قضايا

محمود محمد علي: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب سرقت!

محمود محمد عليعزيزي القاري هل تتذكر معي قصيدة الأصمعي الشهيرة، والمسماة بقصيدة "صَوتُ صَفيرِ البُلْبُلِ"؟.. وهل تتذكر الأبعاد الحقيقية لها ؟.. كان الخليفة العباسي الشهير "أبو جعفر المنصور"، يملك من موهبة حفظ الشعر ما لا يملكه أحد غيره، فكان حينما يسمع أي قصيدة يحفظها كاملة من أول مرة، وكان لديه غلام إذا سمع القصيدة مرتين يحفظ القصيدة كاملة، كما كانت لديه جارية إذا سمعتها ثلاث مرات تحفظها كاملة، فقام أبو جعفر بعمل مسابقة شعرية، أعلن فيها أن من يستطيع أن يؤلف قصيدة ويقدمها بالمسابقة، فسوف ينال وزن ما كتبه ذهباً، فإذا كتبها علي كتاب سيتم وزن الكتاب أو ما شابه ذلك .. بدأ الشعراء يؤلفون القصائد والأشعار ويتدفقون من كل حدب وصوب للتقدم  بالمسابقة .. وبعد أن ينتهي الشاعر من القاء القصيدة، يقوم الخليفة بسرد القصيدة إليه، ثم يشير للغلام والجارية فيؤكدوا عليه قوله بأن القصيدة قد قيلت من قبل، وهي في الواقع من تأليفه.. وكان يعمل الخليفة هذا مع كل الشعراء، فأصيب الشعراء بالخيبة والإحباط؛ خاصة أن الخليفة كان قد وضع مكافأة للقصيدة التي لا يستطيع سردها وزن ما كُتبت عليه ذهباً.. فسمع الأصمعي بهذا الأمر وأدرك علي الفور أن هناك حيلة، فكتب ما كتب قصيدته الشهيرة "صَوتُ صَفيرِ البُلْبُلِ" ليكشف حقيقة هذه الحيلة.

قصدت أن أسرد حيثيات قصيدة "صَوتُ صَفيرِ البُلْبُلِ" للأصمعي لأعلن أن هناك أستاتذة عرب - عظام - تشهد لهم الجامعات الأوربية والأمريكية بالتفوق والنبوغ، قد عاشوا مثل هذه الحيلة التي لجأ إليها أبو جعفر المنصور، ولكن ليس للتسلية،وإنما لسرقة أعمالهم وجهودهم من قبل زملائهم المتنطعين والعاجزين عن الإبداع .. هؤلاء الأساتذة العظام عندما يشرعون في أبحاثهم يهرعون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي للسعي من أجل الحصول علي آراء بعض زملائهم الأكاديميين في القضية التي يبحثون عنها، وإذا بهم يتفاجئون بأن أحد زملائهم يأخذ الفكرة والمفهوم ثم لا ينام إلا بعد ان يقوم بتدبيج مقالة تحت نفس العنوان ونفس الفكرة ونفس المسمى ونفس الموضوع.

ولن أنسي أنه في في الأسبوع الماضي، وبالأخص في الثامن عشر من شهر مارس الجاري لعام 2021،  الرسالة التي أرسلها لي صديقي الأستاذ الدكتور "علي أسعد  وطفه" (أستاذ علم الاجتماع التربوي بكلية التربية – جامعة الكويت) علي  الواتس، وكان عنوانها:" علي وطفه: لشكوى لله - المضحك المبكي "، وفي هذه الرسالة قال د. وطفه:" يشكو هذا العالم الأكاديمي الذي نعيش فيه عالم يعاني من الهيستيريا والجنون المعرفي - غابت القيمة الأخلاقية للعمل الأكاديمي - مذ بدأت بالحصول على آراء بعض الأكاديميين العرب في قضية الأمية الأكاديمية - بعضهم اغتنم الفرصة ليلتقط شرحي للموضوع وينشره في مقالة - حدث الأمر عدة مرات وبينهم كاتب كبير ومعروف لن أذكر اسمه - والآن بدأت بجمع المعلومات عن الفارق بين جيلين أكاديميين فبدأت صولة جديدة من السيطرة - زملاؤنا يأخذون الفكرة والمفهوم ثم لا يستطيعون النوم حتى يقوموا بتدبيج مقالة تحت نفس العنوان ونفس الفكرة ونفس المسمى ونفس  الموضوع ؛  والهدف هو السبق والمصادرة على المطلوب، وكأن الواحد منهم يريد أن يقول هذه فكرتي وهذا موضوعي -  ومع أن  المطلوب منهم أن يقدم رايا في قضية فإذ به يبادر ليكتب  مقالة يسرق فيها محتوى الفكرة ومضمونها ومفهومها .

ثم يستطرد الدكتور علي وطفه  فيقول:" عالم غريب يا أخوان - عالم لم يعد فيه للعلم وأخلاقه أي  قيمة أو فهم - السرقة الاغتصاب الفكري، المصادرة الاستباق، الاختطاف الذهني - علما بأن العالم يفيض بملايين الموضوعات الجديدة - ولكنهم  بعضهم ألف السرقة والمصادرة والسبق - يا جماعة ما هكذا تكون الأخلاق العلمية - أن أسرق الفكرة والموضوع والمفهوم من زميل آمنني وطلب مني رأيا في موضوع يعمل عليه مدة سنوات لأقوم بلطشه - طبعا هم يعتقدون بأن هذا الأمر يعطيهم سمة الذكاء والتفوق والنجاح وهذا خطأ كبير  - أقولها واعتذر في الوقت نفسه - نحن نعيش اليوم مع زمرة من الأكاديميين الذي أعمى الله على قلوبهم وأبصارهم - زمرة من المغفلين الذين إذا  ضرب الحذاء بوجههم صاح الحذاء بأي ذنب أضرب..  والسلام عليكم .

وعقب قراءتي لهذا الكلام حزنت حزنا شديداً، وأحسست  بغبن لم يحس به أحد، فأنا أعلم جيدا أنه قد تزايدت في واقعنا المعاصر مثل هذه السرقات العلمية والاختلاسات البحثية في الأوساط الأكاديمية بشكل رهيب في السنوات الأخيرة، وصاحب ذلك جدل حول الأسباب الحقيقة لاستفحال الظاهر، فبين من يرجع الأمر لغياب الثقافة البحثية والأخلاقيات لدي الباحثين، إلي من يعزو الأمر للجهل بفحوى وماهية السطو والسرقات العلمية وغير ذلك من الأسباب المنهجية والمبررات الموضوعية (1)، كان لزاماً هنا في هذا المقال أن أطرح إشكالية السرقات العلمية، ومعالجتها كسبيل للحد منها والتقليل من مخاطرها علي التطوير البحثي والتنمية المجتمعية كانعكاس مباشر لها .

فالسرقة العلمية تعد من المشاكل الشائكة والمنتشرة بكثرة في البيئة الجامعية، فهي لا تشكل ظاهرة حديثة كما يتبادر إلي أذهان الكثيرين، بل تعود إلي عصر التدوين بحيث أطلقت حولها الكثير من المفاهيم، مثل السرقة، والغش، الاقتباس، التوارد، التضمن، التناص، وغيرها .

بيد أن هذه الظاهرة استفحلت في الآونة الأخيرة، وتفاقمت في الأوساط الجامعية العربية، وحتي الوطنية، ولم تقتصر علي أبحاث التخرج والمؤلفات فحسب، بل امتدت إلي المداخلات العلمية والمقالات مما أساء للبحث العلمي بشكل ملحوظ وعلي مصداقية المؤسسات البحثية ومراكز البحث علي وجه التحديد (2).

وتزامنا مع التطور المنقطع النظير الذي يشهده العالم في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال، أصبحت السرقة العلمية من أهم المشاكل الأخلاقية المعقدة والمتعددة الوجوه في البيئة الجامعية، وبناءً علي ذلك يمكن القول بأن الحالة التي تعرض لها أستاذنا د. وطفه تقع ضمن ما يسمي " سرقة أداة بحثية لباحث آخر ونسبتها إلي نفسه"، وهذه النوعية من السرقات تقوم علي اللجوء إلي عمليات السطو علي أفكار ومبتكرات الغير وتزييفها، مع التعمد إلي تمويه الباحث والقارئ بالاستشهاد، أو الاقتباس من مراجع بعيدة عن أصول الأفكار والمراجع المسروقة، فإذا انكشف أمره أخذ يبرر ذلك بتوارد الخواطر والأفكار، حتي وإن وقع الحافر علي الحافر، بالإضافة إلي أنه لا يتردد عن إيجاد حيل دفاعية واهية، ومع ضعف تلك الحيل، إلا أنها قد تؤدي في الغالب إلي إعادة حق المسطو عليه، وربما أدت إلي إحجام المبدعين عن الاستمرار في إبداعاتهم الفكرية، أو الحد منها (3).

إن هؤلاء المتسلقون يريدون أن يصعدون علي أكتاف الجادين المبدعين، فيسطون علي أفكارهم وابتكاراتهم، وأعمالهم وينسبونها إلي أنفسهم دون اكتراث بالقيم الخلقية والمبادئ العلمية المتعارف عليها عند علماء المنهجية في مختلف حقول المعرفة (4).

ولعله من نافلة القول التأكيد علي أن الآراء حول موضوع السرقات الأكاديمية متعددة، والأفكار نحوها متنوعة، فهي قضية قديمة جديدة في أناً واحد، قديمة لأن ظاهرة الانتحال عرفت منذ القدم، حيث تزخر كتب التراث العربي بأعمال أدبية نسبت إلي غير أهلها، وجديدة لأنها اتخذت أبعاداً لم تكن معروفة من قبل، إذ تقدمت التقنية المعلوماتية بسرعة مذهلة ، فآلات التصوير، وبرامج الحاسوبات الآلية سهلت نقل المعلومات، ومكنت منتهكي الأمانة العلمية في زيادة رصيدهم من في هذا الجانب، كما أن كثرة انتشار دور النشر والتأليف، ومكاتب الخدمات البحثية، أو ما يسمي خدمات الباحث العلمي، أدت إلي صعوبة الحد من كشف وانتشار هذه الظاهرة (5).

إن المشكلة التي وقع ضحيتها د. وطفة مشكلة أخلاقية تقع تحت ما يسمي بـ "خيانة الأمانة العملية"، وخائن الأمانة العلمية هو ذلك الشخص الذي لا ينسب القول لقائله ولا يذكر لصاحب الفكرة المبدعة سبقه وفضله، ويدعي لنفسه ما ليس له،  وقد يسرق أحدهم فكرة عن آخر أعجبته فيحاول صياغتها بعباراته، ولا يبقيها بعبارة من سرقها منه، دفعا أن يكتشف أمره، أما أن يسرق مدعٍ للتأليف مُؤلَّفاً بأكمله، فهذا لون من السرقات غير معهود إلا في هذا العصر، الذي غابت فيه القيم وهوت فيه الأخلاق عند بعض الناس، وابتعدوا فيه عن الأمانة، التي أمر الله بأن يتصف بها كل مؤمن، فلا يدعي ما لم يبدعه، ولا ينسبه لنفسه (6).

ولذلك علينا أن نتنبه أن مثل هؤلاء المنتحلون سيعرضون مجتمعنا العربي لهزات عنيفة تمس تماسكه، وتعطل تطوره، والتاريخ خير شاهد ودليل علي ذلك، إذ قاد هؤلاء  مجتمعنا العربي من قبل إلي الصدام والتنافر، حتي أضحي علي جرف هار كلما ثارت قضية فيها اختلاف من أي لون كانت، والعصور التي يكثر فيها هؤلاء الأدعياء تكثر فيها سرقة من هذا اللون، فيأخذ العجز فكرة غيره وينسبها لنفسه، وهو أمر خطير جداً.

وفي نهاية هذا المقال لا أملك هنا إلا النصيحة، حيث أذكر هؤلاء المنتحلون بالأمانة العلمية، وعندما نلقي نظرة عاجلة علي تاريخ الأمانة العلمية، ونظر المسلمين إليها، نجد انهم عنوا عناية خاصة تفوق الوصف والتقدير، وذلك لأثرها البالغ في حفظ حقوق العلماء والاعتراف بسبقهم وفضلهم إذا ما نقل عنهم أو اقتبس منهم.. وقد جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة حاثة العلماء علي التزامها وأخذ النفس بها في جميع شئونهم العلمية علي التزامها حديثا ورواية وكتابة وتأليفا وتعلماً وتعليماً، يقول الحق تبارك وتعالي " ولا تقف ما ليس لك به علم " . ويقول: " وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" . ويقول الرسول صلي الله عليه وسلم:" من كذب علي متعمدا فليتبؤأ مقعده من النار" ؛ وقد كانت سيرة علماء المسلمين العلمي مفخرة من مفاخر التاريخ في الأمانة والدقة، ومضرب المثل يزهو بها العلم ويعتز بها العلماء المخلصون الذين تبرأ نفوسهم وأعمالهم من شبهات التدليس والكذب والسرقة.. وقد دفعتهم تلك الأمانة إلي أن يضعوا لها البرامج ويؤلفوا فيها الكتب اللازمة ويتحملوا البرامج ويؤلفوا فيها الكتب اللازمة ويتحملوا في سبيلها صعوبات الطريق، ومشاق السفر، حيث كان واحدهم يرحل الأسابيع والأشهر في طلب التثبت من كلمة وقعت له ولم يكن قد سمعها، أو حديث روُي له من طريق لم يروها (7) .

وأخيراً أقول: حمي الله مجتمعنا من خائني الأمانة العملية، ويسر له المخلصين الصادقين الأمناء، الذين يحفظون له أمنه وأمانه، ويسعون لرقيه وتقدمه ، فهو ما نرجوه والله ولي التوفيق.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة  وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.......................

الهوامش

1-عبد الوهاب بلعباس: المرجعيات الموجهة لأخلاقيات البحث العلمي والنزاهة العلمية، جامعة الإسراء، العدد الأول، 2010، ص 11.

2-فاطمة السايح: السرقات العلمية وسبل مكافحتها: الحالة الجزائرية أنموذج، مجلة العلوم الإنساني، المركز الجامعي علي كافي تندوق، الإصدار 2، 2017، ص 234.

4- علي بن سعد محمد القرني: طرق انتهاك الأمانة العلمية، رسالة الخليج العربي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، س18، ع64، 1997، ص 93.

4-نفس المرجع، ص 94.

5- نفس المرجع، ص 93.

6- عبد الله فراج الشريف: صور من الخيانة العلمية، الرابط https://www.al-madina.com/article/135721

7- صالح بن عبد الله: الأمانة العلمية: أثرها وأهميته، رسالة الطالب المسلم، جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية - عمادة شؤون الطلاب، العدد الثاني، 1978م، ص 12-13.

 

 

في المثقف اليوم