تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

ألأمومة والحربُ والوطنُ في شعرِ إباء إسماعيل

khahtan mahbobmandawiرائحة الزيتون، وأريجُ ألياسمين، والغضبُ ألثائرُ، ودفء وملوحة ألبحرألأبيض المتوسط تجسدت في قصائدِ الشاعرة إباء اسماعيل في ديوانيها ألأخيرين: (صوتي هديل وطن). و( فراشة في مدار ألضوء). وكما يهدلُ الحمامُ حنيناً لمحبٍ فارقه، تهسُ وتهدلُ الشاعرةُ بألم عميقٍ يذكرنا بوجعِ الغربةِ، ووحشةِ المنافي، وطولِ الغياب. ألشاعرة ألمغتربة يمزقها الحنينُ لوطِنها النازفِ حدَّ الموت، أوبالأحرى أوطانِها العربية ألمذبوحة من ألمحيط ألى ألمحيط، ليطرحَ ألسؤالُ نفسَهُ، لماذا يُحبُ الشعراءُ أوطانَهم هكذا حدَّ الهديلِ والعويل والخَبلِ في بعضِ ألأحيان؟ وبعد السنين الطويلة يتوقون و ينوحون على وطنٍ باعَهم ونساهم ولا يدري حتى بوجودِهم؟ توقفتُ عند هذا السؤالِ طويلا، وتأملتُ مردوداته، فلم أجد جوابا مقنعا.

لا أستطيع تهميشَ مشاعرَ المهاجرين الذين تركوا اوطانَهم لظروفٍ إقتصاديةٍ بحتة، أو أولائك ألذين لا تمتهم أية صلةٍ أو حنينٍ بأوطانهم حتى عندما كانوا قاطنين بها. ولكني أستطيع ألجزم، بثقةٍ عالية، إن معظمَ شعراءِ المهجر، وشاعرتُنا إباء إسماعيل في طليعتهم، يتلظون شوقا، ويذرفون دمعاً حارقاً لمجرد ذكرى تلك ألأوطان. أما السببُ ألآخرُ ألمفرقُ بين أولائك الآخرين وألشعراء ربما لايتعلق  بقلة ألمشاعر بل لصعوبة ألتعبيرعنها، وإستفحال ألتخلف وألأمية ومرارة ألعيش في هذا البلد ألرأسمالي ألقاهر. فوجدتُ كثيراً من المغتربين ألذين عاصرتهم لأربعة عقود ونصف لا ينسون لغتهم فقط بل لا يعترفون بأوطانهم ولا يؤلمُهم ما يحدث هناك من حروبٍ ومجازر وويلات. هولاء من يتَّمتهم الغربة وأنستهم أصولهم وتركتهم مهَّمشين غير منتمين.  أما العربُ ألذين خانوا ضمائِرَهم وأطانَهم وذبحوا أبناءهم لا أستطيعُ تسميتَهم، وحتى نعتهم بالمجرمين، أوالسفاحين، أو عملاءِ الموت لايكفي للتعبيرعما أقترفوه من قتلٍ وظلمٍ ودمار. هؤلاء، ولا أتردد عن إتهامِهم، العربُ ألأوباشُ المتعفنين بالنفطِ وألحقدِ والدولار والثملين بإفيون الدين الجاهلِ ألمتخلف. هم من لا يشترون كتابا بدولارين لشاعر معدم فقير أويبالون لطفلٍ يُدفنُ تحتَ إنقاضِ قنابلهم، أو يغرقُ بالبحر هروبا من جحيمهم، بل يبذرون ألبلايين لصناعة ألشرَّ، وزرع الفتن وألشوك. يمولون عصاباتِ ألذبح وألغدر، يسممون ألبيئة، ويقتلون العزلَ وألأبرياءَ باسمِ الكراهيةِ والحقدِ والدينِ ألأعمى.

 تقول الشاعرة أباء إسماعيل بقصيدة "جبابرة" :   

مَلايينُهمْ،

تَصنعُ المَوتَ

تَبْني القبورَ

و تَبْني المَلاجئَ

قبلَ الحروبِ

و قبلَ الفِتَنْ...

مَلايينُهم،

تقطفُ الشَّهْدَ

من حورِ عِينِ

البلادِ

تَسْبي النِّساءَ

تُغَذّي الحُروبَ

مَلايينُهُم،

تَحضنُ المجرمينَ

و تدفعُهم كي يخونوا

عهودَ الإله،

و َحقَّ الوطنْ...

مَلايينُهُم،

كَالهَشيمِ سَتَذْوي

لنَشْهَدَ خَسْفَ الجَبابرةِ

الحاضِرينَ

بِهذا الزَّمَنْ...

بهذه ألأبيات تتنبأ الشاعرةُ بحتمية إندحارِ الشرِ كما تنبأ ألمتنبي قبلها بمصير أؤلائك القتلة  بقوله،

أين ألأكاسرةُ  ألجبابرةُ ألأُلى     كنزوا ألكنوزَ فما بَقينَ ولا بقوا

من كلِّ من ضاقَ الفضاءُ بجيشهِ     حتى ثوى فحواهُ لحدٌ ضيقُ

خرسٌ إذا نودوا كأنْ لم يعلموا        إن ألكلامَ لهم حلالٌ  مطلقُ

   ولكن رغم تنبؤ الشاعرة بنهاية أؤلائك "الجبابرة الحاضرين" اللاعبين بالقيم ألأنسانية والحضارية، ألغاصبين حرمة الطفولةِ وألأمومةِ وألشيخوخةِ، تظلُ ويلاتهم وأفعالهُم ألدنيئة، وجرائمهم وما اقترفوه بحق أوطانِنا ألمظلومةِ ألنازفةِ، ليُخَيمَ الجهلُ والكرهُ ، بعد حروبِ القرن العشرين الطاحنة والتي دفع العربُ ثمنها باهظا، حتى أَصبحَ العنفُ والقتلُ لغة َالعصرِ وطريقة الحوار. فماذا يأتي بعد كلِّ هذا التمزقِ والضياع؟ وأي الكلماتِ قادرةٌ على وصفِ هذا الرعبِ و الخرابِ ألهائلِ وألقتلِ المجاني ألذي ليسَ له نهاية؟  تقول إباء إسماعيل:

لمْ تسطَعْ في القُدْسِ مَشاعِلْ

لَمْ يُزْهِرْ في يافا زهْرُ الليمونْ

لَم يُثْمِرْ غُصْنُ الحبِّ

على أرضِ الشّامْ

دجلةُ ينزِفُ ناراً

و النيلُ يُهَدْهِدُ أحزاناً

أخْبارٌ موحِشَةٌ ،

تَتَناثَرُ مثلَ شظايا

من حِمَمِ القهرِ،

الجوعِ، الحقْدِ،

الغَضبِ ، اللهَبِ ،

الحِرمانْ...

آخِرةٌ هَذي أمْ وَجَعٌ

يتجدّدُ فينا مَوتاً

آلافَ المرّاتْ؟

ألموضوع ألآخرالذي تميزت به قصائد ألشاعرة إباء إسماعيل هوألعلاقة بين ألأم وألوطن. في شعرها لاأستطيع التمييز بين الكيانين ألمتداخلين وألمتلاصقين. توضحُ الشاعرةُ بجلاء عمقَ إنتمائِها لهذا المخلوقِ الغائبِ الحاضرِ الذي يشدُها لوطِنها وألعكسُ هو ألصحيح. فحبهُا لأمِّها هو ذاتُ حُبها لبلادِها. وبتفاقمِ ألكوارثِ والخيباتِ، لا تملك ألشاعرة ألا ان تبكي بصمت حتى يجشُ صوتها وتضيعُ بالمنفى حالمة مرة بطفولتها وأخرى تستنجدُ بأمها التي تعاودُها بالغربة، فتترجاها بالبقاء لأنها همزة الوصل و سرُّ إنتمائِها للوطنِ ألمفجوع، لكنها سرعان ما تعود لذاتِها الجريحةِ وأمنياتها المخذولة. وأظنُها عودة لا أرادية للأرضِ والوطنِ من جديد. تقول إباء بقصيدة "سحائب أمي"

يا نَجْمَتي لا تَبْعُدي

ها صَوتُكِ النّايُ الحَزينْ

فَمتى ستنْفَتِحينَ أُمّي كالسَّماءْ

و مَتى سَيهطُلُ غَيْمُكِ المِدْرارُ فينا

يَجْتَلي كلَّ الغُبارِ الـ يَعْتَرينا ؟! ..

تظل ألأمُ ليس فقط الشمعة التي تنير دروبَ ألغربةِ المعتمةِ، بل ألملاكَ الذي يحرسُ البنت ألمسافرة

في البعد تحرسُني وتسالني عن الزمنِ ألبخيل...

هذا الذي أقصى سحائبها

وأبقاني على عتباتِها أبكي لتحرسُني ألقبور

وأخافُ يا وطني ألمُغيبَّ عن  مباسِمها...

فأسألها متى،

أمي أيا وطناً...متى سأشمُ رائحة ألعجين؟

يا أنتِ يا عطرَ ألمحبة وألهوى، يا قبلة للعاشقين،

هل ترجعين؟

وتعانقين صباحَنا... وتخلصين قلوبَنا

من تحتِ أنقاضِ الخرائبِ وألأسى

في عُرسِنا ألدامي الحزين؟

هكذا تختمُ ألشاعرةُ قصيدتَها بنفسِ كلمةِ الحزنِ ألتي بدأتها بها.

ثم تخاطب والدها فتقول:

قلْ لي يا أبتي

كيفَ العالَمُ يُخْصِبُ

في منفاكْ؟

كيف التربةُ تحْنو

وتضيءُ نهارَكَ ؟

أو ليلكْ ؟

أنتَ النورُ

يٌفتِّحُ شوقي وحنيني

لزهورِ رِضاكْ ...

                                                    

بعد ذلك تترجلُ عن حُلُمِها، فتدركُ إن مكانَها في الغربة بين زوجٍ أحبها وأبناءٍ غيبتهم طموحاتهم

وهمومُهم، فبعدوا عنها وتركوها وحيدةً تدورُ كالمجنونةِ حولَ أسرّتِهم ألفارغة.

 في قصيدة "لأنك قمري" تقول إباء إسماعيل:

أخافُ علينا

كأنَّ طفولتَنا قدْ رستْ

فوق موجِ الدَّمارْ ...

كأنَّ خُطانا هوَتْ،

في ثنايا البِحارْ...

سأدفنُ وجهي ووجهَكَ

في شُعْلةٍ من حريقِ الرِّمالْ ...

وأجرحُ أسئلتي

في بقايا المُحالْ ...

وألوانُ حزني

سأسقي نداها

سَوادَ الأرقْ ...

ضبابٌ كثيفٌ

يلفُّ ستائرَ روحي

أصيرُ خيوطَ غيومٍ

كفرشاةِ طفلٍ،

تُغازِلُ حبرَ الورقْ ...

وآلامُ نزْفي،

سأرمي بها من شقوقِ جدارٍ

يضيءُ بَهاءَ شهيدٍ

تَعمَّدَ من دمعِ قلبي

ومن وجهِ جُرحي الغريبِ

توضّأَ يومي...

تُرى وطَني قدْ هَرِمْ

أمْ أنا مَنْ هَرِمتُ

فهلْ منْ تُرابٍ

يُقبِّلُ جسمي وجسمَهْ ؟...

أيصْبحُ نهراً يضيءُ الخَرابَ

وينفحُ روحي بماءِ الحياةِ

ويحيا الوطنْ ؟!!!

أخافُ عليكَ

أيا قمَراً من حنينِ  الغيابِ

تعلَّقَ شوقاً

بأهدابِ شمسٍ

ليقطفَ بعضَ الضياءِ

ويغدو مع الفجْرِ

نوراً

يُمزّقُ عتْمَ الزَّمَنْ !!...

أما في قصيدة "وحَسبي أنني أمٌ" تُنعي ألشاعرة واقعَها، فتشعرُ بغربتها ووحدتِها، والفراغ ألهائل ألذي خلفه غيابُ أبنائِها فيها. وحتى في عتابِها وغيضها تراها كسيرة، مهومة بهواها، مضرجة بدمائها لا يهدأ لها بال أو خاطر. في البدء تخاطبَهم عن بعد وتشتكيهم لنا، ثم تنتقل بعتابها مباشرة لهم لتصفَ مضاضتها ولوعتها. ولعلها تقصد هنا الأم " الرمز" ، الأم "الوطن" الذي خانه أبناؤه واستباحوه ومزّقوه وخانوه  لاحظ:

معبأة بوهجي واحتراقاتي،

برائحتي وفيضِ دمايَّ، في عُشبِ إنكساراتي،

من ألقلبِ إستباحوني،

كأني لم أكن يوماً سقيتهمُ

فراتَ ألعينِ من نبعِ إمتلاءاتي.

لماذا حينَ مزقتم جدارَ ألحبِّ في نبضي،

تركتم ملحَكم يكوي جراحاتي ؟

وحسبي أنني أمٌ،

أُعَلمُكم دروسَ الحبِ من شريانِ آهاتي.

أخيرا في نهاية ديوانها "صوتي هديلُ وطن" تسألُ الشاعرة سؤالا تعرفُ جوابَه بجلاء، لكنه يعكس حالتها النفسية ويعبرعن قلقِها وأرقِها هي و يظلُ سؤالاً وجيها. فتقول،

ما بالُهُ قَلِقٌ

و لا يغفو الحَمامْ

أتُراهُ يَبحَثُ عن هديلٍ

من سَلامْ؟

بعد ذلك تختلط الدموعُ بالنشيج، وتنعدمُ المسافات، وتظل ألشاعرة أسيرة هواها، ممزقة بين وطنها وأبنائها، ترهفُ مشاعرَها نغماتُ الزمنِ السعيدِ وأحلام ألطفولةِ  في الوطن-ألأم ألحنون وألماضي ألبعيد السعيد. ولسانُ حالِها يقولُ،

جسدي بامريكا تهدم وأنحنى    ويعيشُ في بغداد قلبي متعبا

 

د. قحطان محبوب مندوي

أستاذ ألادب العالمي

 

 

في المثقف اليوم