قضايا

خصص جان جاك روسو الفصل الأخير من كتابه «العقد الاجتماعي» لاقتراح غريب نوعاً ما، وهو «الدين المدني». كان مقدراً لروسو (1712 - 1778) أن يصبح قسيساً، لكن أقداره ساقته نحو الفلسفة السياسية، فدوَّن واحداً من أهم النصوص في تاريخ العالم الحديث، أعني «العقد الاجتماعي» الذي أطلق مدرسة في علم السياسة، كتب فيها وحولها مئات الدراسات، بمختلف اللغات.

في أول الأمر، أجمع الكل على رفض الفكرة: الكنيسة اعتبرتها حيلةً لإلغائها كلياً، من خلال إقصائها عن مبرر وجودها الوحيد. العلمانيون اعتبروها مناورة لترسيخ هيمنة الكنيسة على المجتمع، من خلال تبني الدولة للدين (ولو بنسخة مخففة). أما عامة الناس فتساءلوا: ما الداعي لدين جديد، طالما لا تزال الكاثوليكية على قيد الحياة؟

في المقابل، قال روسو إنه لا يتحدث عن دين الكنيسة. ثمة أربعة مستويات للإيمان: أولها «دين الكهنة»، الذي يجهّز الإنسان لما بعد الموت، وهذا ليس موضع نقاش في حقل السياسة؛ لأنه – من حيث المبدأ – لا يتعلق بالدنيا. الثاني هو «دين الإنسان» الذي يركز على الفضائل الأخلاقية وتزكية النفس. وهذا ما تسعى إليه الأديان كافة، في مختلف البلدان والأزمان. الثالث هو «دين المواطن»، وهو قريب جداً من فكرة القانون الذي تفرضه الحكومة على الناس، فهو محدد جغرافياً بمدى سلطة الدولة، وليس له وجود خارجها. هذا الدين تحرسه الدولة وتفرضه على مواطنيها بقوة القانون. أما الرابع فهو «الدين المدني» الذي يمثل خلفية يرجع إليها المشرّع حين يدعو المواطنين للالتزام بالقانون. هذه الفكرة تشابه كما أظن مفهوم «نظام الملة» الذي يذكر أحياناً في سياق الحديث عن التجربة التاريخية الإسلامية. وهو يشير إلى مجموعة الأعراف والنظم التي جاء بها الدين أو التي ابتكرها المجتمع وطبَّقها لتنظيم حياته اليومية، واعتُبرت جزءاً من النظام الذي يجب على كل الناس رعايته؛ كي لا ينفرط الجمع أو يتضرر المجتمع.

السؤال الذي كان يشغل بال روسو حين كتب عن «الدين المدني» هو: إذا قالت الدولة للناس إنهم أحرار في التفكير والتعبير عن آرائهم، أحرار في الاعتقاد وممارسة العبادة، فما الذي يحملهم على الالتزام بالقانون الذي يقيدهم؟

كان روسو قد قال أولاً إن الإنسان ميال بطبعه نحو فعل الخير، وإنه سيلتزم – بمحض إرادته - بالقانون الذي اختار أن يشارك في إنشائه من خلال «العقد الاجتماعي». لكن يبدو أنه شعر لاحقاً بأن المجتمع لن يخلو من خلاف، ربما ينال تفسير القانون أو مقاصده. وبالتالي، فقد لا يكون القانون سلاحاً حاسماً، إلا إذا سمحنا للدولة أن تفرض سلطانها على الجميع، حتى لو كانت هي طرفاً في الخلاف، بمعنى أن تكون الخصم والحكم في آن.

لحل هذا الإشكال؛ وضع روسو فكرة «الدين المدني»، الذي يشكّل خلفية تدعم القانون من جهة، وتشجع الناس على المشاركة في الحياة السياسية من جهة أخرى. إن مشاركة عامة الناس في الحياة العامة، سوف تضمن قدراً معتبراً من الالتزام بالقانون وتطويره أيضاً.

إذا أخذنا هذا المعنى في الاعتبار، فإن «الدين المدني» الذي تحدث عنه روسو ليس نظيراً للدين الذي نعرفه، ليس شبيهاً ولا مزاحماً له. إنه أقرب ما يكون إلى تبرير أخلاقي للقانون، يستلهم الروحية العامة للدين، أي كونه دعوة للفضيلة وسمو النفس ومحبة الغير وعدم الاستئثار بالمنافع. ومن هنا قال روسو إن ديناً كهذا، ينبغي أن يكون بسيطاً، مرتبطاً بالقيم الأساسية التي يعرفها المجتمع ويرغب فيها، غير قابل للاحتكار ولا مزاحمة الانتماءات الدينية الأخرى.

لا بد أن بعض القراء يبتسمون الآن في سرهم، ويتساءلون: هل يمكن لدين كهذا أن يوجد في واقع الحياة؟

لعل روسو سيجيبهم لو كان حياً. لكنه - للأسف - لم يعد معنا.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

دانتي اليغيري هو شاعر ايطالي من أواخر القرون الوسطى، اشتهر بقصيدته الملحمية (الكوميديا الالهية). في هذه الملحمة، يناقش دانتي أفكارا مثل العدالة، كيف يجب ان يُحكم البلد، وكيف يمكن الوصول الى مجتمع مثالي – وهي أفكار لازال السياسيون يناقشونها حتى اليوم. يستخدم دانتي القصص الرمزية ليعبّرعن رؤاه حول موضوعات مثل السلطة، وما اذا كنا نستطيع الثقة بالقادة ام لا، وكيف يمكن ان يعيش جميع أفراد المجتمع مع بعضهم بانسجام. اذاً، ما الذي يخلق نظاما جيدا للحكم، طبقا لدانتي؟

منْ هو دانتي؟

ولد الشاعر الايطالي دانتي عام 1265 في فلورنسا، حين كانت جزءاً من الامبراطورية الرومانية المجيدة. ورغم ان هناك القليل ما يُعرف عن حياته المبكرة، لكن لا شك انه أصبح من أشهر الكتاب الايطاليين. أفضل عمل له هو (الكوميديا الالهية) بالأصل سميت (الكوميديا). تلقّى دانتي تعليمه في الادب الكلاسيكي وكان مشاركاً بعمق في السياسة المعاصرة – هذا المزيج خلق تناقضا ثريا طوال حياته وأعماله.

ومع ان دانتي ساند بقوة استقلال فلورنسا وكان عضوا في جماعة جيلف Guelph (التي ساندت البابوية ضد الامبراطور الروماني)، لكن نشاطه السياسي قاده للنفي عن فلورنسا بدءاً من عام 1302. هذه الفترة خارج بلده الأصلي أثّرت بعمق في رسم ملامح حياته، وهو ما تجلّى في الكثير من كتاباته. أثناء نفيه، سافر دانتي لمختلف الأماكن في ايطاليا. هنا، هو أنهى معظم أعماله الهامة بما في ذلك الكوميديا الالهية. انجازاته الادبية لعبت دورا كبيرا في تأسيس اللهجة التوسكانية التي كتب فيها كنموذج للّغة الايطالية.

يمكن ايضا العثور على نقاشات مفصلة في اللغة والعلوم والفلسفة السياسية في أعماله الاخرى، مثل (حول الفصاحة في الحديث العام) و (حول الملكية). توفي دانتي عام 1321 في رافينا التي أمضى بها السنوات الأخيرة من حياته.

السياق التاريخي والسياسي لعصر دانتي

في ايطاليا وأثناء القرنين الثالث عشر والرابع عشر، لم يكن هناك بلدا موحداً بل هناك أقاليم وامارات. هذا يتضمن فلورنسا والبندقية وميلان والتي كانت في صراع مع بعضها. كانت الاقاليم تُدار من قبل العوائل التجارية الثرية او الجماعات السياسية – الجماعتان الرئيسيتان كانتا الجلفيون والغيبليون. الجلفيون ساندوا سلطة البابا في المسائل الايطالية. اما الغيبليون ارادوا ان يكون القول الفصل لامبراطور الامبراطورية الرومانية . هذا الانقسام اثّر كثيرا على الحياة السياسية الايطالية، حيث استبدلت المدن حكامها بانتظام. كانت هناك الكثير من الصراعات بين الاقاليم. الدين لعب دورا حاسما في السياسة، وكذلك بالنسبه لمنْ يريد ان يصبح امبراطورا للامبراطورية. الكنيسة والامبراطور ايضا كانت لهما الكثير من السلطات على المناطق ذاتها (ليس فقط على القادة).

في تلك الاثناء، كان يمكن للبابوات ابلاغ الملوك بما يجب عمله – هم ايضا نظموا انفسهم في معركة ضد بعضهم البعض حيث كانت لهم خلافات مع البابوات او الرؤساء المحليين، بينما الاباطرة نُظر اليهم كأصحاب سلطات مشابهة على الشؤون اللادينية للحياة. دانتي كان عضوا في جماعة الجلف، وعلى الرغم من امتلاكه موقعا سياسيا في فلورنسا وانخراطه النشط في حكومتها، لكن تجربته الخاصة هناك شكلّت بوضوح رؤاه حول الموضوع. في عام 1302، وبعد ان استلمت السلطة جماعة الجلف السوداء المدعومة من البابوية، كان دانتي قد نُفي من مدينته الأصلية بتهمة الفساد وهي التهمة التي نفاها بشدة. هذه الكارثة الشخصية توضح لماذا الكثير من كتاباته السياسية تتعلق بالكيفية التي أساء بها الحكام لسلطاتهم ومسؤولياتهم تجاه الأخلاق ذاتها.

رؤية دانتي للملكية العالمية

يقترح دانتي خطة لحوكمة عالمية تتجاوز السياسة التافهة لبلده الأصلي ايطاليا. هو يدعو لحاكم علماني واحد للعالم الى جانب آخر يتولى المسائل الروحية، وبهذا يمنع الاحتكاك بين البابوات وأباطرة الامبراطورية الرومانية المجيدة، والذي يراه دانتي مدمراً.

طبقا لدانتي، مثل هذا الملك ستكون لديه قدرة أفضل للحكم بعدالة وفاعلية. اهتمامه سيكون لكل الانسانية وليس فقط لمدينة او جماعة واحدة. يرى دانتي ان هذه الشخصية ستساعد في حل الصراعات التي تبرز عندما تطالب مختلف الاقاليم بمناطق او سلطات متداخلة كما حصل في ايطاليا دانتي. هذه الفكرة تتعارض بشدة مع الطريقة التي عملت بها السياسة في ذلك الوقت. كانت ايطاليا تتألف من عدة ولايات متحاربة. كل من البابا والامبراطور يشاركان في السياسة. رؤية دانتي في الحكم الملكي لا تعني ملكا قمعيا وانما ملك فيلسوف مشابه لنموذج افلاطون – الذي سيكون منصفا عند عمل القرارات والحفاظ على السلام. هذا الهدوء سيمكّن الناس من التفكير حول ما هو خير والعمل المشترك لتحقيقه كمجموعة: شيء يدل على قدراتهم التي وهبها الله لهم.

أراد دانتي هذه الخطة الجديدة ليس فقط لأنه اعتقد انها ستكون أفضل مما كان في السابق ( سميت راديكالية) وانما ايضا بسبب انه اعتقد ان ايطاليا اعتادت بالضبط على هذا النوع من الحكم – وان هذا الحكم نال موافقة الله.

دور البابا والامبراطور

يعبّر دانتي في كتابه (حول الملكية) عن فلسفة سياسية تساعد في تقسيم المسؤوليات بين سلطات علمانية وروحية – تمثلت بالبابا والامبراطور – لكي يُسمح لكل طرف للعمل بفاعلية دون تعدّي على الآخر. في رؤية دانتي، سيكون البابا هو السلطة الروحية النهائية مع سلطة قضائية في المسائل الدينية وتوجيه أرواح الانسانية نحو خلاص أبدي. الامبراطور، بالمقابل، سيكون له نفوذ باعتباره أعلى قائد علماني مسؤول عن الحفاظ على الشرعية والنظام والعدالة هنا في الارض.

هذا الحكم المزدوج لم يكن فقط عمليا وانما هو ايضا مطلوب الهياً. كلا السلطتين لهما مهام متميزة كل واحدة تكمل الاخرى، تماما مثلما هناك مجالان منفصلان تغمرهما الشمس (تمثّل البابا) والقمر (يرمز الى الامبراطور)، حتى عندما يكون كلاهما كوكبان مضيئان في السماء.

ان أصل رؤية دانتي تكمن في فهمه للكتاب المقدس المسيحي والطريقة التي أسّس بها الله النظام الطبيعي. هو اعتقد انه بواسطة هذا النوع من الحكم الثنائي، يمكن للملكية بالنهاية تحقيق السلام والوحدة – شيء هو اعتقد يجب ان يكون هو الهدف. مثل هذا الفصل سوف يقلل من فرص الصدام الناجم بين شكلي السلطة، بما يمكّن كل طرف من الحكم بمزيد من العدالة والفاعلية قياسا بما لو كان كل طرف يقوم بكل شيء.

طبّق دانتي هذا البناء كنقد للطريقة التي كانت عليها الاشياء في زمانه. كان هناك احتكاك وتداخل بين الحكام العلمانيين والكنيسة، لكن نموذجه يقدّم حلا لهذه المشاكل.

العدالة والحوكمة في "الكوميديا الالهية"

في الكوميديا الالهية، يدمج المؤلف بذكاء قناعاته السياسية ضمن نسيج رحلته الرمزية عبر الجحيم، التطهير، الجنة. هذا الكتاب الاخلاقي المرشد هو أكثر من مجرد قصيدة ملحمية حول اللعنة والخلاص، هو يعكس افكار دانتي الشخصية حول الحكم الصحيح في كل مستوى من مستويات المجتمع. الجحيم تحت الارضInferno-hell (1) تسكنه الارواح المحكوم عليها بالعقوبة التي تتناسب مع جرائمها على الارض. من بين تلك الارواح العديد من القادة السياسيين ايام دانتي ذاته. هذا ليس مصادفة، يؤمن دانتي في العدالة التناسبية. البابوات الفاسدون والمسؤولون الآخرون الذين "باعوا" الامتيازات السياسية او انهم خانوا ثقة الشعب يمكن العثور عليهم في الحلقات السفلى من منطقة الجحيم، حيث يقاسون العذاب الملائم لأفعالهم الفاسدة. تعليقات دانتي كانت حول كل من الاخلاق الشخصية وكيف يتصرف أصحاب السلطة بعدالة.

منطقة التطهير purgatory هي المكان الذي يحصل به التطهير الاخلاقي لكي يمكن الوصول الى الجنة. الناس هناك يعملون لتصحيح عيوبهم في الحياة على الارض. هذا يبيّن ان دانتي يؤمن بانه بإمكان الناس التغيير نحو الأفضل ويرى ان الحوكمة الجيدة يجب ان تكون حول الاصلاح وكذلك العقوبة.

الجنة توصف كمكان للعدالة الالهية حيث تنعم الارواح بسعادة تامة في حضور الله. انها المكافأة النهائية للعيش الصحيح والحكم طبقا لقانون الله. هنا، يتحدث دانتي لشخصيات تاريخية تجسد الفضيلة المطلوبة للحكم العادل والحوكمة الجيدة – مقترحا ما يجب ان يقوم به القادة اذا ارادوا ان يكون لسلطاتهم وزنا أخلاقيا. عبر استعمال صور رمزية لهذه الأماكن، ينتقد دانتي الحكام الحالين بينما يقترح ايضا ان السلطة السياسية المثالية يجب ان تأتي دائما بالعدالة والاخلاق.

نقد دانتي للقادة السياسيين المعاصرين

لم يتراجع دانتي في نقده للسياسيين والممارسات السياسية في زمانه. هو استخدم أعماله الادبية خاصة الكوميديا الالهية كمنصة لكشف وإدانة الفساد. وصف دانتي الشخصيات السياسية بشكل واضح وصريح ، أحيانا يقرر لهم عقوبات تعكس آثامهم. هدفه هو التأكيد على ما رآه كتخريب في القيادة الأخلاقية. في ارض الجحيم مثلا، يضع دانتي البابا يونيفاس الثامن (رمز لكل من الفساد الكنسي والخداع السياسي) في الجحيم قبل ان يواجه موته الحقيقي. هذا يكشف عن احتقار دانتي للطريقة التي يستخدم بها البابا السلطة البابوية. ونفس الشيء، وُضع قادة فلورنسا تحت النار. دانتي يتهمهم بالجشع والطعن بالظهر والخيانة وتدميرهم لنسيج المدينة التي أحبها كثيرا. ادانات دانتي القوية كانت تشكل تحذيراً أخلاقيا في اصراره على ان الناس يفضلون حوكمة عادلة مرتكزة على الاخلاق بدلا من المصلحة الذاتية. هو دعا قرائه لفحص سلوكهم وشرح كيف يجب ان يتصرف القادة طبقا لأفكار المسيحية حول الصحيح والخطأ.

جرأة دانتي في نقد الأفراد علناً كان لها تأثير كبير تمثّل في نفيه من بلدته فلورنسا. وكان هذا مدمرا على الصعيد الشخصي، لكنه ايضا جعل أعماله النثرية أكثر حدة. ايضا، فقدانه لبلده كان يعني انه اصبح اكثر عالمية في وجهة نظره، بصرف النظر عن المكان الذي يعيش فيه.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) Inferno او الجحيم تحت الارض هو الجزء الاول من الكوميديا الالهية لدانتي في القرن الرابع عشر، تبعه التطهير purgatorio ثم الجنة paradise. في الجحيم نجد وصفا لرحلة خيالية لدانتي ذاته عبر الجحيم من أجل إنقاذ روح المرأة التي أحبها باتريكا مسترشدا بالشاعر الروماني القديم فيرجيل virgil. في الملحمة، توصف الجحيم على شكل تسع دوائر من العذاب متحدة المركز تقع في باطن الارض، انها عالم اولئك الذين رفضوا القيم الروحية عبر خضوعهم للشهوات او العنف، او بسبب تشويههم لعقولهم البشرية وارتكابهم الاحتيال او الحقد ضد رفاقهم البشر. كل دائرة من الدوائر التسع تمثل اثما مختلفا وكل دائرة لها درجتها من الشر. العقوبة الملائمة لكل اثم يتم تطبيقها في الدائرة المقابلة، وعندما يسافر دانتي خلال كل دائرة هو يلاقي شخصيات هامة من التاريخ كانوا مدانين في الإثم. الكوميديا الالهية، صورة رمزية تمثل رحلة الأرواح نحو الله.

 

مقدمة: في إطار تطور مفاهيم الاقتصاد الحديث، أصبحت الشركات والمؤسسات أو نقول الأشخاص الاعتباريون لاعبين أساسيين كمستهلكين في الأسواق. فعندما يبرم المستهلك المعنوي عقدا استهلاكيا مع شركة عادية أو شركة ذات مسؤولية اجتماعية أو عون اقتصادي أو محترف، لا يكتفي فقط بشراء المنتج أو الخدمة بناء على السعر أو الجودة التقليدية بل يتعدى ذلك إلى التحقق من التزام البائع بالمعايير الاجتماعية والبيئية، مما يجعل هذا النوع من العلاقة التجارية جزءا من الاستهلاك العادل.

ويعد الاستهلاك العادل بمثابة فلسفة شاملة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة، من خلال اتخاذ قرارات شرائية واعية. إذ يمكن للمستهلكين أن يكونوا جزءا من حلول طويلة الأمد للتحديات العالمية مثل الفقر، عدم المساواة، والتغير المناخي. مثال ذلك: شراء منتجات تحمل شعار "التجارة العادلة" التي تضمن دفع أجور عادلة للمنتجين، أو التعاقد مع شركات تستخدم تقنيات صديقة للبيئة وتقلل من بصمتها الكربونية.

إن الاستثمار في الاستهلاك العادل هو استثمار في مستقبل أفضل لنا جميعا، فنحن في عصر يشهد تزايدا ملحوظا في الوعي المجتمعي والبيئي، مما يستدعي تحديد ملامح الأسواق وتوجيه الشركات نحو اتباع ممارسات أكثر شفافية وعدالة.

وسبب تركيزنا في هذا المقال على المستهلك وبالتحديد عندما يكون شخصا معنويا هو قوته التأثيرية، والذي قد يتمثل في المؤسسات والإدارات العمومية (عندما تقتني السلع والخدمات قد تضع شروطا صارمة على الموردين تتعلق بالمعايير الاجتماعية والبيئية، أو يمكن أن تتطلب الحكومة من الشركات الموردة استخدام طاقة متجددة أو توفير فرص عمل). أو قد يكون هذا المستهلك المعنوي شركات خاصة أو منظمات (فمثلا بعض الشركات الكبرى تلتزم بسياسات مشددة فيما يتعلق بالمشتريات، على سبيل المثال قد تختار شركة متعددة الجنسيات التعاون فقط مع الموردين الذين يلتزمون بممارسات التجارة العادلة).

لذا يتميز المستهلك المعنوي في أن دوره يتجاوز الأبعاد الفردية لاتخاذ قرارات استهلاكية قائمة على المعايير الاجتماعية والبيئية، وله من القوة مالا نجده في الشخص الطبيعي (الذي عادة يبرم عقود الاستهلاك بكونها عقود إذعان، وإن كان في غالبية التشريعات له مفهوم مقيد وليس مطلق كاستثناء على عقود الإذعان الإدارية). هذا النهج يعكس التزاما أعمق بالاستدامة والمسؤولية الاجتماعية، وذلك من خلال وضع آليات اتخاذ القرارات الاستهلاكية بعدالة ضمن استراتيجيات المستهلك المعنوي.

أولا- أهمية تعزيز الاستهلاك العادل من قبل المستهلك:

يشكل المستهلك المعنوي رافعة قوية لتغيير ممارسات السوق نحو الأفضل. فهناك عدة أسباب تجعل هذا الدور محوريا:

1- القوة الشرائية الكبيرة:

بسبب حجم المشتريات الكبير الذي تقوم به الشركات والمؤسسات، يمكن لهذه الكيانات أن تؤثر بشكل كبير على سياسات الشركات البائعة. فعلى سبيل المثال إذا قررت شركة كبيرة عدم التعامل مع موردين لا يلتزمون بالمعايير الاجتماعية والبيئية، فإن هذا القرار يمكن أن يدفع العديد من الشركات الأخرى إلى إعادة النظر في ممارساتها.

2- السياسات المسؤولة اجتماعيا:

إن الشركات والمؤسسات التي تعمل كمستهلكين غالبا ما تكون لديها التزامات اجتماعية وبيئية اتجاه مجتمعاتها، وبالتالي فإن اختيارها للمنتجات أو الخدمات يكون مدروسا ليتماشى مع هذه الالتزامات. هذا يعكس نموذجا جديدا من الاستهلاك القائم على القيم وليس فقط على المصالح الاقتصادية.

3- تعزيز الشفافية في السوق:

من خلال مطالبة البائعين بالإفصاح الكامل عن ممارساتهم، يساهم المستهلك المعنوي في تعزيز الشفافية في السوق. هذا يؤدي إلى بناء علاقة ثقة بين الشركات والمستهلكين، مما يعزز من كفاءة السوق وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ثانيا- الآليات المسؤولية لاتخاذ القرارات الاستهلاكية:

عندما يبرم المستهلك المؤمن بالاستهلاك العادل عقدا استهلاكيا مع شركة عادية أو شركة ذات مسؤولية اجتماعية، فإن أولوياته تختلف عن تلك الخاصة بالمستهلك العادي الذي يركز فقط على السعر أو الجودة، حيث يقوم هذا المستهلك العادل بفحص مدى التزام البائع بالمعايير الاجتماعية والبيئية قبل إتمام الصفقة والتي تكون على الخصوص من خلال:

1- التحقق من الالتزام بالمعايير الاجتماعية والبيئية:

قبل الشراء، يقوم المستهلك المعنوي بإجراء تقييم شامل للبائع لمعرفة إذا كان يتبع سياسات مستدامة وممارسات عادلة. ويشمل ذلك مثلا التأكد من أن الشركة المنتجة تلتزم بدفع أجور عادلة للعمال، وتحافظ على البيئة من خلال استخدام مواد خام صديقة للطبيعة، وتتجنب أي ممارسات تمثل استغلالًا للإنسان أو الأرض. والتأكد من أن الشركة توفر معلومات دقيقة عن منتجاتها أو خدماتها دون إخفاء أي بيانات حساسة.

2- الحق في الإفصاح والإشهار غير المظلل:

للمستهلك المعنوي الحق في طلب الإفصاح الكامل عن جميع المعلومات المتعلقة بالمنتج أو الخدمة المقدمة. يجب أن تكون الإعلانات والإشهارات واضحة وغير مضللة سواء حول المنتج أو ممارسات المسؤولية الاجتماعية، بحيث لا تغطي على الحقائق أو تضخمها بشكل غير صحيح، هذا الأمر يعزز الثقة بين الطرفين ويضمن أن القرار الاستهلاكي يتم بناء على معلومات دقيقة وشفافة.

3- بنود الإذعان المتبادلة:

غالبا ما تحتوي العقود الاستهلاكية على بنود الإذعان التي تفرض شروطًا مسبقة على المستهلك دون السماح له بإدخال تعديلات. ومع ذلك، للمستهلك الشخص المعنوي الحق في مناقشة هذه البنود وإجراء التعديلات اللازمة لضمان أنها تتوافق مع معايير الاستهلاك العادل. هذا يضمن أن العلاقة بين الطرفين قائمة على الشراكة والمساواة وليس على الهيمنة أو الإجبار. كما أن شرط احترام المعايير المسؤولة الذي يفرضه المستهلك في هذا العقد يعد شرطا أخلاقيا وبندا من بنود الإذعان الذي لا يقبل المناقشة، ويبقى للمنتج أو البائع هو الآخر وضع البنود الإذعانية المتعلقة بسلعته أو خدمته ضمن ما هو مقرر قانونا ويخدم مصالحه الاقتصادية.

خاتمة:

من خلال ما تقدر نلاحظ بأن المستهلك يمكنه أن يلعب دورا حاسما في تعزيز مفهوم الاستهلاك العادل من خلال التزامه بمعايير اجتماعية وبيئية قبل إتمام الصفقات، سواء كان ذلك من خلال مطالبة البائعين بالإفصاح الكامل، أو مناقشة بنود الإذعان، أو التركيز على الممارسات المستدامة، فإن هذا النهج يساهم في تحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. في النهاية، يصبح الاستهلاك العادل ليس مجرد خيار بل ضرورة لتحقيق تنمية مستدامة وبناء مجتمعات أكثر عدالة وإنصافا.

***

بقلم: الدكتورة بورزيق خيرة

أستاذة جامعية، محامية ومتخصصة في مجال المسؤولية الاجتماعية / الجزائر

الحُبّ المؤطر بإطار أخلاقي معلِّم يهب الإنسان قدرةً استثنائية لمنح مَن يحبّه الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار. الحُبّ يمكن أن يكون طاقة توليدية تزوّد الإنسان بما يغتسل به قلبه ويتطهر من الكراهية، ويتحرّر من دوافع الانتقام والثأر. عندما يملأ الحُبّ قلب الإنسان، فإنه يُعيد تشكيل نظرته للعالم، ويعيد بناء علاقاته بالآخرين، ويجعله أكثر دفئًا وعطفًا ورقة ورحمة، وتصير شخصيته منبعًا للصفح. هذا التغيير ينبع من طبيعة الحُبّ بوصفه عاطفة فعّالة تحفّز على العطاء والغفران، بدلاً من التشبث بالأحقاد والإحن والضغائن.

معادلة الحُبّ والرحمة والصفح ثلاثية العناصر، الصلة بين عناصرها جدلية تفاعلية تكاملية. تبتني هذه المعادلة على أصل هو الحُبّ تنبثق عنه الرحمة، وفي الوقت نفسه تعود الرحمة لتحتضن الحُبّ وتعيد توليده وتكريسه، ويتألف من اتحادهما الصفح، ليعود الصفح مجدّدًا وهو العنصر الثالث في المعادلة ليحتضن التوليفة المنصهر فيها الحُبّ والرحمة، ليحتضن هذا المتحد من العنصرين ويتكامل معه في مركب واحد، فتحدث توليفة واحدة من الحُبّ والرحمة والصفح، وهي تجليات متنوعة لحقيقة واحدة، وكأنها ثلاثة روافد تغذي نهرًا واحدًا، تمتزج مياهها معًا لتصير مياهًا واحدة، بذلك تتجلى فاعلية الحُبّ والرحمة بإنتاج الصفح. بهذه المناسبة أود أن أشير إلى أن الذين تشبعوا بالمنطق الأرسطي والفلسفة في تراثنا ربما يسارعون للقول بأن هذا يلزم منه الدور، إلا أن الدور لا معنى له هنا على وفق الجدل الهيغلي.

  بعض الفلاسفة تناولوا الحُبّ بوصفه قادرًا على تطهير الذات من مرارات الكراهية، وإطفاء شعلة الانتقام. نظرة هؤلاء الفلاسفة للحُبّ تختلف تبعا لفلسفاتهم، غير أن ما يجمعهم هو الاتفاق على أن الحُبّ قوة متسامية تحرّر الإنسان من عنف الأحقاد والضغائن. الحُبّ يمنح الإنسان ثقة هائلة بذاته، وبقدرته على إخماد ما يؤجّج الغضب في نفسه، وبعث السلام الداخلي الذي يمكّنه من التغلب على انفعالاته الحادة. الحُبّ طاقة إيجابية فعّالة، تعمل على تفكيك دوافع الانتقام عبر تحرير الإنسان من العبء النفسي للغضب، وإطفاء نار الكراهية، ومنحه القدرة على التسامي والاستغناء عن الاقتصاص بالعفو، والابتعاد عن التشفي بما يصيب الغير من نكبات.

الحُبّ لا يجعل الإنسان ضعيفًا، بل يجعله قويًا بما يكفي، ليتحكم بما يغرقه من انفعالات متّقدة، قد تزجّه في الفتك بمَن يؤذيه. الحُبّ يجعل الإنسان يتنبه إلى ما تتركه هذه الانفعالات من آثار مريرة على سلامه الداخلي، عندما ترتدّ إليه لاحقًا فتعذّب ضميره. الحُبّ قوة تطهر قلب الإنسان من سموم الكراهية، الحُبّ يكفل تحقيق التوازن في الشخصية بين العاطفة والعقل والروح، ويعمل الحُبّ بفاعلية على إحداث الانسجام العميق بين الفرد والآخر، وبين الإنسان وعالمه. الحُبّ طاقة تغذّي الأخلاق والمعرفة والتنوع الديني والإثني والثقافي. الحُبّ يحرّر الذات من شعورها بوحشة الوجود، وبغربتها في العالم الذي يعيش فيه الإنسان. بالحُبّ يتكشف جمال الوجود في تجلياته المتنوعة، وتسود علاقات تبتني على الاحترام المتبادَل مع المختلِف في المعتقَد، بدلًا من نبذه، أو التسلط والهيمنة عليه. الحُبّ ينقذ مشاعر الإنسان من دوافع الانتقام، ويجعله قادرًا على الصفح عن كلِّ من أساء إليه، والبداية من جديد، حتى لو لم تندمل الجروح التي أحدثها المعتدي في داخله.

  كثيرٌ من الاعتداءات وانتهاكات القيم والقانون تحدث بدوافع الانتقام والثأر، وأحيانًا يقود ذلك إلى سلسلة مريعة من عمليات العدوان تطال أبرياء لم يرتكبوا أيّ عدوان أو جريمة بحقّ أي إنسان، كما يحدث في مسلسل عمليات الثأر لدى القبائل أمس واليوم. حرب البسوس القديمة مثلًا تواصلت 40 سنة1، وعكست سلسلة مواقف ثأرية مقيتة. قتلَ فيها جساسُ بن مرة كليبًا بن ربيعة، بسبب ناقة امرأة تُدعى البسوس بنت منقذ التميمية، كانت لديها ناقة ترعى في أرض كليب بن ربيعة زعيم قبيلة تغلب، وكليب كان يرى كلّ ما يرعى في أرضه من حيوانات تجاوزًا عليه، فأمر بقتل الناقة. غضب ابن أخ البسوس جساس بن مرة، الذي رأى في قتل الناقة إهانة لأهله، فقتل كليبًا ثأرًا لقتل ناقة عمته. المهلهل بن ربيعة انبرى لأخذ ثأر قتل أخيه كليب، واستمرت الحرب بين القبيلتين 40 سنة، وكانت كما يقال من أطول الحروب بين القبائل العربية. المؤسف في بلادنا أن حروب الثأر مازالت تسفك فيها دماء بريئة في مسلسل أعمال قتل انتقامية عبثية بين القبائل. الانتقام فعل يعمل باتجاهين متعاكسين، فمثلما يفتك بالضحية أولًا، يفتك بالمُنتقِم أيضًا، وان تأخر الفتك الثاني.

 لغة السلام والتراحم والمحبّة والتعايش السلمي في فضاء التنوع والاختلاف ضرورة لحماية التنوع الإثني والديني والمذهبي في المجتمع، وتحريره من ترسبات العنف الكبيرة المختزنة في اللاشعور الجمعي والفردي. بسبب الحروب المريرة في بلادنا منذ أكثر من خمسين سنة، ‏وتسخير الإعلام المرئي والمسموع والثقافة والأدب والفن والمنابر الدينية للتعبئة لهذه الحروب، تفشت شحنة عنف عالية في لغتنا وأصواتنا وحتى في تعبيرات أجسادنا، ‏بحيث صار التعبير عن الجمال أحيانا بكلمات غريبة، يقال مثلًا في توصيف ما هو جميل: "رهيب"، "كارثة"، "يقتل"، وأمثال ذلك. تحرير اللغة وهكذا أصواتها ولغة الأجساد من شحنة العنف يحرّر الفضاء العام من العنف، وذلك يتطلب إعادة بناء اللغة وطرائق التعليم في مقرّرات مدارس التعليم الأساسي، ابتداء من الروضة، وكلّ مقررات التربية والتعليم، واستبعاد الكلمات العنيفة والصور التي ترسم مشاهد دامية. وينبغي أن يواكب ذلك المزيد من توكيد مقرّرات التربية والتعليم على قيمة الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار، وتهذيب أداء وسائل الإعلام السمعي والبصري، وتطبيقات وسائل التواصل، والثقافة، وحتى المخاطبات الإدارية والشعارات المتبناة في مكاتبات الحكومة.

 الشخصيات المتعجلة في ردود الأفعال العدوانية مزعجة جدًا، غير أن الإنسان يتعلم من هذه الشخصيات أشياء لا يتعلمها من الشخصيات المهذبة. الشخصيات المهذبة تشعرك بالأمن والدفء والحنان والمحبّة. الشخصية العدوانية تستفز كلَّ شيء فيك، عندما يُستفَز الإنسان يكون قادرًا على اكتشاف ذاته وإنقاذها، وتتطور مهاراته في التعامل مع أصعب البشر. أخطر ما يقوض الحُبّ ردود الأفعال العدوانية المتعجلة، ‏وظيفة الحُبّ تحرير الإنسان وتطهير قلبه من الانفعال العدواني والانتقام والتشفي.

الصفح ممكن، لكن النسيان صعبٌ للغاية، وأحيانًا يتعذّر تمامًا، خاصةً إذا كانت الانتهاكات والجروح التي تركها المعتدي عنيفة. الصفح غير النسيان، النسيان لا إرادي، الصفح قرار يتخذه الإنسان.كلُّ جرح عميق وشم للذاكرة لن يموت أو يُنسى، الصفح يعني امتلاك القدرة على تجاوز الأثر الذي تحدثه الإساءة، والتحرّر من دائرة ردّ الفعل التي يلبث الإنسان في الغالب أسيرها وعيًا وسلوكًا. إلا أن خلاصًا كهذا لا يمحو ذاكرة الانسان، ولا يقوم على محو الأثر الذي لا يمحى. إن ذاكرة كهذه تحمي الإنسان من الشر الأخلاقي، فحين تنعدم تُفقِد الإنسان القدرة على التمييز، وتُعجِزه عن بناء الوعي اللازم للعيش في المجتمع. أن أعرف الناس شيء، وأن أصفح عنهم شيء آخر. الصفح ليس سهلًا، وإن كان ضرورة للعيش المشترَك، لأنه صوت غفران. الصفح أصعب من الثأر، لأن ما ليس من نوع الفعل أصعب مما هو من نوعه. الصفح فعل أخلاقي يتحرر من سطوة الغضب وتغلبه على إرادة الإنسان. الثأر ردّ فعل من نوع الفعل، لكن الثأر بالقدر الذي يفرغ غضب الإنسان يمثل تحديًا لقدرته على التسامي الأخلاقي والنجاح في تجاوز الأحقاد والضغائن.

لا يظفر الإنسان بالسلام الداخلي والقدرة على الصفح ما لم تتحقّق ذاته بالمحبّة والرحمة، لو تسامى الإنسان يستطيع أن يعفو عن الإنسان الذي يؤذيه ويطعنه من الخلف، بل يمكنه أن يُحسن إليه ويكرمه، إلى الحدّ الذي يخجله في خاتمة المطاف، وربما يُقبِل على مَن يصفح عنه بمحبّة. الصفح عن الصديق الذي مارس الغدر معك أشقّ على النفس من الصفح عن العدو. يتفوق الإنسان بقدرته على التعامل الأخلاقي النبيل، وقدرته على العفو والغفران. الإنسان الذي يستطيع أن يغفر ما أمكنه ذلك، يحمي سلامه الداخلي، ويحمي الإنسان الذي يؤذيه من ردود أفعاله الانتقامية. الغفران تجربة للعيش تطهر روح مَن يدرب نفسه على ممارستها، في كلّ مرة يمارسها يتذوق ثمرتها المطهرة للروح من الضغينة والانتقام. ممارسة الغفران ضرورة لحماية أواصر العلاقات الإنسانية داخل العائلة والمجتمع، وتنمية روافد المحبة والتراحم. حتى لو تعلم على الغفران والصفح، يظلّ يتألم الإنسان ممن يؤذيه، غير أن هذا الأذى يكون مؤقتًا، لأنه يستطيع أن يعفو عنه بعد مدة ليست طويلة، لئلا يتصدع سلامه الداخلي، ولئلا يمسّ غيره سوء من غضبه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...........................

  يرى مؤرخون أن هذه الحرب حدثت قبل ظهور الإسلام، في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، بين سنوات 494م و534م تقريبًا.

 

حدَّثنا (ذو القُروح)، في المساق السابق، عمَّا زعمه افتراءً على (الجاحظ، ـ255هـ)، من خلال رواية معنعنة عن (زكي مبارك)(1)، الذي قال: إنَّ «الجاحظ يحدِّثنا أنَّ خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا أنَّ خُطَب عَليٍّ كانت معروفة قبل الشَّريف الرَّضِي.» مع أنَّ الجاحظ لم يقل: «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»، كما زعم (زكي مبارك)، بل قال: «هذه خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة، وهذه خُطَب أبي بكر، وعُمَر، وعُثمان، وعَليٍّ، رضي الله عنهم.»(2)، وسكتَ. ثمَّ أردفَ ذو القُروح:

ـ كما زعم مؤلِّف كتاب «مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده»(3) أنَّ (الجاحظ) قد ذكر: أنَّ «خُطَب عَليٍّ، عليه السلام، كانت مدوَّنة محفوظة مشهورة»! فبدَّل كلام الجاحظ السابق تبديلًا؛ فحين قال الجاحظ: «خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة»، جعل صاحب «المصادر» مكان «رسول الله»:  «عَليًّا، عليه السلام»!

ـ لكن هل صحيح أنَّ «خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة»، كما قال (الجاحظ)؟

ـ يظلُّ كلام (الجاحظ) كلامًا تعميميًّا، لا يصحُّ أن يُفهَم فهمًا حرفيًّا؛ وإلَّا فأين «خُطَب رسول الله المدوَّنة المحفوظة، والمُخلَّدة المشهورة»؟! كما تساءلنا من قبل. بل ستجد في بعض الكتب تصحيف «مُخلَّدة» إلى «مُجلَّدة»! وقد ذكر محقِّق كتاب الجاحظ أن الكلمة كذلك في بعض النسخ. بالرغم من أنَّ ما دُوِّن منها في التراث لا يعدو مقاطع من خطبته في حجَّة الوداع، إضافةً إلى مقطوعات، معظمها ممَّا ورد في ثنايا الحديث النبوي. وقد سبق كلامنا حول هذا. أمَّا خُطَب (أبي بكر)، و(عُمَر)، و(عُثمان)، و(عَليٍّ)، فلم يقُل الجاحظ إنها: (لا مدوَّنة، ولا مخلَّدة، ولا مجلَّدة)، وإنَّما ألمحَ إلى أنها مرويَّة، أو مرويٌّ عنها، على كلِّ حال؛ تشجيعًا لصاحبه على التأسِّي والإقدام على الخطابة. هٰذا، وكثيرًا ما يتجوَّز الجاحظ في كلامه؛ حتى لقد اتَّهمه (المسعودي)(4) بأنَّه لا ثقة بما يروي؛ واصفًا إيَّاه بأنَّه: «إنَّما كان حاطبَ ليل، ينقل من كُتب الورَّاقين.» على أنَّه- بالنظر إلى كتاب الجاحظ نفسه، الذي نُسِب إليه ما نُسِب، وهو «البيان والتبيين»- لم يورِد لعَليٍّ غير أربع خُطَبٍ موجزة.(5) هي من «النَّهج»، بحسب ترتيبها في كتاب الجاحظ: الخطبة السادسة عشرة، والثامنة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون. مع اختلاف بين الكتابَين في بعض الصِّيغ، ونقصٍ أو زيادةٍ في بعض الفقرات، وتفاوتٍ في الترتيب. وعَرَضَ في أجزاء متفرقة من كتابه لفِقَرٍ مقتضبةٍ من بعض خُطَب عَليٍّ، وذلك في أربعة مواضع.(6) وأشار مرَّتين إلى بعض أدعيته في زيارة المقابر. وأحيانًا كان، كغيره من المؤلِّفين، يورد عَرَضًا بعض العبارات الحِكْميَّة المنسوبة إلى الإمام، وفيها تكرار.(7)

ـ على أنْ ليس المهمَّ أن يكون قد أخذ (الشَّريفُ الرَّضِيُّ) عن مصادر ما، بل المهمُّ مدَى موثيقيَّة تلك المصادر!

ـ صحيح. أمَّا الاسترسال إلى القول: لقد كانت ثمَّة مصادر «للنَّهْج» قَطْعًا، وهي موثوقة جِدًّا، قَطْعًا أيضًا، لكنَّا لا نعرفها، فقد اخترمتها عوادي الأزمان؛ لما نال المكتبة العَرَبيَّة الإسلاميَّة، كما تعرفون، من تلفٍ وإتلاف، فجوابه أن يُقال:

وما نَفْعُ المصادرِ حِين تُمسي  :::  حديثَ خُرافةٍ، يا أمَّ عَمْرِو؟!

ثمَّ إنَّ علينا، قبل التغنِّي بـ«المصادر»، أن نُحرِّر معنى هذا المصطلح في تراثنا العَرَبي، وكذا المصطلح المرادف له، وهو مصطلح «كتاب». ذلك أنَّه يَقِر اليوم في السمع وفي المخيال، عندما نقرأ مصطلح «كتاب»، أنه كتاب، كما نعهد الكُتب،  في مئات الصحائف، أو كُتيِّب في عشراتها. وهذا غير صحيحٍ، بالضرورة، فقد يُطلَق مصطلح «كتاب» في التراث العَرَبي على المكتوب عمومًا، وإن كان رسالة في بضع صحائف، أو حتى في صحيفة واحدة.

ـ هل من شاهد؟

ـ الشواهد كثيرة. لكن الشاهد على ذلك- في هذا السياق- يمكن أن يتمثَّل من خلال ما يشار إليه بكتابٍ منسوبٍ إلى (الجاحظ) أيضًا، عنوانه «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب»(8)، وقد يَعُدُّون هذا «الكتاب» في جملة مصادر «نَهْج البلاغة».

ـ فما حجم هذا الكتاب؟

ـ إنه لا يعدو، في مخطوطه، نحو 7 صحائف! إذا استبعدنا الشروح المرافقة. تتضمَّن مقولات حِكميَّة منسوبة إلى (عَليٍّ)، مع شرحها باللُّغة الفارسيَّة. وعلى كلِّ صحيفةٍ بضعة أسطر فقط، على كلِّ سطر جملةٌ واحدةٌ من مقولات عَليٍّ، تختلف طولًا وقصرًا، كعبارة «قيمة الإنسان ما يحسنه»، أو «الناس نيام، فإذا ماتوا، انتبهوا»، أو «الناس بزمانهم أشبه من آبائهم». فهذا الكتاب، إذن، مع الشروح الفارسيَّة، يقع في أربع عشرة صحيفة، لا أكثر!

ـ هذا كلُّ ما في هذا المسمَّى كتابًا؟!

ـ نعم. بل إنَّ السؤال، قبل ذلك كلِّه، هو سؤالٌ ثقافيٌّ حضاري: عن رحلة نصوص شفويَّة، قيلت منذ ما قبل 21 رمضان 40هـ= 27 يناير 661م- وهو تاريخ وفاة (عَليٍّ، رضوان الله عليه)- إلى ما بعد 380هـ تقريبًا؛ لأن (الرَّضِي) وُلِد 359هـ وتوفي 406هـ؟ فأنت هنا أمام قُرون متطاولة، تعاقبت فيها أجيال وأجيال، بل توالت دُوَل على العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، في مدَى ما بين (340 سنة و350 سنة). أمَّا إنَّ كان واضع «النَّهْج» هو (الشَّريف المرتضَى)، فربما كانت المدَّة أطول؛ لأنه توفي بعد أخيه بثلاثين سنة، 436هـ.

ـ إنْ صحَّ ذلك، فتلك معجزة!

 هذا كلامٌ لهُ خَبِيءٌ  :::  معناهُ ليسَ لنا عُقولُ!

ذلك أنَّ كتاب الله- الذي قال الله عنه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، ومع أنَّ بعضه كان مدوَّنًا فعلًا، وكان للرسول كَتَبَة وَحْيٍ يُملي عليهم، ثمَّ هو، إلى ذلك، ما ينفكُّ يُتْلَى آناء اللَّيل وأطراف النهار- ما أن مرَّت عشرون سنة من وفاة الرسول (يوم الاثنين، ربيع الأوَّل 11هـ)، حتى نَذِر الصحابة بخطورة ضياعه واختلاطه، فبادروا إلى جمعه بين دفَّتَي مصحف، في عهد (عُثمان، ـ35هـ)، واستبعاد ما سواه من أن يُعَدَّ قرآنًا.

ـ بل كان استشعار ذلك قبل عهد (عُثمان)، في عهد (أبي بكر) و(عُمَر)، وإنْ لم يتمَّ ذلك إلَّا في عهد عُثمان.

ـ فكيف بسِواه من الكلام البَشَري الشَّفوي؟!

ـ سيقولون لك: لا «النَّهْج»، ويا لله العجب، لا يقاس على غيره، فلقد كُتِب له الخلود بسهولة، وقُيِّض له خَرْق نواميس التاريخ والذاكرة البَشَريَّة على نحوٍ إعجازي!

ـ لك أن تقارن 350 سنة، في قِصَّة رحلة «النَّهْج» من الشَّفويَّة إلى الجمع والتدوين، بعشرين سنة فقط في رحلة «القرآن» من طَور الشَّفويَّة- مع وجود وثائق مخطوطة عن الرسول مباشرةً- إلى طَور الجمع والتدوين! وأمَّا تصرُّف (الشَّريف الرَّضِي) في النصوص التي كانت بين يدَيه، فهو بنفسه، في مقدِّمته، يشهد بوقوعه منه، ولا يحتاج منَّا إلى تبيان. حيث ذكر أنَّ الروايات التي كانت بين يديه من كلامٍ منسوبٍ إلى عَليٍّ كانت «تختلف اختلافًا شديدًا»!(9)

ـ فكيف صار الاختلاف، إذن، بين روايةٍ وروايةٍ وروايةٍ، وصياغةٍ وصياغةٍ توفيقيَّة، أو تلفيقيَّة، اجتهد (الشَّريف) في إخراجها؟!

ـ صار ذلك كلُّه «نَهْج البلاغة»! وقد قلنا إنَّ هذا أمرٌ طَبَعيٌّ في كلِّ نصٍّ منقولٍ بالمشافهة، ولاسيما إذا كان نثريًّا. وضَرَبْنا على ذلك مثلًا بخطبة (أبي بكر الصِّدِّيق) في (سقيفة بني ساعدة)، التي تبدو في مصادر التراث المختلفة خُطَبًا مختلفةً لا خطبة واحدة. ومن هنا يبدو مكابرةً الزعمُ أنَّ خُطَب (أبي الحَسَن) كانت وحدها استثناءً في هذا الأمر التداولي؛ فبقيت معنًى ومبنًى عبر القرون، ومن ثمَّ فهي «نَهْج بلاغته» هو، لا نَهْج بلاغة الرَّضِي، الذي اشتغل على تحريرها في كتابٍ تعليميٍّ لطلبة البلاغة.

ـ وإنْ صحَّ القول: إنَّه كان يتكئ على معاني عامَّة بَلَغَتْه عبر المرويَّات الشَّعبيَّة من أخبار الإمام.

ـ وهنا موطن الشكِّ، ولُبُّ الخلاف مع من يَعُدُّ «نَهْج البلاغة»: نَهْج بلاغة (عَليِّ بن أبي طالب) حرفيًّا. وهذا ما لم يزعمه (الشَّريف) أصلًا في عنوان كتابه، بل وَسَمَه بـ«نَهْح البلاغة»، دون تقييد بعَليٍّ، كأنْ يقول: «نَهْح بلاغة عَليِّ بن أبي طالب». وهذا يشي، من خلال العنوان، أنَّه أراد القول: هذا الكتاب طريق البلاغة لمن أراد تعلُّمها والدُّربة على أساليبها، من خلال تلك المرويَّات من النصوص التطبيقيَّة المختارة. ثمَّ كتبَ في مقدِّمته- لو كان هؤلاء يقرؤون-: «ورأيتُ من بَعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ»نَهْج البلاغة»؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها، ويُقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبُغية البليغ والزاهد.»(10)  على حين بلغ الحماس ببعض إخواننا إلى القول: بل هو لعَليِّ.. ولو طار، من ألفه إلى يائه، مبنًى ومعنًى، بلا مثنويَّة، ومن زعمَ غير هذا، أو شكَّ، أو تساءل، فلا يلومنَّ إلَّا نفسه، فقد نَصَبَ، أو هو سَلَفيٌّ وهَّابي، في أهون الأحكام عليه!

[للحديث بقيَّة].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) (1957)، النثر الفنِّي في القرن الرابع، (مِصْر: مطبعة السعادة)، 1: 69.

(2) الجاحظ، (1998)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 200- 201.

(3)  لـ(الخطيب، عبد الزهراء)، (بيروت: دار الأضواء، 1985)، 1: 50.

(4)  المسعودي، (1978)، مُرُوْج الذَّهب ومعادن الجوهر، عُني بفهرسته: يوسف أسعد داغر، (بيروت: دار الأندلس)، 1: 67.

(5)  يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 50- 56.

(6)  يُنظَر: م.ن، 2: 77- 78، 101، 190- 191، 3: 301.

(7)  يُنظَر: م.ن، 3: 148، 155.

(8)  منه نسخة مخطوطة في (مكتبة مكَّة- مخطوطات)، التابعة لوزارة الحجِّ والأوقاف، سُجِّل على غلافها تصنيفًا: أدب 7.

(9) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 80.

(10)  م.ن، 81.

 

"ثمة عبودية متفوقة على النمط الثقافي السائد، حيث تتقاطع ذاكرة قوة التأثير، إلى حدود تصبح فيها الفردية جزءا من الشكل المعبود، مثلما هو التغيير الذي اجترحته قوة الشبكة العنكبوتية في بنية المجتمع الاستهلاكي"

تصر شبكات التواصل الاجتماعي، المفتوحة على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوة الرقمية دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازن، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين المجتمعين المذكورين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى التعليمي والاجتماعي والمادي.

هناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

لا مراء أن المجتمع التكنولوجي الجديد أعاد تشكيل صورة الإعلام في دنيانا الراهنة، مع تحول قيمي في ترتيب أدوار الفاعلين (المؤثرين) الجدد، وعلاقتهم بالوسائط الرقمية المتسارعة، ودرجات قابلياتها داخل المجتمع نفسه، حيث أضحت الوسائط الاجتماعية المستخدمة بقوة الاعتياد والرغبة الجامحة والتنفيس السيكولوجي، جزءا من السلوك الصيروري، الذي يرهن الذات ويستقوي بها على حساب كل ما هو عام، مركزا على التأليبيات الاجتماعية والتحشيد لها، حتى تصير صورة دافعة لامتلاك وهم "المادة". وهي مواضعة مهمة في النقد الاجتماعي التكنولوجي، بل محطة مفصلية في مسار علم الاجتماع الذي يبحث عن طبائع التغير التكنولوجي، في حالة يتعذر فيها تفكيك مفاهيم التنوع الرقمي واشتباك مجتمع الوسائط وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية المتحولة.

ومن تداعيات هذه الأسئلة المجترحة، بروز تنظيرات سوسيوثقافية واعية بتضخم الذات الرقمية، وانكشافها على مساحة عظيمة من القبح الأخلاقي.

يكمن جوهر فعل النرجسية في الذات الرقمية، في انتظام ممارستها للفعل ككيان، متناغمة بذلك مع ما يسميه لين جيميسون ب"التفاعل الجسدي والعاطفي"، رأبا لكبت مستديم، واصطراعا لتغيير مرتقب، وإفلاتا من وازع الأخلاق أو الدين أو المجتمع.

هل نسوم أنفسنا هذا الإرهاق المبتذل والعبثي، من أجل الخروج من قوة قهرية باطنية، أو لأن قابليتنا للارتداد عن صحوة الوعي، لا تنفك تؤخر إيماننا بالأشياء الجديدة، أو الصادمة لما تكرسه أعباء الحياة ؟.

السؤال نفسه، يلتقي في اختصاره لكل هذا التأويلات، لظواهر عديدة سبق لعلم النفس التحليلي، أو التفاعلية الرمزية وعلم الظواهر، أن أبدى تأطيرا لمذهبياتها، في قدرتها على ابتداع المفهوم وتأصيله، أو التنظير لقيمته وتحوله التاريخي. كما لو أن بروز بنية "الذات الشبكية" أو "الفردية الشبكية" ضمن هذه الفجوة، هو نتيجة طبيعية لانبثاق أنترنيت منمط ومحشو بترتيب محكم ودقيق، تبرز فيه مدارة "تشكيل العلاقات" كنوع من التدبير المحكوم بأنساق السوق والتجارة والبيزنس؟.

هو كالكائن السايبورغي، ينبثق عن استيهامات آلية مسيرة بالتوابع التكنولوجية عالية الكفاءة، أو هي مزيج من واقع اجتماعي وسرديات أسطورية لا وجود لها. ينكمش في عز تراجع الإحساس بالحقيقة في الموتورات التفاعلية الجديدة، تختفي فيها عواطف القيم والأخلاق والتقاليد والأعراف، وكذا الحميميات الاجتماعية المنضبطة لإيقاع السلوك الإنساني ومنطقياته، في مقابل بروز طفرات الاستهلاك والتخمة والمحاكاة الجوفاء والتفاعل الشهواني والانسياق خلف تقاطعات الأهواء الشخصية وتخرصاتها.

***

د. مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

هناك لحظةٌ يتوقف فيها المثقف، لا لأنه وجد الإجابة، بل لأنه أدرك أن الأسئلة ذاتها قد تغيرت. لم يَعُد السؤال: “ماذا يجب أن نفعل؟” بل صار: “أين يمكن أن نفعل؟ وفي أي مساحة؟”

في زمنٍ تتضاءل فيه المساحات أمام الفكر المستقل، ويصبح فيه التأثير مقيدًا بشروط السوق أو السلطة، يجد المثقف نفسه في مأزق جديد: هل هو صانعُ وعيٍ، أم جزءٌ من ماكينة إنتاجه؟ هل هو فاعلٌ مستقل، أم مجرد ترسٍ في آلةٍ تُعيد تدوير الأفكار داخل منظومة لا تسمح بخروجها عن النص؟

إن أزمة المثقف اليوم لم تَعُد مجرد ترددٍ بين الفعل والتنظير، بل أصبحت أزمة دور: “أين يقف؟ وكيف يمارس تأثيره في عالمٍ لم يَعُد ينتظر الأفكار، بل يستهلكها كمنتجٍ سريع الذوبان؟”

لقد كان المثقف يومًا صانعَ الأسئلة الكبرى، لكنه أصبح الآن محاصرًا بين خطابٍ يُطلب منه أن يكون مستساغًا وسهل الاستهلاك، وبين منظومات تُعيد إنتاجه كصوتٍ لا يتجاوز حدود “الممكن”.

لم يَعُد السؤال: “كيف نغيّر العالم؟” بل: “هل لا يزال مسموحًا لنا بالتفكير في تغييره أصلًا؟”

هذا التحول في وضعية المثقف لم يحدث فجأة، بل هو نتاج لتطورات طويلة المدى. عبر التاريخ، لعب المثقف أدوارًا محورية في تحولات المجتمعات، سواء في الفلسفة الإغريقية، حيث كان الفيلسوف مرآةً للعقل السياسي، أو خلال عصر التنوير، حين قاد المثقفون معارك فكرية أعادت تشكيل مفهوم الدولة والمجتمع، أو في الحركات التحررية في القرن العشرين، حيث لعب المفكرون دورًا في صوغ الأيديولوجيات التي قادت الثورات والاستقلالات الوطنية.

لكن اليوم، يبدو أن هذا الدور قد تآكل، وأصبحت المعركة ليست بين الأفكار، بل بين قوة التأثير وآليات الاحتواء التي تعيد تدوير كل خطاب داخل منظومة تُفرغه من قدرته على التحريض والتغيير.

ولعل ما يعمّق هذا المأزق هو أن المثقف لم يَعُد يقف في موقع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بل بات محاصرًا بخيارين لا ثالث لهما:

- إما أن يكون جزءًا من المؤسسة، فيتم استيعابه وتدجينه.

- أو أن يظل خارجها، فيخسر تأثيره ويصبح مجرد صوتٍ معزول.

فالسلطة لم تَعُد تقمع المثقف كما في الأزمنة الماضية، بل طوّرت أدواتٍ أكثر ذكاءً: منحته منابر ومساحات، لكنها مساحات مضبوطة الإيقاع، تتيح له الكلام، لكن ليس إلى الحد الذي يُهدد بنية القوة.

إن عملية الاحتواء هذه لم تأتِ فقط من السلطة السياسية، بل إن السوق ذاته أصبح عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل وظيفة المثقف.

فمع سيادة الرأسمالية الثقافية، لم تَعُد الأفكار تُقدَّم بوصفها أدواتٍ للتحول، بل كسلعٍ تُباع داخل منظومة تتحكم في إنتاجها وتوزيعها.

لقد رأينا كيف تحوّلت بعض الأفكار الراديكالية، التي كانت في الماضي تُهدد بنية الأنظمة، إلى منتجات ثقافية يتم استهلاكها في المهرجانات الفكرية، أو داخل الأوساط الأكاديمية، دون أن يكون لها أثرٌ حقيقي خارج هذه الدوائر.

بهذا الشكل، لم يَعُد الاحتواء يأتي عبر القمع المباشر، بل عبر إدخال المثقف في ماكينة إنتاج المعرفة، التي تُحدد له إطار حركته، وتُقدّم له منصات يعتقد أنها مساحات حرة، لكنها في الواقع مُكبّلات فكرية تحكمه بسقف غير مرئي.

في ظل هذا الواقع، لم تَعُد الأكاديميا، ووسائل الإعلام، وحتى الثقافة الشعبية، سوى دوائر مغلقة، تعيد إنتاج الفكر كمادة استهلاكية، وليس كأداةٍ للتحوّل.

أصبح النقد نفسه جزءًا من العرض، وأصبح المثقف نجمًا يُحتفى به طالما لم يتجاوز الخطوط المرسومة له.

هذا الشكل الجديد من الاحتواء جعل المثقف يظن أنه مؤثر، لكنه في الواقع مجردُ عنصرٍ آخر في منظومةٍ تتقنُ امتصاصَ التغيير قبل أن يولد.

إن المثقف، الذي كان يومًا صانعَ التحولات، أصبح الآن مجرد مفسّرٍ للأحداث، يلاحقها بدلاً من أن يصنعها، يفسّر انسداداتها لكنه عاجز عن فتح آفاق جديدة.

ولكن، هل هو عاجزٌ بالفعل؟ أم أن العجز ناتج عن شبكة معقدة من القيود التي لا يدرك بعضها؟

لقد أصبح المثقف في كثير من الأحيان مدركًا لأسره داخل المنظومة، لكنه يجد نفسه عاجزًا عن الفكاك منها.

إن إدراكه لحدود تأثيره لا يعني قدرته على تجاوزها، بل قد يجعله في حالة دائمة من الوعي المشلول، حيث يعرف المشكلة جيدًا، لكنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لكسر الدائرة.

وفي هذه الحالة، هل يمكن اعتبار عجز المثقف مجرد انعكاس لحالة فردية؟ أم أنه جزءٌ من أزمة أكبر تتعلق بالبنية الفكرية والسياسية للمجتمع الحديث؟

قد يكون المثقف اليوم واقعًا بين سندان القيود المؤسسية ومطرقة التشكيك الذاتي المستمر، حيث يؤدي تفكيكه الدائم للسرديات إلى شلل فكري يمنعه من تبني موقف حاسم أو اتخاذ خطوة جذرية.

وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل المثقف المعاصر، بتكوينه النقدي الحاد، أصبح رهينةً لوعيه الخاص؟ هل أدى وعيه المتشظي إلى استنزاف قدرته على الفعل؟

هذه التساؤلات تجعلنا نعيد النظر في ما إذا كان المثقف ضحية المنظومة فقط، أم أنه متواطئٌ معها بشكل غير مباشر، بسبب خوفه من المواجهة الحقيقية؟

في النهاية، ليس السؤال: “هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟”

بل السؤال الأهم: “هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟”

أم أن زمنه قد انتهى ليصبح مجرد صدى في عالمٍ لا يعبأ إلا بمن يملك القوة، لا الفكرة؟.

***

إبراهيم برسي

 

وجه الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) سهام نقده لكل ما يعرقل تمتع الإنسان بإنسانيته، وحريته وقوته وحياته على الأرض. فضلاً عن معرفة الإنسان لنفسه وترويضه الإيجابي لقوى الطبيعة، وبناء مجتمع سليم معافى يعجُّ بالأقوياء الأصحاء، وليس المرضى والعبيد أو القطيع، إلى حياة جديرة بأن نحياها.

وقد أخذت القوة في فلسفة نيتشه طابعاً آخر ليس سائداً لا في المجتمعات ولا في الفلسفات، فقد غالى في استخدامها حدّ التطرف، حيث إن النشاط والاعتدال والقناعات، في رأيه، ما هي إلا فضائل القطيع، أما فضائل الأقوياء في رأيه، فهي التسلية والمغامرات والكفر، بل حتى الدعارة. وحتى في مجال الحكم على التاريخ، رجّح نيتشه القوة كمعيار للحكم، فيذهب إلى أن القرن التاسع عشر، أفضل وأكثر استقامة من القرون السابقة عليه، السابع عشر والثامن عشر، فالسابع عشر أرستقراطي، والثامن عشر قرن تسوده المرأة، إنه متحمس، روحي، وسطحي، مع شيء من العقل في خدمة الطموحات والقلب، إنه فاجر في الاستمتاع بكل ما هو فكري، وهو وغدٌ إلى حدٍ كبير، أما التاسع عشر، فأكثر حيوانية، وعامية، وواقعية، وسوقية، وبسبب هذا فهو الأفضل. ويرى أنه لو سألنا طفلاً شجاعاً وقوياً، هل تريد أن تكون رجلاً فاضلاً؟ لنظر إلينا بسخرية، ولو سألناه، أتريد أن تصبح أقوى من زملائك؟ لنظر إلينا بعينين واسعتين. فليس هناك في الحياة ما يمكن أن تكون له قيمة عدا درجة القوة، على أن الحياة نفسها هي إرادة قوة، وكل القيم-بحسب قول نيتشه- ما هي إلا وسائل إغراء، لإطالة مدة المهزلة، إن هذه المدة تصيبنا بالشلل، خصوصاً حين ندرك بأننا خدعنا.

ومن أجل تقوية القيم، قد تم رفعها فوق الناس كحقائق، كما لو كانت هي العالم الحقيقي، وكأنها أوامر الرب... والآن وقد بدا لنا واضحاً أصل هذه القيم الحقيرة، فإن العالم يبدو بسبب ذلك حقيراً، يبدو وكأنه فقد معناه، ولكنها ليست سوى مرحلة انتقالية. وكلما آمنا بالأخلاق كلما كان ذلك إدانة للحياة، لأن التقييمات الأخلاقية هي إدانة نفي، والأخلاق تجرنا بعيداً عن إرادة الحياة. ولكن ما هي الاخلاق؟. أو ما هي المزايا التي كانت تمنحها فرضية الأخلاق المسيحية؟. يجيب نيتشه عن ذلك بالآتي:

1- تضفي على الإنسان قيمة مطلقة، وهي قيمة تتعارض مع صغره ووجوده العرضي في نهر الصيرورة والزوال.

2- تخدم المدافعين عن الرب، بحيث إنها تمنح العالم، رغم البؤس والشر، طابع الكمال.

3- تقر بامتلاك الإنسان معرفة خاصة بشأن القيم المطلقة.

4- تجنب الإنسان احتقاره لنفسه، والوقوف في وجه الحياة، واليأس من المعرفة.

نتيجة لذلك فإن أصل التشاؤم يكمن في الانحطاط، والانحطاط أصل فساد الأخلاق، وإن وسائل العلاج النفسية والأخلاقية لا تغير من سير الانحطاط، وليست العدمية سبب الانحطاط بل هي منطقه، ما الخير والشر إلا نموذجين من الانحطاط، وإن المسألة الاجتماعية نتيجة من نتائج الانحطاط.

من هنا اهتم نيتشه بنقد القيم الأخلاقية السائدة، وهي الأخلاق المولدة من رحم الدين، فهي  في رأيه تعني إلغاء المجتمع، فهي تفضل كل ما يزدريه المجتمع، وتنمو في صفوف الحقيرين والمذمومين، وتحتقر الأغنياء والنبلاء والأقوياء، وقد أطلق عليها بـ(أخلاق الشفقة)، تلك التي اعتبرت الرجال المتسلطين والعنيفين والسادة عموماً، أعداء يجب حماية الإنسان البسيط من بطشهم، وبالتالي علمت الناس أن يبغضوا ويحتقروا ما يشكل الطبع الأساسي للمهيمنين، أصحاب إرادة القوة.

ونتيجة لذلك عدّ الشيء الأكثر ضرراً من أية رذيلة، هو الشفقة الفاعلة لخدمة الضعفاء. لذلك أكد على ضرورة تجاوزها، وإن تجاوزها يعني امتلاك قدر معين من الثقافة الفكرية، وهذه بدورها تعد سعادة، لهذا شنّ هجمته الشعواء ضد المسيحية كونها تحمي المحرومين من السقوط في العدمية، لأنها تضفي على كل واحد منهم قيمة لا حد لها، قيمة ما ورائية، فكانت تعلم الناس الخضوع والتواضع، وبالتالي فهي أشبه بالمؤامرة الجوهرية ضد الحياة، بل هي نفي للحياة، ولتخليص الحياة يجب القضاء عليه، فهي المسؤولة عن إظهار ثقافة القطيع، وللقطيع فضائل، يجملها نيتشه بالآتي:

1- في الثقة: لأن الريبة تتطلب حصر الذهن، والملاحظة والتفكير.

2- في التبجيل: حيث المسافة الفاصلة عن القوة كبيرة والخضوع ضروري، ولكي لا يخاف فإنه يحاول أن يحب، أن يبجل ويؤول اختلافات السلطة باختلاف الفضائل، حتى لا تصبح العلاقات مغيظة.

3- في معنى الحقيقة: ما هو الشيء الحقيقي؟ يعطي التفسير الذي يتطلب أقل قدر ممكن من المجهود العقلي.

4- في التعاطف: التساوي مع الآخرين، محاولة الشعور بنفس الإحساس.

5- في هدوء الحكم وعدم انحيازه: يخشى مجهود الانفعال ويفضل أن يظل بعيداً، أن يضل موضوعياً. 6-في الوفاء: يفضل الخضوع لقانون موجود على وضع قانون لنفسه، إنها خشية القيادة.

6- في التسامح: الخوف من ممارسة الحق.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

 

التطلعات الفكريّة والسياسيّة للإسلام المعاصر

إن من يتابع التوجهات السياسيّة والعقديّة للمشروع السياسي الإسلامي المتحزب منه بشكل خاص، سيجد أنها تحمل – التوجهات - في مضامينها تطلعات أيديولوجيّة غالباً ما تنطوي على عدّة اعتبارات أهمها، محاولة إقحام أو ربط كل شيء في حياة الإنسان بمفردات الدين، وأقصد هنا القرآن والحديث وأقوال الفقهاء ومشايخه وتفاسيرهم وتأويلاتهم منذ بداية عصر حياة الرسول والصحابة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى حتى اليوم، واعتبارها إطاراً مرجعيّاً نهائيّاً لسلوكيات الناس في الشكل والمضمون، وأنها جميعاً قد امتلكت الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، كما ترفض التعديل والنقد والمراجعة، ممثلة في نصوصها المقدسة أصلاً وخاصة الحديث، أو ما نالته القداسة من أقول الأئمة والفقهاء وعلماء الكلام ومشايخ الطرق الصوفيّة والفرق الدينيّة فيما بعد. أي اعتبار الدين وحده المكلف بأمر إلهي أن يُسًيِر كل حياة البشر وفق معطيات حددها هذا الدين نفسه في عقيدته وتشريعاته وعباداته. وبالتالي هو من حكم الماضي ويحكم الحاضر وسيحكم المستقبل بمعظم تفاصيله أو مفرداته الحياتيّة، ووفق رؤية سلفيّة ما ضويّة ترفض الرأي الآخر المختلف، ولا تقبل التجديد والتعديل في معطياتها الفكريّة والسلوكيّة والقيميّة. وهذا ما يشكل عندها نظرة شموليّة تفرض الكثير من القيود على العقل الحر المنفتح، وتحدد بنية انطلاقاته الفكريّة بسنن الأولين التي يكتنف الكثير منها الغموض والالتباس والتناقض في أحيان كثيرة (1).
أما جوهر الحكومة الإسلاميّة كما يراها (حسن الهضيبي) في كتابة المشهور (دعاة لا قضاة)، الذي حدّد فيه المنطلقات الأساسيّة لإقامة الدولة الإسلاميّة بالنقاط التالية:
أولا: وجود الإمام الحق. أي الإمام الذي يجب أن يكون مسلماً بناءً على نص الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً). النساء - 141. وأن يكون الإمام قد بلغ سن التكليف وذلك بناءً على قول الحديث: (رفع القلم عن ثلاث) منهم الصبي الذي لم يبلغ الحكم. وأن يكون الإمام رجلاً ولا تقبل إمامة الأنثى). (لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة).(2).
ثانياً: حكومة تعتنق الإسلام ديناً، وتقوم على تنفيذ أحكام الشريعة.
ثالثاً: العمل بمقاصد الشريعة وهي:
آ- حراسة الدين والدفاع عنه.
ب- الدفاع عن المسلمين.
ج- العمل على نشر دعوة الإسلام. (دعوة الله).
د- القتال في سبيل نشر الدعوة لتكون كلمة الله هي العليا. (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.). الأنفال - 39
هـ - الشريعة هي من ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. كتعيين شكل الحكم في الدولة، وتنظيم الحريات التي يكفلها الإسلام للفرد والجماعة.
و- الشريعة هي التي تأمرنا باتباع وتنفيذ ما حددته من شرائع تحكم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعلاقة الأمّة الإسلاميّة بغيرها من بقية الأمم. إلى غير ذلك من قضايا تربط حياة الأمّة في مختلف نواحيها، وخاصة تلك القضايا التي تربط حياة الأمّة بمصيرها في الآخرة.
ز- كل ذلك يتم وفق إيمان مطلق بطاعة الله وامتثالاً لأمره وخشوعاً له.
ح- كل عمل لا يرتبط أو لا ينسجم في منافعه الدنيويّة مع أحكام دين الله وابتغاء وجهه لا يرضى عنه.
ك- إن كل أحكام الشريعة كما يقول "الهضيبي" تقوم على تطبيق نص الآية: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.).الحج 41. (3).
أمام هذه المعطيات التي حددها "الهضيبي" في كتابه "دعاة لا قضاة"، والتي يتبين لنا من خلالها كيف يفكر دعاة الخطاب الإسلاميّ السياسي، في الدولة التي يسعون إلى تطبيقها في الواقع حسب نص الآية 41 من صورة الحج، فهنا يغيب دور العلوم الطبيعيّة والفلسفيّة وكل ما يعطي للعقل الإنساني من مساحة لتحقيق التنمية والتطور. لذلك لا نستغرب كيف راحت تتصرف بعض القوى الجهاديّة التي وصلت إلى الحكم وكيف اهتمت في الشكل أكثر من المضمون، أهتمت بلباس المرأة وحصارها، كما اهتمت بحف الشارب وإطلاق الدقن، وأمرت الناس على الاقتداء بالسلف الصالح فكراً وممارسة، وركزت على العبادات والشعائر أكثر من تركيزها على تطوير البحوث العلميّة وتشجيع البحث العلمي لدى الشباب. ففي الممارسة تبينت تلك الهوة الواسعة بين الفكر الذي طرحته بعض هذه القوى السياسيّة للتطبيق في الواقع المعاصر، وبين روح أو جوهر الدين الذي يحض على المعرفة (.. إقرأ باسم ربك الذي علم بالقلم..). الأمر الذي أدى إلى فشل تطبيق الدين عمليّا مع "ثورات الربيع العربي" في تونس، ثم تلتها مصر، ثم فشل الدولة الإسلاميّة (داعش)، في سوريا والعراق. وعلى أساس هذه المعطيات التي جئنا عليها أعلاه، نعود لنطرح السؤال المشروع هنا وهو: كيف يستطيع حملة المشروع السياسي الإسلامي تحقيق "دولة مدنيّة معاصرة" تجاري معطيات العصر الحديثة، دولة تتجاوز كثيراً المعطيات التاريخيّة التي كانت موجودة عندما جاء هذا الدين، وعبر مراحل تطبيقها اللاحق.
إذاً بناءً على معطيات الواقع المعيوش، لا بد لدعاة الخطاب الإسلامي السياسي من إعادة النظر بمعطيات الواقع المعاصر، والعمل على إعادة تفسير النص وتأويله وفق مقاصد الدين المشبعة بالقيم الإنسانيّة كالدعوة إلى العلم والمعرفة واستخدام العقل وحرية الإرادة الإنسانيّة، وليس وفقاً لمواقف ماضوية جمودية استسلاميّة، أو مواقف إرادويّة ورغبويّة لا تراعي خصوصيات الواقع وما حدث فيه من تطور وتبدل، ولا تراعي مناهج البحث العلمي وتطويرها. أي عليها أن تتجاوز العمل على خدمة مشروع أيديولوجي سكونيّ جامد لا يؤمن بالحركة والتطور والتبدل.
إن الموقف العقلاني النقدي من ربط الدين في الواقع يتطلب التفكير والممارسة وفق التالي:
1- التخلي عن مفهوم الدولة أو الخلافة بصيغتها الراشديّة أو الأمويّة أو العباسيّة وما تلاها من صيغ خلافيّة حتى سقوط الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة، واعتبار كل صيغ الحكم تلك هي الفردوس المفقود الذي يجب إعادته لواقعنا الحالي. وبالتالي هذا يتطلب منا بالضرورة الإقرار بأن الدولة الإسلاميّة المنشودة ليست دولة جاهزة نزلت من علٍ، وإنما هي دولة تنتج عن إرادة حرّة للأمّة وبالتراضي بين مكوناتها الاجتماعيّة بكل تجلياتها الدينيّة والعرقيّة والمذهبيّة.
2- نبذ أوهام المهدويّة التي تعلق الآمال على إمام قد يأتي، أو يحيى بمعجزة لإقامة أنموذج الدولة الإسلاميّة العادلة المثاليّة ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وإن غاب يمثله مرشد عام أو ولاية فقيه تُختزل السلطة في شخصه، أو تمثله حركات إسلاميّة حديثة تعتقد بأن وصولها إلى السلطة سيخرج الزير من البير، وستحقق المعجزة أيضاً.
3- ضرورة التركيز على الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والتشريعات المرتبطة بالواقع المعيوش، دون إنكار أو إقصاء للشريعة الإسلاميّة، وهذا يتطلب الإقرار باعتبار الشريعة الإسلاميّة مصدراً من مصادر التشريع، والتعامل معها وفق خصوصيات العصر.
4- ربط التغيير بمعاينة الواقع والنظر بمصالح الناس بدلاً من الوعظ المجرد والاهتمام بالشكليات وتأدية الطقوس. فوعظ الناس بالدين لم يحرك ولن يحرك أصغر نبتة في الأرض إذا لم يرتبط بمصالح الناس ويدخل صلب معاناتهم وطموحاتهم معاً.
5- اعتبار الفقه الذي وجد في العصور الوسطى هو فقه تلك المرحلة، ولا يجوز ان يتحول بمجموعه إلى نص مقدس صالح لكل زمان ومكان، مع التأكيد على صلاحية بعضه لمصالح تاريخنا المعاصر، ومع ضرورة إسناد مهمة التشريع للدولة ومؤسساتها من خلال علماء مختصون بالقانون ومصالح الناس وخصوصيات العصر.
6- التخلي عن مفهوم الدولة المثاليّة والحاكم المثالي، فللناس مصالحها، والمواطنة والقانون هما أساس العدل. لذلك فإن الدعوة إلى الدولة المثاليّة أو الدولة الأنموذج، تجعل الطغاة يتمسكون بالسلطة تحت ذريعة الدفاع عن الدولة أمام القوى تقر ا بدستور متفق عليه شعبياً، هي من يحقق مصالح المواطنين بغض النظر عن دينهم وعرقهم وموقفهم السياسي.
7- إن جوهر الأمّة هو مكوناتها العرقيّة والدينيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة والثقافيّة، وليس المسلمون وعقيديتهم الإسلاميّة فقط، وبالتالي الفرقة الناجية هي المرجع الوحيد. فالتعايش السلمي بين هذه المكونات هو جوهر الدولة الإسلاميّة. وهنا يأتي احترام الأمّة بمكوناتها، واحترام القانون الدوليّ وبقيّة الأمم الأخرى. إن أخطر المفاهيم التي يطرحها دعاة الخطاب الدينيّ السياسيّ المعاصر هي تفشي الاعتقاد بأن الدولة الإسلاميّة هي تلك المؤسسة التي تجبر الناس على العيش وفقاً لقيم الإسلام فقط. والصحيح هو جعل الناس تبحث عن دولة تؤمن لهم رعايتهم ومصالهم وحمايتهم من الفقر والظلم والاستبداد، إضافة للنظر في القضايا المعاصرة كالتنمية بكل ابعادها والحرية ووضع المرأة والديمقراطية والدولة المدنية بكل مفرداتها ويأتي في مقدمتها المواطنة والقانون والمؤسسات والتشاركيّة والتعدديّة.
8- عدم التعامل مع آيات القتال على أنها آيات أذنت بقتال من يقاتل الدين والمسلمين إلى يوم الدين، وهذا ما يجري عند دعاة الإسلام السياسي حتى اليوم حقيقة كالدواعش مثلاً. إن اتخاذ آيات وأحاديث الجهاد لنشر الإسلام بحد السيف واجبار الناس بالقوة على دخول الإسلام حتى تاريخه، لم يحقق دولة إسلاميّة مستقرة وعادلة سابقاً، ولن يحقق دولة إسلاميّة لا حاضراً ولا في المستقبل، ولن يسمح حتى بإعطائها صفة الإسلام. (قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. الحج – 39-40. والقتال في جوهره يأتي لدثر الفتنة ومن يوقظها. وقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). المائدة 32.
9- إن الحديث عن فرض قوانين الشريعة في الدولة الإسلاميّة المنشودة بالقوة، هو فهم أيديولوجي، فالشريعة لا تحكم حقاً إلا إذا كان المجتمع الذي تطبق فيه يراها عمليّة تحرير واشباع لتطلعات الفرد والمجتمع والأمّة، وعمليّة تحقيق الذات والنمو الأخلاقي وتحقيق الرفاهيّة والسعادة والاستقرار. وإن هذه القوانين لا تفرض بالقوة وإنما بالإرادة المشتركة لهذه الأمّة التي تقرها وتطبقها، وسندها في النهاية هم من تنطبق عليهم، وإلا تحولت إلى ظلم ونفاق للدين وفق رؤية من يريد فرضها بالقوة.
10- من واجب الدولة الإسلاميّة حماية مواطنيها من الظلم وليس التماشي معه تحت دريئة درء الفتنة وتبرير ظلم الحاكم.
11- التأكد من دور الفرد في إطار الجماعة، ومسؤوليته هي الوقوف ضد مصالح الفرد الأنانيّة التي تخالف مصالح الجماعة. فلا تأليه للحاكم، ولا خلود له في السلطة، فالسلطة للشعب في جوهرها ولا وصاية عليه ومن يكلف بإدارة السلطة يجب أن يكلفه الشعب، وإلا يعتبر متسلطاً وناهبا للسلطة بالقوة.
إن الإسلام أهمل دور الفرد باسم العقيدة، وباسم أهل الحل والعقد، وفرض الكفاية، وهذه التعابير أو المقولات اختزلت الإسلام في تطبيقاتها على فئة في أمور السياسة وتطبيق للشريعة. وعلى هذا الأساس نقول: إن الفرد لا يحتاج للدولة حتى يكون مسلماً، وإنما الفرد المسلم هو من يخلق الدولة كمسلم.
12- الدولة ليست غاية بذاتها كما نادى بها بعض قيادات الإسلام السياسيّ في شقيه السنيّ والشيعيّ، فهذا الادعاء يعطي مشايخها الكلمة الفصل في تحديد سماتها وخصائصها، وبالتالي في انحرافها عن مهامها الأساسيّة، بهذا الشكل أو ذاك. لأن الدول ممثلة بقادتها ومشايخها هنا، وهذا ما يجعلها تنكفئ على نفسها، وتقدس نفسها أيضاً وهياكلها ووجودها والبعد التشريعي الذي تحكم به. وبهذا، فساسة الدولة في مثل هذه الصيغة الشموليّة سيعملون جاهدين من أجل استمرار هذه الدولة، والحفاظ على كيانها بعيداً عن مصالح الشعب كما يجري الآن في الدول التي حكمت باسم الدين في صيغته المتأتى عليها أعلاه، ولا تعتبر الشعب هو الحاكم الفعلي في اختيار من يحكمه ويحقق العدالة والاستقرار والأمن ولقمة العيش له.
13- إن الدولة الشموليّة مهما تكن مرجعيتها دينيّة أو وضعيّة، هي دولة ستدور عبر قيادتها حول نفسها، أي الدوران حول المبادئ والأخلاق والسلوكيّة الوثوقيّة، لتحقيق أهدافها، فباسم المثاليّة العظيمة ارتكبت مجازر بحق المختلف أو صاحب الرأي الناقد لسياسة الدولة الشموليّة .
14- إن دولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة، لا تؤمن بفرض الوصاية الدستوريّة والتشريعيّة على طريقة الأحزاب "الديمقراطيّة الثورية"، أي جعل (مجلس الثورة)، أو من يريده قادة هذا المجلس من النخب بوضع الدستور، وفرضه على الناس بالقوة تحت ذريعة تحقيق مصالح الشعب، وبالتالي تسويق الحق المطلق الذي يمثله الدين برأيهم عبرفهمهم هم للدين .
15- إن مشروع المعاهدة بين مكونات المجتمع في قيادة الدولة، هو ما نسميه اليوم العقد الاجتماعي، وهو الحل لتجاوز دولة الاستبداد والوصاية والشموليّة باسم العقيدة وفهم النخبة أو ولاية الفقيه أو المرشد العام، أو مشايخ السلطان. (4).
****
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة
......................
الهوامش:
1- علي الخيون – الإسلام السياسي في العراق – اصدار مركز الدراسات - 2011 – ص9.
2- (المحلي ابن حزم 9- 360).
3- للاستزادة في هذا الموضوع راج كتاب حسن الهضيبي – دعاة لا قضاة – دون تاريخ نشر. وكتاب سيد قطب " معالم في الطريق.
4- للاستزادة في ذلك يراجع كتاب: "الإسلام والدولة الحديثة" – الدكتور أحمد عبد الوهاب أحمد الأفندي - دار الحكمة – لندن – دون تاريخ نشر – ص178 إلى 194)

 

الواضح أن مفهوم «الآيديولوجيا» وتطبيقاته يثيران حساسية ملحوظة عند الجمهور، فضلاً عن السياسيين والمفكرين. سيبقى هذا الرأي انطباعياً؛ نظراً إلى شكّنا في أن المفهوم واحد عند جميع الناس، فوق أننا لا نعرف المسافة بين ما يريده الناس من هذا المفهوم وما يرفضونه فيه.

على أية حال، قد يكون مفيداً المرور سريعاً على أصل المفهوم وسبب الخلاف بشأنه، لا سيما الموقف المتشكك فيه أو الرافض له.

تقول المصادر إن الذي صاغ مصطلح «الآيديولوجيا» هو المفكر الفرنسي ديستوت دي تريسي سنة 1796. كان دي تريسي يحاول وضع قواعد تفسيرية توضح كيفية انتقال البيانات من الحواس الخمس التي تتفاعل مع البيئة المحيطة بالإنسان، إلى عقله، حيث تُستعمل في تشكيل منظومات الأفكار. ويقال إن تريسي تأثر بالفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، الذي رأى أن تفكير الإنسان في الأشياء محكوم بذاكرته التاريخية من جهة؛ وبمكونات الظرف المحيط به من جهة أخرى، وهي النظرية التي يشار إليها عادة باسم «أصنام العقل الأربعة». أراد دي تريسي وضع قاعدة عامة تفسر حركة الأفكار منذ ولادتها حتى تتموضع في سلسلة، فتشكل منظومة متكاملة، وأطلق على هذا المشروع اسم «علم الأفكار (ideology)».

كان تريسي مقتنعاً تماماً بأن أي فكرة تولد داخل عقل الإنسان يجب أن تولد ضمن منظومة، أو تنظم لاحقاً في منظومة؛ لأنه لا توجد في العقل أفكار منفردة غير متصلة بأي فكرة أخرى.

حصل المصطلح على رواج أكبر بعدما ظهر في كتابات كارل ماركس، خلال منتصف القرن التاسع عشر. وكانت المفارقة أن ماركس بدأ ناقداً للآيديولوجيا، التي قال إنها تخلق وعياً زائفاً بالواقع، لكنه اتجه لاحقاً إلى تشكيل منظومة فكرية متكاملة، تمثل نموذجاً لما نسميها «آيديولوجيا». والواضح أن ماركس لم يتخذ هذا المنحى عن غفلة، بل يبدو أنه أراد عامداً إنشاء العقيدة الشيوعية بوصفها آيديولوجيا شاملة ومغلقة إلى حد كبير. وخلال القرن العشرين أنشأ معظم الأحزاب الشيوعية الكبرى قسماً خاصاً للتعليم والتدريب الآيديولوجي، وبعضها يحمل هذا الاسم من دون مواربة.

ثمة اعتراضات كثيرة على الآيديولوجيا؛ بماهيتها ومن حيث المبدأ، وقد ذكرتُ في المقال السابق قول من قال إنها «حجاب الحقيقة» أو «الشجرة التي تحجب الغابة». لكنني أود التركيز على ما أظنه أبرز الاعتراضات؛ وهو تلبّسها بما يشبه عباءة الدين.

توصف الآيديولوجيا بأنها نظام كلي، ينظِّم في نسق واحد المعرفةَ والسلوكَ الشخصي وعلاقةَ الإنسان بالآخرين وبالطبيعة. وهذه على وجه التحديد وظيفة الدين، ولذا قيل إن الآيديولوجيا تستولي - عملياً - على مكانة الدين عبر مزاحمته على الوظائف التي يفترض أنه مختص بها.

نعلم أن المسافة واسعة جداً بين الدين والآيديولوجيا: فالأول من عند الخالق، بينما الثانية من صنع البشر. يركز الدين على داخل النفس وليس الخارج. الواجب المحدد للإنسان هو الحفاظ على نظافة قلبه، ومواصلة تطهيره من خلال اتهام النفس بالقصور أو التقصير والاعتذار إلى الخالق عنه. «الدين» حالة انجذاب من الإنسان إلى الخالق، وليس اندفاعاً من الإنسان إلى بقية البشر. أما «الآيديولوجيا» فتركز على المحيط الحيوي للإنسان، بناء على فرضية مسبقة بأن الآيديولوجيا التي يحملها كاملة، وأن القصور في المحيط وليس فيها ولا في حاملها. بعبارة أخرى؛ فإن حركة الآيديولوجي تتجه من داخله إلى خارجه، وتسعى لتغيير المحيط بوصفها في مرتبة أعلى من هذا المحيط، ولا تحتمل الخطأ.

السؤال الآن: ماذا يحدث لو أن مجموعة أشخاص شكلوا تياراً يحمل اسم الدين ويتحدث بلغته ويرفع شعاراته ورسومه، ويعدّ نفسه ممثلاً للدين وحامياً لحماه، لكن المضمون الجوهري لهذا التيار وتعاليمه كلها، من صنع البشر، فهل نصنّف هذا الخطاب في جانب «الدين» أم في جانب «الآيديولوجيا»؛ أي هل نركز على الصورة الإلهية للخطاب أم على مضمونه البشري؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا

بدأت قصة علاقتي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) بدعوة لالقاء محاضرة. حينها، لم اكن اتوقع ان هذه الزيارة ستكون بمثابة رحلة استكشافية في عالم العلم والمعرفة. في اليوم الأول، انصب تركيزي على التعرف على بعض اعضاء هيئة التدريس. لكن مع مرور الوقت، بدأت اكتشف جوانب أخرى لهذا المعهد. في اليوم الثاني، انخرطت في نقاشات مطولة مع باحثين شباب، أذهلني حماسهم وأفكارهم المبتكرة. في اليوم الثالث، تجولت في أروقة المعهد وتأملت في البيئة التي تشجع على الابداع والابتكار. مع نهاية الزيارة، ادركت انني لم اكن مجرد ضيف، بل كنت جزءاً من تجربة فريدة. لقد كانت رحلة متسلسلة، بدأت بدعوة، ثم تحولت الى سلسلة من العلاقات والتفاعلات المثمرة، لتنتهي بانطباع راسخ عن كالتك كصرح علمي شامخ.

يتميز معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) بتركيزه الحصري والدقيق على العلوم والهندسة والتكنولوجيا، مما جعله بحق مركزا عالميا للبحث والابتكار في هذه المجالات الحيوية. هذا التركيز لا يقتصر على تقديم مناهج دراسية متخصصة، بل يتعداه الى توفير بيئة حاضنة للابداع والاكتشاف العلمي. يتميز ايضا بحجمه الصغير نسبيا مقارنة بالجامعات الكبرى، وهذا الحجم يتيح نسبة عالية جدا بين الطلاب واعضاء هيئة التدريس، مما يعزز التفاعل الوثيق والمباشر بين الطرفين، ويضمن توجيها شخصيا فريدا لكل طالب، حيث يحظى الطلاب بفرصة العمل عن كثب مع كبار العلماء والباحثين. تعتبر البيئة البحثية المكثفة والغنية بالفرص من ابرز سمات كالتيك، حيث يشجع الطلاب، من المراحل الجامعية الاولى وحتى الدراسات العليا، على المشاركة الفعالة في ابحاث متطورة ورائدة جنبا الى جنب مع اعضاء هيئة تدريس عالميين معترف بهم دوليا، مما يكسبهم خبرة عملية قيمة ويساهم في تطوير مهاراتهم البحثية. اضافة الى ذلك، يدير كالتيك بكل فخر واقتدار مختبر الدفع النفاث (JPL) التابع لوكالة ناسا، وهو مركز رائد عالميا لابحاث الفضاء واستكشافه وتطوير الروبوتات والمركبات الفضائية، ما يتيح للطلاب فرصة فريدة للمشاركة في مشاريع فضائية حقيقية. واخيرا، خرج كالتيك على مر تاريخه العديد من العلماء والمهندسين ورجال الاعمال البارزين الذين تركوا بصمات واضحة في مجالاتهم، بمن فيهم الحائزون على جائزة نوبل في مختلف فروع العلوم والذي يقدر عددهم بسبعين عالما، ما يؤكد جودة التعليم والبحث في هذه المؤسسة المرموقة.

تاسس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عام 1891 باسم متواضع هو "مدرسة ثروب للفنون اليدوية" على يد رجل الاعمال والسياسي اموس جي ثروب. كانت المدرسة في بداياتها تركز على تعليم الحرف اليدوية والمهارات التقنية، ولكنها سرعان ما بدات في التطور والتوسع في مجالات العلوم والهندسة. تطورت المؤسسة عبر السنين بشكل ملحوظ، وشهدت تغيير اسمها عدة مرات قبل ان يعرف باسمه الحالي، معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، في عام 1920، وهو الاسم الذي يعبر بدقة عن طبيعة المؤسسة واهدافها. نما كالتيك تدريجيا ليصبح جامعة بحثية رائدة على المستوى العالمي، واكتسب سمعة مرموقة بفضل مساهماته الهامة والجذرية في مجالات العلوم والهندسة، حيث يعتبر منارة للعلم والمعرفة والتكنولوجيا على مستوى العالم.

يجري معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ابحاثا متطورة ورائدة تتجاوز حدود المعرفة في مجالات متنوعة وشاملة، تشمل الفيزياء النظرية والتجريبية، حيث تجرى دراسات معمقة حول الكون وقوانينه الاساسية، وصولا الى دراسة الجسيمات دون الذرية، وعلم الفلك واستكشاف الفضاء، من خلال دراسة الكواكب والنجوم والمجرات، وتطوير التلسكوبات والمركبات الفضائية، والكيمياء بجميع فروعها، من الكيمياء العضوية وغير العضوية الى الكيمياء الحيوية والفيزيائية، والاحياء الجزيئية والخلوية، التي تركز على دراسة العمليات الحيوية على المستوى الجزيئي والخلوي، والهندسة بفروعها المختلفة من الميكانيكية الى الكهربائية والفضائية، حيث تطور تقنيات جديدة في مجالات الروبوتات والطاقة والنقل، وعلوم الارض والكواكب ودراسة الظواهر الطبيعية، مثل الزلازل والبراكين والتغيرات المناخية. هذه الابحاث لا تثري المعرفة العلمية فحسب، بل تساهم ايضا في حل مشاكل عالمية ملحة.

ضم معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عبر تاريخه كوكبة من اشهر العلماء الذين ساهموا باسهامات جليلة في مختلف المجالات العلمية. من الصعب حصرهم جميعا، لكن ابرزهم ريتشارد فاينمان عالم فيزياء نظرية شهير، حائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965 عن اعماله في الديناميكا الكهربية الكمية، وموراي جيل مان عالم فيزياء نظرية حائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 عن اكتشافاته المتعلقة بتصنيف الجسيمات الاولية وتفاعلاتها، وكارل ساغان عالم فلك وكاتب ومروج للعلوم اشتهر بابحاثه في مجال الكواكب وبرنامجه التلفزيوني "الكون" ، ولينوس باولنغ عالم كيمياء حائز على جائزتي نوبل، الاولى في الكيمياء عام 1954 عن ابحاثه في طبيعة الرابطة الكيميائية، والثانية جائزة نوبل للسلام عام 1962 لنشاطه ضد التجارب النووية، واحمد زويل عالم كيمياء مصري امريكي حائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 عن اختراعه ميكروسكوب الفيمتوثانية الذي يمكن من خلاله رؤية حركة الذرات داخل الجزيئات عند حدوث التفاعلات الكيميائية، وجون فون نيومان عالم رياضيات وفيزياء وحاسوب مجري امريكي، ساهم في تطوير الحاسوب الحديث ونظرية الالعاب.

يولي كالتيك اهمية كبيرة لمشاركة الطلاب في هذه الابحاث، سواء في مرحلة الدراسة الجامعية الاولية او الدراسات العليا. ففي المرحلة الجامعية الاولية، يشجع الطلاب على الانخراط في مشاريع بحثية صغيرة تحت اشراف اعضاء هيئة التدريس، مما يكسبهم خبرة عملية قيمة ويساعدهم على تطوير مهاراتهم البحثية والتفكير النقدي. اما في الدراسات العليا، فيعتبر البحث العلمي جزءا اساسيا من البرنامج الدراسي، حيث يعمل الطلاب على مشاريع بحثية معمقة تساهم في دفع عجلة التقدم العلمي.

يمتلك كالتيك مرافق حديثة ومتطورة على اعلى مستوى عالمي، تساعد الباحثين والطلاب على اجراء ابحاثهم بكفاءة وفعالية. تشمل هذه المرافق المختبرات المجهزة باحدث التقنيات والاجهزة، التي تمكن الباحثين من اجراء تجارب معقدة ودقيقة، والمراصد الفلكية المجهزة باقوى التلسكوبات، التي تتيح رصد ودراسة الاجرام السماوية بدقة عالية، ومراكز الحوسبة عالية الاداء التي تمكن الباحثين من اجراء عمليات محاكاة معقدة وتحليل كميات هائلة من البيانات. هذه المرافق توفر بيئة بحثية مثالية تشجع على الابتكار والاكتشاف.

يتعاون كالتيك بشكل وثيق مع مؤسسات بحثية وجامعات مرموقة في جميع انحاء العالم، مما يعزز تبادل المعرفة والخبرات بين الباحثين والعلماء من مختلف الجنسيات والخلفيات العلمية، ويساهم في تقدم البحث العلمي على المستوى الدولي. هذه الشراكات تتيح للطلاب والباحثين في كالتيك فرصة التعاون مع باحثين من مؤسسات اخرى، والاطلاع على احدث التطورات في مجالاتهم.

يعتبر كالتيك بحق من افضل الجامعات على مستوى العالم للعديد من الاسباب، منها تميزه الاكاديمي ومعاييره الصارمة في اختيار الطلاب واعضاء هيئة التدريس، مما يضمن وجود نخبة من العقول الشابة والخبيرة في مكان واحد، وبحثه الرائد الذي يساهم بشكل فعال في تقدم العلوم والهندسة وخدمة البشرية، من خلال تطوير تقنيات جديدة وحلول مبتكرة لمشاكل عالمية، وبسبب خريجيه المؤثرين الذين يحدثون تغييرا ايجابيا في مجتمعاتهم من خلال ابتكاراتهم واكتشافاتهم، وبسبب تصنيفاته العالمية المتقدمة باستمرار في جميع قوائم تصنيف الجامعات العالمية المرموقة، ما يؤكد جودة التعليم والبحث في هذه المؤسسة المرموقة. هذه العوامل مجتمعة ترسخ مكانة كالتيك كاحدى اهم المؤسسات العلمية والبحثية في العالم، ومساهمته الكبيرة في اعداد جيل جديد من العلماء والمهندسين القادرين على قيادة مستقبل العلوم والتكنولوجيا.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

بقيت مدن الفلاسفة المُتخَيلة التي تدعو إلى قيم الحق والعدالة والخير والجمال، مجرد أفكارٍ نظريَّة لا نصيب لها على أرض الواقع، ذلك أنَّ الإنسان بطبيعته المزدوجة، ونفسه المجبولة على حب الشهوات، غالباً ما يكون متلهفاً لامتلاك الثروة والنفوذ والسلطة والجاه والإقبال على بهرجة الدنيا ومغرياتها مما يولد الصراع بين البشر وشيوع أنواع الشرور والقبح والمظالم والعداوات.

ومنذ محاولة أفلاطون قبل ما يزيد على ألفين وأربعمئة عامٍ بناء جمهوريته التي اشتهرت باسم "جمهوريَّة أفلاطون" فإنَّه نفسه قد فشل حين حاول تطبيقها على أرض الواقع بمساعدة صديقه الذي أصبح حاكماً على جزيرة صقلية، غير أنَّ محاولته باءت بالفشل بسبب الصراعات السياسيَّة في الجزيرة التي انتهت باختطافه وبيعه في سوق العبيد قبل أنْ يتمَّ تحريره وإعادته في إحدى السفن حراً لكنْ خائباً إلى أثينا.

بعد محاولة أفلاطون هذه بأقل من خمسمئة عامٍ وفي القرن الثاني الميلادي يتربع على عرش الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الامبراطور ماركوس أوريليوس، وكان هذا الإمبراطور فيلسوفاً متأملاً من اتباع الرواقيَّة التي تدعو للفضيلة والتحكم بالرغبات والعواطف، لذلك حاول أنْ يقيمَ حكماً رشيداً عادلاً قبل أنْ يتوفى بالطاعون في مدينة فيينا النمساويَّة خلال حملة عسكريَّة ضد القبائل الجرمانيَّة وعمره لم يزد على الثامنة والخمسين عاماً.

لم يخلد التاريخ ماركوس أوريليوس كإمبراطورٍ عادلٍ أكثر ممَّا خلدته "التأملات" التي كتبها على شكل يومياتٍ وعظاتٍ يوميَّة يعظُ فيها نفسه لكونه من شيوخ الرواقيَّة وأبرز مفكريها. قيل إنَّه جسَّدَ - إلى حدٍ كبيرٍ - صورة الحاكم الفيلسوف كما تخيله أفلاطون، لذلك وصفوه بـ"الفيلسوف على العرش".

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

تمهيد: يعد فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن (الذي صدر عام 1936) بلا شك مرجعًا للفلسفة والفن والثقافة والسينما نظرًا للفلسفة الاجتماعية الدقيقة المقدمة فيه. تُظهر الصورة الأولى للفيلم ساعة عملاقة يتحرك فيها عقرب الثواني بلا هوادة نحو أعلى الساعة. والرمز واضح: يعيش الناس تحت طغيان الزمن الذي يتم قياسه ميكانيكيا - دكتاتورية الساعة. تمثل هذه الساعة تجريد الإنسان الحديث من إنسانيته وطبيعته. فماهي خصائص الفلسفة الاجتماعية التي يتضمنها فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن؟ وما دلالة ذلك اليوم؟

نظرة عامة

يتدفق العمال خارج محطة المترو ويهرعون نحو المصنع مثل القطيع. واحد فقط من هؤلاء الأغنام، البطل، قد اسودت بسبب الأوساخ من المصنع، وهو رمز لاختلافه والدور الذي سيتعين عليه أن يلعبه. تتم أعمال خط التجميع في مصنع آلي للغاية، ويديره شخص بعيد وغامض، يشرف عليه باستخدام شاشات كبيرة، إشارة إلى بعده عن العمال. يتمثل دور البطل، على السلسلة، في شد البراغي على الألواح. مثل زملائه العمال، يصبح البطل ميكانيكيًا لمتابعة إيقاع الإنتاج بأفضل ما يمكن، في حين أن أدنى إلهاء يمكن أن يبطئ الخط. البطل غير قادر على التفكير، فهو مجرد امتداد للآلة، روبوت. لقد جرده المصنع من حسه النقدي، أي من إنسانيته. فكيف يمكن قراءة أحداث الفيلم من الناحية الفلسفية؟ وهل يمكن نقده ثقافيا؟

فكرة الفيلم

للوهلة الأولى، يبدو فيلم "الأزمنة الحديثة" وكأنه محاكاة ساخرة للفوردية، هذا النمط الجديد من الإنتاج الذي ابتكره هنري فورد، على أساس التخصص وتقسيم المهام من أجل زيادة إنتاجية العمال. لكن الفيلم ليس له نطاق اقتصادي تجاري استهلاكي فحسب، بل له هدف اجتماعي نقدي: الدفاع عن الإنسان كإنسان.

شابلن وماركس

يدين "شابلن" الاغتراب، متخذًا بذلك موضوعًا عزيزًا على كارل ماركس، لم يولده العمل في خطوط التجميع فحسب، بل أيضًا النظام الاقتصادي الرأسمالي بأكمله. وبما أن الإنسان لم يعد يمتلك أو يحوز على السلع التي ينتجها، فإنه لم يعد ينتمي إلى نفسه. فيصبح غريبا عن نفسه، قوة عمل خالصة تحت رحمة أصحاب وسائل الإنتاج. ومع ذلك، فإن "شابلن" لا يدافع عن الاشتراكية، ولا يحدد الخطوط العريضة للحل الاجتماعي، وفيلمه هو في الأساس استنكار وسخط على الرأسمالية وتعرية لسلبياتها وتشهير بها. وهناك موضوع ماركسي آخر، وهو الصراع الطبقي: يجسد "شابلن" علاقات الإنتاج بطريقة فظة إلى حد ما. العمال في أسفل الخط، والمديرون في القمة. لكن يبدو أن "شابلن" يشير إلى أن الجميع ضحايا لنفس النظام، فحتى المخرج يتناول حبوبًا لمقاومة الضغوط التي تفرضها البيئة. لماذا وقع الاختيار على عنوان الأزمنة الحديثة للفيلم؟ وما تأويل ذلك؟

شابلن ودور التقنية

الإنسان الذي أصبح آلة ليس أكثر من عبد للآلات من حوله. يشير هذا أيضًا إلى أسطورة فرانكشتاين، التي تشير إلى احتمالية تجاوز الإنسان للتقنيات التي يبتكرها. المصنع، وهو تقنية مفيدة للإنسان، سيكون رمزًا لفقدان الإنسان السيطرة على الأشياء التي صنعها. والأسوأ من ذلك أن الآلات أصبحت مستقلة عن الإنسان لأنها لم تعد بحاجة إليه للقيام بوظائفه (كما يتضح من مشهد استراحة الغداء). المشهد التالي الذي يتسبب فيه البطل في الانهيار العام للمصنع، هو الفرصة لإظهار فرحته، وهي المرة الأولى منذ بداية الفيلم. وهكذا، فإن عفوية الضحك مبنية على نفي الآلات والميكنة (وهو ما يشير إلى تحليلات برغسون للضحك). يشير هذا المشهد إلى إمكانية قيام الإنسان بتصحيح مشروع التجريد من الإنسانية الذي قام به ضد نفسه. لكن الحل يبدو أسوأ من المرض. في الواقع، تدرب "شابلن" في الطب النفسي ثم أطلق سراحه، وكان عليه أن يواجه الكساد الكبير وإغلاق المصانع. الوضع صعب على الأقل كما هو الحال في المصنع. بينما كان يتجول في الشوارع، رأى تشارلي علم تحذير أحمر يسقط من شاحنة. يلتقطها ويلوح بها للإشارة إلى السائق بالتوقف. ولم ينتبه السائق لذلك، لكن مظاهرة حاشدة للعاطلين عن العمل تقف خلف هذا العلم رمز نضالهم. وهكذا يجد "تشابلن" نفسه بشكل لا إرادي حامل لواء غضب العمال. بعد القبض عليه كزعيم للحركة، أدرك أن حياة السجين أفضل من حياة العامل أو العاطلين عن العمل. أخيرًا، بعد إطلاق سراحه، أصبح "تشابلن" متورطًا مع امرأة شابة كانت حالتها محفوفة بالمخاطر. سينتهي بهم الأمر إلى العثور على سعادة هشة في ملهى كفنانين. ألا يمكن التحرر الإنساني عن طريق الفن من هيمنة التقنية؟

خاتمة

إن فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن، بعيدًا عن هدفه وقوته الكوميدية، هو انعكاس رائع لحالة الإنسان الحديث. تم تصوير هذا الفيلم في ثلاثينيات القرن العشرين، وهو يحتفظ بقوة نقدية حقيقية وموضوعية وأهميته القوية اليوم. انه آخر ظهور لتشارلي شابلن بدور الصعلوك الصغير، يضع الشخصية المميزة في العمل كموظف مصنع غير كفء دائخ يصبح مغرمًا بطفلة رائعة (بوليت جودارد). مع وابل من الكمامات التي لا تنسى والتعليقات الماكرة على الصراع الطبقي خلال فترة الكساد الكبير، فإن فيلم "الأزمنة الحديثة" - على الرغم من مرور ما يقرب من عقد من الزمن على عصر التحدث واحتوائه على لحظات من الصوت (حتى الأغنية!) - هو عرض خالد لعبقرية "تشابلن" التي لا يمكن المساس بها باعتباره مدير الكوميديا الصامتة. اين السينما الصامتة اليوم؟ والى أي مدى يمكن توظيف النقد الفني للاعتراض على وحشية العولمة وفضح اساليب السيطرة الرأسمالية على البشرية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

لعله من قبيل تكرار القول؛ ان المجتمعات ذات الخزين التراثي المتقادم والانجاز الحضاري المتراكم، غالبا "ما تميل الى ترجيح كفة (الاستمرارية) التاريخية على كفة (السيرورة) في مضمار نشر (الوعي) بأحقاب تبلور تاريخها ومراحل تمظهر حضارتها ليس فقط على صعيد نخبها الفكرية والسياسية والإيديولوجية الحاكمة فحسب، بل وكذلك على صعيد مكوناتها السوسيولوجية وجماعاتها الانثروبولوجية المحكومة، وذلك بصرف النظر عن تجانس الرؤى وتوافق المصالح بين تلك النخب من جهة، وبين تلك المكونات والجماعات من جهة أخرى. إذ ان معيار النجاح ومقياس النجاعة في هذا المضمار يقوم على (قدرة) الطرف الأول في تسويغ مواقفه وتبرير ممارساته (تحقيق الهيمنة) من جانب، ومن جانب ثان، (استعداد) نفسي و(قبول) ذهني من لدن الطرف الثاني، حيث التماهي الإيديولوجي والخضوع السياسي مع السرديات التاريخية الرسمية التي تروجها السلطة . 

ولغرض تبرير الاحتكام لهذه الضرورة وتسويغ الاستجابة لمتطلباتها، حري بنا، قبل ذلك، الإشارة الى الفرق / الاختلاف ما بين دلالات كل من مفهوم (الاستمرارية) من جهة، وبين نظيره مفهوم (السيرورة) من جهة أخرى. حيث ان الكثير من الكتاب والباحثين لا يراعون هذه الفروق والاختلافات بينهما، إن لم يميلوا الى المماثلة بين كلا المفهومين كما دلت الكثير من الوقائع والمعطيات. ففيما يتعلق بالمفهوم الأول؛ فهو يتضمن معنى ان مسار التاريخ هو مسار (خطي) غير قابل للارتداد أو الانحراف أو الانقطاع. أي أنه مسار (تصاعدي) يبدأ من الجزء الى الكل ومن البسيط الى المركب، وإذا ما حصل خلل ما في هذه (الاستمرارية) لسبب ما، فان ذلك لا يخرج عن كونه تعبير عن ظرف طارئ أو عارض مؤقت، حيث لا تلبث تلك الاستمرارية أن تستأنف حراكها باتجاه آفاق التقدم والتطور. هذا في حين يشي المفهوم الثاني بمعنى؛ ان مسار التاريخ هو مسار مشحون بالتناقضات والمفارقات والصراعات التي من شانها تغيير طبيعة (الحدث) أو ماهية (الواقعة) أو نمط (الظاهرة) من حالة / وضعية الى أخرى، وفقا "لاشتراطات الظروف الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والأنساق الثقافية والديناميات النفسية والسياقات التاريخية. بحيث يصعب التكهن أو التنبؤ بما ستؤول إليه النتائج والحصائل الناجمة عنها.

ولسنا هنا في وارد تقديم الدلائل وسوق البراهين التي تثبت ان الغالبية العظمى ممن ولجوا حقول التاريخ وتعاطوا مع مواضيعه ومباحثه، كان خيارهم يرتكز على مفهوم (الاستمرارية) بشكل تلقائي، رغم كونهم محاطين بهذا الكم الهائل من النكسات والانكسارات والانهيارات، التي لا تفتأ تقضّ مضاجعهم وتقلق سكينتهم وتثير حيرتهم. ذلك لأن تركيبة (الوعي التاريخي) التي تمثلوا منطقها واستلهموا منهجيتها واستمرأوا قيمها، حالت دون تمكينهم من الوصول الى مكامن الأسباب الفعلية والدوافع الحقيقية المسؤولة عن صيرورة تلك الأحداث والوقائع والظواهر على هذا النحو المليء بالفواجع والمكتنز بالكوارث. ذلك لأن الإصرار على التمسك بمفهوم (الاستمرارية) التطورية يتعارض جذريا "مع منطق (السيرورة) الجدلية، حيث ينبغي توقع حدوث (الارتداد) أو (الانقطاع) أو (الانحراف) في كل لحظة وعند كل منعطف.

ولعل ما يفرض علينا مراعاة هذه الضرورة والاحتكام الى منطقها، هو ان التاريخ لا يعدو أن يكون سجلا "شاملا" يحتوي متنه على كل ما اجترحته – وستجترحه - البشرية عبر مسارها الطويل؛ من أفعال وأقوال، من علاقات وتصورات، من حروب وصراعات، من ثقافات وحضارات. بمعنى أنه صنيعة إنسانية بامتياز ساهم في تكوينه عاملين أساسين هما؛ الأول وهو (الإرادة) الذاتية، والثاني وهو (الوعي) الاجتماعي. وحيث ان الإرادة تسيرها الأهواء المتقلبة والنوازع المتصارعة التي يحركها بندول المنافع والمصالح، مثلما ان الوعي مرهون بمستوى النضج المعرفي والإدراكي للمجتمع الذي تتحكم فيه الخلفيات والمرجعيات والأصوليات. بات من الحكمة التخلي عن تصور ان حركة التاريخ تعتمد خلال مسارها على مفهوم (الاستمرارية) التصاعدية، الذي غالبا "ما يفضي لارتكاب الأخطاء في تقييم الأحداث ويقود للفشل في تحليل الوقائع من جهة، والاحتكام الى مفهوم (السيرورة) الجدلية الذي من شأنه ليس فقط منحنا القدرة على فهم واستيعاب ما يجري في الواقع المعاش من تناقضات اجتماعية وتقاطعات سياسية وصراعات إيديولوجية فحسب، بل وكذلك يمهد أمامنا منحى الآفاق المستقبلية التي يمكن توقعها والاستعداد لها، بأقل الكلف المادية والبشرية والمعنوية التي يمكن استثمار رصيدها لاحقا"، كمرتكزات لتسريع عمليات التقدم العلمي والتطور الاجتماعي والرقيّ الحضاري .       

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

في عصر السرعة والمعلوماتية يشير العنوان للصراع بين الأفكار والقلق، والسعي وراء السعادة التي قد تكون غير حقيقية أو سطحية في ظل التشتت الذي يسببه تدفق المعلومات، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الحالة النفسية. تلعب الثقافة الاستهلاكية دورا مهما في تشكيل مفهوم السعادة عندما يسعى الأفراد لتحقيقها من خلال الاستهلاك، يشعر الكثيرون بالسعادة المؤقتة بعد شراء منتج جديد، لكن هذه السعادة غالبًا ما تكون قصيرة الأمد، بمجرد مرور الوقت، يعود الشعور بالفراغ أو عدم الرضا. تؤدي الثقافة الاستهلاكية إلى ضغط اجتماعي يدفع الأفراد لمقارنة أنفسهم بالآخرين. هذه المقارنات يمكن أن تؤدي إلى مشاعر القلق والاكتئاب عندما لا يستطيع الأفراد مواكبة معايير الحياة التي تروج لها الثقافة الاستهلاكية. التركيز على الاستهلاك يؤدي إلى إهمال القيم الحقيقية مثل العلاقات الإنسانية، التجارب، والنمو الشخصي. لذا، يشعر الأفراد بالسعادة المزيفة عندما يربطون قيمتهم الذاتية بما يمتلكونه، هذا يمكن أن يخلق وهمًا بالسعادة من خلال التركيز على الممتلكات المادية. لفهم السعادة الحقيقية، يحتاج الأنسان إلى إعادة تقييم أولوياته في خلق المعنى والتركيز على التجارب والعلاقات القيمة ومقاومة ضغوط الثقافة الاستهلاكية الذي يتطلب وعيًا وجهودا حقيقية. منها تفعيل منظومة الوعي الذاتي لمساعدة العقل على التمييز بين الاحتياجات الحقيقية والرغبات السطحية، مقاومة الثقافة الاستهلاكية تتطلب الوعي والجهد، لكن من خلال التركيز على القيم الحقيقية والتجارب، يمكن تحقيق شعور دائم بالرضا والسعادة وتحدي صخب العقل الذي يشبه "رحى الطاحونة"، يتطلب هذا استراتيجيات فعّالة لإدارة الأفكار والقلق. تحدي صخب العقل يتطلب مزيجًا من استراتيجيات الهدوء الذهني، التنظيم تدوير الأفكار، أو تكرار التفكير حول نفس المسألة والوصول إلى حل. تدوير الأفكار يمكن أن يكون مرهقًا، لكن باستخدام استراتيجيات فعالة، يمكنك تقليل تأثيره.

الكتابة الإبداعية وتدوير الأفكار

يمكن أن يكون لهما تأثيرات متباينة على البحث عن السعادة، تمكن الكتابة الإبداعية الأفراد من التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، مما يساعد في معالجة القلق والتوتر، يمكن للشخص اكتشاف مشاعره الحقيقية وتحديد ما يجلب له السعادة الحقيقية ،بدلاً من السعادة المزيفة ،البعض ينظر الى تدوير الأفكار قد يؤدي إلى تقييد الإبداع، حيث ينشغل الشخص بالأفكار السلبية ولا يستطيع التفكير بحرية، احيانا تؤدي التأثيرات الخارجية، مثل وسائل الإعلام، إلى رغبة الشخص في تحقيق معايير سعادة غير واقعية، مما يزيد من تدوير الأفكار السلبية. يعتقد البعض أن الكتابة الإبداعية يمكن أن تكون وسيلة للهروب من المشاعر السلبية، مما يؤدي إلى البحث عن سعادة مزيفة، لكن الحقيقة يمكن استخدام الكتابة كأداة لتوجيه الأفكار بدلاً من تدويرها. من خلال الكتابة، يمكن للشخص تحدي الأفكار السلبية وخلق سرد إيجابي يساعد في تعزيز الثقة بالنفس حيث تتداخل الكتابة الإبداعية وتدوير الأفكار في بحث الأفراد عن السعادة، وقد تؤدي إلى سعادة مزيفة إذا لم تُستخدم بشكل صحيح. من المهم استخدام الكتابة كأداة للتعبير والتوجيه بدلاً من الانغماس في الأفكار السلبية، مما يساعد في تمييز السعادة الحقيقية عن المزيفة، هذا يتطلب وعيًا ذاتيًا وتفكيرًا نقديًا.

السعادة اللحظية والسعادة الدائمة

السعادة اللحظية هي السعادة التي نشعر بها في لحظة معينة نتيجة لتجربة أو حدث محدد. قد تكون ناتجة عن المواقف الممتعة أو المكافآت الفورية هي شعور بالرضا والاستقرار النفسي يمتد على مدى فترة، قد تتجاوز التجارب اللحظية. وهي غير مرتبطة بالمعنى والهدف غالبًا ما تأتي نتيجة عوامل خارجية مثل التفاعلات الاجتماعية، الأنشطة الممتعة، أو المكافآت المادية تنبع من الداخل، مثل القيم الشخصية، العلاقات، وتحقيق أهداف معينة وتميل إلى أن تكون قصيرة الأمد، وغالبًا ما تتلاشى بسرعة بعد انتهاء الحدث أو التجربة ولا تظل موجودة في الأوقات الصعبة، حيث تدعم الشعور بالرضا، رغم التحديات قد تعزز من المزاج مؤقتًا، لكنها لا تؤثر بشكل كبير على جودة الحياة العامة على المدى الطويل، بينما توفر السعادة المؤقتة لحظات من الفرح والبهجة، فإن السعادة الدائمة تتطلب عمقًا ووعيًا ذاتيًا، وتؤثر بشكل إيجابي على جودة الحياة بشكل عام. لتحقيق توازن صحي، من المهم السعي لتحقيق كليهما مع التركيز على بناء أسس السعادة الدائمة. السعادة الدائمة تتطلب جهدًا مستمرًا ووعيًا ذاتيًا. السعادة المزيفة حالة ظاهرية من الفرح والبهجة، لكنها لا تعكس شعوراً داخلياً حقيقياً بالرضا والاطمئنان. قد يلجأ الشخص إلى التظاهر بالسعادة لأسباب مختلفة، مثل إخفاء مشاعر الحزن أو اليأس، أو محاولة التأثير في الآخرين، أو الهروب من الواقع.

صخب العقل

هو حالة من التفكير المستمر والقلق المفرط، حيث يعجز الشخص عن التوقف عن التفكير في المشاكل والتحديات التي تواجهه. قد يؤدي صخب العقل إلى الشعور بالتوتر والقلق والإرهاق، ويصعب على الشخص الاسترخاء والاستمتاع بحياته. الشخص ذو العقل الصاخب، أو الذي يعاني من أفكار مستمرة وقلق وتوتر، قد يلجأ إلى السعادة المزيفة كآلية للتعامل مع ضغوط الحياة. لكن هل تنجح السعادة المزيفة في إنقاذ صاحب العقل الصاخب؟ قد توفر السعادة المزيفة، مثل الانغماس في ملذات عابرة أو علاقات سطحية، تخفيفاً مؤقتاً من القلق والأفكار المزعجة. يمكن أن تساعد السعادة المزيفة في تجنب مواجهة المشاعر السلبية الحقيقية التي تسبب صخب العقل، مثل الحزن أو الغضب أو الخوف. لكن، السعادة المزيفة ليست حلاً دائما، السعادة المزيفة لا تعمق المشاعر الإيجابية الحقيقية، بل تبقى سطحية وعابرة. بمرور الوقت، قد يؤدي الاعتماد على السعادة المزيفة إلى تفاقم صخب العقل، حيث يصبح الشخص أكثر قلقاً وتوتراً بسبب عدم قدرته على تحقيق السعادة الحقيقية. السعادة المزيفة قد تتحول إلى هروب من الواقع ومشاكله الحقيقية، مما يؤخر معالجتها ويجعلها أكثر تعقيداً. الحل الحقيقي لصخب العقل كون السعادة المزيفة مسكناً مؤقتاً للشخص ذو العقل الصاخب، يكمن في معالجة الأسباب الجذرية للقلق والتوتر، وتعلم استراتيجيات صحية للتعامل مع الأفكار السلبية. التأمل الواعي هو ممارسة ذهنية تتمثل في التركيز على اللحظة الحالية دون إصدار أحكام. يمكن أن يساعد في تهدئة العقل الصاخب وتقليل التوتر والقلق. عندما يكون عقلنا صاخباً، فإنه يميل إلى التفكير في الماضي أو المستقبل، مما قد يؤدي إلى الشعور بالقلق أو التوتر. التأمل الواعي يساعدنا على التركيز على الحاضر، مما يسمح لنا بمراقبة أفكارنا ومشاعرنا دون أن ننجرف فيها. يساعد التأمل الواعي على تهدئة الجهاز العصبي. من خلال ممارسة التأمل الواعي، يمكننا تدريب عقولنا على التركيز بشكل أفضل وتقليل التشتت. يساعدنا التأمل الواعي على فهم أفكارنا ومشاعرنا بشكل أعمق، مما يمكننا من اتخاذ قرارات أكثر وعياً. يمكن أن يساعد التأمل الواعي على تهدئة العقل والجسم. أظهرت الدراسات أن التأمل الواعي يمكن أن يساعد في تقليل الشعور بالألم المزمن.

الفلسفة والية التأمل الواعي

تعلمنا الفلسفة كيف نتحكم في ردود أفعالنا تجاه العواطف السلبية. تعلمنا أن نراقب أفكارنا ومشاعرنا دون أن ننجرف فيها، وأن نختار الاستجابة الأكثر عقلانية وهدوا. تعلمنا الفلسفة كيف نفكر بشكل نقدي في أسباب عواطفنا السلبية. هل هي مبررة؟ هل هناك طرق أخرى للنظر إلى الموقف؟ هل يمكننا تغيير طريقة تفكيرنا لتقليل حدة العواطف السلبية؟ تساعدنا الفلسفة على إيجاد معنى للعواطف. قد تكون هذه العواطف فرصًا للنمو الشخصي والتطور. قد تعلمنا دروسًا قيمة عن أنفسنا وعن العالم من حولنا. تعلمنا الفلسفة كيف نقدّر الجمال في العالم من حولنا، في الطبيعة والفن والعلاقات الإنسانية. هذا التقدير يمكن أن يغذي عواطفنا الإيجابية ويجعل حياتنا أكثر امتلاءً. تعلمنا الفلسفة تقيم الامتنان للأشياء الجيدة في حياتنا، مهما كانت صغيرة. هذا الامتنان يمكن أن يزيد من شعورنا بالسعادة والرضا. تعلمنا الفلسفة أهمية عيش حياة أخلاقية، تقوم على مبادئ العدل والصدق والرحمة. هذه الحياة يمكن أن تجلب لنا شعورًا بالسلام الداخلي والرضا. يمكن أن يكون التأمل في الأفكار الفلسفية طريقة للتعامل مع الصخب العاطفي. يمكن أن تساعدنا الفلسفة على فهم أنفسنا بشكل أفضل وتحديد القيم التي توجه حياتنا. يمكن أن تكون الكتابة عن أفكارنا ومشاعرنا طريقة لتفريغ العواطف وتنظيمها. يمكن أن تساعدنا الكتابة على فهم أنفسنا بشكل أفضل وإيجاد حلول لمشاكلنا. يمكن أن تكون قراءة الأعمال الفلسفية طريقة للتعرف على أفكار جديدة ووجهات نظر مختلفة. يمكن أن تساعدنا القراءة على توسيع آفاقنا وتغيير طريقة تفكيرنا. البحث الفلسفي يمكن أن يكون أداة قوية للتعامل مع الصخب العاطفي. من خلال فهم طبيعة العواطف، والتعامل مع العواطف السلبية، وتنمية العواطف الإيجابية، يمكننا أن نعيش حياة أكثر هدوءًا وسلامًا ورضا. صحيح، ان الكثير من الناس يعيشون حالة من السعادة المزيفة، ويفتقدون إلى الرضا الحقيقي في حياتهم، وهذا يعود غالبًا الى ما ترتبط به السعادة المزيفة من المظاهر الخارجية، مثل المال، والشهرة، والنجاح الاجتماعي. تكون هذه السعادة وقتية وعابرة، ولا تدوم طويلًا، لا ترتبط بمشاعر عميقة أو قيم حقيقية، بل هي مجرد قناع يخفي مشاعر سلبية، تعتمد على مقارنة الشخص نفسه بالآخرين، ويعتمد على الظروف الخارجية بشكل دائم وهذا لا يمنح شعورًا بالهدف والمعنى. كون المعنى يعتمد على تقدير الشخص لذاته وقدراته، والشعور بالكفاءة والإنجاز. من اهم أسباب عدم الوصول إلى الرضا الحقيقي التركيز المفرط على جمع المال والممتلكات، وإهمال الجوانب الأخرى من الحياة. عدم وجود هدف واضح في الحياة وتحقيق المعنى، السعي لتحقيق الأحلام والرضا الحقيقي هو رحلة مستمرة. لا يوجد حل سريع أو سهل الا بجعل الفلسفة جزءا من الحياة.

***

غالب المسعودي

الثقافة العربية الإسلامية، في جوهرها هي تجسيد الوعي بضرورة صنع الحاضر، وفقا للاختيارات الفكرية الكبرى، التي تتناغم وروح تلك الثقافة وجوها العقدي والحضاري.. والمثقف الحق هو الذي يتمكن من تحقيق مقولات الوعي في الواقع الخارجي. وحتى يتمكن المثقف من تحقيق هذه المسألة من الضروري أن يكون مبدعاً وخلاقاً لكي يستمر عطاؤه الثقافي وصولا إلى صنع الحاضر وفق متطلبات الوعي واختياراته.

وإن المثقف المبدع هو الذي يبقى قلقه الفكري والثقافي مفتوحاً لمواصلة البحث والحفر المعرفي والمراجعة والتطوير، بحثاً عن صيغ وأطر جديدة للارتقاء بمستوى المعرفة والثقافة إلى الأمام.

وهكذا يصبح القلق الثقافي شرط الابداع ووسيلته في آن واحد ويصبح الاداة الامينة للانتقال من وضع ثقافي إلى آخر أرقى وأعمق. فالقلق الثقافي وحضور غايات الثقافة وأهدافها في شخص المثقف وعطائه هو البداية الاساسية لتشكيل المناخ الملائم للابداع الثقافي والفني والادبي.

فالابداع على المستوى الثقافي ليس صدفة أو بعيداً عن نواميس وقوانين الثقافة في المجتمع، بل هو ثمرة تطور طويل وتراكم تاريخي-ثقافي يؤدي أو يتوج بعملية الابداع على الصعيد الثقافي.

فالقلق الثقافي، الذي يعني الحضور المستمر للهم والتطلعات الثقافية والعقلية، كان هو القاسم المشترك بين جميع المبدعين وأصحاب العطاءات الثقافية المتميزة. وإن الابداع كتطلع يتطلع اليه أي مثقف أو فنان مرتبط بمجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية معاً. وهذه العوامل تتكون وتتراكم تبعاً لشروط وخصائص ذاتية.. ويبقى لإرادة المثقف وكفاحه المعرفي والثقافي الدور الاساسي في تذليل العقبات التي تحول الابداع الثقافي والذي نريد أن نؤكد عليه في هذه الحالة، هو مسألة الوعي فالمزيد من الوعي وحضوره الدائم في حياة المثقف، هو الكفيل بتحقيق ابداعات ثقافية وأدبية.

والوعي هنا ليس وصفة طبية نأخذها أو عملا كمياً نقوم به أو قراءة لمجموعة من الكتب والدراسات الثقافية والادبية، إنه استيعاب تام للحالة الشاملة التي يعيشها المثقف ويتطلع اليها، استيعاب لا يؤدي إلى التفاؤل الكاذب أو التشاؤم الذي يشل التفكير ويمنع الارادة من فعلها.. إن هذا الوعي الذي ينطلق من حالة موازنة دقيقة ورشيدة للتطلع والممكن للواقع المفروض. هو الذي يحقق للمثقف أو الاديب القفزة النوعية في عطائه وإنتاجه كما أنه (الوعي) يحقق للثقافة المزيد من الانتشار والتوسع وكسب الانصار على المستوى المجتمعي والوعي كما يبدو ليس مطلباً سهلا يمكن تحقيقه بين يوم وآخر أو ليلة وضحاها.. إنه القراءة المستمرة للواقع بكلياته وتفاصيله بأحداثه وتطلعاته برجاله ومؤسساته، بكوابحه وآفاقه.

هذا فإن ابداع المثقف العربي مرتبط بشكل أساسي بطبيعة وعلاقته بواقعه، والظروف التاريخية التي يمر بها فإذا كانت لا تربطه بواقعه أية علاقة ثقافية وعقلية، فإنه لن يتمكن من الإبداع، لأن النواة الاول ى للإبداع هو التفاعل الايجابي بين المثقف وواقعه، وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسجم واللحظة التاريخية. فتفاعل المثقف مع الواقع، لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق ليس بالإمكان ابدع مما كان..

إن التفاعل يعنى تهيئة الشروط النفسية والعقلية للاستيحاء من الواقع، الاعمال الادبية والثقافية التي يقوم بها الاديب أو المثقف.. أن الواقع بمثابة التيار الكهربائي العاري، يلدغ ذلك المرء الذي لم يأخذ في حسبانه عمليات السلامة، ومتطلبات الاحتراز من السلك الكهربائي.

إن الارض الخصبة التي تؤهل الاديب أو الفنان، لعمليات الانتاج الادبي أو الثقافي المبدع هي التي تتشكل من جراء التفاعل الرشيد بين المثقف والواقع لا لكي يخضع المثقف مقاييسه ومعاييره المعرفية إلى الواقع. وانما لكي يكون إنتاج المثقف ذا جدوى وفائدة عملية على صعيد الواقع.

لأن ابتعاد المثقف عن عصره وواقعه يؤدي إلى تكثيف العناصر الكابحة في ذهن المثقف وواقعه المانعة لعمليات التجديد والابداع.

إن الانعزال عن العصر والمجتمع يؤدي إلى توهج الذكريات، وتهيمن انجازات ومكاسب ماضي المثقف على حاضره، وتجره بشكل ميكانيكي إلى القبول بالأمر الواقع والعيش على إنجازات الماضي أو الآخرين.

إن بذرة الابداع تنمو في حياة المثقف، حينما يبدأ المثقف وفق منهجية مدروسة وواعية للتفاعل مع قضايا عصره وعلومه. ويبدأ هذا التفاعل بنقد الواقع معرفياً وفنياً ومن ثم يبدأ المثقف بتوليد المعرفة الجديدة المبدعة.

فالمثقف المبدع ينشر الجديد دائما ويقدمه فناً أو ادباً أو علماً، ولكنه فيما يقدم من ابداع وصناعة لا يمكن أن يخرج كليا عن مستوى التقدم الذي بلغه مجتمعه بوجه عام ومقدار تمثل الفرد للإبداعات السابقة، والافادة منها بشكل خاص.. أي أنه محكوم نسبيا بمعطيات الوجود، وقفزته نحو المستقبل أو المجهول محكوم المدى بمعطيات الماضي والحاضر ولكنها محمولة على أجنحة امكاناته وقدراته وارادته وقدرته على التخييل لتتوغل في المستقبل، وترتاد المجهول علها تحمل منها غمراً وأريحاً وشعاعاً، ينير للسالكين طريقهم وموضع خطوهم على تلك الطريق.." والمبدع في انشداده بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد، يكشف عن وعي منه أو عن غير وعي مسيرة الإنسانية، ويصدق فيه قول اليوت (فهو أكثر بدائية كما هو أكثر تمدنا من معاصره)1.

فالإبداع ليس وليد الفراغ وانما هو حصيلة الخبرة والتجربة والمعاناة، والتفاعل المباشر مع قضايا المجتمع والامة.

فشرارة الابداع تتقد حينما تنداح تلك الاسئلة من المثقف التي تضعه وتضعنا أمام حقائق الحياة ومقوماتها.. ولا فرق في ذلك بين الابداع الذي يقصده أفلاطون (التعبير عن عالم المثل) أو ما قصده أرسطو من أنه (محاكاة الطبيعة ثم التسامي عليها) أو ما قصده " كانت" من أن الابداع (طريقة جمالية ف إظهار الشيء).

حسب كل هذه المعاني والمصطلحات لا بد من توفر علاقة حميمة بين المثقف والواقع لا للخضوع له، وانما لمعرفة حقائقه والتفاعل الخلاق معها لصناعة النص المبدع.

فالقاعدة الاجتماعية لإبداع المثقف العربي أن يكون في حالة حركة وصيرورة مع مجتمع ومحيطه الإنساني، وبعيدا عن حالات الجمود والكسل الفكري.. حينذاك يبدأ المثقف بإنتاج عطاءاته المبدعة.

وبالتالي فإن ابداع المثقف العربي مرهون بالنقاط التالية :

في مدى علاقته بالثقافة فالمثقف الذي يعتبر الثقافة وظيفة لها لا يرتبط معها بأية روابط حب وتفاعل وتفان من أجل العلم والمعرفة. إن هذا المثقف سيبقى يكرر ما ينتجه الغير ولن يتجاوز سقف العطاءات الثقافية المتوفرة في الساحة.. بينما المثقف الذي يرقى في علاقته بالثقافة إلى مستوى الحب والعطاء والتفاعل. فإن هذا المثقف مع مرور الزمن سيتمكن من الابداع في حقله المعرفي والثقافي.

في مدى علاقته بالتحديات والتطورات التي تجري في ساحة الامة العربية والإسلامية.

فالمثقف الذي يصنع لنفسه حاجزا يحول دون التفاعل وهذه القضايا (التحديات والتطورات) لن يباشر أي دور مبدع في حياته العلمية والثقافية لأنه منع عن نفسه منعاً من متابعة الابداع , الا وهو التحديات والتطورات، فهي ب مثابة الحافز الذي يستفز كل القوى والطاقات الذهنية والفكرية، للإتيان بالجديد بما يناسب تلك التحديات والتطورات لأن بداية الثقافة والمعرفة مساءلة ومن ثم مشاركة في توليد معلوم من قيم الثقافة وخطوطها الكبرى وجماع القول: أنه وهج الحياة وتفاعل المثقف معها، تتولد حالات الابداع في حياة المثقف، فحيوية حضور المثقف في العصر، هو القاعدة المعرفية والمادية لعملية الابداع في مستوياتها المعرفية المختلفة.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

..................

مشكلات في الثقافة العربية على عقلة عرسان – ص 68       

 

هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظةٌ لا تأتي دفعةً واحدة، بل تتسلل عبر الزمن، عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتراكم حوله، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على أطلاله؟ هل أنا منتجٌ للمعرفة، أم مُجرّد مستهلكٍ لسردياتٍ لا تغيّر من مواضع السلطة شيئًا؟

إن المثقف ليس مجرد حامل أفكار، بل هو حاملٌ لقلقٍ دائم، لوعيٍ مفتوحٍ على الأسئلة التي لا تنتهي. لكنه، في عالمٍ تحكمه الصورة وتعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال هو: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بالتغيير أصلًا؟

لقد كتب إدغار موران، وهو أحد أكثر العقول النقدية حدّة في عصرنا، أن: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” هنا تنكشف أزمة المثقف المعاصر: إنه يملك القدرة على تفكيك الظواهر، لكنه يعجز عن إعادة تركيبها، يملك المهارة في تحليل الأنساق، لكنه لا يستطيع صياغة رؤية بديلة. إنه عالق في حالةٍ من “الوعي المتشظي”، حيث يُصبح النقد فعلًا مغلقًا، يُعيد إنتاج نفسه بلا أفقٍ للفعل.

وفي ظل هذه الأزمة، يبدو أن المثقف قد تحوّل من كيانٍ مؤثر إلى شاهدٍ مأزوم، يتنقل بين تأمل الواقع وتحليل انسداداته، لكنه نادرًا ما يتجاوز تلك المرحلة إلى إعادة تشكيله. إنه يعيش في مساحةٍ بينية، حيث المعرفة موجودة، لكن الفعل مؤجلٌ إلى أجلٍ غير معلوم.

لم يكن هذا حال المثقف دائمًا. فقد ظلّ، عبر التاريخ، في موضع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بين الأفكار وصُنّاع القرار، بين المعرفة وضرورات الفعل.

في العصور القديمة، كان الفيلسوف هو مرآة المدينة، كما في حالة أفلاطون وأرسطو. أما في العصور الحديثة، فقد أصبح المثقف شاهدًا على ولادة الدول القومية، ومهندسًا للأيديولوجيات التي صنعت العالم الحديث.

لكن أين يقف اليوم؟

غير أن المثقف، في هذا الزمن المُعلّق بين ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة، لم يعد حتى ذلك الفاعل المتردد بين الفكرة والممارسة، بل أصبح ذاته كيانًا مأزومًا، مُستهلكًا داخل دوائر التنظير، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه.

إن ما بعد الحداثة، وهي مشروعٌ هائلٌ من الشك، لم تُنتج سوى تفكيكٍ لا بناء بعده، تفكيرٍ لا ينتهي إلى الفعل، ووعيٍ يتآكل تحت وطأة احتمالاتٍ لا تُحسم.

لقد صار المثقف، في عصر الاستعراض الدائم، كيانًا مفتوحًا للفرجة أكثر منه فاعلًا في التغيير. تحوّل إلى مُحلّلٍ للأحداث لا صانع لها، إلى ناقدٍ مستهلكٍ في محافل الأكاديميا، إلى شاهدٍ يُفكّك السرديات لكنه لا يجرؤ على صناعة سردية بديلة.

لقد تم تدجينه داخل آليات صناعة الرأي، داخل مؤسساتٍ تُعيد إنتاج النقد كسلعة، داخل شبكاتٍ يُصبح فيها الخطاب ذاته جزءًا من السوق، من آليات الامتصاص التي تُفرغ الفكرة من قدرتها على الصدمة.

وهكذا، يبدو المثقف محاصرًا بين خيارين متناقضين: إما أن يصبح جزءًا من المؤسسة، فيفقد استقلاله، أو أن يبقى على الهامش، فيفقد تأثيره.

فالسلطة لم تَعُد تكتفي بإسكات المثقف، بل امتصت دوره، جعلته جزءًا من بنيتها الرمزية، قدّمت له منابر يظن أنها مساحاتٌ حرة، لكنها في الحقيقة ليست سوى غرفٍ مُغلقة، تُعيد تدوير الخطاب في دوائر لا تنتهي.

ولكن، في عصرٍ يختزل كل شيء إلى صورة، إلى جملةٍ قصيرة، إلى رأيٍ عابر على منصةٍ افتراضية، هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق؟ هل لا يزال المثقف قادرًا على ممارسة دوره خارج الاستعراض، خارج الشبكات التي تُعيد إنتاج كل شيءٍ في قالبٍ يمكن استهلاكه سريعًا؟

أم أن الفكر النقدي قد أصبح بدوره أسيرًا لهذا التدفق السريع، عاجزًا عن التوقف طويلًا أمام أي شيء؟

إن الفاعلية لا تعني فقط الانخراط المباشر في الصراع، بل تعني أيضًا إعادة تشكيل الخيال السياسي، إعادة إنتاج الأفق الذي يجعل من التغيير ممكنًا.

ولكن، إذا كان المثقف قد تخلى عن هذه المهمة، إذا كان قد انزلق إلى موقع “المُفسّر” لا “المُحرّك”، فمن الذي سيتولى إعادة تشكيل العالم؟

هل ستكون الجماهير وحدها قادرةً على ذلك؟

أم أن الجماهير، التي تستهلك الشعارات بدورها، ليست إلا انعكاسًا لعجز المثقف عن إنتاج رؤيةٍ واضحة؟

إن العالم لا ينتظر المثقف، ولا يتوقف عند تنظيراته. إن لم يُنتج أدواته الخاصة للتفاعل مع الواقع، فإن قوى أخرى ستملأ الفراغ، وستُعيد صياغة المشهد دون أن تأخذ رأيه بالحسبان.

إن المثقف، إن لم يكن فاعلًا، فهو ليس سوى ظلٍّ يتلاشى عند أول اختبارٍ للقوة.

في النهاية، ليس السؤال: هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟

بل السؤال الأهم: هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟

وهل بقي للفكر النقدي قدرةٌ على تجاوز الصدى ليُصبح صرخة؟

أم أن الزمن قد تجاوز المُفكرين ليُصبح لعبةً تُحسم في الشارع، في السوق، في الإعلام، حيث لا مكان لمن يتردّد أو يفكّر طويلًا؟

إن الفارق بين الفاعلية والتنظير لم يَعُد مجرد خيار، بل أصبح معضلةً تخصّ وجود الفكر ذاته:

هل لا يزال الفكر قادرًا على التأثير، أم أن دوره قد انتهى ليُصبح فقط تعقيبًا هامشيًا على الأحداث؟

وهل انتهى زمن الأسئلة العميقة، ليبدأ عصرُ الإجابات السريعة؟

أم أن المثقف، حتى في عجزه، لا يزال يملك قوةً لم تُستنفد بعد، قوة السؤال الذي لم يجد جوابه بعد؟

***

إبراهيم برسي

لا شك في أن أزمة الخطاب الديني المعاصر هي أزمة فكرية في لبها ومنطلقها، فالأمة الإسلامية في سائر شعوبها، وفي مقدمتها الشعب العربي، تعيش أزمة فكرية، تتجلى في شكل غياب ثقافي، وتخلف علمي، وكسوف حضاري، وتتجسد في عجز الخطاب الفكري المعاصر عن إيصال الخطاب الإسلامي السليم ومحتواه، قرآناً وسنة وشريعة وأخلاقاً. فضلاً ذلك فهي أزمة الافتقار إلى المنهج العلمي في ميدان الدراسات المختلفة. فمناهج التجديد مثلاً، تمثل المسارات السلوكية للجماعات وتوجه فعاليتها وطاقاتها، وكلما كانت هذه المناهج متقنة ومحكمة انعكس ذلك على تنظيم وحركة الفعاليات، وإن النظرة التقويمية لمناهج التجديد الإسلامي تكشف عن وجود أزمة ومشكلات حقيقية في منهج الخطاب. فلا زال الخطاب الديني المعاصر ينتمي إلى الماضي، ولا زال غالبية الوعاظ والدعاة أسرى للخطاب الماضوي والأساليب القديمة في التبليغ، وتتردد على ألسنتهم مصطلحات عفا عليها الزمن، ولم يبق لها وجود سوى في المعاجم اللغوية، وهجرها الناس لوحشيتها أو غرابتها وثقلها على الإسماع. والى ذلك يذهب (حسن الترابي) في أن مرد الإخفاق الذي كان مآل كثير من تلك الحركات يعود إلى أن دوافع الإيمان الثائر لم تكن توافيها وجوه فكر تهديها، ولا مناهج عمل ترشدها.   لذلك نراه ينطلق في صياغة قراراته مستنداً أولاً وقبل كل شيء على المرجعيات الدينية وسلطة السلف، متجاهلاً الأساليب العلمية والمناهج المعرفية السائدة، وإذا كانت هذه المرجعيات قد أدلت بدلوها عن طريق الاجتهاد، فمن المحال أن تتحول هذه الاجتهادات إلى نصوص مقدسة، كما يسعى الخطاب الديني إلى تقديسها وتحويلها من نصوص ثانوية إلى نصوص أصلية تمتلك مشروعية النصوص الأصلية.

فتجديد مناهج الفكر ضروري، كون إن الانحسار والأزمة التي نعاني منها ناتجة عن أزمة فكر بالأساس، لان العطاء الفكري للحضارة الإسلامية وإسلامية المعارف قد توقف عند حدود العقول السابقة. حتى أصبح الهم الوحيد يكمن في كيفية فهم نتاج هذا العقل أو ذاك، وكأن سمة الإبداع والابتكار قد طُمست، وما علينا إلا أن نعيد هذه الأفكار التي تراكمت عليها الأزمان، والعمل على إحيائها كونها كفيلةً بإنقاذنا وتحريرنا من أزمتنا المعاشة.

لذلك كانت السمة الأساسية والمحددة للخطاب الديني تمثل في الجمود والعكوف على رواسب التراث، فلا تحبذ المراجعة النقدية لها، بل تتقاعس عن تلك المراجعة وعن الصيانة الذاتية لأنماط حركتها، ليتحول ذلك التقاعس إلى تقديس الإرث الفكري ليرتفع به دوغمائياً عن الممارسة النقدية. وبالتالي نراه أسير مفاهيم ومنطلقات أساسية جعلته حبيس أخطاء الماضي وانحرافاته دون القدرة على الفهم والتمييز وتصحيح المسارات، والغوص في أعماق القضايا التي يواجهها، وتحصيل اللباب من ورائها، حتى تنطلق المسيرة راشدةً واثقة باتجاه المستقبل، لا أن تقعد كفيفة مكبلة في زوايا الماضي الغابرة. وبالتالي فليس التراث هو الذي يقف عقبة أمام التجديد، وإنما تقديس التراث هو الذي يحول دون قيام التجديد. وما دام الخطاب الديني ينظر إلى الماضي بقداسة، ويسعى إلى استعادته واستنساخه برمته من دون تمييز بين غثهُ وسمينهُ، ثابتهُ ومتغيرهُ، مطلقهُ ومقيده، معتبراً أن سعادة الأمة وعزتها تكمن في ذلك، وأن تأخرها وهزيمتها بدأت عندما انقطعت عن تاريخها. فلا يمكن لقيام التجديد فيه.

  وبالإجمال فإن الخطاب الديني يسعى إلى تحويل الاجتهادات والتأويلات العقلية إلى نصوص مقدسة لا يمكن المساس بها أو التقرب إليها، وكأن باب الاجتهاد قد فتح للسابقين دون اللاحقين. وهل من المعقول أن تكون تلك الاجتهادات التي مر عليها قرون عديدة تكون كفيلة بالتصدي إلى هموم وإشكاليات الواقع المعاش، في حين إن لكل عصر اجتهاداته ولكل جيل إبداعاته، كما يقول حسن حنفي.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في اكتشاف جوهر الروح كقوة حياة تنشط كياننا فغالبا ما يشار الى الروح باسم الهالة او البرانا او تشي وهي بمثابة حاوية لطاقاتنا ولاهتزازاتنا وتعمل كنظام كهربائي في داخلنا فجوهرنا الحقيقي يوجد في هذا العالم الروحي ويرشدنا خلال رحلتنا الارضية ويوفر الطاقة لشكلنا الجسدي وهنالك من منا له القابلية لرؤية الهالات والاهتزازات منذ الطفولة. والهالة هي الانبعاثات من الطاقات الملونة والتي تحيط بجسم الانسان المادي والتي هي انعكاس مباشر لحالة الجسم الروحية.

ومن وجهة نظر المعالجين الروحانيين لا ينظر الى الهالات بانها مجرد حقول طاقة بل كنظام معقد متشابك مع جوهر كياننا وهذا النظام المتشابك والمعقد يتكون من عدة طبقات مختلفة تتوافق مع الجوانب الجسدية والعاطفية والعقلية والروحية للفرد وهذا جوهر الزاوية للعديد من طرق العلاج الروحي. وهذه الهالة المحيطة بجسم الانسان تتكون من سبع طبقات من طيف رائع للطاقة وكل طبقة تهتز باهتزاز لون من الوان الطيف الشمسي الخاص بها مما يخلق مزجا متناغما من العنصر المادية والروحية والطبقات السبع التي تتكون منها الهالة هي:

1 - طبقة الجسد المادي وهي تمثل حضورنا الملموس في العالم المادي ووعاء لرحلتنا الأرضية.

2 - طبقة الجسم العاطفي حيث توجد مشاعرنا وعواطفنا وترسم تجاربنا العاطفية في الحياة.

3 - طبقة الجسم العقلي عالم المنطق والعقل حيث تتشكل افطارنا ورؤانا.

4 - طبقة الجسم النجمي مما يسمح لهالاتنا الاتصال والتشابك مع جوهر كل الكائنات الحية.

5 - طبقة الجسم الاثيري او الجسد حيث يرشدنا للارادة الالهية

6 - طبقة الجسم السببي بوابتنا ا لى العالم الروحي.

7 - الجسم الكيثيري او الذات الحقيقية والتي تربطنا بالوعي الفائق وبالحقيقة المطلقة.

ولا يغلف هذا المجال الهالي المتعدد الطبقات كياننا فحسب بل يعمل ايضا كمرأة تعكس التشابك المعقد بين الروحاني والجسدي. وهنا في هذا التفاعل الدقيق بين الطاقات المختلفة نجد المفتاح لفهم كيف يمكن لأفكارنا الداخلية ولحقائقنا الغير المعلنة ان تتجلى في واقعنا المادي.

B -

 طاقة البرانا الطاقة الحيوية للحياة والتي تربط بين جميع جوانب الكون والبرانا هي نبض الحياة نبض كل خلية من خلايا اجسادنا. وهذا مما يؤثر على جميع نشاطاتنا البدنية والفكرية والعقلية والنفسية وعلى نمونا الروحي ولفهم الطيف الكامل لقوة الحياة البرانا فمن الممكن فهم كل جزء من اجزاء كياننا الطاقي والذي يلعب دورا حيويا في صحتنا ووعينا بشكل عام ومن خلال التأمل الموجه والصلاة يمكننا اكتشاف هذه الطبقات والتواصل معها وتعميق فهمنا وعلاقتنا بذواتنا الحقيقية مما يخدم بدوره صحتنا الجسدية والروحية والعقلية .

***

سالم الياس مدالو

 

الى كل من يعنيه امر التعليم العالي ومستقبل العراق، من اعلى سلطة في الدولة الى اعضاء الهيئات التدريسية والطلبة الاعزاء: ان ما ورد في هذه الرسالة ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة انذار لوقف تدهور صرح التعليم، فمستقبل الوطن وأجياله امانة بين ايديكم، تستوجب دراسة جادة وخطوات عاجلة لانقاذه.

ما ذكر في هذه المقالة هي محصلة اجابات ما يزيد عن مئة استاذ جامعي في مختلف الجامعات العراقية على سؤالين جوهريين حول اهم الاجراءات التي اتخذتها الوزارة والتي ساهمت في تحسين وتطوير التعليم العالي في العراق واهم الاجراءات التي اتخذتها الوزارة والتي ادت الى تراجع او اضعاف مستوى التعليم العالي في العراق.

تتضمن هذه المقالة مجموعة من الآراء ووجهات النظر التي تم جمعها من المشاركين. من المهم التوضيح ان هذه الآراء لا تمثل بالضرورة وجهة نظري الشخصية، وانما هي انعكاس لوجهات نظر المشاركين المتنوعة. بعض هذه الآراء تم التعبير عنها من قبل أفراد، في حين أن البعض الآخر يمثل وجهة نظر مجموعة من الأشخاص.

كما تجدر الإشارة الى ان الصياغات اللغوية قد تختلف بين الاجابات، الا أن هذه الاختلافات لا تغير من المعنى او المضمون الأصلي.

وبسبب قلة الاجابات الواردة على السؤال الأول، لن يتم التطرق اليها في هذا العرض. بينما تركزت غالبية الردود على السؤال الثاني، الذي سيتم تلخيص اهم ما ورد فيه في الأسطر التالية:

لقد تفاقمت القرارات الارتجالية وانتشرت فوضى الشهادات العليا، والزيادة المطردة في اعداد المقبولين فيها بشكل يتجاوز الضوابط والمعايير والقدرة الاستيعابية، مما ادى الى تراجع المستوى العلمي بشكل ملحوظ.

كما ان توزيع المناصب الادارية في الكليات والجامعات لم يعد يخضع لمعايير الكفاءة والجدارة، بل تحكمه المحاصصة والمحسوبية والمنسوبية بشكل اساسي، مما يعد اجحافا بحق الكفاءات الحقيقية. وقد ازدادت ممارسات نقل القيادات من منصب الى اخر دون اي معايير موضوعية، بل غالبا ما يتم اختيار قيادات غير مؤهلة نفسيا او فكريا، ولا يهمها سوى ارضاء الحزب او القوة المتنفذة، على حساب مصلحة المؤسسة التعليمية.

ناهيك عن اغراق الجامعات بتدريسيين غير مؤهلين للتدريس الجامعي، بل يشكك البعض في نزاهة شهاداتهم. وقد شملت هذه التعيينات العشوائية ايضا حملة الشهادات العليا من جامعات خارجية، مثل ايران ولبنان وغيرها، حيث يتم معادلة هذه الشهادات دون ادنى اعتبار لجودتها او كيفية الحصول عليها.

وقد بلغ التدهور حدا باتت فيه البحوث العلمية معدومة تقريبا، ومع ذلك كثرت الاوراق والرسائل والاطاريح، حيث يتم كتابتها عبر المكاتب التجارية او تشترى من "مصانع الاوراق" سيئة السمعة، وتتعاقد بعض الجامعات الاهلية مع مكاتب نشر خارج العراق لنشر اوراق مزيفة، واجبار تدريسيها على نشر بحثين سنويا من دون توفير مقومات واموال لاجراء البحوث، وكأن البحوث تنزل بزنبيل من السماء، وبدونها يتم استقطاع الراتب. ويضاف الى ذلك التركيز المبالغ فيه على التصنيفات الدولية التجارية، التي رغم مشاركة اعداد كبيرة من الجامعات العراقية فيها، لا تحقق الا نتائج مخيبة للامال، وغالبا ما تحتل الجامعات العراقية فيها مراتب متاخرة.

ويلاحظ نقص مريع في مجالات حيوية كتطوير الكادر التدريسي وتمويل البحوث وتجهيز وصيانة المختبرات وتطوير المناهج والاستثمار في تكنولوجيا التعليم. ونتيجة لشحة التمويل، تُحمل الوزارة تكاليف البحث العلمي على عاتق الطلاب، كما تنتهك، عبر قنوات القبول، اسس المساواة والعدالة الاجتماعية في قبول الطلبة، حيث يطالب الطلاب في الجامعات الحكومية بدفع رسوم غير قانونية في كثير من الاحيان يتعارض مع اسس التعليم المجاني. وقد جرى ايضا تشويه نظام بولونيا (نظام المقررات المبني على الوحدات) وتفريغه من مضمونه، ليتحول الى نظام فصلين دراسيين تقليدي.

كما يلاحظ اهمال متعمد لاسس نظام ضمان الجودة والتنكر لاهم بنوده ومحتوياته، مما فاقم من حالات التسرب وعدم الانتظام في الدوام. بل فرض على التدريسيين تحقيق معدلات نجاح محددة بغض النظر عن مستوى اداء الطلبة او حتى حضورهم الفعلي في الجامعات والكليات. ويقابل عدم تحقيق هذه المعدلات باجراءات تحقيقية تتخذ بحق التدريسي، مما ولد لدى الطالب حالة من اللامبالاة تجاه الدراسة، اذ بات على يقين بان النجاح مضمون له في جميع الاحوال. وما زالت الطرائق التقليدية في التعليم هي السائدة، حيث يرتكز النظام على الحفظ والتلقين. وغياب تقييم الطلبة السنوي لاداء الاساتذة اسهم في تدهور التعليم.

وقد اصبح قانون الترقيات العلمية سببا رئيسا في تردي مستوى التعليم في العراق. فبينما كان من المفترض ان تعتمد الترقية العلمية للاستاذ الجامعي على سنوات خدمته واسهاماته في التدريس وخدمة المجتمع وتطوير المناهج وطرائق التدريس، فقد اثقل هذا القانون بواجبات عديدة خارج اطار العمل الاكاديمي، مما عرقل تطوره المهني والعلمي واشغله بمهمة النشر في مجلات زائفة او مفترسة، وذلك بسبب شح التمويل المخصص للبحث العلمي النزيه، في ظل انتشار ثقافة الفساد الاداري والتزوير والرشاوي وشراء الشهادات. وشجع التركيز المفرط على التصنيفات الدولية، والرغبة في الظهور بأعلى المراتب فيها، على انتشار ممارسات النشر العلمي الزائف، بما في ذلك الأبحاث المكررة والمقالات المفبركة.

وقد تفشت مظاهر الامتيازات بكافة انواعها لمنح درجات تفاضلية، مما يعد غبنا لحقوق الطلاب الاخرين المجتهدين، بالاضافة الى الاستثناءات المتعددة في امور النقل والاستضافة والامتحانات ومنح الشهادات واعادة المرقنة قيودهم (الراسبين). وتفاقمت المركزية المفرطة في الاجراءات، حيث جردت الجامعات من صلاحياتها، فلم يعد لها اي دور ذي اهمية الا بتدخل من الوزير او الوزارة نفسها.

اما الكليات الاهلية فقد تحولت الى مجرد نواد ومساحات للهو يقضيها الطالب، فالنجاح فيها مضمون، والصفوف مكتظة باعداد تفوق امكانيات الكليات، ولم يعد للاستاذ فيها اي اعتبار او تقدير او احترام، بل ان مهمته، كما يفرضها المستثمر، هي انجاح الطلبة فحسب.

وقد باتت كثير من امتحانات الدراسات العليا مهزلة نتيجة لتدني مستوى اجراءات المناقشة وما يصاحبها من مظاهر الاسراف في الضيافة والهدايا، وافتقارها الى التقييم الصحيح، حيث غالبا ما تمنح فيها درجة الامتياز بتدخل كبير من المجاملات.

كما ظهر بجلاء ضعف واضح في اداء القيادات الجامعية وتخوفها من اتخاذ القرارات المناسبة لادارة الجامعة وخوفها الشديد من الوزارة وعدم تحمل المسؤولية. وقد اثر هذا الوضع السلبي على اضعاف شخصية التدريسيين وتخوف معظمهم من عقوبات الوزارة والتغاضي عن محاولات الطلبة ممارسة الغش وتوقعهم عدم دعمهم من قبل الاقسام والعمادات. وتدهورت البنايات نتيجة لعدم الاهتمام بالبنى التحتية وعدم مواكبة متطلبات التطور للنهوض بواقع التدريسي اكاديميا واجتماعيا وماليا.

كما تم تجاهل اراء وتجارب الاساتذة والمشاكل التي يواجهونها في اداء مهامهم التربوية. ونتيجة لهذا الانقطاع عن التواصل مع الكوادر التدريسية، وتزايد الاهتمام بالتعليم الاهلي على حساب التعليم الحكومي الذي بات خارج دائرة اهتمام القيادات الوزارية، لم توفر متطلبات التعليم لمواكبة التقنيات والتطور العلمي والتكنولوجي في هذا المجال، حتى ان العديد من المؤسسات التعليمية تفتقر الى ابسط مقومات البنية التحتية كشبكة الانترنت، فضلا عن النقص الحاد في المصادر والمراجع العلمية الكافية.

وقد فتح المجال على مصراعيه لتاسيس كليات وجامعاتٍ اهلية لا تلتزم في الواقع بقوانين ولوائح الوزارة، وان كانت تعلن خلاف ذلك، بل يتم تشجيع فتح الدراسات فيها، مما ادى الى اغراق سوق العمل بخريجيها على الرغم من عدم حاجة السوق والمجتمع اليهم في الوقت الراهن، مع اهمال تام لجانب الرصانة العلمية في هذه الدراسات. كما انعزل التعليم العراقي عن العالم نتيجة لضعف التبادل الثقافي والمعلوماتي بين الجامعات العراقية والعالمية.

ولم يقتصر الامر على ذلك، بل وصل الى ابتزاز التدريسي عن طريق فرض "التبرعات" الشهرية مقابل اضافة نقاط الى تقييم ادائه السنوي. وتحولت المؤتمرات والندوات العلمية الى وسيلة تتيح الفرصة للميليشيات والمتنفذين للدخول الى الحرم الجامعي، بل باتت وسيلة لجلب الاموال وتحصيل النقاط والقاء المحاضرات التافهة والبحوث الزائفة. كما يحرم الباحثون والاساتذة العراقيون من الوصول الى مكتبات افتراضية توفر مصادر علمية رصينة.

وقد تفاقم الكذب والترويج لانجازات غير حقيقية من قبل بعض الجامعات خصوصا الجامعات والكليات الاهلية. كما ضعف بصورة كبيرة التدريب الصحيح للتدريسيين والباحثين في الجامعات، فالنشر الدولي الرصين الذي تشجع عليه الوزارة يتطلب توفير الاموال والتدريب الصحيح للباحثين من اساتذة وطلبة دراسات عليا، على ان يتسم هذا التدريب بالاستدامة.

تعرض عليكم هذه المقالة صورة قاتمة للواقع الذي يعيشه التعليم العالي في العراق، وهي صورة مستقاة من اراء وخبرات نخبة من اساتذة الجامعات الذين يعانون من هذا الواقع المرير. ان ما ذكر في المقالة ليس مجرد شكاوى عابرة، بل هو تشخيص دقيق لامراض مستعصية تهدد بتقويض صرح التعليم العالي وتعيق تقدم بلدنا.

لذا اضع هذه الرسالة بين ايديكم امانة ومسؤولية، وادعوكم بكل الحاح الى دراسة ما جاء فيها بعناية فائقة، واتخاذ الاجراءات العاجلة لوقف هذا التدهور المتسارع. ان مستقبل العراق ومستقبل اجياله يعتمد على جودة التعليم العالي، ولا يمكن تحقيق التنمية والازدهار في اي مجال من مجالات الحياة دون اصلاح جذري وشامل لهذا القطاع الحيوي. ان الاستجابة لما طرح في هذه الرسالة واتخاذ ما هو صالح للتعليم العالي والجامعات هو استثمار حقيقي في مستقبل العراق، وتجاهله سيكون له عواقب وخيمة على المدى البعيد.

اثق بحكمتكم وحرصكم على مصلحة الوطن، واتطلع الى رؤية خطوات جادة تتخذ في سبيل انقاذ التعليم العالي في العراق.

***

ا. د. محمد الربيعي

بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي (8)

ألا يُدرِك أولئك المغتبطون بتلك النصوص التي يعزونها إلى الإمام (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، ـ40هـ)، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعًا واغتباطًا وإعلاءً من شأن الإمام، أنَّ في نِسبة الهُراء من هذا وذاك إلى (عَليٍّ) جنايةً على مقامه الكريم أيَّما جناية؟!

هكذا تساءل (ذو القُروح)، في ختام المساق السابق. قلتُ:

ـ على أنَّ (سحر سليمان عيسى)(1) تشير إلى أنه: «من الثابت أنَّ كتاب «نَهْج البلاغة»، جوهرًا وفِكرًا للإمام (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، في حين أنَّه تسميةً وتنسيقًا: الخُطَب والأوامر والكتب والرسائل والحِكم والمواعظ، فصولًا وأبوابًا للشَّريف الرَّضِي.»

ـ كيف صار ذلك «من الثابت»؟

ـ لم تذكر!

ـ ومَن ذا أثبتَه؟ وكيف؟ لو أنها قالت: «من الشائع»، لكان قولها صوابًا. ولقد نبَّه شُرَّاح «نَهْج البلاغة» من القدماء أنفسهم، وممَّن لا يُشكُّ في انتمائهم العَلَوي، إلى ما في عمل (الرَّضِيِّ، ـ406هـ) من خَلْطٍ وتخليط. فهذا (ابن أبي الحديد، ـ656هـ)(2)، مثلًا، يعلِّق على الخُطبة الرابعة في «النَّهْج» بقوله: «هذه الكلمات والأمثال ملتقطةٌ من خُطبةٍ طويلة، منسوبة إليه، عليه السلام، قد زاد فيها قومٌ أشياء حملتْهم عليها أهواؤهم، لا توافق ألفاظُها طريقته، عليه السلام، في الخُطَب، ولا تُناسب فصاحتُها فصاحته، ولا حاجة إلى ذِكرها، فهي شهيرة. ونحن نشرح هذه الألفاظ، لأنها كلامه، عليه السلام، لا يشكُّ في ذلك من له ذوقٌ ونقدٌ ومعرفةٌ بمذاهب الخُطَباء والفُصَحاء في خُطَبهم ورسائلهم، ولأنَّ الرواية لها كثيرة، ولأنَّ الرَّضِىَّ، رحمة الله تعالى عليه، قد التقطها ونسبَها إليه، عليه السلام، وصحَّحها، وحذف ما عداها». كما قال (ابن أبي الحديد)(3) عن الخُطبة الثانية في «النَّهْج»: «واعلم أنَّ هذه الكلمات... يَبْعُد عندي أن تكون مقولةً عُقيب انصرافه، عليه السلام، من (صِفِّين)، لأنَّه انصرفَ عنها وقتئذ مضطربَ الأمر، منتشرَ الحَبْل؛ بواقعة التحكيم، ومكيدة ابن العاص، وما تمَّ لمعاوية عليه من الاستظهار، وما شاهدَ في عسكره من الخذلان، وهذه الكلمات لا تُقال في مثل هذه الحال، وأخْلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بَيْعته، قبل أن يخرج من (المدينة) إلى (البصرة). وأنَّ الرَّضِىَّ، رحمه الله تعالى، نقلَ ما وجدَ، وحكى ما سمعَ، والغَلَط من غيره، والوَهْم سابقٌ له، وما ذكرناه واضح.»

ـ وكأنَّه يقول: «كفَى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سَمِع»!

ـ وهكذا يبدو القدماء أكثر عِلميَّة واحترامًا للمنهاج من المحدثين! ولقد حاول بعض المحدثين، من المنافحين عن (الشَّريف الرَّضِي)، باللُّتَـيَّا والَّتي، تسفيه كلام (ابن أبي الحديد) هذا، ذاهبين إلى أنَّ (عَليًّا) لا تنطبق عليه المقاييس البَشَريَّة أصلًا؛ فقالوا: «وهذا الاستنتاج من مثل هذا الشارح عجيب، فإنَّ ما ذكره، مسهِبًا فيه، إنَّما يجري بالنسبة إلى غير أمير المؤمنين، عليه السلام، ممَّن يقعقع  له بالشِّنان، ويضطرب أمره من ماجريات الزمان، وأمَّا أمير المؤمنين، عليه السلام، فهو ليس كغيره، ممَّن يعتريه وهنٌ أو ضعفٌ أو فشلٌ أو ذُلٌّ، ولا ممَّن تزيده كثرة الناس أُنْسًا وقُوَّةً، وتفرُّقهم ضعفًا ووحشة، على أنَّ المطلوب من الرَّجُل العظيم- وإنْ كان دون أمير المؤمنين- أن يتجلَّد ويتظاهر بمظاهر الفُتُوَّة، وعدم المبالاة بالنوائب والحوادث.»(4)

ـ المسألة هنا ليست بمسألة «فُتُوَّة»، لكنها مسألة واقع، وسياسة، وصِدْق، وحِكْمة.

ـ بل إنَّ مثل هذه «الفُتُوَّة» المدَّعاة في مثل هذا الظرف ستبدو أشبه بالحماقة، أو بعدم المبالاة السلبيَّة، بالفعل. فأيُّ قائدٍ عظيمٍ، عَقِب معركة كمعركة صِفِّين، سيفرغ للسجع على المنابر؟! منوِّهًا بشهادةٍ تأتي «مُمْتَحَنًا إخلاصُها، مُعْتَقَدًا مُصاصُها...»!

ـ للهِ في خلقه شؤون! أمَّا تفضيل «نَهْج البلاغة» لدَى الغُلاة في (عَليٍّ) على ما سِواه من النصوص، بما في ذلك النصّ القرآني، فذلك ما لا أعلم قائلًا به قبل السيِّد (أحمد القبَّانجي).

ـ وهو قولٌ لا يقوم، لا على أثارةٍ من عِلم البلاغة، ولا على المفاضلة بين أساليب البيان، بمقدار ما يقوم على الميل العاطفيِّ، أو بالأحرى العصبيَّة الحزبيَّة، والانتصار المذهبيِّ.

ـ لكن الرجُل، رغم عمامته السوداء التي ما انحطَّت عن هامته، يصف نفسه بأنَّه ليبراليٌّ قُح، حداثي، وجداني، متمرِّد على كلِّ الأصول والثوابت والتراث!

ـ سلِّم لي على اللِّيبراليَّة العَرَبيَّة، مع حداثتها الاتِّباعيَّة! إنَّما هو المِراء الفارغ، أو حتى الجِدال الأيديولوجي المحض، للطعن في «القرآن»، يَمنةً ويَسرة، فما يخدم هذا الغرض، أهلًا به وسهلًا! ولو كان (القبَّانجي) كـ(الشَّريف الرَّضِي)، لاستحى من قوله، بَيْدَ أنَّ للجاهل من الجرأة ما ليس لغيره. قال (الشَّريف)(5): «وإنِّي لَأقول أبدًا: إنَّه لو كان كلامٌ يلحق بغباره [مشيرًا إلى «القرآن»]، أو يجري في مضماره- بعد كلام الرسول، صلى الله عليه وآله- لكان ذلك كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب، عليه السلام؛ إذ كان منفردًا بطريق الفصاحة، لا تزاحمه عليها المناكب، ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد، ومَن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فليُنعِم النظر في كتابنا الذي ألَّفناه ووَسَمْناه ب‍»نَهْج البلاغة«... وكلامه (عليه السلام)- مع ما ذكرناه من عُلوِّ طبقته، وحُلْو طريفته، وانفراد طريقته- فإنَّه إذا حاولَ ليلحق غايةً من أداني غايات «القرآن»، وجدناه ناكِصًا متقاعِسًا، ومقهقِرًا راجِعًا، وواقِفًا بليدًا، وواقِعًا بعيدًا.» فها هو ذا يفضِّل بلاغة الرسول على بلاغة (عَليٍّ)، ثمَّ لا يقارن ببلاغة «القرآن» بلاغةً أبدًا؛ فما سِواه بالقياس إليه النكوص، والتقاعس، والتقهقر، والرجوع، والوقوف، والبلادة، والوقوع بعيدًا.

ـ وما قولك في مَن يُصِرُّ على التماس مصادر سابقة للنصوص التي أوردها الرَّضِيُّ في «النَّهْج»؟

ـ نحن نعلم أنَّ بعض ما وردَ في «النَّهْج» قد وردَ في مصادر سابقة، وقد ضربنا على ذلك الأمثلة، في المقالات السابقة، ووازنَّا، ولاحظنا الاختلافات بين تصرُّف (الشَّريف) في روايات «النَّهْج» وروايات (الطَّبَري)، على سبيل المثال.

ـ لكن كثيرًا ما يدلون عليك بشهادة (الجاحظ)، بأن خُطَب عَليٍّ كانت محفوظة.

ـ هكذا يظنُّون، أو قل: هكذا يفترون على (الجاحظ)! وذلك في روايةٍ معنعنةٍ عن (زكي مبارك)(6)، حيث قال: «وقد أراد المسيو ديمومبين (Demombynes) أن يَغُضَّ من قيمة ما نُسِب إلى عليِّ بن أبي طالب من خُطَب ورسائل؛ استنادًا إلى ما شاع منذ أزمان من أنَّ الشَّريف الرَّضِي هو واضع كتاب «نَهْج البلاغة». أمَّا نحن فنتحفَّظ في هذه المسألة كلَّ التحفُّظ؛ لأنَّ الجاحظ يحدِّثنا أنَّ خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا أن خُطَب عَليٍّ كانت معروفة قبل الشَّريف الرَّضِي.» ونقول لك- يا زكيًّا يا ابن مبارك- لقد كان (المسيو ديمومبين) أصدق منك ومن تحفُّظاتك كلِّها!

ـ كيف؟

ـ هل حقًّا قال (الجاحظ) «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»؟ أم في هذا القول ضربٌ من التدليس على القارئ؟!  مَن يقرأ هذا الكلام المبارك لـ(زكي مبارك) يخيَّل إليه أنَّ الجاحظ قد شَهِد بأنها كانت هناك مجموعات مصنَّفة مشهورة، وربما مجلَّدات بتلك الخُطَب، ولعلَّ الجاحظ قد اطَّلع عليها! فدونك ما قاله (الجاحظ)(7)، وَفق سياقه، بلا زيادة، ولا نقصان، ولا تلبيس: «أنا أُوصيكَ أنْ لا تدع التماسَ البيان والتبيين، إنْ ظننتَ أنَّ لكَ فيهما طبيعةً، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تُهمِل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوَّة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة. وإنْ كنتَ ذا بيان، وأحسستَ من نفسك بالنُّفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوَّة المُنَّة يوم الحَفْل، فلا تُقصِّر في التماس أعلاها سُورة، وأرفعها في البيان منزلة. ولا يقطعنَّك تهييُّب الجُهَلاء وتخويف الجُبناء... وقد سمعتَ الله، تبارك وتعالى، ذكرَ داوود النبيَّ، صلوات الله عليه، فقال: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ»‏ إلى قوله: «وَفَصْلَ الخِطَابِ». فجمعَ له بالحِكمة البراعةَ في العقل، والرجاحة في الحلم، والاتِّساع في العِلم، والصواب في الحُكم، وجمعَ له بفَصْل الخِطاب تفصيلَ المُجمَل، وتخليصَ الملتبس، والبَصَر بالحَزِّ في موضع الحَزِّ، والحَسْم في موضع الحَسْم. وذكرَ رسولُ الله شُعيبًا النبيَّ، عليه السلام، فقال: «كان شعيبٌ خطيبَ الأنبياء»، وذلك عند بعض ما حكاه الله عنه في كتابه، وجلَّاه لأسماع عباده. فكيف تهاب منزلة الخُطَباء، وداوود، عليه السلام، سَلفُك، وشعيب إمامُك، مع ما تَلَوْنا عليك في صدر هذا الكتاب من القرآن الحكيم، والآي الكريم. وهذه خُطَب رسول الله مدوَّنةٌ محفوظة، ومُخلَّدةٌ مشهورة، وهذه خُطَب أبي بكر، وعُمَر، وعُثمان، وعَليٍّ رضي الله عنهم.» هذا نصُّ (الجاحظ)، جاحظٌ أمام عينيك! فهل قال: «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»، كما زعم (زكي مبارك)؟!

ـ الحقيقة، أنه لم يقل «محفوظة في مجموعات». بل لم يصرِّح بأنها «مدوَّنة محفوظة» كخُطَب الرسول. ولكن هل صحيح أنَّ هذه الأخيرة «مدوَّنةٌ محفوظة، ومُخلَّدةٌ مشهورة»، كما قال؟

[نناقش هذا في المقال التالي].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1)(2012)، قراءات من المكتبة العَرَبيَّة، (عمَّان: دار البداية)، 117.

(2) (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبي)، 1: 208.

(3)  م.ن، 1: 143.

(4)  الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 50.

(5) (1986)، حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرح: محمَّد الرضا آل كاشف الغطاء، (بيروت: دار الأضواء)، 5: 167- 168.

(6) (1957)، النثر الفنِّي في القرن الرابع، (مِصْر: مطبعة السعادة)، 1: 69.

(7) (1998)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 200- 201.

أبو حيان التوحيدي (922 - 1023 م).. فيلسوف متصوف، عالم موسوعي، وأديب بارع.. لُقِّب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والبلاغة وعلم الكلام، وتميزت مؤلفاته بتنوعها وغزارة مضمونها، وبأسلوبه الأدبي البارع الذي اشتمل على وصف للأوضاع العامة في عصره. ووصفه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) بأن التوحيدي "لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء".

ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية. وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري.. وعاش أغلب عمره الطويل في بغداد.. وأليها ينسب.

 والمؤلم أن التوحيدي، الذي ألف "الإمتاع والمؤانسة" و"المقابسات" و"البصائر والذخائر"، أحرق كتبه في أواخر عمره ضنّا بها على من لا يقدّرها بعد وفاته، واشتكى من تجاهل إبداعاته ومن الفقر وقلة الرزق، وكتب لأحد أصدقائه يبين له أنه ليس أول من أحرق كتبه.. "فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم"..  أبرزهم سفيان الثوري، الذي مزق كتبه وطيّرها في الريح، وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باق، وداود الطائي الذي "طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول"، وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك".

وذكر جلال الدين السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة" أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لمّا انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه، فجمعها وأحرقها ولم ينج منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها. وروى التوحيدي عن شيخه أبي سعيد السيرافي، الذي لقب بـ"سيد العلماء"، أنه قال لولده محمد "قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار".. ما يعني أن التوحيدي عاش مهمشا مغتربا كحال مثقفي هذا الزمان الأصلاء!

التوحيدي.. عالم كيمياء

قال عنه ابن خلدون "إنه إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز"، وقال عنه أبو بكر الرازي "إن جابرا من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء"، فيما قال عنه القفطي إنه كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيمياء. وقيل فيه أيضا إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق وإنه هو أول من علم علم الكيمياء للعالم.

 زد على ذلك أن التوحيدي وصف بأنه أول من اعتمد المنهج العلمي التجريبي القائم على التجربة والملاحظة، واعتماد المنهجين الاستدلالي والاستقرائي، وأنه أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرّد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول.

قادحون ومادحون

 المفارقة في التوحيدي ان فلاسفة ومفكرين انقسموا فريقين (قادحون ومادحون).. اليكم نماذج منها:

- (الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لامور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل). الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء).

- زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان). ابو الفرج بن الجوز.

- (شيخ فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، لا نظير له في الذكاء والفطنة والفصاحة.. كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه). ياقوت الحموي (معجم الأدباء).

- (كان فاضلاً مصنفاً وله الكثير من المصنفات الحسنة كالبصائر. وكان فقيراً صابراً متديناً صحيح العقيدة وكانت مبالغة عظيمة من الذهبي بوصفه لأبي حيان بأنه كان عدواً لله خبيثا..  تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

كانت الحروف العربية تكتب فى البداية بغير نقط، وكان العرب الذين يجيدون القراءة والكتابة، يقرأون الكلام بغير نقط دون أن يخطىء أحدهم فى حرف واحد، كانت الملكة اللغوية قوية، والقريحة سليمة متقدة، فيقرأ الكلمة قراءة سليمة لا تشوبها شائبة حتى ولو كانت الحروف بغير نقط.

 وكـُتب القرآن الكريم فى بادىء الأمر هكذا بغير نقط. ونـُسخ فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه خمس نسخ للمصحف أرسل بكل نسخة إلى بلد، وكانت بغير نقط، وكان الناس لا يخطىء أحدهم فى حرف. إلا أنه مع تزايد دخول غير العرب فى الإسلام وتنامى ضعف الملكة اللغوية حتى عند العرب، بدأ الخطأ يقع، من هنا كانت ضرورة التوصل إلى ابتكار يميز الحروف عن بعضها ويحمى نطق الكلمة فتأتى على المعنى المقصود.

 من هنا كانت فكرة نقط الحروف والتى تسمى عند البعض " الإعجام " فإعجام الحروف هو وضع النقط عليها، وكان ذلك على يد " نصر بن عاصم" الذى نقط حروف المصحف الشريف وميزها، وكان ذلك فى خلافة عبد الملك بن مروان. فميز نصر بن عاصم بين الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والسين والشين، والصاد والضاد، وغيرها. ثم انتشرت الفكرة وأصبحت صفة لازمة للحروف العربية فى أى كتابة، بعد أن كانت مقيدة بالقرآن الكريم فقط.

 ومن الطريف أن عددًا من الكتاب والعرب فى بادىء الأمر، قد اعتبروا أنه لو أرسلت رسالة أو كتبت شيئـًا لأحد، ووضعت فيه النقط، كان ذلك سوء أدب لمن تخاطبه، لأنك بذلك حين نقطت له الحروف، فأنت اعتبرته من الجهلاء باللغة وخشيت أن يخطىء فنقطت له الحروف.

أصل فكرة الإعجام ونقط الحروف

 فكرة وضع نقط على الحروف أو تحتها هى فى الأصل مأخوذة من اللغة السريانية، فالعرب قد عرفوا تلك الفكرة عن السريانية. إذن فكرة النقط هى موجودة قبل نصر بن عاصم، إذ كانت فى السريانية، ثم أخذها نصر بن عاصم وابتكر التطبيق فى العربية. فإن حاكى وقلد فى الفكرة، فإن له الإبداع فى التطبيق، فابتكر مثلا للباء نقطة تحتها والتاء لها نقطتان فوقها والثاء ثلاث نقط فوقها، وهكذا مما نعرفه الآن من شكل النقط على الحروف أو تحتها.

أثر غياب النقط فى بادىء الأمر فى ظهور القراءات

 بالرغم من أثر غياب التنقيط قد أوقع عددًا فى الخطأ والانحراف، إلا أنه كان له وجه إيجابى آخر، فكانت مسألة توفيقية من الله تعالى جرت على ألسن العرب الفصحاء الذين لم يقع اللحن أو الخطأ على ألسنتهم، فكانت الكلمة الواحدة بغير نقط، فأمكن ذلك من تـُقرأ على أكثر من وجه، ومن الجمال فى ذلك أن كل هذه الأوجه صحيحة ولم تخطىء المعنى.

 ومثال ذلك، قوله تعالى {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة / 138] فقرأها البعض {صَنْعَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صَنْعَةً} فجعلوا الباء نونـًا والغين عينـًا. وهنا المعنى واحد فالصبغة التى صبغ الله عليها خلقه، هى الصنعة التى صنع الله بها خلقه وليس من أحد أحسن من الله فى خلقه وصنعته. فصبغة أى صنعة، فصارت قراءة صحيحة هى نفسها فى قلب المعنى المقصود.

 وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات / 6] فتبينوا قرأها آخرون " فتثبتوا ". وهو نفس المعنى فتبين الخبر أى التثبت من صحته، فصارت قراءة صحيحة هى نفسها فى قلب المعنى المقصود.

 وقوله تعالى {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً}[طه / 96]. فقرأها البعض {فَقَبَضْتُ قَبْصَةً} فأبدلوا الضاد صادًا. والقبضة تكون بكل الكف، أما القبصة فهى الأخذ بأطراف الأصابع، فاختلاف النقطة أجاز أن تـُقرأ على وجهين ومعنيين، حتى وإن كان الأول يفيد معنى الأخذ بكل الكف والآخر يفيد معنى الأخذ بأطراف الأصابع، إلا أن فعل الأخذ موجود ومتحقق.

 ويهمنا فى ذلك أن نشير إلى مرونة اللغة العربية، فهذه من الظاهرات الصحية التى تتمتع بها اللغة العربية، فحين تدرك الشواهد السابقة وتتأملها، فلا يمكنك إلا أن تقول: يا لجمال هذه اللغة. فمن مواطن جمالها أن تراها بهذه المرونة. ويهمنا أيضا أن نشير إلى ذكاء التلقى اللغوى عند العربى القديم، فحتى وإن قرأ الكلمة قراءة أخرى، فإنه يأتى بنفس المعنى أو محيطه دون خطأ أو انحراف. وختامًا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من المتعة والإفادة للقارىء الكريم.

***

د. أيمن عيسى - مصر

هل القرآن منزل من السماء؟

يخصص الرصافي (194) صفحة لموضوع القرآن (ص551 - 745) يفند فيها الكثير من آراء وتحليلات كتاّب السير(السيوطي، الطبري، الباقلاني، السيرة الحلبية ..) نلتقط منها (تهمة) تخصه صاغها بشكل غير مباشر بقوله ان التقليدين اعتبروا (اعجاز القرآن موضوع ديني بحت، وأن كل من شذ عنه فهو في نظرهم كافر، وكل من خالفهم فهو في رأيهم ملحد، فيما يمكن ان يكون (اعجاز القرآن موضوعا فنيا أدبيا) كما يرى.

ويمهد الرصافي في الصفحات (583) وما بعدها بتفسير عبارات الأنزال والتنزيل والنزول في الكلام الموحى من الله الى النبي محمد كقوله (نزل به الروح الأمين) و(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، وانتقد من قالوا ان القرآن أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ.. وتساءل:(هل الكلام الموحى به الى محمد نازل من فوق، اي من جهة عالية الى جهة سافلة؟ ص 583). وبعد ان يوضح أن حقيقة الوجود الكلي المطلق اللانهائي الذي تسبح فيه الاجرام، لا يعرف عددها الا الله (ما يعني ان الرصافي يؤمن بالله).. فانه يصف تفسير اهل الاديان بأن ما يحصل في الكون يعود الى قدرة الله بأنه تفسير عاجز يحوم حول الحقيقة ولا يستطيع ان يقترب منها، فخالق الكائنات الأعظم بتعبير الرصافي (ص 585) اجل واعظم مما قاله انبياء البشر وأجل واعظم مما نسبوه اليه.. وهو توكيد آخر ان الرصافي ليس كافرا.

ويجيب على السؤال الخاص بالقرآن بقوله: لقد تعودنا اننا اذا اردنا ان نعظّم شيئا او احدا نسبناه الى العلو ووصفناه بالعالي، وان المقصود بتعبير (الانزال) هو تعظيم الله الذي لم تكن هذه المنزلات الا منه اي بأمره وارادته، ليصل بالقاريء الى ان الله انزل القرآن على النبي محمد بمعنى انه الهمه معانيه، وان محمدا عبّر عن تلك المعاني بالفاظ عربية.. ليوصلنا الى استنتاج يصدم الأيمان التقليدي بأن القرآن بفكرته العامة وصياغته هي من صنع محمد وابداعه الشخصي وعبقريته الأستثنائية!.

ومع ان تفسير الرصافي هذا يتعارض مع المرجعيات الدينية، فاننا نرى ان الرصافي لا ينفي حقيقة أن القرآن هو من الله سبحانه سواء كان كلاما او الهاما.. ولا يستوجب تكفيره كما دعا متشددون مع انه ترد في السياق عبارات تؤكد أن الرجل مؤمن بالله.

***

د. قاسم حسين صالح

في ظلّ هذا العالم المُبتلى بالاستلاب، حيث تتحلّل السرديات الكبرى أمام يقينها المُتهافت، ينهض المثقف بوصفه كائنًا يتأرجح بين وطأة التاريخ وعبثيّة الحاضر. ليست المسألة في كينونة المثقف، بقدر ما هي في هشاشة تموضعه؛ فهل هو قارئ للخراب، أم محلّل لأبعاده؟ وهل يُعيد تدوير الجيف الأيديولوجي السائد، أم يرصده بوعي المُتفرّج دون أن يُغادر حافّة التأمّل؟

في أفق ماركس، المثقف ليس كيانًا متعاليًا، بل فاعلٌ في شبكات الإنتاج، متورّطٌ في البنية، حتى حين يدّعي الحياد. لكنه هنا لا يبدو سوى هامشٍ على متن الصراع، يُراقب التحوّلات كما يُراقب العابرون نهرًا لا نية لهم في عبوره.

إنه، كما يقول، “يُنتج الأفكار المهيمنة التي تُعيد إنتاج سلطة الطبقة المهيمنة”، لكنه لا يتجاوز ذلك إلى ممارسة الفعل، مكتفيًا بإعادة إنتاج الخطاب نفسه الذي يدّعي نقده. إنه وعيٌ ينسج حول ذاته شرنقةً من المفاهيم، لكنه وعيٌ بلا عضلات، بلا امتداد في جسد الواقع، كأنّه كيانٌ عالقٌ في مساحةٍ نظرية لا يجد جسدًا يُجسّدها في الواقع.

لكن، في قلب هذا الاغتراب، تنبثق شروخُ الاحتمال. غرامشي، في استبصاره العابر للحقب، يُؤكّد أنّ “كل إنسان هو مثقف، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف”، وكأنّما يُشير إلى هذه المفارقة: المثقف الذي اختار أن يكون فكرةً دون أثر، تحليلًا بلا تدخّل، صوتًا بلا صدى في الأرض.

هو ليس مُفسّرًا للعالم، ولا صانعًا لتحوّله، بل مُؤرّخٌ لمأزقه، ناقدٌ لانسداداته، لكنه غير معنيٍّ بتغيير وجهته، مُستريحٌ في موقعه الرمادي، حيث لا يُختبر أثر الفكر إلّا في حدود الصياغة، لا في الفعل ذاته! وكأنّ النقد أصبح ممارسةً مغلقة، تستهلك ذاتها في دوائر لا تنتهي، دون أن تخترق جدار الواقع لتُعيد تشكيله.

غير أن ما بعد الحداثة، وهي تفكيكٌ بلا ردم، أزاحت المثقف من موضعه الصلب إلى ضباب الاحتمالات. صار مُنهكًا بالأسئلة، غارقًا في تفكيك السرديات، حتى بات عاجزًا عن الإمساك بخيط الفعل.

فهل المثقف اليوم أكثر من محض مرآةٍ تعكس صراعاتٍ لا يملك سوى تأمّلها؟! ألَم يصبح، كما يقول بودريار، نسخةً عن نسخة، مُحاكيًا لسلطةٍ يظن أنّه ينقضها، لكنه في النهاية لا يفعل أكثر من إعادة تدوير وجودها؟

ومع ذلك، ألا تكمن في هذا العجز المزعوم بذور مقاومةٍ أخرى، مقاومةٌ لا تتجلّى في الممارسة التقليدية، بل في زعزعة أنظمة المعنى ذاتها، في إعادة تشكيل الخيال السياسي الذي يُملي على الواقع شروط تحوّله؟!

الوجع هنا ليس وجع المثقف ذاته، بل وجع انزلاق الفكر إلى مواضعاتٍ فارغة، إلى التفاهة التي تتزيّن بلغةٍ نقدية مستأنسة، إلى التنظير الذي فقد وظيفته الأولى: زعزعة الثابت.

لكن، وسط هذا الركام، لا يزال السؤال مُعلّقًا في الهواء: هل المثقف هو من يُحدث الفارق، أم من يُعيد توصيف الفجوة؟! وهل يقف على حافّة الانخراط، أم اكتفى بصناعة الوصف، تاركًا التغيير لأولئك الذين لا يملكون ترف التردّد؟!

وإذا كان المثقف قد تراجع عن الفعل، فمن الذي يملأ الفراغ؟! هل تحلّ الدعاية مكان النظرية؟! هل تملأ الشعارات مكان التحليل؟! وهل انتهت وظيفة الفكر النقدي ليبدأ عصر تكرار الصدى، حيث تُستهلك المفاهيم بقدر ما تستهلكها الأنظمة نفسها؟!

لكن، إذا كان المثقف قد فقد قدرته على الفعل، فمن الذي أخذ زمام المبادرة؟! هل انتقل الدور إلى الحركات الجماهيرية العفوية، إلى الشارع الذي لم يعُد ينتظر تبريرًا نظريًا ليغضب، بل يتحرّك بناءً على الضرورة؟!

وهل يُمكن للفكر أن يستعيد وظيفته في ظلّ عالمٍ باتت فيه السرعة والاختزال يُلخّصان كلّ شيء، حتى التغيير نفسه؟!

إن كان المثقف عاجزًا عن تجاوز عتبة التحليل، فهل انتهت وظيفته؟! أم أن التغيير لم يكن يومًا مهمّة الفكر، بل مهمّةٌ أخرى تُمارَس حيث لا تصل الكلمات، حيث ينقطع التنظير لصالح ضرورةٍ أكثر قسوة؟!

وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن الفكر لم يعُد إلّا صدى لما يحدث، لا مُحرّكًا له؟! أم أن المثقف، حتى في هامشيّته، لا يزال يحتفظ بسلطةٍ خفيّة، تنكشف حين تتشظّى السرديات الكبرى، وحين يصبح السؤال أهمّ من الجواب؟

***

إبراهيم برسي

يعدّ أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي أحد أشهر (الملاحدة) في التاريخ الأسلامي، ووصف بأنه كان يتباهى بأنه ملحد!. وأثار موقفه هذا عجب كثيرين، كيف لم يقتل رغم شناعة ما بدر منه.. وبقي حيا الى يوم توفى (نحو 298هـ/912م).. تاركا مؤلفات كثيرة وصفت بالكتب (الملعونة). وينسب لأبن الجوزي قوله: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري".

ومع ذلك؛ يبدو أن شهرة ابن الراوندي لم يكن سببها مجرّد أفكاره، بل أيضا جرأته على إعلان تلك الأفكار داخل أروقة الثقافة ومجالس الفكر وفي مدونات الجدل الكلامي؛ مما جعل نصوصه وآراءه مثارا لأقوى السجالات الكلامية والفِرَقية في التاريخ الفكري الإسلامي.

وتعرّض الرواندي لحملة تشهير وتشنيع اثر طرد المعتزلة له، فزاد تطرفه وتحول الى "ناقد بالإيجار" يقدم خِدْماته المعرفية لمن يدفع مقابلها. وشرع في تأليف الكتب لأية طائفة ترغب في التشهير بخصومها، لدرجة أنه ألف كتبا للردّ على عقائد الإسلام باعها لمن طلبها من غير المسلمين، كما وصفه كثيرون، وانه تحوّل الى منتقم أكثر منه ناقدا أو مفكر، وتحول من عالم معتزلي الى عالم شيعي الى ملحد.. كما يضيفون!

ويرى أبو الحسين الخياط المعتزلي أن المعتزلة طردوا ابن الراوندي عن مجالسها لطعنه في الدين؛ وطعنه في كتابه " الزمرد" بجميع الرسل، وأن هذا الطرد أثر كثيرا على نفسيته فحمله "الغيظ الذي دخله على أن مال إلى الرافضة، إذ لم يجد فرقة من الأمة تقبله فوضع لهم كتابه في الإمامة، وتقرّب إليهم بالكذب على المعتزلة، فيما يؤكد الإمام أبو الحسن الأشعري أن ابن الراوندي وشيخه الوراق، الذي أخرجه "من عزّ الاعتزال إلى ذلّ الإلحاد والكفر".. كلاهما من "رجال الرافضة".

ويذكر الخياط عن مدى تأثير أفكار ابن الراوندي "الخبيثة" في من حوله من الشباب؛ فيقول: "وهذا القول كان يقوله الخبيث في آخر صحبته للمعتزلة، وصَحِبَه على ذلك أحداثٌ، فكلهم ظهر إلحادُه وانكشف. ويذكر المؤرخ صلاح الدين الصفدي " أن ابن الراوندي كان لا يستقرّ على مذهب ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالا بعد حال".

وفي مقابل تلك الاتهامات الموجهة إليه بالإلحاد من كل هذه الطوائف؛ نجد قولا معزواً إلى ابن الراوندي يدل على أنه كان ينفي عن نفسه هذه التهمة الشنيعة، وينحو بأسبابها الموصلة إليها لدى الخصوم منحى معرفيا بحثيا خالصا؛ فقد جاء في ‘الوافي بالوفيات‘ للمؤرخ الصفدي: "قال القاضي أبو علي التنوخي: كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم"..

ومع اننا نميل الى أن غيظ ابن الراوندي على المعتزلة، وتمنيه ان يحصل على رئاسة يرى انه يستحقها كانتا سببين سيكولوجيين دفعاه الى الإلحاد، الا أن اشكالية الحاده تظل مثار جدل تبعد اليقين.

***

د. قاسم حسين صالح

جامعة كمبردج

تعتبر جامعة كامبردج، بتاريخها العريق الذي يمتد لاكثر من ثمانية قرون منذ تاسيسها عام 1209، منارة للعلم والمعرفة، وصرحا اكاديميا شامخا يلهم الاجيال المتعاقبة. تعد كمبردج رابع اقدم جامعة في العالم، وثاني اقدم جامعة في العالم الناطق باللغة الانجليزية، حاملة على عاتقها مسؤولية نشر العلم والمعرفة وخدمة الانسانية. لم تكن كمبردج مجرد مؤسسة تعليمية عابرة، بل كانت ولا تزال محركا رئيسيا للتطور الفكري والعلمي على مستوى العالم، وشاهدة على تحولات تاريخية هامة، ومخرجة لقادة ومفكرين وعلماء غيروا مجرى التاريخ، امثال اسحاق نيوتن، الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية، وتشارلز داروين، الذي وضع نظرية التطور، والان تورينج، رائد علوم الحاسوب.

تتميز جامعة كمبردج بمكانة علمية رفيعة المستوى، حيث تصنف باستمرار ضمن افضل الجامعات في العالم في جميع التصنيفات العالمية المرموقة، مثل تصنيف شنغهاي. هذا التميز هو نتاج جهود مضنية وابحاث علمية رائدة في مختلف المجالات، من العلوم الطبيعية الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والاحياء، مرورا بفروع الهندسة المختلفة كالهندسة المدنية والميكانيكية والكهربائية، وصولا الى العلوم الانسانية والاجتماعية التي تعنى بدراسة التاريخ والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية. تضم الجامعة بين جنباتها العديد من المراكز والمعاهد البحثية المتطورة التي تساهم في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي، مثل معهد كافنديش الشهير للفيزياء. تعرف كمبردج باسهاماتها القيمة في جوائز نوبل، حيث حاز خريجوها على اكثر من 120 جائزة نوبل في مختلف المجالات، مما يعكس المستوى العالي للتعليم والبحث العلمي فيها. من بين الاسهامات الخالدة لجامعة كامبريدج، يبرز اكتشاف التركيب الحلزوني المزدوج للحامض النووي (DNA) على يد جيمس واتسون وفرانسيس كريك عام 1953. هذا الاكتشاف، الذي حاز على جائزة نوبل في الطب عام 1962، غيّر مسار علم الاحياء والطب، وأرسى الاساس لفهم أعمق للوراثة والأمراض، ويعد علامة فارقة في تاريخ العلم.

اضافة الى مكانتها العلمية المرموقة، تتميز جامعة كمبردج ببيئة تعليمية فريدة من نوعها، حيث تتكون من 31 كلية تتمتع باستقلال ذاتي، ولكل منها تاريخها وتقاليدها الخاصة، وهويتها المعمارية المميزة. هذه الكليات توفر بيئة تعليمية متنوعة وغنية، تجمع بين الطلاب من مختلف الخلفيات والثقافات من جميع انحاء العالم، مما يثري تجربة التعلم ويساهم في تكوين شخصية الطالب وتوسيع افاقه. توفر الجامعة ايضا مكتبات ضخمة ومتاحف عالمية المستوى، تعتبر كنوزا حقيقية للطلاب والباحثين، حيث تمكنهم من الوصول الى مصادر غنية للمعرفة والالهام. من بين هذه المكتبات، مكتبة جامعة كمبردج، وهي واحدة من اكبر المكتبات في العالم، وتحتوي على ملايين الكتب والمخطوطات النادرة، بالاضافة الى متاحف مثل متحف فيتزويليام، الذي يضم مجموعات فنية واثرية قيمة، ومتحف علم الاثار والانثروبولوجيا.

يعود تاريخ جامعة كمبردج العريق الى عام 1209، عندما تجمع مجموعة من العلماء في مدينة كمبردج. لم يكن تاسيس كمبردج وليد الصدفة، بل جاء نتيجة لهجرة مجموعة من العلماء والاكاديميين من جامعة اكسفورد، بحثا عن بيئة اكاديمية جديدة. هذا الاصل المشترك بين كمبردج واكسفورد يفسر التشابه الكبير بينهما في العديد من الجوانب، مثل النظام التعليمي والهيكل التنظيمي، والتنافس الودي بينهما، الذي يعرف بـ "سباق القوارب" السنوي الشهير. على مر القرون، شهدت جامعة كمبردج تطورات وتحولات كبيرة، حيث ازدهرت فيها مختلف العلوم والفنون، واصبحت مركزا مرموقا للبحث العلمي والتفكير النقدي، ولعبت دورا محوريا في تشكيل تاريخ الفكر الاوروبي والعالمي.

كليات الجامعة هي وحدات اكاديمية وادارية مستقلة، تشرف على تعليم طلابها وتوفر لهم بيئة تعليمية فريدة من نوعها، تساهم في خلق مجتمع طلابي متنوع وغني، حيث يتفاعل الطلاب من خلفيات وثقافات مختلفة، مما يثري تجربتهم التعليمية ويساهم في تكوين شخصياتهم وهي ايضا مراكز اقامة للطلاب. هذا النظام الفريد للكليات يعتبر من اهم العوامل التي تميز جامعة كمبردج، ويساهم في الحفاظ على مستوى عال من التعليم والبحث العلمي.

تقدم جامعة كمبردج تعليما متميزا عالي الجودة يعتمد على اساليب تدريس متقدمة تجمع بين المحاضرات النظرية والندوات النقاشية وورش العمل العملية، مما يتيح للطلاب فرصة التعمق في دراسة مواضيعهم والتفاعل المباشر مع الاساتذة والخبراء في مختلف المجالات. يشجع نظام التدريس في كمبردج على التفكير النقدي والتحليل العميق، وينمي لدى الطلاب مهارات البحث والاستقصاء وحل المشكلات. هذا التنوع يثري تجربة التعلم بشكل كبير، حيث يتيح للطلاب فرصة التعرف على وجهات نظر مختلفة وتبادل الافكار والمعرفة، مما يساهم في توسيع افاقهم وتكوين صداقات وعلاقات مثمرة. كما توفر الكليات ايضا انشطة اجتماعية وثقافية متنوعة تساهم في خلق جو من التفاعل والتواصل بين الطلاب، مثل النوادي والجمعيات الطلابية والفعاليات الرياضية والفنية.

تخرج من جامعة كمبردج عبر تاريخها الطويل العديد من الشخصيات المؤثرة والبارزة في مختلف المجالات، الذين ساهموا في تغيير مجرى التاريخ وخدمة الانسانية، من بينهم رؤساء وزراء وملوك وفلاسفة وعلماء وادباء وفنانين.

باختصار، تعتبر جامعة كمبردج منارة للعلم والمعرفة، وتجمع بين التاريخ العريق والمكانة العلمية المرموقة والتميز في مجالات متعددة، مما يجعلها وجهة مرموقة للطلاب والباحثين من جميع انحاء العالم.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور ومستشار دولي، جامعة دبلن

مقدمة: يعتبر مجتمع ما بعد الحرب من الظواهر التاريخية المهمة التي شهدتها العديد من الحضارت والأمم، حيث تنعكس تبعات الحروب على الحياة اليومية للأفراد والشعوب، وتترك أثراً عميقاً على بنية المجتمعات، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تغيرات جذرية على المستويين السياسي والاجتماعي. حيث يشعر هذا المجتمع عادة بحالة من الرجة الناتجة عن الدمار والعنف الذي خلفته الحرب، ويظهر نتيجة لذلك تفاعل معقد بين القوى الثورية التي تسعى إلى التغيير وإعادة بناء النظام الاجتماعي والسياسي، وبين القوى التي تسعى إلى الحفاظ على الهياكل التقليدية القائمة، مما يقود في نهاية المطاف إلى مرحلة التأسيس التي يتم فيها وضع أسس جديدة للمجتمع.

الرجة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية

عند انتهاء الحروب، يُصدم المجتمع بآثار العنف والخسائر البشرية والمادية، مما يُعرف بـ"الرجة". وتكون هذه الرجة ليست مجرد تغير في الأوضاع السياسية، بل تمتد إلى كافة جوانب الحياة، لتشمل الاقتصاد، والتماسك الاجتماعي والأخلاقي، والثقافة. على سبيل المثال، تتراجع مستويات النمو الاقتصادي، وتتدهور البنى التحتية، وتنتشر البطالة والفقر والإجرام كما تعاني الأسر التي فقدت أفرادها من آثار نفسية واجتماعية عميقة، وتصبح الحاجة إلى الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية الملحة تحدياً كبيراً أمام الدول التي تحاول استعادة عافيتها بعد الحرب.

أمام هذه الظروف التي تشكل حالة من الإحباط لدى المواطنين، قد ينتج سخط شعبي واسع تجاه النخب السياسية القائمة أو السلطة التي قد تكون مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن وقوع الحرب. وبالتالي، تبرز مطالبات بضرورة إجراء تغييرات جذرية، فتحدث هزات كبيرة في الثقة بالنظم السياسية القائمة، ويصبح من الصعب على الأنظمة التقليدية الحفاظ على شرعيتها في ظل هذه الأزمات.

الثورة كاستجابة للرجة

تُعد الثورة في كثير من الأحيان نتاجاً مباشراً لحالة الرجة. ففي ظل غياب الثقة بالنظم القديمة، وازدياد المطالبات الشعبية بالإصلاحات، تنشأ الحركات الثورية التي تسعى إلى إحداث تغيير جذري في البنية السياسية والاجتماعية. و قد تستند الثورات إلى أهداف وأيديولوجيات مختلفة، وقد تتخذ أشكالاً متعددة، بدءاً من الاحتجاجات السلمية وحتى التمردات المسلحة.

و تستمد هذه الحركات قوتها من مشاعر الغضب والإحباط لدى المواطنين، وتعمل على تعبئة الجماهير لتحدي القوى التقليدية، وتدفع باتجاه تبني نماذج جديدة لإدارة الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن، رغم طموحات الثوار، غالباً ما تواجه الثورة مقاومة شديدة من النخب الحاكمة، والتي قد تلجأ إلى استخدام العنف أو الاستعانة بدول أجنبية لدعم استقرارها.

لكن رغم هذا، في كثير من الأحيان، تؤدي الثورات إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي، حيث يتم الإطاحة بالحكومات القائمة أو تغيير الدساتير وتأسيس حكومات انتقالية.

وقد شهدت العديد من المجتمعات ثورات ناجحة كانت بداية لفترة من التغيير الإيجابي، بينما شهدت مجتمعات أخرى ثورات انتهت إلى الفشل أو إلى المزيد من الفوضى والانقسامات الداخلية.

التأسيس وبناء مجتمع جديد

بعد انتهاء الثورة، تبدأ مرحلة التأسيس، والتي تهدف إلى إعادة بناء المجتمع على أسس جديدة تتناسب مع القيم والأهداف التي سعى إليها الثوار. وتعتبر هذه المرحلة تحدياً كبيراً لأي مجتمع، حيث يتطلب بناء مجتمع ما بعد الحرب وضع خطط واضحة للنهوض الاقتصادي، وإعادة هيكلة النظام السياسي، وترميم النسيج الاجتماعي الذي تأثر بالدمار والصراعات.

ويتضمن التأسيس عادةً وضع دستور جديد يضمن الحقوق والحريات الأساسية، وتأسيس مؤسسات سياسية قوية تحافظ على سيادة القانون وتحقق العدالة الاجتماعية. كما تعمل الحكومات في هذه المرحلة على إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وتشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية، وتوفير فرص العمل لإعادة دمج العاطلين عن العمل، خاصة من الشباب.

أما على الصعيد الاجتماعي، تسعى الدول في مرحلة التأسيس إلى تعزيز التماسك الاجتماعي من خلال برامج المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، التي تهدف إلى معالجة الانقسامات الاجتماعية والنفسية التي خلفتها الحرب. كما تتطلب هذه المرحلة تضافر جهود الدولة مع المجتمع المدني لتحقيق التغيير الإيجابي، ومساعدة الأفراد على التأقلم مع الواقع الجديد.

تحديات التأسيس وآفاق المستقبل

رغم أهمية مرحلة التأسيس، إلا أنها مليئة بالتحديات. فمن الصعب التخلص من آثار الصراعات بسرعة، وتحتاج المجتمعات وقتاً طويلاً لتحقيق الاستقرار الكامل. ومن بين أبرز التحديات التي تواجه مجتمعات ما بعد الحرب نجد:

1. الاستقرار السياسي: قد تتعرض الحكومات الجديدة لضغوط كبيرة من القوى القديمة أو من جماعات المصالح، مما يؤدي إلى صراعات سياسية وتحديات داخلية قد تعيق عملية بناء المجتمع الجديد.

2. الأزمات الاقتصادية: تتطلب إعادة بناء الاقتصاد موارد مالية ضخمة، قد لا تكون متاحة بسهولة. لذلك، تضطر الدول إلى الاستدانة أو الاعتماد على المساعدات الدولية، مما قد يضعها تحت رحمة الجهات المانحة ويحد من سيادتها.

3. التماسك الاجتماعي: تعاني المجتمعات المنقسمة بسبب الحروب من صعوبة استعادة الثقة بين الأفراد والجماعات، وتحتاج إلى برامج دعم نفسي واجتماعي تساعدها على تجاوز هذه الانقسامات.

4. تحديات العدالة الانتقالية: قد يكون من الصعب تحقيق العدالة الكاملة في مرحلة ما بعد الحرب، حيث تتعارض المصالح، وتتطلب محاسبة المسؤولين عن الجرائم السابقة، وهي عملية حساسة قد تولد توترات جديدة.

خاتمة

يمثل مجتمع ما بعد الحرب نموذجاً معقداً للتحولات الاجتماعية والسياسية، حيث تتفاعل فيه الرجة مع الثورة لخلق مناخ جديد يؤدي إلى التأسيس. تتطلب هذه العملية صبراً وجهوداً مضنية من جميع أفراد المجتمع ومؤسساته، لتحقيق سلام واستقرار دائمين. ورغم التحديات، فإن التاريخ يظهر أن العديد من المجتمعات نجحت في النهوض من تحت رماد الحروب، وأعادت بناء نفسها على أسس أكثر عدالة وازدهاراً، مما يمنح الأمل للمجتمعات التي تسعى للتعافي والتجديد.

***

مجيدة محمدي – أديبة وباحثة / تونس

 

يعد الإمام جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (80 – 148 هجرية).. من كبار علماء المدينة المنورة. وكانت حلقته الفقهية في المدينة المنورة تجتذب علماء المسلمين من كافة المذاهب، ودرس فيها الإمام أبو حنيفة النعمان، والإمام مالك بن أنس. واسهمت المناظرات فيها بتأسيس المذاهب الإسلامية التي نعرفها اليوم، حيث اتسمت بالمناقشة العلمية ومقارعة الحجة بالحجة. وتميزت حلقات الدرس في تلك الفترة بأنها كانت تشهد نشاطات في علوم الدنيا ايضا، دليل ذلك ان العالم الكيميائي الكبير.. جابر بن حيان كان من العلماء العظام الذين التحقوا بمجلس جعفر الصادق.

وللإمام جعفر الصادق مكانة عالية بين ائمة أهل السنّة، وتجد الاعتراف بإمامته في كتب الفقهاء والمؤرخين، فقد وصفه الذهبي في السير بأنه شيخ المدينة، ونقل عن أبي حنيفة أنه قال فيه: ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد.

ويحسب للأمام الصادق انه عاش في مرحلة سياسية حرجة شهدت سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية.. واستطاع ان يحافظ على مسافة كافية تفصله عن الحاكم رغم سعي الحكام في العهدين الأموي والعباسي الى التقرّب منه لكنه ظل بعيدا عنهم خوفا على ان يستغلوا الدين في خدمة سلطانهم.. وبها استطاع ان يضفي على شخصية الفقيه الهيبة والوقار والفاعلية؛ ليصبح باعتراف كبار المؤرخين رجل الدين القوي الحجة وأنموذج لسلطة الفقهاء على مَرّ التاريخ.

***

د. قاسم حسين صالح

يتشابه الدعاة الآيديولوجيون في نقطة، تمثل محوراً لعملهم، وهي الرغبة في إجماع الناس على رأي واحد ومنظومة أهداف مشتركة. في سنوات الشباب كنت مقتنعاً أشد الاقتناع برؤية المرحوم علي شريعتي (1933 - 1977) الذي قال إن المجتمع التوحيدي، أي المجتمع المؤمن بالله، مجتمع متوحد بالضرورة. لم تتولد هذه القناعة الراسخة عن تفكير ومقارنة بين هذا الرأي وما يعارضه، بل هي امتداد لإيمان مسبق بأن التوحيد مبدأ كل خير، وأنه - بالضرورة - يساوي الوحدة. وأعلم أن كثيراً من الناس يذهبون هذا المذهب، ولعلهم مثلي لم يتأملوا في الآراء المعارضة أو يراجعوا أدلتها.

يهمني القول إن الآيديولوجيا ليست شيئاً سيئاً. رغم أن نقاد الماركسية صبغوا وجهها بالسواد. أقول هذا لأنني بدأت بما قد يوهم بأن الآيديولوجيا شر بذاتها. وما كنت أقصد هذا قط، مع إيماني برؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر (1902 - 1994) الذي أكد دائماً أن «الآيديولوجيا حجاب الحقيقة». وهذا بالتحديد ما أردت بيانه من استشهادي برؤية شريعتي. للمناسبة، فتلك المقولة تُنسب لفيلسوف من سلوفينيا هو سلافو جيجيك. لكن نقد بوبر للماركسية والمثالية والتخشب الآيديولوجي بشكل عام، لا نظير له في الفلسفة المعاصرة.

تنبهت الآن إلى أنني أتحدث عن داعية آيديولوجي وعن معادٍ شرس للآيديولوجيا، حديثاً يوحي بالتقدير لكليهما. قد يبدو الأمر متناقضاً بعض الشيء. لكن هذه قصة أخرى، ليس هنا محلها.

دعنا نمر على كبير دعاة الآيديولوجيا في العصور الأخيرة، كارل ماركس، الذي جادل بأن التعقيد وتزاحم المصالح سمة ملازمة للمجتمع المتقدم اقتصادياً أو علمياً. المجتمعات الزراعية البسيطة موحدة ومتوافقة؛ لأن حياتها تدور حول محاور معدودة، لا تتغير مع الزمن إلا قليلاً. أما المجتمعات المتقدمة فهي تنطوي على تعقيد في تفكيرها وعلاقاتها الداخلية وطريقة عملها. وهذا يؤدي - بالضرورة – إلى تعارضات لا يمكن مطلقاً حلها، إلا بتغلب أحد الأطراف على البقية.

الفرصة الوحيدة للإجماع في مجتمع متقدم، تتوفر فقط في المستقبل الشيوعي. كان ماركس مؤمناً إيماناً عميقاً بأن هذا المستقبل قادم لا محالة، وأنه قريب جداً في البلدان الصناعية مثل بريطانيا. الإجماع مستحيل قبل قيام المجتمع الشيوعي، حتى لو نجحت الدولة في فرض رؤية واحدة. والمقصود بالإجماع، في هذا السياق، هو توافق أعضاء المجتمع على منظومة الأهداف التي يسعى النظام الاجتماعي لتحقيقها، ونظام العلاقة بين أعضاء المجتمع، إضافة إلى المعايير المتبعة في حل الخلافات التي قد تنشب في ما بينهم. المجتمع الشيوعي موحد بطبيعته؛ لأن العقيدة الشيوعية قاسم مشترك بين أعضائه. لكن وحدة العقيدة ليست العامل الرئيس، بل زوال الملكية الفردية، حين ينصرف المجتمع كله إلى الإنتاج والتقدم، ولا يشغل نفسه بامتلاك المال والسلع. الملكية الفردية سبب رئيس للتنازع بين الناس، خصوصاً في الاقتصادات الرأسمالية التي تعدّها مصدراً للسعادة. بديهي أن كل فرد يريد السعادة، فإذا افترض أنها رهن بتوسيع أملاكه الشخصية، فسوف يمسي المجتمع ميداناً للصراع على الثروة. والمفترض أن ينتهي هذا في ظل المجتمع الشيوعي، حين نتحرر كلياً من مفهوم التملك بالمعنى التقليدي.

في هذه اللحظة احتمل أن بعض القراء قد استذكر كتابات أو خطابات لدعاة مسلمين أو مسيحيين، يتحدثون - مثلما تحدث ماركس - عن حتمية تاريخية، مستقبل قادم لا محالة، حين يسود الإيمان في العالم، وتمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت - من قبل - ظلماً وجوراً، يوم يتوحد الناس جميعاً تحت راية واحدة وفكرة واحدة ويتجهون نحو غاية مشتركة.

إنني مؤمن تماماً بأن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر، كما أن حاضرنا أفضل من الماضي. لكنني لا أرى التقدم ممكناً إذا تحققت الوحدة التي ينشدها الآيديولوجيون. التقدم رهن للاختلاف. الاختلاف في الأديان والآراء والمصالح والحرف والمعارف، هو الشرط المسبق للتقدم. الاختلاف فرصة للتقدم والتقدم طريق للكمال الإنساني.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

أن تدخل عالم جواد سليم من بابه السيكولوجي فهذا يعني فتح باب جديد في تاريخ حياة هذا الفنان الخالد، ويعني ايضا ان القائم بهذا العمل يتحمل مسؤولية علمية وادبية قد لا تسعفه مصادر وادوات بحثه في التوصل الى الصدق في الاستنتاج. ذلك ان موضوعي "الابداع في الفن" و "الشخصية" من المواضيع المعقدة في علم النفس، لعدم وجود منهج سيكولوجي في دراسة الاعمال الفنية وتحليل شخصيات مبدعيها. وحتى "فرويد" في دراسته المعروفة "دافنشي".. اعترف بأن منهجه الذي استخدمه لا يكفي لتحليل شخصية دافنشي.

القسم الأول: مؤشرات عن شخصية جواد

1. طفولة هادئة وميل مبكر للرسم

لعلماء النفس موقفان في تقيمهم لمرحلة الطفولة،

الأول: يتمثل بما يراه الفرويديون من ان السنوات الخمس او السبع الاولى للطفولة هي الأساس في تشكيل شخصية الانسان، وهي التي تقرر سلوك الفرد حين يصبح راشدا.. بمعنى ان سلوك الراشد يكون محددا سلفا بطبيعة مرحلة الطفولة.

والثاني: يختلف معهم في ان الطفولة ليست العامل الوحيد في تشكيل الشخصية، وينطلقون من مسلمة تقول.. ما دامت المتغيرات الاجتماعية في حالة تفاعل مستمر فأن الشخصية تتغير تبعا لذلك.

ويرى بعض الذين قاموا بدراسات نفسية للمبدعين من الفنانيين أن سبب ابداعهم يعود الى ان قسما كبيرا منهم عاشوا طفولة قاسية اوقضت فيهم الابداع عند الذين يحملون استعدادا ابداعيا. فعلى سبيل المثال يعزى فشل " دافنشي" في تكوين علاقات عاطفية ناضجة وانشغاله بتصوير رؤوس نساء باسمات الى انه كان اسير ابتسامة أمه وانوثتها التي انفصل عنها في سن مبكرة.

غير ان الأمر مختلف مع جواد، فهو عاش طفولة هانئة وسعيدة، في بيت توافرت به وسائل الراحة والعلاقات الطيبة. ولعل الاسباب الرئيسة في ابداعه الفني هو انه نشأ في عائلة تهوى الفن والرسم. وهو بذلك قد يشبه "باخ" الذي ولد في عائلة تعشق الموسيقى فتأثر بذلك واصبح موسيقارا.

فالوالد "سليم علي عبد القادر الخالدي الموصلي" تميز بقدرته على الرسم. ورغم ان انتاجه الفني كان قليلا، فأن بعضهم يرى في لوحاته مصدرا لمن يريد تسجيل تاريخ الفن العراقي اوائل عشرينيات القرن الماضي.

و"سعاد" شقيقه الأكبر، هو الاخر فنان أسهم مع ابيه ومعهما جواد بتأسيس اول جمعية فنية في العراق هي "جمعية اصدقاء الفن" عام 1941. اما شقيقه الأخر "نزار" وشقيقته "نزيهة" فكلاهما اصبح رساما معروفا. كذلك كانت والدته هي الأخرى تهتم بزخرفة اشغالها اليدوية، وتشجع ابنها جواد منذ كان عمره اربع سنوات بصنع الدمى من الطين والشمع ليستمتع ويلعب بها، واللعب يفيد، سيكولوجيا، في التدرّب على المهارات الجديدة.

هذا يعني وجود اكثر من نموذج في عائلته، يوحدّها ميل مشترك نحو الفنون التشكيلية، فتأصل هذا الميل بفعل تشجيع افراد عائلته له وظهر لديه مبكرا. اذ يذكر احد اصدقائه انه كان وجواد في الصف السادس الابتدائي قد شاركا بأول معرض شامل للفنانين العراقيين وحصل جواد على الجائزة الثانية. واستمر هذا الميل بالنمو والممارسة حين دخل المتوسطة الغربية التي كانت جدرانها عامرة بلوحاته مما شجع مديرها منح جواد واصدقائه مرسما مزودا بأدوات الرسم على نفقة الدولة.

ولقد تابع جواد رعاية ميله الفني فسافر الى باريس لدراسة الرسم وعمره (19) سنة ثم الى روما وعمره (20) سنة لدراسة فن النحت ثم حصل من معهد "السليد " بانكلترا على دبلوم شرف في الرسم والنحت ليستقر بعدها في وطنة العراق.

2. التفاؤل وحب الحياة

لعل اهم صفة تمتاز بها شخصية جواد هي حبه العميق للحياة وايمانه القوي بالمستقبل. ففي مذكراته بتاريخ (16/11/1944) زمن الحرب العالمية الثانية، كتب يقول:(انني من الذين يؤمنون بالمستقبل. انني اثق بالغد وأؤمن بفوز الحق والافضل. وفي السنة نفسها يكتب جواد بمذكراته قولا لمايكل انجلو (الفن والموت لا ينسجمان). ويعكس تفاءله هذا على وطنه وفنه فيقول: (وللعراق مستقبل باهر في النحت لافتقار متاحفنا ومياديننا وبيوتنا الى انتاج النحات. وكما كانت في اوربا حركة واسعة بعد الحرب العظمى لاقامة النصب التذكارية واشتراك النحات والمعمار في عمل دنيا جميلة، فأن انتهاء هذه الحرب سيفتح بابا اوسع لاشتراك الفنان في بناء دنيا جديدة مفرحة وصالحة).

جواد سليم بين (الأنا) و(النحن)

يمتاز معظم الكتّاب والفنانيين المبدعين بتضخّم (الأنا) كونهم يعيشون حالة غير اعتيادية من القلق والحساسية. ويسعى الفنان بشكل أخص الى ان يكون اكثر اكتمالا مما يريد، لكنه يعيش في وضع محدد بزمان ومكان وبعلاقات اجتماعية تشكل بمجموعها ملتقى لكل التناقضات. فهناك اهداف عامة (اجتماعية) واهداف خاصة (فردية).. والتناقض بين العام والخاص تناقض أزلي، والصراع بين الخاص (الأنا) والجماعة (النحن) يخلق عند الفنان حالة عنيفة من القلق والتوتر.

ورغم تنوع طرق خفض التوتر هذا، فان هناك نوعان متميزان منها،

الأول: منح الأنا امتيازا منفردا كما هي الحال عند المتنبي الذي يقول:

(أمط عنك تشبيهي بما وكأنه

فما أحد فوقي ولا احد قبلي)

وقد يولد تضخّم الانا حالة انقطاع عن المجتمع ورفض لكل مفهومة تتعلق بالنحن:اخلاق، قيم، تقاليد، التزامات.. كما هو الحال مع (اوسكار وايلد ونيتشه وفان كوخ وشيللي) التي غالبا ما تنتهي الى تدمير نفسي للأنا (جنونا في الغالب) او تدميرا جسديا.. الانتحار.

والاسلوب الثاني، هو ان يجعل الفنان من (الأنا) استقطابا لقلق مجتمعه وقلق الانسانية المتفاعل مع قلقه الخاص فيبحث عن خلاص (للانا) و (النحن) من خلال معاناة مشتركة وبهدف متعة مشتركة.

وجواد هو من الفنانين المتميزين الذي توحدت عنده (الأنا) مع (النحن). وادرك بأنه لا يستطيع ان يكون كذلك الا اذا غار في (النحن) التاريخية وحصل على تجارب الاخرين.

يقول جواد: (ليس الفن بالشىء الذي يحتاج الى فنان فقط. الفن هو العيش في بقعة ما. انه شىء يحدث بين انسان وما بين الأرض التي يعيش عليها وهو بحاجة الى فهم. وان يفهم شعب جديد وارض جديدة كلاهما الاخر.. يستغرق زمنا طويلا).

وقال في كلمته بمناسبة افتتاح المعرض الأول لجماعة بغداد للفن الحديث.. (انا والكاتب نريد ان نشارك كل البشرية ما نريد ان نقوله). ويضيف.. (ليس الفن في عمل صورة للويس الرابع عشر، او تمجيد سيف الدولة، او رسم تفاحة. الفن اسمى من ذلك، الفن قطعة لموزارت، صفحة من موليير، قصيدة من المعري او من الجواهري، لوحة كورنيكا.. فهذه اشياء خدمة البشرية.

ولهذا اطّلع جواد على الفن السومري والآشوري والأسلامي والاوربي، لا بهدف خدمة صنعته وتطوير فنه وحسب، وانما بحثا عن الذوات المتحدة للجماعات. وكان استيعابه الواعي للتراث قد شكّل احد اسباب توحّد (اناه) في (النحن).. الأمّة والأنسانية، وأحد الاسباب الجوهرية في ابداعه الفني الذي انطلق من المحلية الى العالمية.

القسم الثاني: المرأة في حياة واعمال جواد

الفن نشاط انساني وشكل من اشكال الوعي الاجتماعي.. ما يعني ان الانتاج الفني الذي ابدعه جواد هو انعكاس لواقع اجتماعي كان قد عاشه مرحلة الأربعينيات والخمسينيات، وتجسيد لواقع المرأة فيه.

ونشير الى ان السمة المميزة للمجتمع العراقي بتلك الفترة هي التخلف، وهذا يعني ان المرأة في المجتمع المتخلف، أّمّا كانت ام زوجة ام حبيبة، هي اكثر افراده معاناة وقهرا واستلابا، واكثر عناصره تعرّضا للتبخيس في وجودها.. فحيثما وجد القهر والأستلاب والتبخيس والأضطهاد، يكون نصيب المرأة منها حصة الاسد!

والمرأة بالنسبة للفنان التشكيلي، هي اكثر المفردات استيعابا للرموز. فهي: الكون، الأرض، الخصب، الخلود، الغذاء. وهي:الجمال، النبع، الحرية، السلام.. والحاجات النفسية التي تجلب المسرّة والمتعة. وقد تمثل المرأة رموزا مناقضة تستقطبها مقولة: المرأة هي الشرّ الذي لا بد منه.

ان تحليلنا لاعمال جواد المتعلقة بالمرأة، يقودنا الى تأشير ثلاثة نماذج اساسية هي:المرأة الأم، المرأة المضطهدة، والمرأة في التجربة الذاتية لجواد.

1. المرأة الأم

يميل جواد الى ان يرسم وينحت الأم بشكل دائري او هلالي فيه انحناءه وانكسار واحتضان كما في تمثال الأم في منحوتة الشهيد (نصب الحرية) و (الأم في الزخارف الهلالية).

في منحوتته (الأم).. اروع تمثال نحته جواد للمرأة، جسّد فيه ان روعة الأم لا تكمن في حنانها وعاطفتها ودفئها وقدسيتها فقط بل وان يتجسّد فيها ايضا اروع جمال للانثى. وفيها علّق جواد هوية الأم بيدها اليمنى.. يتدلى منها خيط يحمل شكلا بيضويا هو رمز الطفولة. ومدّ في يدي الأم باستقامة تتناغم مع استقامة جسمها، وجعل منها شيئا يشبه الاشجار ليمنح المشاهد جوا نفسيا عطرا وتصويرا جميلا وكأن الطفولة عصفور ينعم في بستان!

2. المرأة المضطهدة

عاش جواد في فترة تاريخية كان فيه الاقطاعيون والبرجوازيون يملكون كل شيء، فيما تعيش الجماهير المسحوقة حالة من التأخر والجهل والحرمان والقهر. ولأن المراة، في مجتمع كهذا، تتجسّد فيها كل انواع الأستلابات والعذابات، فانها تثير في المتلقي عواطف الشفقه والعزاء.. عزاء المرأة في نفسها، وعزاء الرجل المسحوق المتجسّد في المرأة الأكثر انسحاقا.

وتمثل (نساء في الانتظار) نساءا في المبغى ايام كانت بغداد قبل اسقاط النظام الملكي (1958) اماكن معروفة، تعرض فيها النساء اجسادهن لمستلبيها الذين اختزلوا المرأة الى جسد، والجسد الى وعاء للجنس.

3. المرأة.. في التجربة الذاتية لجواد

هناك لوحتان من أجمل لوحات جواد المتعلقة بالمرأة، هما (القيلوله والسيدة وابن البستاني). ويبدو أن لهما علاقة بتجربة ذاتية تدور حول قصة حب كان قد عاشها جواد أيام شبابه، وكتب عنها في مذكراته التي دونها بين عامي (1941 و1946)، وكان عمره حينذاك (22 الى 26) سنة. وتفيد مذكراته بأن جواد كانت له علاقة حب بفتاة عراقية ارستقراطية، واخرى بامرأة بولونية لجأت مع بولونيين الى العراق خلال الحرب العالمية الثانية.

ان استقراء مذكراته يقود الى ان الموضوع الذي يستقطب اهتمام جواد في المرأة هو (الجسد) ولكن ليس في المضمون الذي تجسده قرويتان، وهو عمل نحاسي مطروق يمثل قرويتين تحملان سلتين وقد صيغ جسد المرأة القروية على شكل دلّة عربية تعبيرا عن ذوق العربي في الجسد المكتنز للمرأة ، واشارة لهويته التي كان يفاخر بها كونه صاحب الدلات والزوجات الكثيرات.

يصف جواد فتاته الارستقراطية هكذا:

(ذهبت لترتدي ثوبا جديدا، وعندما دخلت.. كدت انصعق، فلقد ظهرت فيه بصورة من أفضع الصور الجمالية والفتنة. وفي تلك اللحظة، كدت اذوب، كدت ابكي.. ان هذه القطعة من القماش الالهية الرائعة التي فصلتها ايادي الجنة.. كانت على بدنها العاري تماما).

وبعد ان قطعت فتاته الارستقراطيه صلتها به وأقام علاقة جديدة بالجديدة البولونية.. فانه كتب عنها الكثير بمذكراته (تأملات روحي) يصف مفاتن جسدها ايضا، نقتطف عبارة واحدة:

(كان ثدياها بارزين بشكل مثير، وقدماها حافيتين، ورأيت لأول مرّة ساقيها وكانتا عاريتين.. لقد كان لونهما جذابا ومهيجا.. .) نفس المفردات لنفس الموضوع.

صحيح ان جواد كان يومها شابا عشرينيا، لكن جمال ما يصفه من مشاعر، تعداه من التعبير بالكلام الى التعبير بالرسم. فلقد ظهر ذلك الثوب الشفّاف على جسد حبيبته الأرستقراطية بحالة من الاغراء في لوحته (القيلولة). والجميل ايضا.. انه رسم قطة بعينين مفتوحتين على سعتيهما قرب قدميها، قد تكون رمزا الى أن المرأة هي كالقطة.. أليفة.. لكنها نفورة في الوقت نفسه.971 jawad salem

القيلولة

أما (السيدة وابن البستاني) فهي الأخرى تعبير عن الكبت الجنسي. السيدة على ارجوحتها ومستسلمة.. وابن البستاني يمسك بيده خرطوم ماء.. يمر بالسيدة ويلتف، وقد يشير الى رمز جنسي. والجو صيف.. وقد يرمز للعطش الجنسي، والديكور الأعلى للأرجوحة التي تنام عليها السيدة، رسم بشكل سياج مدبب مقلوب باتجاه السيدة.. يرمز الى القيود الأجتماعية.972 jawad salem

السيدة وابن البستاني

واللوحة هي في موضوعها.. تحليل طريف لعلاقة انسانية بين رجل وأمرأة، كلاهما يشتهي الآخر، وما بينهما المجتمع بكل قيوده، صيغت بفكاهة تثير ابتسامة خفيفة.. لكنها غاية في التأثير.

المؤسف، ان جواد رحل مبكرا بعمر 42 سنة في(23 كانون الثاني 1961) بسبب نوبة قلبية ولم يفرح برؤية افتتاح نصبه في (16 تموز 1961).. نصب التحرير الذي خلده في قلب بغداد وقلوب العراقيين.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

تُعَدُّ المقولات الشائعة التي تتغلغل في الخطابات الثقافية والمعرفية جزءاً أساسياً من تشكيل بنية التفكير الجمعي والفردي، خاصةً في الأوساط الفكرية والثقافية، مع إنَّ العديد من هذه المقولات قد نشأت إما نتيجة سوء فهم للسياق الأصلي الذي وردت فيه أو تم انتزاعها من سياقاتها الأصلية وإعادة توظيفها في إطار جديد يخدم أغراضاً مختلفة ربما بعيدة عن مقاصدها، هذا التحوير في المعنى والسياق يثير إشكاليات معرفية عميقة، حيث يُبنى على تلك المقولات خطابات ورؤى يُنظر إليها بوصفها راسخة وغير قابلة للنقاش.

فهذه المقولات المنتزعة، تُساهم في ترسيخ تصورات محددة تُصبح مع مرور الوقت جزءاً من الوعي الجمعي، ولا يقتصر تأثيرها على الخطاب الثقافي فحسب، بل يمتد إلى مجالات الفكر والسياسة والأيديولوجيا، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن المقولات المستندة إلى نصوص أو أفكار تاريخية غالباً ما يتم إعادة تأويلها لتتلاءم مع احتياجات زمنية أو ثقافية مختلفة، ولكن هذه العملية، التي قد تبدو طبيعية في سياق تطور الفكر، قد تُفضي إلى سوء فهم خطير عندما يتم انتزاعها من جذورها وتحويرها بما يغيّر من جوهرها، فعلى سبيل المثال، نجد مقولات مثل "المترجمون خونة" أو "الفن للفن" أو "التاريخ يكتبه المنتصرون" أو غيرها، قد أصبحت شعارات مركزية في مناقشات الأدب والترجمة والفن والتاريخ، كمقولات راسخة ليست مجرد عبارات معزولة، بل أدوات لتشكيل بنى فكرية وخطابات تُهيمن على المشهد الثقافي، رغم أن معانيها الأصلية أو السياقات التي وردت فيها كانت تحمل دلالات مختلفة تماماً.

تثير عبارة "المترجمون خونة"، بوصفها أحدى المقولات الأكثر شيوعاً وانتشاراً، والتي قد جرى تداولها كحقيقة مطلقة، إلى تساؤلات حول طبيعة الخيانة في السياق الترجمي، وما إذا كانت تحمل أبعاداً أخلاقية أم أنها تعكس تعقيد العلاقة بين النصوص الأصلية والمترجمة.

إنَّ كلمة "خائن" في اللغة الإيطالية، كما أوضح الدكتور عبد الواحد محمد في كتابه (نظرات في الترجمة)، مشتقة من جذر لاتيني لا يعني الخيانة بمعناها الأخلاقي المباشر، بل يشير إلى مفهوم "إفشاء السر" أو "الكشف عن مضمون"، وهذا البحث في جذر الكلمة واشتقاقها، لمحاولة فهم هذه المقولة، هو محاولة لتفكيك تلك المقولات التي فهمت بصورة خاطئة، وذلك بسبب فهم دلالة الكلمة بصورة سطحية من قبل المترجم، والذي أدى إلى إساءة استخدامها ونقلها إلى سياقات جديدة قد تتنافى مع المعنى الأصلي.

فوصف المترجم بالخائن ينطوي على مفارقة أساسية، فالمترجم يقوم بـ"إفشاء" محتوى النص الأصلي من خلال تحويله إلى لغة وثقافة أخرى، غير أن هذا الإفشاء ليس بالضرورة خيانة، بل قد يكون فعلاً إبداعياً يتطلب فهم النص الأصلي وخلق نص جديد يتناسب مع سياق اللغة المستهدفة، لذلك فإنّ من الضرورة التمييز بين الخيانة الأخلاقية، التي تنطوي على سوء نية، والخيانة المفاهيمية، التي تحدث بسبب اختلاف الأنظمة اللغوية والثقافية بين النصوص، فليست الترجمة مجرد نقل ميكانيكي للكلمات، بل عملية تأويلية تعيد إنتاج النص في إطار ثقافي مختلف، مما يجعل من المستحيل تحقيق تطابق كامل مع النص الأصلي، وأعتقد إنَّ بإمكاننا النظر إلى هذه "الخيانة" المفترضة، بوصفها تفسيراً للنص الأصلي بدلاً من تشويهه أو خيانته، فالمترجم –على أقل تقدير- ليس مجرد وسيط لغوي، بل هو مؤلف ثانوي يعيد خلق النص وفقاً لفهمه الخاص ووفقاً لمتطلبات القارئ في الثقافة المستهدفة، وهذا الفهم لعملية الترجمة يرتبط بالنظريات الحديثة، مثل نظرية المناطق البينية أو المنطقة الثالثة (Third Space) لـ هومي بابا، حيث تبنى على أنَّ التقاء الثقافات والهويات يُنتج فضاءً جديداً يحمل خصائص مزدوجة أو متعددة، والتي ترى الترجمة كعملية إنشاء لفضاء جديد من التفاعل بين الثقافات، لذا فإنّ المترجم، بدلاً من أن يكون خائناً، يصبح وسيطاً ثقافياً يسهم في تعزيز الفهم والتواصل بين الشعوب.

ترتبط ربما هذه المقولة "المترجمون خونة" بتيارات فكرية ترى في النص الأصلي قداسة لا يمكن المساس بها، والذي يعكس نزعة نحو التمركز حول الأصل على حساب النسخ، أو الإبداعات المشتقة منه، إذ أنَّ وصف المترجم بالخائن هو جزء من خطاب سلبي يكرس الهيمنة الثقافية للنصوص الأصلية ويقلل من قيمة الجهد التأويلي والإبداعي للمترجمين.

لذا يُصبح التدقيق في أصول المقولات ومراجعتها ضرورة معرفية، ليس فقط لفهم السياق الأصلي الذي نشأت فيه، بل أيضاً للكشف عن الآليات التي يتم من خلالها إعادة توظيفها، هذه العملية تتيح لنا تفكيك الخطابات التي تستند إلى هذه المقولات وإعادة بناء رؤى نقدية أكثر اتساقاً مع الواقع، فاستمرارية الخطابات التي تعتمد على مقولات مشوهة أو منتزعة من سياقها تُلقي بظلالها على تطور الفكر، لهذا، يُعدُّ التفكيك لهذه المقولات جزءاً من مسؤولية المثقف.

إن المقولات الشائعة التي نعتبرها أحياناً مسلّمات فكرية ليست سوى نتاج عمليات معقدة من التأويل وإعادة التوظيف، تتأثر بالسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومن خلال العودة إلى أصول هذه المقولات وفهم كيفية تشويهها، يمكننا ليس فقط تصحيح المفاهيم الخاطئة، بل أيضاً إعادة توجيه الخطابات الثقافية نحو فهم أعمق وأكثر دقة للظواهر الفكرية والاجتماعية، بهذا، يصبح النقد لهذه الظواهر أداة للتحرر الفكري، وليس مجرد وسيلة لتفكيك الخطابات القائمة.

***

أمجد نجم الزيدي

ـ في البدء كانت الكلمة، والكلمة عنوان:

بداية أود أن أشير هنا؛ إلى أن هذه الورقة ستطرح على العقل المسلم إشكالية أسلمة المعرفة طرحا مستجدا، لا مكررا. لأن بعض المفكرين مازالوا يطرحون أسلمة المعرفة طرحا عقائديا في وجه الطرح الغربي الذي ينسب إليه المعرفة كامتداد للمعرفة اليونانية، متنكرا لحقبة طويلة مرت بها تلك المعرفة في السياق التاريخي والحضاري الإسلامي بما له من تأثير في تقعيد المعرفة في الغرب. وبما أن هذا الطرح يجد مسوغات كثيرة تبرره عقائديا. كان لزاما علينا أن لا ننساق في هذا لاستشكاله جدا. ما يدعو إلى تفكيك هذه القضية الفكرية والمعرفية والمنهجية والمفهومية إلى موادها الخام، لتشييد رؤية مختلفة لها ضمن نظرية المعرفة. ومنه؛ لن تكون هذه الورقة تفصيلا ولا تحليلا أكاديميا لموضوع أسلمة المعرفة في البعد الإبستيمي، والبعد الإيديولوجي. وإنما ستطرح الإشكالية من خلال طرح جملة من الأسئلة الجوهرية والرئيسة. تشكل الإجابة عنها طريقا نحو رؤية خاصة تخرج المعرفة من دائرة استشكال الإبستيمي والإيديولوجي الملتبس. وتأسيس رؤية مستقلة للمعرفة بعيدا عن الأبعاد التي تخندق المعرفة كفعل ونتيجة في اتجاهات معينة وتحاصرها بالإسقاط الخارجية وغير الذاتية. وعليه؛ نلج إلى العنوان.

ـ في العنوان:

هذا الموضوع قديم مستجد في نفس الآن، يأخذ عدة أبعاد الدائرة الفكرية، من خلال زوايا متعددة، تذهب إلى حد التناقض والتضاد. بما يطرح عدة أسئلة جوهرية ومركزية في ذات المعرفة وطبيعتها، وفعلها ومناهجها ونتائجها، وبراديغماتها التي تشتغل من خلالها على موضوعاتها. ما تشكل المفاهيم في هذه القضية الإطار المرجعي لمقاربتها وتناولها البحثي. وانطلاقا من هذا الإطار، سنحدد مفاهيم العنوان إجرائيا لا لغويا ولا اصطلاحيا، لتمييزها في سياق هذه الورقة، وانتفاء الصفة الأكاديمية عنها. وبذلك نقصد ب:

أ ـ الأسلمة: وتعني فعل أسلمة موضوع ما، بإدخاله في السياق الإسلامي، ووسمه بالإسلامي لإسقاطات البعد الإسلامي عليه، سواء كبناء معرفي أو كحامل لمنظومة القيم الإسلامية المتوافقة مع طبيعة أسلمته. وهنا؛ تنبعث المعضلة الكبيرة التي تواجه الباحث والدارس والمنظر الذي يريد أن يدخل الموضوع ـ هنا موضوع المعرفة ـ في الإسلام، ودمجه بشكل ذوباني في الطبيعة الإسلامية، التي نصف بها نحن المسلمون معارفنا، ونضفي عليها نكهة إسلامية. وتتمثل معضلتنا في السؤال التالي:

ـ هل المعرفة كفعل ونتيجة فيزيقية أو صورية في ذاتها وطبيعتها محايثة أم متعالية؟ ونقصد بالمحايثة؛ الوجود الداخلي الذي يدرس في سياق ذاته، ويمنحنا معرفة ذاته من خلال ذاته، بما يفيد معاني ودلالات ذاتية في طبيعته. مقابل بالمتعالي؛ الذي نقصد به الوجود الخارجي الذي يدرس في سياق خارج ذاته، نمنحه نحن معرفة ذاته من خلال ذواتنا، بما يفيد معاني ودلالات خارجة عن طبيعته. بمعنى آخر هل المعرفة في ذاتها وطبيعتها دينية أم لا دينية؟ هل يمكن أن تكون المعرفة في ذاتها مسيحية أو مسلمة أو يهودية أو بوذية أو هندوسية ... أم هذه السمة تأخذها من الإسقاطات الخارجية عن ذاتها؟ ومنه؛ لإثبات هذه القضية يجب أن تفيد الحجج والدلائل ذلك موضوعيا وعقليا، مع تحديد زمن ومكان وموضوع هذه السمة في المعرفة كذات؛ فعل ونتيجة، وأعني هنا بالسمة، هي سمة التدين بصفة عامة.

ب ـ المعرفة: وتعني المعرفة فعلا ونتيجة، والفعل هو فعل معرفي له مستلزمات ومتطلبات وشروط المعرفة ذاتها، من إطار براديغمي خاص به؛ يتضمن رؤية فلسفية أو ميتافيزيقية، وقيم، وأسئلة مركزية، ونظريات، ومنهجية، ومفاهيم ومصطلحات، وأدوات وإجراءات، ونظرة للتغيير، وشروط الممارسة، وحرية الاشتغال ... فالمعرفة كفعل عملي وكنتائج معينة تمارس إما في سياق موضوعي أو ذاتي، وهنا؛ تكون ذاتا مستقلة أو تابعة، بمعنى هل في الممارسة؛ المعرفة فعلا ونتيجة تكون محايدة أو منحازة؟ وبالتالي يمكن إدخالها في البعد الديني أو إخراجها منه. وفي إطاره هذا؛ نطرح السؤال التالي: هل المعرفة بمفهوم الفعل المعرفي ونتيجته، تتطلب بالضرورة، وبالحتمية الوجودية أسلمتها أم مسيحيتها أو تهويدها ...؟ هل هذه الإشكالية مفتعلة من قبل الانفعال السيكولوجي والانتقاء العرقي/الاثني/القبائلي/العشائري/الطائفي ... أم حقيقية واقعية في ذات وطبيعة المعرفة؟ وهل المعرفة ببعديها الفعل والنتيجة مطلقة أم نسبية؟ والمطلق والنسبي متعلق بالمصدر والمرجع، بمعنى الدين مصدر للمعرفة المطلقة، ما يستدعي توجيه الدين للمعرفة واحتضانها وتخليقها في بيئته، أو بمعنى الدين مرجع للمعرفة النسبية التي تولد في رحم التجربة الحسية، العقل " المعرفة الحصولية "، أو في رحم التأمل الميتافيزيقي " المعرفة الحضورية "، أو المنهج العلمي. فهي إن كانت مطلقة يكون النسبي تابعا، وإن كانت نسبية، فالنسبي مستقل بذاته لا تابع. ومنه؛ تكون المعرفة إما داخل السياق الديني أم خارجه.

ج ـ الإبستيمولوجيا: وتعني فعل حفري يدرس ويبحث في طبيعة المعرفة، ومصادرها، وحدودها، وكيفية اكتسابها، مع فهم كيفية معرفة الأشياء، وما يجعل تلك المعرفة صحيحة أو خاطئة، وكذا كيفية التمييز بين الاعتقادات التي تعد معرفة حقيقية وتلك التي لا تتعد كذلك. وهنا؛ بهذا المفهوم نذهب بالأسلمة أو غيرها من الأبعاد الدينية أو العقائدية، إلى الفعل بذاته، أهو فعل إسلامي أم غير إسلامي؟ وهل هو فعل موافق للشريعة ومنضبط لقوانينها وأحكامها وشروطها ومتطلباتها ومقاصدها أم غير منضبط؟ أم يبقى كذات سيكولوجية قائما في ذاته لا في خارجها؟ كما يطرح علينا سؤال أساسي ومركزي في إطار الإبستيمولوجيا. الأسلمة؛ أفعل ديني أم فعل معرفي؟ أم هما معا؟ وكيف؟ ومنه، أتقع الأسلمة في الإبستيمي أو يقع الإبستيمي في الأسلمة؟ كما يطرح هنا سؤال ضروري تفيد الإجابة عنه في تحديد طبيعة الأسلمة، وهو: الأسلمة، أهي حمى عقائدية أم حمى معرفية؟ أهي ذوبان الديني في المعرفي أو المعرفي في الديني؟ أهي نهج ومسلك أم طبيعة ذات؟ وسأضرب مثالا لهذا السؤال الأخير يفهم المقصود منه؛ نأخذ على سبيل المثال لا الحصر: الأسر ومعاملة الأسرى بين حماس والصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين. الأسر يبقى مفهوما معرفيا صوريا يفيد الاحتجاز أو السجن، فهو كفعل يبقى بعيدا عن البعد العقائدي في طبيعته، بإمساك العدو وقبضه واحتجازه وتقييد حريته. وأما معاملة الأسرى كفعل تفيد جميع الإجراءات والتصرفات التي تتخذ تجاه الأسرى وفي حقهم، سواء من حيث ظروف وشروط احتجازهم، وإيوائهم، وإطعامهم، وحمايتهم من الأذى، أو معاملتهم بإنسانية. فهذا الفعل يبقى معرفة قبل أن يكون سلوكا ونهجا بعيدا البعد العقائدي؛ لكن حينما نخرجه من المحايثة إلى السياق الخارجي، هنا يتحول المعرفي إلى العقائدي عبر النهج والمسلك. وبذلك نضفي على معاملة أسرى الصهاينة بعدا دينيا، فتغدو المعاملة كمعرفة إسلامية بفعل السلوك الإسلامي لآسري أولئك الأسرى. فتخرج المعرفة من ذاتها لتسكن ذات غيرها " العقائد ". وبذلك نكون أمام أسلمة المعرفة، لكن الحقيقة أننا أخرجنا المعرفة من طبيعة سياق ذاتها إلى سياق غيرها، فتتلبس به. وأما معاملة الصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين للأسرى الفلسطينيين هي الأخرى تتلبس بالمذهب الصهيوني اليهودي المتطرف، فتخرج من ساق ذاتها كمعرفة إلى سياق غيرها، فتكتسب البعد العقائدي. فيكون الاختلاف بين المعرفة كفعل إبستيمولوجي، وكفعل عقائدي. ويحصل المقارنة والتمايز والتمييز.

د ـ الإيديولوجيا: وتعني منظومة الأفكار والمعتقدات والقيم المنظمة لرؤى الأفراد والجماعات للعالم، والموجهة لسلوكهم ومواقفهم نحو القضايا المختلفة في عالمهم. بمعنى طابعهم الخاص بهم في رؤية الأشياء وفهمها واكتسابها ومعالجة قضاياها ومشاكلها وإشكالياتها، أي بمعنى آخر الإطار الفكري الذي من خلاله يفسرون واقعهم ويفهمونه، مع تعيين الطريقة والأسلوب الذي يعملون به في تغيير واقعهم أو الحفاظ عليه واستمراره. وهنا ينبع السؤال الرئيس؛ هل الأسلمة فعل معرفي أم فعل إيديولوجي؟ هل الأسلمة ستغرق المعرفي أم تستغرق الإيديولوجي؟ وهل هناك من ترابط وتعالق بين ما بين الديني والإيديولوجي؟ في إطار ما كان هناك تعالق بين الديني والإيديولوجي؛ ألا تتحول أسلمة المعرفة إلى إسلاموية المعرفة؟ ألا يمكن أن تتحول أسلمة المعرفة إلى أدلجتها؟ والعكس محتمل؟ أيمكن في أسلمة المعرفة فصل الديني عن الإيديولوجي، وفصل الديني عن المعرفي، وفصل المعرفي عن الإيديولوجي؟ ألا يستشكل علينا فعل أسلمة المعرفة بلحمة الإبستيمي والإيديولوجي؟ ويصعب الفصل بين هذه الأبعاد الثلاثة " الديني، المعرفي، الإيديولوجي "! ألا يتعقد طرح المسألة حين يكون المعمار المعرفي الإنساني مشيدا بفكر الإنسان كل الإنسان؟ كل زمان ومكان وإنسان وضع لبنته في تعميره. وليس لأحد الفضل على هذا المعمار في بنائه، في بعده الإنساني المحض؟ ...

ـ في الطرح الإشكالي:

انطلاقا من العنوان، يطرح سؤال جوهري ومركزي ورئيسي تتفرع عنه مجموعة أسئلة، المشكلة للطرح الإشكالي لأسلمة المعرفة، وهو: ما إذا كانت المعرفة فعلا ونتيجة مستقلة عن الدين أم متعلقة به؟ في ذاتها وطبيعتها أو في سياق ذات غيرها؟ وهو سؤال فلسفي عميق، متعلق بالداخل الذاتي أو بالخارجي الغيري أو بهما معا، وقد أثار نقاشا ومناظرات وحوارات كثيرة بين الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين على مر العصور والدهور. والإجابة عنه تقوم على الإطار الفكري، وزاوية الرؤية التي نتبناها في الإجابة، بمعنى البراديغم الذي نشتغل ضمنه. حيث يمكن النظر إليه هذا من زوايا متنوعة ومتعددة.

أ ـ المعرفة مستقلة عن الدين:

وفي سياق هذا الطرح، يتبنى العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين التفكير العلماني أو التجريبي، ومنهجه الذي يفصل بين الدين والمعرفة العلمية أو الفلسفية، التي تنشأ عن التجربة الحسية، والعقل، والمنهج العلمي بعيدا عن الدين. فالمعرفة العلمية تنشأ عن التجربة والملاحظة، وتخضع للاختبار والتعديل، كما تخضع للصواب والخطأ. وتعتمد على التكرار والتجربة المفضية إلى نفس النتائج، ولا تعتمد عندهم على المصادر العقائدية/الدينية. فتعدد الأديان عندهم يفضي إلى عدم توحيد المعرفة، إذ يلغي لديهم اعتبار الدين مصدرا معرفيا مشتركا يوحد المعرفة. حيث تاريخيا لديهم؛ تطورت المعرفة البشرية من قبيل العلوم الحقة، كالرياضيات، والفلك، والطب، والفيزياء، والكيمياء، خارج الدين أو في تحد له، في بعض الفترات التاريخية. كنظرية دوران الأرض حول الشمس، تحد للكنيسة من قبل العلم. وفي العصر الحديث، شهد المجال الفلسفي الغربي ظهور مفكرين ركزوا على دور العقل والتجربة في إنتاج المعرفة كديكارت وكانت. وفي النظريات العلمية الحديثة، تناقش وتدرس بين العلماء في إطار علمي بحت دون أي استحضار للدين، كنظرية التطور أو الفيزياء الكمية.

ب ـ المعرفة متعلقة بالدين:

في سياق هذا الرأي يتبنى العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين التفكير الشمولي، الذي يجد الدين مصدرا رئيسيا للمعرفة المطلقة والحقيقة الكاملة، باعتباره وحيا إلهيا يحمل العلم المطلق، الذي أحاط ويحيط كل الحياة علما، يتضمن منظومة أخلاقية وقيمية مثالية متعالية توجه الحياة الإنسانية جميعها، فكان منهم مثلا ابن سينا والرازي اللذين ربطا علاقة بين الدين والعلم، واعتبرا البحث العلمي من العبادة ـ وهم في اعتبارهم ذلك من الصائبين ـ. وهو الدين عندهم سواء في الفكر الإسلامي، أو المسيحي، أو اليهودي، مصدر المعرفة يوجه ويرشد العلوم والآداب؛ حيث الدين يقدم الرؤية الكلية للكون لفهمه، والإنسان، والحياة، ما لا يمكن للمعرفة وحدها أن تفعله وتحققه. كما يوفر للمعرفة الإطار القيمي والأخلاقي التي تتحرك فيه وبه، لكي لا تكون ضارة وهادمة للإنسانية كما يقع في صناعة الموت بالأسلحة المدمرة. ومنه؛ تاريخيا ساهمت بشكل وافر وفعال ومؤثر الحضارات الدينية " الإسلامية، والمسيحية، واليهودية، والهندوسية... " في تطوير المعرفة بشكل متراكم ومرصد. فكان الدين البيئة التي أسست واحتضنت البحث العلمي والفلسفي من خلال طرح الأسئلة الجوهرية على الإنسان ما تعلق منها بواقع الحال أو المحتمل أو المآل. فمثلا تطورت علوم كثيرة في الحقبة الإسلامية النيرة والمشعة كالفقه، والتفسير، والرياضيات، والفلك  ... كما كان اللاهوت المسيحي الإطار الفلسفي في أوروبا خلال العصور الوسطى.

ج ـ بين الموقفين موقف ثالث:

وهو الموقف القائل بالتكامل بين الدين والمعرفة، حيث يرى بعض المفكرين أن المعرفة ليست مستقلة بالكامل عن الدين ولا متعلقة به بشكل تام، بل توجد علاقة تكاملية بينهما كما يحدث في البينمنهجية حاليا. فالغزالي مثلا في الفكر الإسلامي قدم أنموذجا جامعا بين المعرفة العقلية والدينية، من حيث يتكامل عنده العقل والوحي لفهم الحقيقة. إذ الدين يوفر عندهم القيم الأخلاقية والإطار الوجودي، في حين تسهم المعرفة "العلم والفلسفة" في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتفسيرها وإيجاد الحلول لمشكلاتها وإشكالياتها وقضاياها، واستخلاص القوانين والعبر منها. وبذلك ظهر مفهوم أسلمة المعرفة في الفكر الإسلامي الحديث، لإعادة بناء وتشييد وصياغة المعرفة ضمن إطار إسلامي عقلا ومنهجا وتفكيرا. فيكون الدين فيها موجها ومرشدا وحاضنا، وليس متحكما ولا مقيد للبحث فيها. فبين الدين والمعرفة جسور متعددة، سواء في معرفة الحقائق أو في تعقلها أو الاشتغال عليها وبها.

فالروحانية والتفسير جسر يصل ما بين الدين والمعرفة؛ حيث الأول يقدم للإنسان المؤمن منظورا روحانيا، يوجهه ويرشده إلى البحث عن الحقيقة وغاية الوجود ومآلاته. فيسعى الإنسان إلى معرفة ذلك من خلال التأمل والتفكر والتدبر في الكون والحياة ومكوناتهما وقوانينهما، وبذلك البحث عن المعرفة يعد أداة أو مسلكا إلى فهم الوجود الإلهي وغاية الحياة بشكل أعمق وواضح. كما أن ترابطهما وتعالقهما ينفي التناقض بين العقل والنقل، بمعنى يرفع عنهما التناقض إلى حد يجعلهما يتكاملان في معرفة الحقائق الكونية والحياتية والوجودية. ومنه يمكن القول بأن طرح أسلمة المعرفة أحالها إلى إشكال فكري، يسع تلك الأنواع الثلاثة من الرؤى الفكرية. وهو إشكال يقوم على صياغة ذاته في التالي:

د ـ الإشكال:

في ظل عالم المعرفة، ومجتمع المعرفة، وقوة المعرفة؛ تشهد المعارف بكل حقولها ومجالاتها ونظمها وقيمها تحولات متسارعة تحصيلا وإبداعا وبحثا، تحولات ثقافية وعلمية، مما استدعى هذا التحول المتسارع  ضرورة إعادة التفكير في طريقة وكيفية تفاعل المعرفة مع منظوماتنا الفكرية والدينية تأثيرا وتأثرا. فظهرت حوارات ومناظرات ونقاشات في هذا السياق التغييري والتطوري، مقابل أطروحات فكرية بنيت على مجموع التناقضات بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستيلاب/ الاغتراب والاستقلال والتحرر الفكري. برزت أطروحة "أسلمة المعرفة" مشروعا فكريا في النصف الثاني من القرن العشرين، يسعى إلى إعادة صياغة العلوم والمعارف الإنسانية حسب المنظور الإسلامي، من حيث تطبيق المعايير والمفاهيم والقيم الدينية الإسلامية على مختلف ميادين المعرفة والعلوم، سواء الطبيعية منها أو الإنسانية، استجابة لمحاولات تجاوز التغريب والاستلاب الثقافي التي أثرت على المجتمعات الإسلامية بعد الاستعمار، كما يهدف في ذات الوقت إلى تقديم بديل معرفي يتجاوز الطابع المادي والعلماني للفكر الغربي.

والسؤال المهم في موقعه هذا: على افتراض أن المعرفة تتعدى الطبع الإبستيمي إلى التطبع الإيديولوجي؛ هل يمكن "أسلمة" المعرفة حقيقة بشكل كامل وشامل، بما يؤدي إلى تطور العلوم أم قد تؤدي "أسلمة" المعرفة إلى إعاقة تطورها؟ أيمكن أن تخلق الأسلمة معرفة وعلما، تتناسق وتتناغم مع القيم والمبادئ الإسلامية أم ستشكل مجرد نوع من التوفيق السطحي بين الدين والعلم، والتلفيق بينهما؟ وكيف ستجيب الأسلمة عن الأسئلة الكبرى عن إشكاليات المعرفة التي تطرحها مختلف حقول المعرفة والعلوم؟ أيمكن بالأسلمة تجاوز تخلفنا وتأخرنا الحضاري والإنساني والعلمي والتكنولوجي والرقمي؟ أيمكن للأسلمة أن تقود حوارا دائما ومستمرا بين النص الديني الإسلامي والحياة الواقعية للعالم الإسلامي، والإنسان الغربي؟ وما الإضافات النوعية التي تقدمها للمعرفي والقيمي والعملي؟ أيمكن للأسلمة أن تحل مشكل الهوية الفردية والجماعية للإنسان المسلم الضائع، الفاقد الثقة في نفسه من جهة أولى، ومن جهة أخرى تعيد تشكيل هوية المعرفة والعلوم بوضوح وتميز تام ودال؟ أيمكن للأسلمة خلق نظام ثقافي إسلامي جديد، له مفردات أبحاث تختلف عن مفرداتها السابقة التقليدية، وسماته تتخطى النظام الثقافي الإسلامي القديم؟ ألا يكمن بعد التجديد في الأسلمة؟ والتجديد الانفتاح على الآخر والتفاعل معه إيجابا لا سلبا بالرفض المطلق!

من خلال استشكال الأسلمة بين الإبستيمي والإيديولوجي؛ يرى دعاة الأسلمة أنها سبيل استعادة الهوية الثقافية والدينية للمعرفة والإنسان المسلم، في مواجهة التحديات الغربية والعولمة التي يطرحها الفكر الغربي. مقابل رؤية معارضيها، التي تفيد تهديدها للحريات الفكرية في العالم الإسلامي، مع حدها للتنوع العلمي والثقافي المطلوب لتقدم وتطور الفكر الإسلامي والإنسان المسلم، وإغماسه في الفكر الماضوي التقليدي. وتبقى عدة تحديات تواجه الأسلمة من قبيل تعاطيها ومقاربتها للعولمة، والرأسمالية المتوحشة، وحرية السوق، ومستجدات الرقميات من ذكاء اصطناعي وتكنولوجيا متجددة ... كأنظمة قائمة بذاتها، ومجموع القضايا التي تطرحها على العالم بما فيه العالم الإسلامي، وعلى الإنسان المسلم. فكيف يمكن ـ إذن ـ التوفيق بين الالتزام بالمبادئ الدينية وتطوير المعرفة العلمية الحديثة؟ وما دور المفكرين والفلاسفة والباحثين والمثقفين والمؤسسات الأكاديمية في تحقيق هذا التوازن بين الأسلمة والمعرفة؟ ... ومن هنا؛ تبقى مسألة " أسلمة المعرفة " إشكالية قائمة ما بين الإبستيمي والإيديولوجي، تستمد استشكالها من تداخل هذين البعدين فيما بينهما، في انفتاح على أبعاد أخرى من دائرة الإبستيمي كالبعد السياسي والثقافي والاجتماعي، مع استحضار مكونات الإبستيمي؛ من معطيات أولية للمعرفة، وأنماط التفكير، والمفاهيم الأساسية، ومنهجيات ومسلكيات إجرائي، والمؤسسات المنتجة للمعرفة، والخطابات المسيطرة، وحدود المعرفة، والعلاقات بين السلطة والمعرفة ...

والأسلمة ليست فعلا فكريا أو عمليا سهل المنال، فكل مفردة فيها ومنها تطرح إشكالا على مستوى القبول أو الرفض، خاصة للعقل العلمي الذي يؤمن بالمنحى التجريبي والوقائع الواقعية والموضوعية التي تعطي الدليل على حجية المعرفة وصدقها وحقيقتها وصوابيتها، أو للعقل الديني العاطفي الذي يؤمن أن الدين احتوى كل الحقائق ولم يترك للإنسان شيئا يذكر، سوى عبادة الرحمن على طريقة الصوفية لا طريقة العلماء ـ ليس بالمفهوم الإسلامي وإنما بالمفهوم الغربي ـ الذي يلغي العقل ويعتمد النقل. فكيف للأسلمة أن تثبت في عاصفة المتغيرات الفكرية المتسارعة وتتحدى إشكاليات مواجهة الممارسة المعرفية؟ ...

***

عبد العزيز قريش

ثمة حقيقة سياسية ومجتمعية تكشفها الكثير من الأحداث السياسية الكبرى التي تجري في المنطقة، إلا أن القلة من المهتمين من يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويرصد آثارها ومتوالياتها على المواطنين وعلى الاستقرار المحلي والإقليمي والدولي. وهذه الحقيقة هي أن أخطر مرحلة تبلغها الأحداث والتطورات في أي بلد، هو حينما يصبح هذا البلد بلا راعي، وبلا حكومة تضمن الحدود الدنيا للنظام وتسيير شؤون الناس.

لأن الدولة التي تصبح بلا راعي ينظم مصالح الناس ولو في الحدود الدنيا، ويمنع التعديات على أملاك الناس وأعراضهم، تصبح هذه الدولة فضاء مفتوح ومتاح لجميع الجماعات السياسية والإجرامية لتنفيذ مخططاتهم وأجندتهم بعيدا عن الرقابة والمحاسبة من قبل الأجهزة الرسمية. وفي ظل صعود الجماعات العنفية العابرة للحدود، تتحول هذه الدولة الفاشلة إلى بيئة حاضنة لهذه الجماعات، تدرب فيها عناصرها على الأعمال الإرهابية والعنفية وتطوير تعبئتها الأيدلوجية، مما يسرع عملية اتساع دائرة هذه الجماعات التي تهدد أمن الأوطان والمنطقة بأسرها.. وأمام هذه الحقيقة المركبة والمتداخلة، تتعقد أزمة الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن في هذه الدول، وتصبح هذه الدول الفاشلة ساحة مكشوفة لكل الإرادات والمشروعات الأمنية والسياسية، مما يزيد الأعباء على أبناء هذا الوطن وتلك الدولة الفاشلة. فالجميع يتنافس ويتصارع بمختلف الأسلحة الأمنية والسياسية والعسكرية على أرض ليست أرضهم وبدماء هذا الشعب المسكين الذي انهارت دولته وتحولت إلى دولة فاشلة غير قادرة على ضبط أمنها الداخلي وأمن حدودها. ولكونها أضحت ساحة مكشوفة وغير مسيطر عليها بقانون وأجهزة تنفيذية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، فإن جميع القوى الإقليمية والدولية والقوى الخارجة على قوانين بلدها، ستتجمع في فضاء هذه الدولة الفاشلة وستتصارع هناك وستدمر بقية البنية التحتية غير المدمرة، وستفتك بالنسيج الاجتماعي والوطني، مما يفاقم من أزمات هذه المجتمعات، ويدخلها في أتون الفوضى المدمرة والكارثية على كل الصعد والمستويات.

و أمام هذه الحالة التي تؤثر سلبا وبشكل عميق على الأمن الوطني والإقليمي والدولي نود التأكيد على النقاط التالية:

1 - لو تأملنا في البدايات الأولى والتي أنتجت في المحصلة النهائية ما نسميه (الدولة الفاشلة) سنجد أن أحد الأسباب الأساسية هو انسداد أفق الحل والمعالجة الداخلية لمشاكله السياسية والأمنية والاقتصادية وتصلب جميع الأطراف وعدم تنازلها وسعيها إلى خلق تسوية ترضي الأطراف المتصارعة وتخرج الوطن والشعب من احتمالات الصدام والصراع الدائم.

فحينما ينسد أفق الحل السياسي الداخلي وتتعاظم تأثيرات الأزمة، وتستدعي جميع الأطراف المتصارعة الخارج سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن النتيجة الفعلية المترتبة على ذلك هو تآكل الدولة ومؤسساتها من الداخل وتعزيز الانقسام الأفقي والعمودي في المجتمع.

و توقف عجلة البناء والتنمية، وكل هذه العناصر مجتمعة تفضي إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل والعجز عن معالجة مشاكلها وأزماتها المستفحلة. وحينما تصل الدولة إلى مرحلة الفشل والتآكل الداخلي، فإن عودتها إلى عافيتها يتطلب الكثير من الجهود والإمكانات والصبر، وقد تتعافى وفي كثير من الأحيان لا تتعافى، وإنما يستمر التدمير والدمار والقضاء على المؤسسات المتبقية للدولة. وأمامنا جمهورية الصومال كمثال على ذلك، فهي ومنذ سنين طويلة تعاني الصعوبات الجمة للعودة إلى دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن وتسيير شؤون مواطنيها. فلم يعرف الشعب الصومالي خلال العقود الثلاثة الماضية إلا القتل والدمار والحروب الداخلية والكانتونات المغلقة على بعضها البعض والتدمير المتواصل للنسيج الاجتماعي والقبلي. من هنا ولكي لا تصل بعض الدول العربية الأخرى إلى مرحلة الفشل بحاجة إلى الإسراع في وقف الانحدار والتآكل الداخلي، عبر الإصلاحات الإدارية والدستورية والسياسية، التي تعيد الحياة إلى مشروع الدولة، وتعيد ثقة شعبها بقدرة الدولة على الخروج من مأزق الانهيار والتآكل الداخلي.

2- دائما في لحظات انهيار الدول المركزية، تبرز وتتعاظم الانقسامات الاجتماعية تحت يافطات دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية، مما يجعل الانهيار خطيرا لأنه يصيب الدولة والمجتمع في فترة زمنية واحدة، مما يفاقم من حالة العنف والاحتراب الداخلي، وهذا التشظي المجتمعي يكشف غياب مشروع وطني لهذه الدول لانجاز مفهوم الاندماج الوطني لذلك وف اللحظة الأولى لغياب الدولة أو تآكلها تبرز كل التناقضات المجتمعية , ودائما يكون البروز بوسائل قهرية - عنيفة تساهم ف تدمير النسيج الاجتماعي والوطني. وهذا بطبيعة الحال يعود إلى غياب مشروع للانتماء الوطني، بحيث يكون هذا الانتماء هو الانتماء المشترك الذي يضمن حقوق الجميع بدون افتئات على أحد.

وتتحمل كل الدول العربية في هذا السياق مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني، بحيث لا تتحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقيا وعموديا تحت يافطة الانتماءات التاريخية والتقليدية.

و تتوسل هذه الدول في بناء مشروع الاندماج الوطني على وسائل التنشئة والتثقيف والإعلام والتعليم والتعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة.

وهذا بطبيعة الحال سيخفف من مخاطر التآكل الداخلي للدولة، لأنه يبقي المجتمع موحدا ولديه القدرة على بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على وقف الانحدار وإعادة بناء الوطن على أسس جديدة تخرج الجميع من أتون المآزق السابقة.

3- من الضروري أن تدرك جميع دول المنطقة أن تجذر الجماعات التكفيرية والعنفية في المناطق التي انهارت فيها الدولة أو تآكلت، يعد خطرا حقيقيا على الجميع. لأنه لا يمكن للأمن الوطني والقومي العربي أن يهنأ بالاستقرار السياسي في ظل وجود جماعات عنفية - تكفيرية تمتلك القدرة على التدريب العسكري وحيازة الأسلحة والمعدات العسكرية بكل أنواعها.

لذلك ثمة ضرورة وطنية وقومية لكل الدولة العربية لبناء مشروع عربي متكامل يستهدف مواجهة جماعات العنف والتكفير التي بدأت بالانتشار والتوسع في دول عربية مختلفة مستفيدة من وجود ثغرات أمنية وسياسية عديدة في جسم بعض هذه الدول. لأن هذه الجماعات وكما أثبتت التجربة ف أكثر من مكان، لا تعرف إلا القتل والتفجير وتدمير البنى التحتية، ولا شك أن هذه الجماعات وبما تشكل من فكر عنفي وممارسات إرهابية تشكل خطرا محدقا على العالم العربي. ولا خيار أمام العرب إلا الوقوف في وجه الثقافة التكفيرية والجماعات العنفية والإرهابية التي قد تلتقي مع إرادات دولية أو إقليمية بشكل موضوعي لإدخال العالم العربي في أتون العنف والعنف المضاد. ولو تأملنا في ظاهرة الإرهاب لرأينا أن الدول الفاشلة من أخصب البيئات الاجتماعية والسياسية لتمدد حركات وتنظيمات الإرهاب. فتنظيم داعش لو لم يجد دولا فاشلة أو في طريقها للفشل، لما تمكن هذا التنظيم من التوسع والامتداد. لذلك لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بإصلاح وضع الدول العربية، وإخراج الدول الفاشلة منها من مربع الفشل، عبر دعم مشروعات المصالحة من مآزق انسداد أفق الحل والمعالجة السياسية.

وجماع القول: إن العالم العربي يواجه تحديا جديدا، يتجسد في انهيار وتآكل بعض دوله، مما أدخل مجتمع هذه الدولة في مضمار الصراعات المعقدة والمركبة بعضها متعلق بملفات وصدامات داخلية، وبعضها الآخر متعلق بصراع الآخرين على أرض هذه الدولة المتآكلة مما جعل في الوسط العربي مجموعة من القنابل الحارقة والخطيرة في آن.

وأمام هذا التحدي النوعي الجديد، بحاجة أن تبادر دول العالم العربي لإيقاف هذا الانحدار وإيجاد خطط حقيقية وممكنة لإخراج هذه الدول من سقوطها السريع وتآكلها الداخلي المستغرب. وهذا لا يتم على نحو فعلي إلا بأدوات إصلاحية، تنهي بعض مآزق العلاقة بين الدولة والشعب، حتى يتمكن الجميع من الخروج من مخاطر انهيار دولة عربية في ظل أوضاع عربية على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة وتتطلب إرادة عربية جديدة تتجه صوب بناء أنظمة سياسية دستورية وقانونية وديمقراطية.

***

أ. محمد محفوظ – باحث سعودي

امام تحديات وفرص الذكاء الاصطناعي في عام جديد

مع اطلالة عام جديد، يواجه التعليم العالي في الدول العربية مفترق طرق حاسما، حيث يتداخل التطور الهائل للذكاء الاصطناعي مع تحدياته المتراكمة، ليشكل فرصة ذهبية للتطوير او خطرا محدقا بالتراجع. هذا التطور، الذي يحمل في طياته امكانات ثورية لخدمة المعرفة والارتقاء بالتعليم، يفرض علينا في الوقت نفسه تحديات وجودية تستدعي وقفة جادة من التامل والتفكير العميق، خاصة وان التعليم العالي يعتبر قاطرة التنمية وبناء المجتمعات في الوطن العربي.

ان احد اخطر التحديات التي نواجهها كاكاديميين في المنطقة العربية هو التعامل مع تدفق المعلومات المتسارع، فالكم الهائل من البيانات لم يعد هو المشكلة، بل كيفية غربلة هذه البيانات وتمييز الغث من الثمين، الحقيقة من الوهم. هنا يظهر الذكاء الاصطناعي كاداة ذات حدين، فهو قادر على كشف الحقائق ومحاربة الاخبار المضللة، ولكنه في الوقت نفسه يمكن ان يستخدم لخلق "وقائع خيالية" من خلال نشر معلومات مضللة مخصصة تستهدف عواطفنا وتحيزاتنا. هذا الواقع يلقي بظلاله القاتمة على العملية التعليمية في الجامعات العربية، حيث بات لزاما على التدريسيين والباحثين والطلبة على حد سواء امتلاك مهارات عالية في التعامل مع المعلومات الرقمية وتقييم مصداقيتها، وتحويلها الى معرفة نافعة تساهم في بناء المستقبل.

هذا التحدي يمتد ليهدد بشكل خطير المؤسسات الاكاديمية التي لطالما كانت منارات للمعرفة والحقيقة في العالم العربي، فمع الازدياد المطرد لحملات التضليل الممنهجة وعمليات التزوير والافتراس العلمي التي تستغل ادوات الذكاء الاصطناعي، ليس فقط تتاكل الثقة في هذه المؤسسات، بل يزداد بشكل مقلق عدد "المتعلمين الجهلة" و "الاكاديميين المزيفين" الذين يفتقرون الى الادوات المعرفية والمهارات اللازمة للتمييز بين الحقيقة والزيف، ما يضعف بشكل كبير قدرة المجتمع على مواجهة الاكاذيب والتصدي لها. هنا، يبرز دورنا كاكاديميين في الدول العربية في جعل مؤسساتنا التعليمية حصنا منيعا يقف في وجه هذا الخطر المحدق، خطر انتشار التزوير والتضليل والنشر الزائف، من خلال اصلاح جاد للتعليم وتطوير مناهج دراسية محدثة تركز بشكل اساسي على التفكير النقدي وتحليل المعلومات، بالاضافة الى وضع برامج تدريبية متخصصة تمكن طلبتنا من التعامل بفعالية مع تحديات العصر الرقمي ومخاطره المتزايدة. يجب ان ندرك ان صمتنا او تقاعسنا عن هذا الدور سيساهم في تعميق الازمة وتفاقمها، ما يهدد مستقبل التعليم والمعرفة في اوطاننا.

الامر لا يتوقف عند هذا الحد، فالخطر الاكبر يكمن في امكانية استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب والسيطرة على الافراد والمجتمعات من خلال الدعاية المخصصة والتلاعب بتدفق المعلومات، ما يمكن جهات خفية من التاثير على الراي العام وتوجيه السياسات وتغيير السلوك الفردي، وهو ما يهدد اسس البناء السليم للفرد والمجتمع في المنطقة.

لذا، فان مواجهة هذه التحديات المتنامية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي تتطلب منا كاكاديميين في الدول العربية تبني استراتيجية شاملة ترتكز على عدة محاور متكاملة، اولها دمج التفكير النقدي في صلب المناهج الدراسية، حيث يجب ان نعيد النظر في مناهجنا لتضمين مهارات التفكير النقدي والتحليلي في جميع التخصصات، وتمكين طلبتنا من فحص المعلومات وتقييمها بموضوعية، وتجاوز الانجرار وراء العواطف والتحيزات، وثانيها توفير برامج تدريبية متخصصة للتدريسيين العرب لتمكينهم من استخدام ادوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، وتحسين جودة التدريس وتوفير تجارب تعليمية مخصصة للطلبة، تراعي الفروق الفردية بينهم، واخيرا يجب على مؤسساتنا التعليمية الانفتاح على التعاون مع المجتمع ومؤسسات الدولة والمنظمات والجمعيات غير الحكومية في الوطن العربي، وبناء شراكات فاعلة مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتبادل الخبرات والمعلومات، والاستفادة من افضل الممارسات العالمية.

في هذا العام الجديد، ندعو جميع الاكاديميين في الوطن العربي الى ان يكونوا في طليعة المستعدين لمواجهة تحديات العصر الرقمي، والعمل معا لبناء مستقبل يسخر فيه الذكاء الاصطناعي لخدمة التعليم والمعرفة والتنمية في بلداننا، مع الحفاظ على قيمنا الانسانية والدفاع عن حرياتنا الاكاديمية التي تتاكل تدريجيا. هذا ليس خيارا، بل هو ضرورة حتمية لبناء مستقبل مزدهر لاجيالنا القادمة.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي مهتم بالعلوم والتكنولوجيا في العالم العربي، جامعة دبلن UCD

 

تنويه: (هناك عدد من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين يوصفون بأنهم (ملحدون). وينبغي التوضيح بأن الألحاد في المفهوم الغربي يعني نكران وجود (الله) فيما هو عند فلاسفتنا العرب والمسلمين يعني التشكيك بالنبوة وليس انكار الذات الآلهية).

***

الطبيب والفيلوسوف أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي يعدّ من اشهر أذكياء زمانه (250 هـ ـ 311 هـ) واكثرهم جرأة في موقفه المعارض من النبوة والأنبياء. فهو برغم قناعته وإيمانه بوجود إله لهذا الكون، الا انه لا يؤمن بأن هذا الإله أرسل إلى خلقه رسلا.. ويسأل مستفهما:

(من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلّة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ويعلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات، ويكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟).

ويطرح الرازي حجة منطقية بقوله: ما دام الله قد منحنا العقل وميزنا به عن سائر خلقه وهيأ له القدرة على اكتشاف الخير والشر، فما حاجة الإنسان لنبي يعلّمه الشرائع والأخلاق؟ ويضيف، ان لعقل الإنسان قدرة أيضاً على معرفه الخالق من خلال النظر في خلقه، فلا حاجة لإرسال نبي يعلم الناس طريق الله.

ولقد اعترض عليه كثيرون، فردّ عليهم قائلا:

ان الأولَى بحكمة الله وعدله اللذين يؤمن بهما أصحاب الديانات، أن يساوي بين خلقه في القدرة على معرفة الخير والشر، وأن الله إذا ميز بعضهم بهذه الموهبة عن البعض الآخر يكون قد زرع بينهم الشقاق، وهو ما نراه يحدث بين أصحاب المذاهب المختلفة من القتال والنزاع وإراقة الدماء.

ويمضي الى قول ما هو أجرأ.. بأن المسؤول عن ذلك ليس الضعف أو قلة الفهم عند أبناء المعتقدات، إنما خلل في نظرية النبوة نفسها، فالأنبياء في رأيه يبّشرون بشرائع وأفكار غير قابلة للجدال والنقاش باعتبارها قادمة من السماء وتحيط بها هالة من التقديس.

ويحاجج علميا بأن الكثير مما أتى به الأنبياء، يخالف الطبيعة الإنسانية والسلام بين بني البشر، بالإضافة إلى ادعاء كل دين استئثاره بالحقيقة منفرداً، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال للشقاق والسجال بين أطراف تتجاذب الحقيقة.

وبمنطق سبق زمانه بكثير يقول: إن أصحاب الأديان يرون أن الناس مراتب، وفُضّل بعضهم على بعض، ومنهم من يمتاز عن البقية بالعلم. وإذا كان ذلك كذلك فحري بالأنبياء الذين هم أشرف الخلق بأن يمتازوا على الجميع. ويرى أن ذلك ليس دليلاً على النبوة، فالناس من وجهة نظره متساوون في القدرة على المعرفة ولا يميز أحدهم عن الآخر إلا الاجتهاد في تحصيلها والقابلية النفسية لإعمال الذهن.

ويكشف الرازي عن حقيقة غائبة عن كثيرين بإن الأنبياء يختلفون فيما بينهم في نواحٍ كثيرة، فمنهم من يُؤلِّه المسيح ومنهم من يراه بشراً عادياً، ومنهم من يراه زنديقاً كاليهود. ويتساءل.. كيف لله أن يبعث للناس برسائل متناقضة كل التناقض!؟

ويطرح الرازي فكرة فيها بعد سيكولوجي، خلاصتها انه لا يرى مبرراً لأن نعلل إيمان معظم البشر بالنبوة كدليل على صدقها، فالناس إما يسلمون بما ورثوه ويتكاسلون عن التحقيق فيه ثم يسلمون به لاعتيادهم عليه ويتحول المعتقد بمرور الأجيال إلى ما يشبه الطبيعة والغريزة في هؤلاء الناس، أو أنهم يخافون بطش رجال الدين والسلطان بهم، أو ينخدعون في المظهر البرّاق للدعاة والمبشرين والوعاظ.. بمعنى أن كثرة العدد ليست دليلاً على صدق المذهب على ما يرى الرازي.

الأخطر.. اسلاميا، ان الرازي أنكر الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، ورد السؤال التعجيزي المعتاد "إذا كنتم تنكرون إعجاز القرآن فهل لكم أن تأتوا بمثله؟" بسؤال آخر وهو: هل لكم أن تأتوا بمثلما كتب بطليموس وجالينوس؟.. قاصدا بذلك أن الأمر طبيعي وليس اعجازي في عدم قدرة أي شخص على الإتيان بمثل ما كتبه شخص آخر، لأن الأسلوب اللغوي يشبه البصمة ويختلف باختلاف المتحدث.

وهناك من يرى في قول الرازي هذا بأنه ليس تحديا للقرآن، بل هو تحدي للمذهبيين، وأن القرآن يبقى معجزة بلاغية ولفظية وليس معجزة قانونية.

***

ا. د. قاسم حسين صالح

الإماء في الإسلام.. مرآة الصراع بين الحرية والتقاليد وموروث الجاهلية الذي يثقل كاهل الإسلام

عندما نتأمل تاريخ الإماء في الإسلام، نواجه تناقضًا عميقًا بين المبادئ الداعية إلى العدالة والحرية، وبين واقع اجتماعي يقنن العبودية. الإماء، وهن جمع “أمَة”، لم يكنّ مجرد نساء مستعبدات تحت وطأة الحاجة والقهر، بل كُنّ انعكاسًا لأنظمة فكرية واقتصادية تُشرعن السيطرة والهيمنة، محوّلات الإنسان إلى سلعة تُباع وتُشترى.

الإسلام، وفق النصوص الدينية، لم يبتكر نظام العبودية، بل وجده متجذرًا في البنى الاجتماعية الجاهلية. ومع ذلك، فإنني لا أحب استخدام مصطلح “الجاهلية” لوصف تلك الحقبة، إذ أراه اختزالًا وتبسيطًا لعصر كان، رغم جوانبه السلبية، زاخرًا بالثقافة والشعر والنظم الاجتماعية. تلك الفترة التي وُصفت بالجاهلية، كانت غنية بنظم وقيم أثرت حتى في الثقافة الإسلامية اللاحقة، مثل نظام الدية وقوانين حماية الضيف.

واستغرابي يكمن في الإقصاء الكلي لهذه الحقبة، وكأنها كانت ظلامًا مطلقًا، بينما هي في الحقيقة تحمل ملامح من النور الذي ساهم في تشكيل الحضارة العربية.

أقرّ الإسلام العبودية ضمن نظام “ملك اليمين”، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى تحرير الرقاب كقربة إلى الله. قال تعالى: “فَكُّ رَقَبَةٍ” (البلد: 13)، وقال النبي: “من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من النار” (رواه البخاري).

هذه الدعوات لتحرير العبيد تعكس تناقضًا واضحًا. فمن جهة، الإسلام يدعو إلى إنهاء العبودية، لكنه في الوقت ذاته يقننها ضمن أطر اجتماعية واقتصادية لم يتم تفكيكها جذريًا.

لماذا أقر الإسلام العبودية؟

هذا السؤال يتطلب تفسيرًا فلسفيًا واجتماعيًا عميقًا. النظام الذي أقره الإسلام كان جزءًا من توازن اجتماعي واقتصادي معقد.

تحرير العبيد بشكل كامل في ذلك العصر كان سيؤدي إلى انهيار اقتصادي واجتماعي، ما جعل الإسلام يقدم حلاً تدريجيًا: تقنين العبودية من جهة، وتشجيع العتق من جهة أخرى.

لكن هذا الحل التدريجي يعكس تنازلاً أمام الواقع الذي يخدم مصالح طبقة معينة، أصحاب النفوذ والمصلحة الذين استفادوا من استمرار هذا النظام.

لكن، كيف يمكن تبرير القهر باسم الضرورة؟

الفلسفة تعلّمنا أن العدالة لا تقبل التقسيط. كما قال جون ستيوارت ميل: “القمع باسم العدالة هو أقسى أنواع القمع، لأنه يحمل قناع الفضيلة.”

إن تبرير استمرار العبودية بحجج اقتصادية هو خيانة للقيم المثلى، لأن العدالة الحقيقية هي التي تُحقق بغض النظر عن تكلفة تحقيقها.

“الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا”، كما قال سارتر. ومع ذلك، فإن الإماء في الإسلام لم يُمنحن حتى فرصة الحلم بهذه الحرية.

أدوارهن كانت محصورة بين الخضوع كخادمات، والإذعان كمحظيات، أو استغلالهن كأدوات للإنجاب. لم يُمنحن الاعتراف الكامل بإنسانيتهن.

وكانت قيمتهن مرهونة بما يقدمنه من خدمة للأسياد أو بإنجابهن لأبناء يعيدون إنتاج النظام نفسه.

الأبناء الذين وُلدوا من الإماء عاشوا واقعًا معقدًا ومزدوجًا. فهم أبناء لأسيادهم، لكنهم في الوقت نفسه لم يُعاملوا معاملة الأبناء الشرعيين.

فالبنت المولودة من أمة، على سبيل المثال، كانت تعيش ازدواجية طبقية تجعلها أقل شأنًا من أبناء الزوجة الحرة.

هؤلاء الأبناء كانوا يحملون عبء هويتهم المزدوجة، كأنهم يعيشون بين عالمين لا ينتمون لأي منهما بشكل كامل.

هذا التناقض الطبقي يعكس فجوة اجتماعية عميقة، وهي جزء من نظام أعمق يعيد تشكيل الوعي.

ويمكن ربط هذه الفجوة بحالة “التكيف القهري” التي تعيشها الإماء.

علم النفس يفسر هذا الخضوع كآلية دفاعية

الإماء كنّ يرين في خنوعهن وسيلة للبقاء، حيث أقنعن أنفسهن بأن ما يقمن به هو طاعة لله أو امتحان إلهي.

غسيل المخ الجماعي الذي تعرضن له جعلهن يعتقدن أن دورهن في خدمة الأسياد هو جزء من مشيئة الله.

هذه الحالة النفسية هي مثال على ما وصفه فروم بـ”الهروب من الحرية”، حيث يختار الفرد القبول بالقيود لأنه يخشى مواجهة العبء الذي تحمله الحرية.

أما الأبناء، رغم الفوارق الطبقية، فقد ظلوا يدورون في فلك الأسياد.

فقد كبر هؤلاء الأطفال وهم يرون أنفسهم جزءًا من نظام يستحيل كسره.

هذه الحالة النفسية تُفسر كحالة اغتراب، حيث يشعر الفرد بأنه غريب عن نفسه وعن محيطه، لكنه مضطر للتعايش مع هذا الاغتراب.

وفي نظام الميراث الإسلامي، كان أبناء الإماء يرثون فقط إذا اعترف بهم آباؤهم.

وهذا الاعتراف لم يكن دائمًا سهل المنال. بل وحتى إذا أراد الأب أن يمنحهم حقوقًا أثناء حياته، فإن قواعد الشريعة تقيّده.

قال النبي: “لا وصية لوارث” (رواه الترمذي)، مما يضع الأب في معضلة أخلاقية عميقة.

وهذا التمييز يظهر جليًا في نظام “أم الولد”. الأمَة التي تنجب من سيدها تصبح “أم ولد”، وتنال حريتها تلقائيًا عند وفاته.

لكن هذه الحرية كانت حرية مؤجلة ومشروطة، تأتي في وقت تكون فيه حياتها قد استُنزفت بالكامل في خدمة النظام الاجتماعي.

مارية القبطية، التي أهداها المقوقس إلى النبي، تقدم مثالًا بارزًا على هذا التمييز.

رغم حب النبي لها وإنجابها لابنه إبراهيم، ظل وضعها أدنى مقارنة بزوجاته الحرائر.

ورِيحَانة بنت زيد، التي رفضت الزواج بالنبي واختارت البقاء على دينها اليهودي، تمثل حالة أخرى من التعقيد، حيث تداخلت الحرية الفردية مع قيود النظام الاجتماعي.

فرج فودة يرى أن استمرار نظام العبودية في الإسلام كان نتيجة لتوازنات اجتماعية فرضت نفسها على النصوص الدينية، بينما يرى سيد القمني أن “ملك اليمين” كان ضرورة تاريخية لا يمكن اعتبارها جزءًا من الشريعة الدائمة.

لكن ورغم ريادتهم في تناول هذه القضايا، إلا أنهم لم ينتقدوا هذه الظاهرة بالشجاعة الكافية. ربما لأنهما، مثل غيرهم من المفكرين، كانا محاصرين بحدود الخطاب الديني والاجتماعي السائد، الذي لا يزال يرى في النقد الجذري تهديدًا للاستقرار الفكري والاجتماعي.

الإماء لم يكنّ مجرد نساء مستعبدات، بل كنّ انعكاسًا لعجز الإنسان عن تحقيق العدالة التي يدعيها.

العبودية لم تكن نظامًا اقتصاديًا فقط، بل كانت نظامًا فكريًا يعيد تشكيل الوعي ليجعل من القهر شيئًا مقبولًا ومبررًا.

في النهاية، الإماء لسن مجرد شخصيات من الماضي، بل فكرة تعيش في كل نظام يفرق بين الناس بناءً على الطبقة أو الجنس.

ربما نعتقد أننا تحررنا من العبودية، لكننا في الحقيقة نعيد إنتاجها بأشكال جديدة.

لننظر إلى الأنظمة الاقتصادية الحالية التي تسخر الإنسان لخدمة رأس المال، إلى الطبقية التي تفرق بين الناس بناءً على الثروة، وإلى التمييز الذي يجعل من البعض أحرارًا ومن الآخرين عبيدًا لأشكال جديدة من السلطة.

الحرية ليست مجرد كلمة تُقال، بل هي صراع أبدي بين الطموح والواقع.

الحرية التي ندّعيها، ما تزال حبيسة أغلال الماضي، تنتظر لحظة تحرر حقيقية لم تأتِ بعد.

***

إبراهيم برسي

26 ديسمبر 2024

إن التقدم الحضاري والتطور الزمني قد انعكس على الأسرة، فلم تعد كما كانت من التماسك، بل أصبح تفككها أحد الظواهر التي لا نستطيع أن نغفل عنها، إذ أن أي خلل في البناء الأسري تنعكس آثاره السيئة على الفرد، حيث أن التفكك الأسرى من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تعصف بالمجتمع وتؤثر في تنميته وتحقيق أهدافه بل قد يؤدي إلى تفكيك المجتمع وهلاكه.

إن تأثير وسائل الإعلام الاجتماعي على الأسرة المغربية اجتماعياً وثقافياً وفكرياً وقيمياً أدى إلى تراجع دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية والتربية وفق معايير المجتمع، وأصبح الإعلام الاجتماعي يمثل شريكاً في عملية تنشئة الأفراد، بسبب التغيرات الطارئة على المجتمعات بفعل ثورة الاتصال الرقمي، حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة يتبادل فيها الأفراد الأفكار والثقافات دون حدود مكانية أو زمانية أو اجتماعية مما غيَّر في ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية. وأصحت الأسرة بأفرادها هي الأكثر تأثراً نظراً للتغير الكبير في نمط العلاقات والتفاعلات داخل الأسرة وخاصة في ظل ثقافة العولمة التي تسعى إلى تحويل المجتمع الدولي إلى كيان ثقافي واحد، ولا شكَّ أن ذلك يهدِّد هوية الأسرة اذ ان تأثيرات وسائل الأعلام على الأسرة بمنهجية وصفية نوعية تصف وتحلل الظاهرة من زوايا مختلفة وفي هذا المقال سنُسلط الضوء على هذه التأثيرات بتفاصيلها على كل من البنية والروابط الاجتماعية داخل الأسرة والمجتمع، بالإضافة إلى دور الإعلام الاجتماعي او الإعلام بشكل عام في اختراق البنية الثقافية وتهديدها من خلال إحلال ثقافات بديلة لا تتناسب مع خصوصية الأسرة المغربية التقليدية، كما أننا سنتناول تأثيرات الإعلام الاجتماعي على الأسرة المغربية فكرياً وقيمياً حيث استطاع الإعلام الاجتماعي أن يُحدث خللاً في منظومة القيم الأسرية بإدخال تحولات مفاهيمية دخيلة كالتحرر الفردي مقابل المسؤولية الجماعية والانفلات من الانصياع لمنظومة القيم التي تفرضها الأسرة والمجتمع، وفقدان الهوية الجماعية وقبول هويات وافدة وبالتالي التفكك الأسري...كما سنحاول في هذ المقال تسليط الضوء على أثار وسائل الاعلام على التماسك الأسري، الشيء الذي يجعلنا نستحضر.

نظرية الدور الاجتماعي حيث أن علماء الاجتماع الذين يعتقدون بنظرية الدور نجد ماكس فيبر الذي تناولها بالدراسة والتحليل في كتابه الموسوم ” نظرية التنظيم الاجتماعي والاقتصادي "، وكذلك "هانز كيرث" و "رايت ملز" في كتابهما ” الطباع والبناء الاجتماعي " و"تالكوت بارسونز "في كتابه ” النسق الاجتماعي"، وأخيراً "روبرت ماكيفر" في كتابه "المجتمع" حيث ظهرت هذه النظرية في مطلع القرن العشرين، و تعد من النظريات الحديثة في علم الاجتماع ؛ اذ تعتقد بأن سلوك الفرد وعلاقاته الاجتماعية يعتمد على الدور او الادوار الاجتماعية التي يشغلها في المجتمع، فضلاً عن أن منزلة الفرد الاجتماعية ومكانته تعتمد على أدواره الاجتماعية ذلك ان الدور الاجتماعي ينطوي على واجبات وحقوق اجتماعية، فواجبات الفرد يحددها الدور الذي يشغله، اما حقوقه فتحددها الواجبات والمهام التي ينجزها في المجتمع، علماً بأن الفرد لا يشغل دوراً اجتماعياً واحداً بل يشغل عدة ادوار تقع في مؤسسات مختلفة، وان الادوار في المؤسسة الواحدة لا تكون متساوية بل تكون مختلفة فهناك أدوار قيادية وأدوار وسطية وأدوار قاعدية . والدور يعد الوحدة البنائية للمؤسسة والمؤسسة هي الوحدة البنائية للتركيب الاجتماعي . فضلاً عن ان الدور هو حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع...ومنه يمكن القول أن الاسرة كذلك ومثال عندما يغيب فيها تقسيم الادوار وعدم أداء الدور بشكل جيد يتشكل على إثر ذلك عدة مشاكل / صراعات / علاقات عدائية، وهشاشة روابط الأسرية التي يمكن اختزالها في التفكك الاسري، وفي منحى ذاته نجد نظرية التبادل الإجتماعي، التي تعد في وقتنا الحالي من أبرز الاتجاهات النظرية في علم الاجتماع، حيث يمكن استخدام تصورات هذه النظرية لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية على رأسها التفكك الأسري والصراع الاجتماعي، ومن بين أهم المفاهيم الاساسية في نظرية التبادل الاجتماعي نجد؛ مفهوم الفاعل، وعلاقة التبادل، والقيمة، والبدائل والتكلفة، والاعتماد والتوازن، والقوة، والفوائد، والموارد والمصادر . هاته المفاهيم تتماشى مع البنية الاسرية ففي حالة عدم تطبيقها ينتج خلاف وصراع بين الزوج والزوجة وهكذا نجد نظرية التبادل الاجتماعي تتضمن بعض القضايا و الافتراضات الاساسية حول طبيعة الانسان وطبيعة المجتمع وكيفية ادائه لوظائفه من حيث طبيعة الانسان ترى هذه النظرية ان الانسان يتصرف بشكل منطقي وعقلاني، فكل انسان يضع امامه مجموعة من الاهداف ويحدد لنفسه اكثر الوسائل كفاءة لبلوغ هذه الاهداف، ويضع الانسان غيره من اعضاء المجتمع في اعتباره اثناء سعيه لتحقيق اهدافه، حيث ان هؤلاء الاعضاء يؤثرون او حتى يتحكمون في عملية سعي الانسان لتحقيق اهدافه. وهذا الموقف هو الذي ينتج العلاقة الاساسية للتبادل، ويصبح السلوك بهذا المعنى سلوكا اجتماعيا، كما يتخذ السلوك شكل التبادل، حيث ان الاشخاص الاخرين الموجودين في الوسط الاجتماعي يملكون المصادر او الموارد المختلفة ومن ثم فاننا نتبادل القيود بالسلع والعمل بالنقود، كما نتبادل المشاعر والعواطف ويجد الناس انفسهم دائما في مواقف اجتماعية تبادلية، حيث يتبادلون السلوك والخدمات ويتبادلون الدعم العاطفي والانفعالي...

فعدم التبادل بين الازواج، تبادل في المشاعر وتبادل التضحيات والسند؛ ينتج عند ذلك ويفضي ذلك إلى خلال الوظيفي وبالتالي التفكك وعدم التماسك وانعدام الرابط الاجتماعي والعاطفي داخل الأسرة مما يؤثر على الأبناء دراسيا وأخلاقيا.

***

أحمد حميد امكاوي - باحث في العلوم الاجتماعية

 

في مقال اثار اهتمامي، نُشر في صحيفة المثقف، لكاتب معروف ومشهود له بالكفاءة، أثار كاتب المقال تساؤلات، واقعية ومثيرة للاهتمام، وهي ايضاً تصلح أن تكون أمنيات يتمناها كل عربي غيور. وأقتبس مما كتبه ما يلي: "متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية – البروتستانتية في أوروبا وانقذتهم من جحيم الانقسامات الطافية والمذهبية؟ متى ستنتصر الانوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ ".

من المعروف أن هذه المصالحة التاريخية تسمى صلح وستفاليا، وهي عبارة عن معاهدتي سلام بين دول أوروبا، تمت في عام 1648م، وانتهت على أثرها الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي استمرت ثلاثون عاماً راح ضحيتها الملايين من الاوربيين. هذه الحروب الدينية المدمرة حدثت بسبب انشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية عندما اعترض عام 1517م على صكوك الغفران التي أصدرتها الكنيسة الكاثوليكية. إثر ذلك، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية اوامرها بطرد مارتن لوثر من الكنيسة الكاثوليكية واتهمته بالهرطقة. رفض لوثر الانصياع لأمر الكنيسة وكشف مفاسد رجال الكنيسة الكاثوليكية وطغيانهم. أيّدَ لوثر وتبعه الكثير من الاوربيين خصوصاً في بلده المانيا، وأُنشئت الكنيسة اللوثرية. اعتَبَر الكاثوليك المبادئ اللوثرية كفر والحاد (هرطقة) واتخذوها سبباً للتخلص منه ومن اتباعه البروتستانت. كانت الحروب والنزاعات السياسية قائمة بين الدول الأوروبية فأججها هذا الصراع الديني بشدة وقسوة مما جعلها حروبا طاحنة بين الاوربيين، فزهقت الأرواح ودمرت المجتمعات. وبعد ثلاثين سنة من الحروب المدمرة (من عام 1618م إلى 1648م) أفاق العقلاء من الاوروبيين من صدمة وهول القتال بينهم ولأسباب لا يقبلها العقل ولا المنطق، وبدأت مراجعة أفكار التعصب والاستكبار والعنجهية مقابل مبدأ التسامح وحرية الرأي والمعتقد، فاتفق الجميع (الكاثوليك والبروتستانت) على منح الحرية الكاملة لاختيار المعتقد أو المذهب الذي يرتئيه رئيس الدولة لدولته، وذلك بالكف عن تكفير الاخرين ومعاقبتهم لاختيارهم أيَّ مذهب أو عقيدة تتنافى مع معتقدهم. وعمّ السلام أوروبا بعد أن تخلصوا من النزاعات العصبية والطائفية التي كانت متأصلة في عقولهم والتي ازهقت الأرواح ودمرت المدن والمجتمعات.

وافقت الأطراف المتحاربة دينياً على قبول المصالحة عندما تنازل الكاثوليك عن تعصبهم واستعلائهم، على اعتبار انهم أصحاب الدين الصحيح ولهم الحق في تكفير المنشقين عن دينهم، وكسب البروتستانت حرية ممارسة شعائرهم الدينية دون خوف أو تهديد، وفتح باب الامن والاستقرار بينهم. ثم بدأ العقلاء والمثقفين من رواد النهضة الأوروبية بتثقيف شعوبهم سياسة التسامح والمحبة والعفو. في عام 1685م كتب جون لوك ثلاثة رسائل عن التسامح وسماها "رسالة في التسامح" ونشرت في كتاب بنفس العنوان في عام 1690م، وجون لوك كما هو معروف من أشهر فلاسفة ورواد النهضة الأوروبية. ذكر جون في كتابه هذا مواعظ دينية كثيرة مستندة إلى اقوال السيد المسيح (ع) عن المحبة والتسامح مستقاة من الانجيل. حارب التعصب الديني الذي كان سائداً في أوروبا في ذلك الوقت، ودعا إلى منح اليهود والمسلمين الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية، لأنهم كانوا مضطهدين من قبل المسيحيين الاوروبيون، كما دعا إلى نشر التسامح الديني بين المسيحيين الأوروبيين لأنهم كانوا متعصبين وطائفيين. وفي عام 1763م نشر فولتير كتابه الذي سمّاه أيضاً " رسالة في التسامح" وكرسه لإدانة التعصب وثقافة ال لا تسامح الديني الذي كان منتشراً عند الأوروبيين في ذلك الزمان، ودعا إلى اتخاذ سياسة التسامح واحترام المعتقدات عند الآخرين. وهكذا، عمل رواد النهضة الأوروبية بجهود حثيثة وصادقة لإقناع الناس بالتخلي عن التعصب الديني ونشر ثقافة التسامح في مجتمعاتهم، ونجحوا في ذلك.

هذا ما حدث للأوروبيين في العصور المظلمة، فيما كانوا عليه وما أصبحوا عليه. وكيف انتقلوا من جهل وتخلف وعنصرية مقيتة إلى عقول واعية متفتحة ومتسامحة، تؤمن باحترام الرأي وعقيدة الفرد الآخر مهما كان مخالفاً لرأيهم وعقيدتهم. فأين نحن العرب من هذه القصة الحقيقية، أو بالأصح من هذه التجربة الواقعية؟ هل نحن نسير على خطاهم أو نحاول أن نسير على خطاهم؟ أم نحن بعيدين جداً عن العبرة والموعظة مما حدث لهم وكيف صححوا مسارهم؟

إن العبرة والموعظة التي يمكن استخلاصها من المصالحة الكاثوليكية – البروتستانتية هي ثقافة التسامح واحترام الرأي والمعتقد للفرد الآخر، والتخلص من التعصب والطائفية، والتي هي، بلا شك، داء يفتك بمجتمعاتنا حالياً ويخرّبها ويدمرها. فكيف يمكننا ان نتعلم وأن نمارس ثقافة التسامح واحترام رأي أو عقيدة الشخص الآخر؟

مفهوم التسامح وثقافة التسامح

في كتابه " التسامح ومنابع اللاتسامح " يقول الأستاذ ماجد الغرباوي أن المفهوم اللغوي للتسامح مشتق من السماحة أي التساهل والجود، وسمَحَ: جاد وأعطى عن كرم وسخاء. إلا أن المعنى الاصطلاحي للتساهل في البيئة الغربية يأخذ بعداً آخر. فمفهوم التسامح عند الغرب ظهر في القرن 17 – 18م، لتفادي تداعيات الحروب والصراعات المذهبية والاتجاهات الفكرية المختلفة التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى، من اجل التوصل إلى صيغ مناسبة تضمن حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير بشكل متساو لجميع افراد الشعب.

واجمالاً، وفي سياق هذا المقال، يمكن أن نقول: أن التسامح هو عكس التعصب والطائفية. ويعني أن المتسامح هو الذي يتقبل ويحترم رأي وعقيدة الطرف الآخر مهما كانت مخالفاً لرأيه أو عقيدته أو انتماءه. وإن المتسامح يؤمن أن كل فرد في المجتمع له كامل الحرية والحق في اختيار ما يشاء من فكرة أو عقيدة أو مذهب أو طقوس دينية مهما كانت مخالفة لرأيه أو عقيدته. إن مفهوم الثقافة، كما يعبر عنها بثقافة الفرد أو ثقافة المجتمع، يعني مجموع العادات والأخلاق والأفكار التي تَرَبى عليها الفرد في مجتمعه. فإذا كانت طبيعة وأفكار افراد المجتمع تتصف بالتسامح تجاه الآخر، كما هو الحال في المجتمع الغربي، فأن ثقافة الفرد وثقافة المجتمع توصف بثقافة التسامح. ولنا في التاريخ الإسلامي مشاهدة مبهرة في ثقافة التسامح، متمثلة في مبدأ التسامح الديني مع باقي الأديان (المسيحية واليهودية) في حضارة الاندلس، التي يعترف بها القاصي والداني. وهناك امثلة أخرى كثيرة، في التاريخ الإسلامي، معروفة ومتفق عليها لا يتسع المجال لذكرها.

والموعظة الأخرى في هذا السياق هي: معرفة معنى ومفهوم الطائفية والتعصب كي يتجنبها افراد المجتمع في حياتهم وتعاملاتهم اليومية. وإذا استطاع افراد المجتمع أن يتجنبوا خطاب التعصب والطائفية فإن ذلك سيؤدي إلى أن تُستبدل ثقافة التعصب والطائفية تدريجياً بثقافة التسامح، ليصبح مجتمعنا مجتمعاً متجانساً يسوده الاحترام بدل الكراهية. وقد اقتصر مفهوم الطائفية على المذهبية الدينية حصراً، بينما شمل مفهوم التعصب كلّ مجالات الرأي الأخرى كالسياسة أو الاجتماعية أو أي محتوى آخر.

في مفهوم الولاء والانتماء

من المهم أن نميّز بين الانتماء والولاء وبين التعصب والطائفية. إن المُسْلم عندما يُعظّم الإسلام ويفتخر به فإن هذا لا يعتبر تعصباً ولا طائفية بل هو انتماء أو ولاء لدين أو ايمان أو عقيدة أو مذهب. وهذا ليس خطأ ولا معيب ولا ينافي العُرف أو القانون. ان هذا هو تعبير، أو قُل دفاع عن ايمان أو اعتقاد بفكرة يؤمن بها، وهي سنة من سنن البشرية، مارسها ويمارسها كل الناس في كل زمان ومكان. فالمسيحي يدافع عن المسيحية ويُعظّمها، واليهودي يكبّر اليهودية، والشيوعي يمجد الشيوعية والرأسمالي يمجد الرأسمالية، والفرنسي يتفاخر بالفرنسية كما يتفاخر الإيطالي بالإيطالية والامريكي بالأمريكية والعربي بالعربية، وهكذا في كل المجالات الأخرى، طالما أنه لا يمس عقيدة أو رأي الآخرين. بالمقابل فإن الطرف الآخر عليه ان يحترم انتماء أو ولاء الطرف الاول لدينه أو معتقده أو وطنه أو لغته وهكذا. وكما أوضحت، فإن هذا هو انتماء وولاء شخصي لشيء معين ولا يعتبر تعصباً أو طائفية. قد يكون هناك بعض الأشخاص ممن يتشددون أو يغالون في التعبير عن انتماءاتهم وولاءاتهم ويُعتبرون من المتشددين أو المغالين في هذا المجال. وهؤلاء أيضاً ليسوا متعصبين أو طائفيين طالما أنهم يتحدثون عن أفكارهم وعقائدهم ولا يعتدوا على انتماءات أو عقائد الآخرين، ولا يزدروا أو ينتقصوا من آراء الآخرين. والعبرة من ذلك: طالما أن كلامهم ينحصر فيما يختص بانتماءاتهم وعقائدهم فقط ولا يمس معتقدات الآخرين ولا يسيء لهم فهو ليس تعصباً ولا طائفية بغيضة إنما هو ولاء وانتماء لمعتقده.

مفهوم التعصب والطائفية

إن المتعصب والطائفي هو من ينتقص أو يعيب أو يزدري رأي أو معتقد الشخص الآخر. وهذا مربط الفرس في مفهوم التعصب والطائفية. فالمتعصب أو الطائفي يهدف بالأساس إلى محاربة الرأي الآخر وتشويهه والانتقاص منه. ليس المهم عنده اثبات صحة عقيدته التي يؤمن بها، لأنه يعتبر أن ذلك لا يحتاج إلى نقاش أو اثبات فهو الاصح وهو الأساس. وهو في ذلك يتخذ نهج استعلائي مغطرس. وقد اقتصر مفهوم الطائفية على المذهبية، بينما شمل التعصب كل المجالات الأخرى كالسياسة والعرق والقضايا الاجتماعية وغيرها. على سبيل المثال، نرى السني ينتقد ويحاول أن يُظهر عيوب الشيعة، والشيعي ايضاً ينتقد ويحاول أن يعيب السنة، والشيوعي يقتل البعثي من اجل السلطة، والبعثي ينتقم من الشيوعي لنفس السبب، وكلاهما يحارب الآخر لاختلاف العقيدة. وعند كل فرد من هؤلاء الافراد، ليس المهم أن يُظهر أو يُركز على محاسن مذهبه أو معتقده، لكن المهم عنده أن يظهر ويركز على مساوئ المذهب أو المعتقد عند الفرد الآخر. وكما أوضحت أعلاه لا يعتبر من يتكلم عن معتقده بمتعصب أو طائفي إذا لم يسيء إلى الرأي الآخر.

خطاب الكراهية

المقصود بخطاب الكراهية: هو أي نوع من الكلام أو الكتابة أو السلوك الذي يستهدف فرداً أو مجموعة من الناس بناء على خصائص متأصلة فيهم مثل الدين، العرق، الجنسية أو المظهر. ويهدف خطاب الكراهية إلى إهانة أو استبعاد أو تهديد الآخرين وبالتالي يؤدي إلى الكراهية والتفرقة والعنف. إن خطاب التعصب والطائفية قد يرقى إلى أن يكون خطاب كراهية. إن التعصب والطائفية هو اصلاً خطاب استعلائي متغطرس من فئة تُعطي لنفسها الحق بأن تستغبي الطرف الآخر، وتعتبر نفسها الأذكى والأفضل من الأطراف الأخرى. فعندما يمارس هكذا خطاب تجاه الرأي أو الفكرة عند الفرد الآخر فمن المؤكد أن الطرف الآخر سوف لن يقبل هذا الخطاب ولا ينصاع له، بل إن هذا الخطاب سيثير الحقد والسخط بين الطرفين ويؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها أو عواقب وخيمة تشتت المجتمع وتدمره.

مفهوم النقد وانتقاد الرأي الآخر (حرية التعبير)

يجب أن يكون معلوماً، أن توجيه النقد للفكرة المخالفة ليس بالضرورة أن يكون تعصباً أو طائفياً إذا كان بأسلوب ثقافي علمي يتماشى مع المنطق دون المساس والإساءة أو الاستخفاف بالفكرة أو المعتقد للشخص الآخر. الانتقاد هو تقييم الشيء بهدف فهمه أو تحسينه سواء كان فكرة أو عمل أو مذهب. وقد يكون النقد ايجابياً بنّاءً إذا اتبع الأسلوب الحضاري للنقاش والحوار بين الأفكار المختلفة. وقد يسميه البعض حرية التعبير، والتي هي حق أساسي للأفراد، لكن، كذلك، حرية التعبير لا يجب أن تستخدم لإيذاء الآخرين أو التحريض على الإساءة والعنف. وهناك مثال حي على التلاعب بمفهوم حرية التعبير، وهو الموقف الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بالدفاع عن الصحيفة الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للنبي الاكرم (ص) عندما ادعت الحكومة ان الجريدة تمارس حقها في حرية التعبير، متناسية بذلك مبدأ الاعتداء على، والإساءة إلى، عقيدة ومقدسات الآخرين. وهذا ينبع أصلا من تعصبهم الديني وكراهيتهم للإسلام والمسلمين.

الخلاصة

والعبرة من كل ما تقدم: أنه يمكنك أن تتكلم عن رأيك أو عن عقيدتك كما تشاء وتفتخر بها أو تظهر محاسنها كما تريد، بشرط ألا تمس الآخرين، وأن تبتعد عن الإساءة وازدراء رأي الآخرين أو عقائدهم. والأهم من هذا، أن تبدأ بإصلاح نفسك اولاً، خصوصاً إذا كان عندك توجّه أو نزعة لإثبات خطأ عقيدة الآخرين أو مذهبهم أو ممارساتهم لطقوسهم الدينية. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (سورة الرعد 11) " إنَ اللهَ لا يُغَيرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِرّوا ما بأنفُسِهِم " وهذا يشير إلى أن التغير يكون من الداخل وليس من الخارج، والاساس، أن يبدأ افراد المجتمع بتغيير أنفسهم اولاً.

يجب أن تكون لدى افراد المجتمع قناعة بأن كل فرد من افراد المجتمع له كامل الحرّية في اختيار العقيدة أو المذهب الذي يرتئيه، وأن افراد المجتمع ليسوا مسؤولين أو مخوّلين لتصحيح قناعات الآخرين إن كانت تخالف عقيدتهم. وإن كان البعض قد اساء للمجتمع أو للدولة بأفكاره المتطرفة فإن المسؤولية تقع على اكتاف قادة الدولة وأصحاب القرار فيها، ولا يحقّ للأفراد التدخّل في هذا الشأن وإلا حلت الفوضى والكراهية والتفرقة في المجتمع. ومتى ما مارَسْتَ ثقافة العفو والتسامح واحترام الرأي الآخر، عند ذلك يمكنك أن تروًج وتنشر هذه المبادئ وتكون قدوة لمجتمع آمن وسليم.

من المؤسف والمؤلم أنه في الحقيقة، ليس عندنا احترام ولا تقبل للرأي الآخر. نحن لا نعرف أن نمنح الرأي الآخر فرصة لإثبات فشله أو نجاحه على مستوى الناس والمجتمع، بل تعودنا محاربة الرأي الآخر والتخلص منه. هذه هي الطائفية والتعصب المدمر للمجتمع. إن الأفكار تُحارَب بالأفكار وليس بالعنف أو التهميش. إن الفكرة الجيدة تنتشر في العقول بسرعة وثبات، والفكرة الفاشلة تموت في المهد ويرفضها الناس والمجتمع. فبمجرد ترك الفكرة للناس ليحكموا عليها سيتبين فشلها إن كانت سيئة أو نجاحها إن كانت جيدة. لذلك يجب على كل فرد منّا أن يعوّد نفسه على احترام وتقبل رأي الآخرين خصوصاً إذا كان مخالفاً لمعتقده.

هذا ما حدث في النهضة الأوروبية التي نسعى لأن نكون مثلها، فلنعمل معاً بإخلاص لتحقيق الهدف.

***

د. صائب المختار

“في كل تساؤل يكشف هشاشة الوجود، وكل فكرة تكسر أفق المألوف في سردياته، تنبثق الثقافة كومضة ضوء في فضاء غارق في الظلام. ليست الثقافة مجرد مسعى إنساني للبحث عن المعرفة، بل هي الوجيف الخفي الذي يرافق خطواتنا في هذا العالم الهش، الذي لا يطيق الثبات. هي القوة التي تهز البنية، تهدم التصورات القديمة وتعيد صياغة الواقع بنظرة جديدة، تلامس الحواف المجهولة من تجربة الوجود. لكن ماذا يحدث عندما تتخاذل هذه القوة؟ عندما تنقض الثقافة على نفسها بفعل المثقف نفسه، حين يتخلى عن المبادئ التي أنشأتها ونشأت منها، ليبحث عن ملاذات بديلة تحت وطأة الخوف أو الضعف؟

هل تصبح الثقافة مجرد ظلال لروح ضائعة، تعيش في أفق غير مرئي، حيث التبعية تحتفل والمقاومة تسقط؟

الفكر هو مرآة الوجود، لكنه لا يكتفي بعكسه بل يسعى لإعادة تشكيله. والمثقف، في جوهره، ليس مجرد مفسر للواقع، بل هو المبدع الذي يحاول أن يرسم مسارًا جديدًا نحو المستقبل.

لكن السؤال يظل: ما الذي يحدث عندما يخون المثقف نفسه؟ هل يصبح الفكر مجرد ظلال تتبع أقدام صاحبه؟ أم أنه يظل نورًا يتحدى الظلام؟

في مواجهة الواقع القاسي، قد يجد المثقف نفسه في معركة بين الأمل والمقاومة، فتتحول أفكاره إلى تمزقات بين المبادئ والملاذات الزائفة. من هنا يبدأ صراع بين المثقف المبدئي، الذي يظل ثابتًا رغم العواصف، والمثقف التائب الذي يهرب من معركته ليلتجئ إلى أرض الغيبيات.

إن المثقف، حينما يتنكر لمبادئه، يصبح كالشجرة التي قطعت جذورها بإرادتها، تهيم في فضاء مفتوح بلا هوية، بلا هدف.

“الفكر لا يقف عند حدود الفهم، بل يتجاوزها إلى فعل التغيير؛ وما يربط بين المثقف ووجوده هو قدرته على التأثير في العالم من حوله، وهو اختبار حيوي لا يمكن تجاوزه.”

إن المثقف التائب أشبه بشجرة قطعت جذورها بإرادتها. بعد أن كانت تستمد قوتها من التربة الصلبة للمبدأ، تهيم في فضاء الغيبيات كغيمة خاوية، لا تستطيع أن تُنزل المطر ولا أن تستقر في مكان معين. نرى هذا التراجع جليًا في تحولات بعض المثقفين، سواء كانوا عربًا أو عالميين، الذين انطلقوا من مشاريع تنويرية وعقلانية ثم، بفعل الضغوط أو الإغراءات أو الإحباط، عادوا إلى أحضان الدين أو خطاب الغيبيات. يقول جان بول سارتر، الذي رفض في نهاية حياته نداءات الكنيسة ليتوب عن إلحاده: “لا يمكننا أن نكون نصف أحياء ونصف موتى. الفكرة، مثل الكائن الحي، تموت حينما نتخلى عنها.”

المثقف التائب يخون الفكرة، لكنه يبرر خيانته بحجج “روحية” أو “اجتماعية”. هنا نجد أمثلة واضحة: أنور الجندي، الذي بدأ مشروعه ككاتب حداثي، ثم انقلب مدافعًا عن “التراث” ضد التنوير، يشبه شخصًا هجر معركة في منتصفها ليصبح جنديًا في صفوف العدو. هذه الخيانة لا تحدث علنًا، بل تُقدَّم كمصالحة مع الذات أو اكتشاف لـ”الحقيقة”. التوبة الفكرية، في الكثير من الحالات، ليست سوى ستار يغطي به المثقف عجزه عن مواجهة الواقع القاسي الذي يرفض أن يتغير.

وعلى النقيض، المثقف المبدئي هو من يظل ثابتًا رغم العواصف. هو مثل ماركس الذي قال: “الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، بينما المطلوب تغييره.” هذا المثقف لا يرى المبادئ كرفاهية أو زينة شخصية، بل كجزء لا يتجزأ من كيانه. إن فرج فودة، الذي قُتل بسبب دفاعه عن العلمانية، وعبد الخالق محجوب، الذي رفض المساومة على العدالة الاجتماعية حتى الموت، هما مثالان على الثبات الفكري الذي لا يتزعزع. المثقف المبدئي هو من يعيش أفكاره حتى النهاية، مهما كان الثمن.

علم النفس الاشتراكي يفسر هذا الصراع بين التوبة والمبدأ في ضوء نظرية الاغتراب التي تحدث عنها إريك فروم. فروم يرى أن المثقف الذي يتخلى عن مشروعه العقلاني يعود إلى الدين أو الغيبيات لأنه يشعر بالاغتراب عن العالم الذي لم يستطع تغييره. هذا الاغتراب يثير في نفسه إحساسًا بالفراغ الروحي، فيسعى إلى ملء هذا الفراغ بطمأنينة زائفة تأتيه من الدين أو الموروثات غير العقلانية. هذه الطمأنينة، رغم أنها تمنحه راحة مؤقتة، إلا أنها في النهاية تقتل الفكرة التي كان يحملها يومًا ما، وتبعده عن مواجهة الواقع.

المثقف التائب يشبه سفينة فقدت بوصلتها، فتبحر عشوائيًا باحثة عن ميناء آمن، حتى لو كان هذا الميناء محاطًا بالصخور. بينما المثقف المبدئي هو كطائر يحلق بلا توقف، يعلم أن التحليق مؤلم ومرهق، لكنه لا يقبل السقوط.

يمكننا أن نستشهد هنا بجورج لوكاتش، الذي ظل ملتزمًا بمبادئه الاشتراكية رغم كل التحديات، وكان يقول: “الحرية ليست أن تختار بين الراحة والمعاناة، بل أن تختار طريقك رغم المعاناة.”

المفارقة العجيبة هي أن المثقف التائب غالبًا ما يجد القبول الاجتماعي سريعًا، بينما المثقف المبدئي يعيش على الهامش. المجتمع يميل دائمًا إلى احتضان من يبرر له الوضع الراهن، بينما يخشى من يطالب بالتغيير. هذا التناقض يذكرنا بكلمات نيتشه: “الحقائق التي تخدم الراحة هي أكاذيب مقنّعة.” المثقف التائب يبيع الوهم المريح، بينما المثقف المبدئي يبيع الحقيقة المزعجة.

في نهاية المطاف، المثقف ليس مجرد مفكر أو كاتب، بل هو روح قلقة تسعى وراء العدالة، الحرية، والحقيقة. إذا تخلى عن هذه الروح، فإنه يتحول إلى ظل باهت لنفسه. وهنا تظهر المفارقة الحقيقية: المثقف المبدئي قد يموت وحيدًا ومهمشًا، لكنه يظل خالدًا في أفكاره، بينما المثقف التائب قد يُحتفى به مؤقتًا، لكنه يموت مرتين: مرة عندما يخون مبدأه، ومرة أخرى عندما يُنسى.

***

إبراهيم برسي

٢٧ يناير ٢٠٢٥

في المثقف اليوم