؤمن بأن الموت نهايةُ الحياة الدنيا الفانية، وبداية الحياة الأخرى الباقية.. وقد حزنت حزناً كبيراً علي فراق هذا العالم الجليل  الذي كانت له مرجعية كبيرة في مجال الدراسات القرآنية، فقد كان والله الحديث معه لم يكن فقط حديثاً عن العلم فقط، ولكن حديث عن الأخلاق وعن التواضع..  لذلك أقول "إنا لله وانا اليه راجعون" .. كلمة يعجز اللسان عن التعبير عن مقدار الحزن والأسى الذي تلقينا به خبر رحيل القدوة الحسنة، والانسان الخلوق أولاً والأستاذ والعالم الجليل عطية الكشكي.

والدكتور عطية الكشكي مفكراً كبير وله وزنه وثقله في الدعوة إلي التجديد في الدراسات الإسلامية؛ حيث استطاع أن يحدد ملامح التجديد في قراءات القران بصورة نقدية ونظرية، وذلك من خلال إيمانه بمبدأ "الاجتهاد" الذي يعد في نظره أهم الخطوات العملية التي أقرها الإسلام للمساعدة على تطوير الفكر وتحريكه والركيزة الأساسية التي تمثل بداية انطلاق العقل المسلم لبناء حضارة الإسلام وثقافته على امتداد تاريخه؛ وهذا كله يكشف لنا علي أن عطية الكشكي عالم موسوعي، له طموح علمي تجسد في كتبه التي ألفها، وفي الرسائل الجامعية التي أشرف عليها، فهو من عشاق القرآن الكريم، ومن المهتمين بشؤون التفسير، والحديث،  ومختلف الدراسات الإسلامية.

كان عطية الكشكي (مع حفظ الألقاب) عندما أجلس معه وأناقشه كان يذكرني بشخصية أستاذنا الجليل الدكتور "محمد عبد الله دراز"، حيث يحمل  كلاهما بين جنبيه نفسا أبيَّة، وكانا كلاهما يتصفان أيضاً بشمائل نادرة، منها: "الفطنة، والذكاء، والأناة، والجرأة، والإقدام، والشهامة، والصلابة في الحق، ولباقة الحديث، ولين العريكة، والحدب على المرافقين"؛ علاوة علي أن كلاهما كانا يدركان قيمة الرسالة القرآنية؛ خاصة وأن القرآن الكريم حظي باهتمام لم يحظ به أي كتاب وضعي أو سماوي آخر، وقد تجلى ذلك في مظهرين، الأول: أن الاعتناء به لم يقتصر على المؤمنين به؛ وإنما شمل كذلك المتشككين والجاحدين، والثاني تواصله زمانياً ومكانياً؛ إذ لم يعرف القرآن انقطاعاً تاريخياً، فمنذ لحظة نزوله وحتى يومنا هذا تواصلت الدراسات القرآنية، واتخذ التصنيف القرآني أشكالاً متعددة أهمها: التفاسير وكتابات إعراب القرآن، ومعاني القرآن، وغريب القرآن، وأحكام القرآن وغيرها، كما لم يعرف انقطاعاً جغرافياً فقد أسهمت شتى بقاع العالم الإسلامي في الدراسات القرآنية، حتى تلك البلدان القاصية عن مركز العالم الإسلامي كالهند وروسيا وهلم جرا..

والدكتور عطية من مواليد محافظة سوهاج بمركز طما – قرية الأغانة بجمهورية مصر العربية، حيث ولد في التاسع عشر من شهر مارس عام 1965م، وقد نال مراحل التعليم الإبتدائي والإعداي والثانوي بمدينة طما، وفي المرحلة الجامعية التحق بكلية الآداب - جامعة أسيوط  (فرع سوهاج)؛ حيث حصل درجة الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية عام 1987م، وحصل أيضاً علي الماجستير في الدراسات الإسلامية " حديث نبوي" كمية الآداب-جامعة أسيوط، كما حصل علي الدكتوراه في الدراسات الإسلامية " حديث نبوي" كلية البنات-جامعة عين شمس عام 1996م، كما حصل درجة أستاذ مساعد في الدراسات الإسلامية في عام 2003م، وأخير حصوله كذلك علي درجة الأستاذية في عام 2008م. وبعد ذلك سافر للعمل في المملكة العربية السعودية بجامعة الملك سعود بالرياض من 2008 وحتي عام 2013م، وبعدها رجع مباشرة عمله بجامعة سوهاج ليعمل أستاذاً ورئيساً لقسم الدراسات  الإسلامية من 2014 وحتي وافته المنية.

وكان عطية الكشكي له إنتاج علمي متميز، نذكر منه علي سبيل المثال لا الحصر :  معجم التابعيات في الكتب الستة، وحديث عمرة بنت عبدالرحمن الأنصارية "جمع ودراسة"، والأحاديث الموقوفة في سنن أبي داود "دراسة حديثية"، والرحمة الغيثية بالترجمة الليثية، البن حجر العسقلاني، تحقيق ودراسة، وأحكام الخمع، دراسة حديثية فقهية، وتفسير محمد بن كعب القرظي، إثبات الشفاعة والرد عمى منكريها، كتاب منشور، ومسائل نافع بن الأزرق إلى ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير غريب القرآن، كتاب منشور، وقراءات النبي -صلى الله عليه وسلم- دراسة قرآنية حديثية، وكتاب الاختلاف بين قراءة يعقوب، ونافع، تأليف أبي عبد الله محمد بن شريح الرعيني، تحقيق ودراسة، والمعتزلة من السنة النبوية- بحث منشور، وطرق حديث لا نكاح إلا بولي، تخريخ ودراسة بحث منشور، و-الأحاديث التي حكم عليها الإمام الترمذي بالإرسال، دراسة استقرائية نقدية، بحث منشور، والحديث المرسل، دلالته وحجيته عند المحدثين والفقهاء والأصوليين، دراسة ونقد، بحث منشور، وقراءات النبي – صلى الله عليه وسلم - وأثرها في تفسير القرآن الكريم، والأحاديث النبوية والآثار في أساس البالغة للزمخشري، تخريج ودراسة، كتاب منشور، والأحاديث المرسلة في سنن الترمذي، دراسة ونقد، كتاب منشور.. وهلم جرا..

وفي هذا الإنتاج العلمي استطاع عطية كشكي أن ينقل البحث في الدراسات الإسلامية من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الديني لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

وثمة نقطة مهمة وجديرة بالإشارة وهي أنني في هذا المقال أحاول أن أعرب عن تقديري الكبير لجهود عطية الكشكي فى نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة، ودوره فى ترسيخ السلام العالمى، ومواجهة الفكر المتطرف، فقد كان (رحمه الله) من دعاة الوسطية الإسلامية السمحة في: العقل والنقل، السنة والبدعة، الجبر والاختيار، السلم والحرب، العلم والدين، الخلق والقانون...الخ. وقد تتبعتُ تناول الدكتور عطية الكشكي لهذه الثنائيات الكبرى بتفصيل في كتاباته؛ وبالأخص كتابه الشهير: قراءات النبي صلي الله عليه وسلم – دراسة قرآنية حديثة؛ ففي هذا الكتاب يتجلى تجديد عطية الكشكي في علوم القرآن من خلال المنهج الذي اتبعه في البرهنة على أصالة القرآن الكريم من خلال المدخل اللغوي البياني بالأساس، وهنا نجد "عطية الكشكي"، ينطلق من الدراسة التحليلية للرسالة القرآنية انطلاقا منطقياً وتاريخياً. وهذه منهجية تجديدية مفارِقة للمنهج المتوارث. ومن ثمراتها نقل القرآن من السياق الثقافي العربي، ووضعه في سياق العالمية.

يبدو هذا واضحاً إذ يؤكد لنا عطية الكشكي، كيف حاول الملحدون والمشركون ومن سار علي نهجهم قديماُ وحديثاً الطعن والتشكيك في القرآن الكريم والقراءات القرآنية، المتواترة منها، والشاذ، فها هو كما يقول عن "جولد تسيهر"، المستشرق اليهودي، الذي يصف القرآن الكريم، بالاضطراب وعدم الثبات، وهنا نجد عطية الكشكي  يستشهد بنص تسيهر القائل : " فلا يوجد كتاب تشريعي، اعترفت به طائفة دينية، اعترافاً عقدياً علي أنه نص منزل أو موحي به، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في نص القرآن".

وهنا يقول عطية الكشكي أنظروا كيف يصف هذا الملحد كتب الشرائع السماوية السابقة في نصوصها الأصلية، وهو في صفحات أخري يناقض نفسه بأن التلمود يقول بنزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد، بل حاول أن يشكك في نص القرآن الأصلي، ودفعه إلي ذلك حقده وعداؤه للإسلام والمسلمين، فيقول: " ليس هناك نص واحد للقرآن "، أما من ناحية موقفه من القراءات القرآنية كما يقول الدكتور عطية الكشكي، فهو ليس له أي دراية علمية بالقراءات القرآنية، فهو يحاول الطعن في القراءات المتواترة، وإثبات دور للقراءات الشاذة والضعيفة في إقامة النص الأصلي  في القراءات الذي أفسده النُساخ، كما يزعم،ويري أن اختلاف القراءات يرجع إلي الاختلاف في الحركات، وإلي سهو النساخ، وهو لا يعلم أن للقراءة القرآنية الصحيحة كما يقول عطية الكشكي ضوابط وأصولاً قياسية وضعها علماء المسلمين، إذا فُقد شرط منها، صارت شاذة، وأن القراءات الشاذة ليست قرآناً .

ومن هنا اتجه عطية الكشكي إلي دراسة في معظم بحوثه إلي دراسة قراءات النبي صلي الله عليه وسلم، في الإسناد والمتن، وأثرها في تفسير القرآن الكريم، لبيان الصحيح منها، والمنسوب إليه من الآحاد والشاذ، والضعيف، والمدرج، كما اتجه إلي دراسة القراءات التي لم يقم أحد بدراستها دراسة قرآنية حديثية، وهو في هذا يعلن بصريح العبارة بأنه لم يجد أحد من القدماء استوقفته دراسة قراءات النبي صلي الله عليه وسلم في كافة وجوهها، فلم أجد في مصادر القراءات الشاذة والمتواترة في الدراسة واحداً، يخصص دراسة مستقلة لها، كما أن هذه القراءات المنسوبة للنبي صلي الله عليه وسلم، في كتب التفسير، واللغة، خاصة، مروية بألفاظ الشك والتمريض، أما المرويات الموجودة في كتب الحديث، فقد جاءت في معظمها ضعيفة، وإنما كانت الدراسات السابقة الخاصة بقراءات النبي صلي الله عليه وسلم، دراسات لغوية تناولت بعض الظواهر اللغوية في نماذج من هذه القراءات وسبب قوي دفعني إلي الكتابة في هذا الموضوع وهو رغبتي في خدمة كتاب الله عز وجل . لذلك قمت بجمع قراءات النبي صلي الله عليه وسلم، من كتب الحديث، والتفسير، والقراءات، ومعاني القرآن وإعرابه، وكتب اللغة، وإني لأزعم أني قد قمت بجمعها كلها فيما تيسر لي من  المصادر العلمية، وقد كان منهجي هو ترتيب القراءات حسب ترتيب مصحف الإمام، ثم أذكر قراءة الجمهور، أو ما اختلف فيه القراء، ثم أذكر قراءة النبي صلي الله عليه وسلم، وبعد ذلك أذكر التوجيهات اللغوية، ثم الحكم علي إسناد القراءة، وأثرها في تفسير القرآن، أما إذا اختلف القُراء سواء أكانوا من المشهورين  أو من غيرهم، ذكرت قراءة كل قارئ وتوجيهها والحكم عليها وبيان أثرها في تفسير القرآن الكريم، وقد اتبعت منهج المحدثين في دراسة الإسناد والمتن، والحكم عليهما، وأيضاً توثيق القراءة، من جميع كتب الحديث والتفسير، وكتب القراءات، ومعاني القرآن، واللغة، وما تيسر لي .

وفي النهاية نقول تحية طيبة لعطية الكشكي الذي خطفته المنية في ريعان شبابه، والذي يمثل لنا نموذجاً فذاً للعالم الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله " عطية الكشكي " الذى رحل عن عالمنا تاركاً لنا إرثاً عظيماً من الدراسات القرآنية ممثلاً في مئات من الطلبة والعديد من الكتب والمقالات والأبحاث العلمية ... فهل نستفيد من هذا الإرث؟ أم نكتفي بقراءته والترحم على عصر جميل قد مضى؟ أم نستفيد منه لبناء المستقبل؟

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم