شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: "ولادة بنت المستكفي".. غادة الأمويين في عصر المرابطين (1)

محمود محمد عليتذكر كتب التاريخ الأدبي والشعري عدداً من شواعر العرب في الجاهلية والإسلام، بلغن حمسمائة وخمس شواعر، وربما يزيد عن ذلك، ونعلم جميعاً أن التراث الشعري الموروث قد أرخ لآلاف الشعراء العرب ممن طوقوا كل أبواب الشعراء، بدء بالمعلقات وحتي عصرنا الحاضر، وبالرغم من أن المرأة كانت مخلوقاً مهضوم الحقوق تورث مع المال والماشية، تُوءد وهي طفلة، وتسبى في الحروب .. وتحرم من الميراث، إلا أن عدداً كبيراً من النساء نبغن في الشعر شأنهن شأن الرجال، وطرقن أبواب المدح والرثاء، والهجاء، والغزل، والحكمة، والحماسة، والتحزب السياسي (1).

وقد سايرن كبار الشعراء في الفصحاة، والمتانة، وصحة اللغة، فإذا كان للنساء كل هذا الأثر، ولهن هذه النسبة الكبيرة من الشعر .. فلطالما قرأنا عن شاعر " فحل" أو فحول الشعراء، فأستميح القارئ عذراً أن أقول مع بعض الباحثين " شعر الشواعر"  (2)، حيث أثبتن أن فحولة اللغة والشعر ليست قصراُ علي الشعراء، وإن الأمثلة واضحة كما في ولادة بنت المسكتفي والذي أطلق عليها في هذا المقال "غادة الأندلس في عصر المرابطين".

وهي أندلسية وشاعرة عربية من بيت الخلافة الأموية في الأندلس، هي ابنة الخليفة المستكفي بالله، اُشتهرت بالفصاحة والشعر، وكان لها مجلس مشهود في قرطبة يؤمه الأعيان والشعراء ليتحدثوا في شؤون الشعر والأدب،وقد عرفت الجمال الفاتن، والشعر المتقن، فهي احدي الشاعرات الشهيرات في تاريخ الندلس في عهد المرابطين، بل وأكثرهن شهرنة وجمالاً، واقترن اسمها بالعديد ممن حولها؛ فصاحبتها "مُهجة القُرطُبية"، وهي شاعرة لا تقل عنها جمالا، ولُقِّبَت بـ «مهجة صاحبة ولادة".

قال عنها «لسان الدين بن الخطيب» شاعر الأندلس ومؤرخها في كتابه الجامع «اللمحة البدرية في الأخبار النصرية»: «.. والأندلسيات جميلات فاتنات، موصوفات باعتدال السِّمن وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب الشذا، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المجاورة، وقد بلغن من التفنن في الزينة، والتظاهر بين المصبغات، والتنافس في الذهبيات والديباجات، والتماجن في أشكال الحلى.. إلى غاية بعيدة. فتبصرهن أيام الجمع كأنهن الأزهار المتفتحة في البطاح الكريمة تحت الأهوية المعتدلة!». وسبب ذلك أن حكام العرب والبربر شغفهم جمال فتيات أوروبا، وكان ملوك غرناطة يتزوجون بجاريات شقراوات، ذوات عيون زرقاوات، يتنافسن في اجتذاب رجال الفكر والسياسة والشعراء والفنانين، فكانت أمهات معظم أولئك الملوك من أصل أوروبي، ونالت المرأة هذه المكانة لأن القادة والمشاهير من أهل الأندلس كانوا يبالغون في كرمهن وتدليلهن ويسبغون عليهن كل صنوف الرعاية والعناية (3).

وكان لها (صالون أدبي بقرطبة) لم يحضره أديب أو شاعر إلا هام بها فهي تذكرنا (بمي زيادة) في العصر الحديث.. غير أن حياة (ولادة) أكثر سعادة ومرحاً وإثارة من حياة (مي) فقد كانت ابنة حاكم قرطبة، وعاشت طويلاً، وهام بها كثيرون أشهرهم ابن زيدون الذي أحبها بكل جوارحه وقال فيها أجمل أشعاره ومنها روائعه: (

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً.. والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا

ودّع الصبر محبٌ ودّعك.. ذائع من سرِّه ماستودعك

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا

لم يعرف المؤرخون موعد ولادتها بشكل دقيق، ويقال أنها ولدت عام ألف وواحد للميلاد في مدينة قرطبة في الأندلس، إلا أنهم أكدوا جميعاً أنها عاشت لفترة طويلة وتوفيت وعمرها ما بين الثمانين، والخمسة والثمانين عاماً . كانت ولادة في المغرب تعد كعلية بالمشرق إلا أن ولادة تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر والنادر، وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صفة في الغناء، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها، فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها.

هي ولادة بنت محمد المستكفي بالله بن عبد الرحمن .. أمها جارية أسبانية اسمها " سكرا"، وقد ورثت منها بشرتها البيضاء، وشعرها الأصخب،وعينها الزرقاوين، وكانت تخالط الشعراء في زمانها وتجالسهم، بل وتنافسهم، ووالدها هو " محمد بن عبد الرحمن الناصري " الملقب بالمستكفي بالله (أحد أضعف حكام الأندلس في فترة إنهيار العصر الأموي والذي قام علي أنقاضه عصر ملوك الطوائف)، وقد تولي الخلافة سنة 414هـ  قال عنه ابن بسام في الذخيرة: " وكانت دولته سبعة عشر شهراً صعابا نكدات، سود مشوهات، أرسله الله علي أهل قرطبة محنة وبلية، إذ كان منذ عرف غفلاً عطلاً منقطعاً إلي البطالة، مجبولاً علي الجهالة، عاطلاً علي كل خلة تدل علي فضيلة" (4)؛ولم تدل سلطة أبيها ولم تدم سلطة أبيها في الحكم، فبعد سبعة عشر شهرا حسب قول ابن بسام من ولايته ثار عليه أهل قرطبة، ففر مستخفياً بين امرأتين إلي مدينة أفليج مع بعض رجاله، فاتهموه بمال فاغتالوه وقتلوه، ولما خلع المستكفي ثم قتل (416هـ) كانت ولادة في شرخ شبابها، وذروة شهرتها، وقد شهرت مصرع آبائها، وانهيار دولتهم، وتريع أمراء الطوائف آرائكهم، وقد بخلت علينا المصادر التي أرخت لحياتها بذكر السنة التي ولدة فيها شاعرتنا، وذكرت السنة التي توفيت فيها، وقد اتفقت علي إنها توفيت يوم الأربعاء سنة 485هـ (5).

وكانت ولادة قد أخذت قسطا وافرا من التعليم قبل وفاة أبيها، حيث حضر لها العلماء والمثقفين، وحدب علي تربيتها، ولكنها ورثت عنه وعن امها الشريرة ميلها إلي المرح، والتحرر من قيود المجتمع والجرأة علي الفساد ؛ وهكذا تحررت من الأصفاد الاجتماعية بعد موت أبيها، فسفرت عن وجهها، وفتحت أبواب قصرها للأدباء، والشعراء، ورجال الفكر، فصار (صالونا) أدبياً يتهافت عليه الشعراء والكتاب، فكان مجلسها بقرطبة منتدي لأحرار المصر، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب علي حلاوة عشرتها، إلي سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك لعلو ونصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب (6)؛ وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوقهم في البراعة،  ولذلك عاشت في ثراء وبزخ الأميرات،وحباها الله بموهبة شعرية فذة وكانت أيضا تجيد وتستمتع بسيطرتها العاطفية علي الجميع، مما دفع بعض المتطرفين إلي تصويرها وكانها احدي فتيات الهوي والمتعة، إلا أن عددا كبيرا من الباحثين وصفوها بالعفة والطهارة، وأنها كانت بعيدة كل البعد عن الإسفاف والتبذل .

وكانت تصاحبها الشاعرة التي لا تقل عنها جمالاً " مهجة القرطبية"، والتس اُشتهرت بصحبتها لولادة، ولقبت بمهجة صاحبة ولادة، حتي أبوها المستكفي بالله بالرغم من أنه الخليفة، إلا أنه اُشتهر ولُقب بوالد ولادة، وكانت تحظي بحب واحترام كبيرين لثقافتها، ولفصاحتها الشعرية، ولجمالها، عكس أبيها الخليفة المستكفي بالله سيئ السمعة، والذي وصفه أبو حيان التوحيدي قائلاً:" قائلاً: "سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، ورجل بهذه الصفات لم يكن يتوقع منه إنجاب أميرة شجاعة، كريمة الحسن واليد، وشاعرة مميزة في مجالس الأدب بقرطبة، لكن هذا ما حدث، فأتت ابنته ولادة على عكسه تمامًا؛ امرأة لا مثيل بجمالها، وثقافتها، وفصاحتها، وحكاياتها الكثيرة مع العشق وابن زيدون، طيرت شهرتها في عصرها، ونقلتها إلى عصرنا؛ لتصبح من أشهر النساء في التراث العربي الأمس واليوم" (7).

كانت ولادة من أروع الشعراء والأدباء في ومانها، الأميرة الأندلسية الجميلة، والشاعرة العربية الفصيحة الأصيلة، والتي احتفي بها مؤرخوا الأندلس أكثر من أية شخصية نسائية أخري في عصرها، وكانت لها مكانة مميزة في الشعر، وقد اُشتهرت ببيتين شهيرين من الشعر، قيل أنها كانت تكتب كل واحد منهما علي جهة من ثوبها بماء الذهب:

أنا واللَه أصلح للمعالي.. وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها

وَأمكنُ عاشقي من صحن خدّي.. وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها

وقد تنافس على حب هذه الأميرة الجميلة كثيرون، ولكن أشهر من نافس ابن زيدون في حب ولادة هو (ابن عبدوس) وهو وزير كابن زويدون ولكن الأخير شاعر مبدع فكاد له (ابن عبدوس) وكذب عليه حتى سجن ابن زويدون، وحين خرج أبدع رسائل الهجاء في ابن عبدوس والذي يظهر أن ولادة كانت سعيدة بهذا التنافس في حبها تذكي ناره بدلالها وتشعل النار في قلوب عشاقها، وقد أضيف لها كثير من الروايات المختلفة وحيكت حولها القصص.

قال عنها ابن بسّام:(.. كانت في نساء أهل زمانها، واحدة من أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، كانت درة يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وسهولة حجّابها، وكثرة منتابها، يخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها ــ سمح الله لها، وتغمد زللها ــ أطرحت التحصيل وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاراتها بلذاتها..) إلخ (8).

وكتب عنها "المقري التلمساني" في سفره "نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب» قائلا: «.. وكانت واحدة زمانها المشار إليها في أوانها حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة" (9).

وهكذا كان منتدي ولادة، تجمع فيه بين الجمال والأدب، والذوق، وأنيق الشعر، ورفيع الغناء، وحسن المعشر، ورواء الحديث، وحلاوة الرد، وحرارة النكتة، حتي صح أن تُعد من كبيرات ربات المجالس الأدبية، أو الصالونات في الأدب العربي، بل في الأدب العالمي، فسبقت به أديبات فرنسا بعدة قرون، فولادة فتحت صالونها الأدبي في قرطبة في القرن الحادي عشر الميلادي، بينما عرفت فرنسا هذه الصالونات لأول مرة في القرن السابع عشر، وكثرت في القرن الثامن عشر (10) .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........

1- سلامة، هاشم صالح: شواعر العرب، المجلة الثقافية، العدد 51، 2000، ص 38.

2- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

3- لسان الدين بن الخطيب: اللمحة البدرية في الأخبار النصرية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1929، ص 233.

4- ابن بسام: الذخيرة، القسم الأول، المجلد الأول، تحقيق إحسان عباس، بيروت، بدون تاريخ، ص 434-437.

5- سعد بن حسين وفلاقة: ولادة بنت المستكفي الاميرة الشاعرة، جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدة، المجلد 9، الجزء 21، 2005، ص 346.

6- المرجع نفسه، ص 347.

7- أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والموأنسة، الجزء الثاني، المكتبة العصرية، بيروت، 1424هـ، ص 177.

8- ابن بسام: الذخيرة 1/376 .

9- شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني: نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ص 344.

10- المرجع نفسه، ص 348.

 

في المثقف اليوم