قراءات نقدية

قراءات نقدية

حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو مضطربة الوزن.  عنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ).  يمضي فيها الشاعر هكذا:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ

إلى أن يقول:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ

وهي في ديوان الشاعر(1)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة!  نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة. ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّةُ الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد.  ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ، هكذا:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ [إلى الناسِ]

...الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسِ

...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ

...ومن أظلمَ كالفحمِ ومن أشرقَ كالماسِ

لاستقامت تفعيلاته. غير أنهم سيواجهون (الإقواء). في قوله:

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

في الخمرةِ تختالُ على أنخابهم إذ تُقرع الكاسُ

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

مذ عُلِّمتُ أنَّ الناسَ أشباهٌ وأنَّ النبلَ مِقياسُ

ويمكن أن يكون صوابهما:

...على الأنخاب إذ تقرع بالكاسِ

...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ

ومما يؤيِّد القول إنَّ الرويَّ مكسورٌ قول الشاعر:

حببتُ الناسَ والأجناسَ:

حُبَّ الأرضِ للفاسِ،

أو القفرة للآسِ،

أو الليل لنبراسِ

قلتُ لـ(ذي القُروح):

ـ معروف أنَّ (الجواهري) كان ارتجاليًّا في شِعره، شفاهيًّا، يعتمد على الإلقاء. ولذا كان من حقِّه على المحقِّقين التوثُّق من نصِّه، وتدقيقه. 

ـ وإنْ كان يُقْوِي، فقد أقوَى قبله (امرؤ القيس) وغيره، على زَعْم من زَعَمَ من القدماء.(2) بيد أنَّ ما نرجِّحه أنَّ القوافي مكسورة أصلًا، إلَّا أنَّ أخطاء اعتورت أربعًا منها، ربما لأخطاء مطبعيَّة، وصوابها مجتمعة:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ إلى الناسِ

...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ

...على الأنخاب إذ تُقرع بالكاسِ

...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ

ومهما يكن، فإنَّ النصَّ يظلُّ تجربةً ضعيفةً من شِعر التفعيلة، لا نعلم أنَّ (الجواهري) كرَّرها!  وإنَّما الشاهد من هذا- مع نشر الشِّعر على عواهنه- إهمال بعض المحقِّقين، كما ينعتون أنفسهم، في الوفاء بما التزموا به من ضبطٍ وتحقيق. وإنْ اغتُفِر في النثر بعض ذلك أحيانًا، فإن الشِّعر لا يغتفره مطلقًا؛ لأنَّ تغيير حرفٍ أو حركةٍ في الشِّعر قمينٌ بارتكاب إساءةٍ إلى النصِّ والنَّاصِّ.

ـ دعك من هذا، وقل لي: لماذا انشغل شعراء المعارضة للشِّعر القديم- وعلى رأسهم (أحمد شوقي)- بمعارضة عُيون الشِّعر العَرَبي، ولم يجرؤ شاعرٌ كبيرٌ على إنشاء قصيدة معارضةٍ لقصيدة لـ(المتنبِّي)؟!

ـ أمَّا أنا فأرى أنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظْميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً. 

ـ أجل، لقد ظلَّ تقليد المقدِّمات الغَزَليَّة ساريًا في شِعرنا العَرَبيِّ القديم، حاملًا صِدق الشاعر العاطفي، حتى تكاد تكون تلك المقدِّمات هي الشِّعر في كثيرٍ من شِعرنا التراثي، بعيدًا عن المجاملات، والممالقات، التي تتبع تلك المقدِّمات.

ـ حتى لقد كان بعض الشعراء يُسرِف في إطالة تلك المقدِّمات إسرافًا فَجًّا بمعايير اللَّباقة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة. من ذلك مثلًا أنَّ (جريرًا) قال قصيدةً من عشرة أبياتٍ في البيعة لـ(عبد العزيز بن الوليد بن مروان) بولاية العهد، جعل ثمانية أبياتٍ منها مقدِّمة في الحنين إلى الديار والأحبَّة وبيتين فقط في غرضه من القصيدة. وهي القصيدة ذات المطلع:

عَفَا نِهْيَا حَمَامَةَ فالجَوَاءُ   :::   لِطُولِ تَبَايُنٍ جَرَتِ الظِّبَاءُ

كذا هي القصيدة في ديوانه.(3) ولئن أضافت بعض الروايات أبياتًا أخرى، فما يغيِّر ذلك من النتيجة، وهي أن المقدِّمة أطول وأشعَر. أمَّا (أبو الطَّيِّب المتنبِّي)، فقد كان يَصِل، بعد مقدِّماته الشِّعريَّة، من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض نفسيًّا.

ـ مِثل ماذا؟

ـ كثير جِدًّا. لقد كان يتخانع مع ممدوحيه إلى درجة التقديس والتسبيح بحمدهم.  وماذا بعد تأليهه لأحد ممدوحيه قائلًا:

وأَما وحَقِّـكَ وهْوَ غايَةُ مُقْسِمٍ  :::   لَلحَـقُّ أَنتَ وما سِـواكَ الباطِلُ

الطِّيْبُ أَنتَ إِذا أَصابَكَ طِـيْبُـهُ  :::   والماءُ أَنتَ إِذا اغتَسَلتَ الغاسِلُ

ما دارَ في الحَنَكِ اللِّسانُ وقَلَّبَتْ  :::   قَلَمـًا بِأَحسَنَ مِن نَـثاكَ أَنامِـلُ

فاغتسلَ، كما ترى، بهذا الخِزي؛ ليجعل ممدوحه الحقَّ المطلَق، لا شريك له ولا نظير في جماله وكماله!

ـ أيقول عاقلٌ لإنسان، كائنًا من كان: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»؟!

ـ نعم، إذا كان كـ(أبي الطيِّب)، سيقول! ونماذج أبي الطيِّب من هذا القبيل بلا حدود، ليس أوَّلها تسوُّله فضْلة كأس (أبي المِسْك)- الذي نعتَه من بَعد بالعَبْد المثقوب مشفره، حينما لم ينل فضله- ولا آخِرها قوله: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»، أو وصفه ممدوحًا بأنه «خَيرُ الخَلْق مِن خَيرِ الخَلْق»!  ومن الطرائف أنَّ (ابن جِنِّي)- الذي كان يصفه المتنبَّي بأنه أعلم بشِعره منه- شرحَ بيتًا شرحًا أثار سُخرية (ابن معقل)، من الشارح ومن الشاعر معًا، واصفًا إيَّاه بالرقاعة!  ذلك أنَّ أبا الطيِّب قال:

أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ   :::   وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ

فجاء (ابن جِنِّي) شارحًا: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!»  فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(4) وأقول: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا!  هذا، وكثيرًا ما يخطِّئ ابنُ معقل ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ.

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.

(2) نحن نرى أن ما سُمِّي (إقواءً) في الشِّعر القديم وَهْمٌ؛ إذ لم يكن عن عيبٍ في التقفية، بل عن لغةٍ كانت تستجيز إعرابًا يخالف ما قعَّدة النحويُّون، وفرضوه نحوًا زعموا أنه كان للُغة العَرَب كلِّها.  وقد تطرَّقنا إلى ذلك في مقارباتٍ سابقة.

(3) يُنظَر: (1986)، ديوان جرير، شرح: محمَّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمَّد أمين طه، (القاهرة: دار المعارف)، 667- 668.

(4) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77. 

للأديبة السورية سمر الديك

مقدمة: تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك نصاً سردياً غنياً بالدلالات والعلاقات البنيوية التي يمكن استكشافها من خلال المنهج البنيوي. يركز هذا المنهج على دراسة النص الأدبي باعتباره بنية متكاملة، مؤلفة من عناصر متداخلة تربطها علاقات داخلية، بهدف الكشف عن القوانين والأنظمة التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه.

1. بنية الشخصيات والعلاقات:

تتميز الرواية ببنية شخصيات معقدة، حيث تتنوع الأدوار والعلاقات بينها. يمكن تحليل هذه البنية من خلال الثنائيات الضدية والمتشابهة.

* هيفاء وعصام: يمثلان ثنائية زوجية، ولكن علاقتهما تشهد صراعات وتوترات، خاصةً بسبب تدخلات الأم والأخت. يمكن اعتبار عصام ممثلاً للسلطة الذكورية التقليدية، بينما تمثل هيفاء صوتاً نسوياً يسعى للتحرر. "اسمعي جيداً، وتذكري ذلك دائماُ: إنْ لمْ تعجبك طريقة عيشنا، وطريقة تصرفاتي معك، يمكنك أن تغادري البيت بلا رجعة، لقد سئمت هذه الحياة، وسئمت من نظراتك الغريبة هذه."[i] هنا يبرز صراع السلطة الذكورية.

لكن، من جهةٍ أخرى هيفاء وعصام يمثلان ثنائية متوافقة، على اعتبار أنهما زوجان يجمعهما الحب والهدف المشترك للأسرة والأولاد.. لنستمع إلى هذا المونولوج الذي يبرز مشاعر الرضا في قلب هيفاء… "أحمد الله على نعمة الحبّ الذي يسود في بيتنا، رغم بعض المنغصات، ولكن في كل بيت توجد من المشكلات التي قد تسبب المتاعب للجميع، لكن الأهمّ أنني وعصام نتبادل الاحترام والتفاهم في كل صغيرة وكبيرة، يجمعنا حبّ عميق، وهدف واحد مشترك، أن نتفانى من أجل مستقبل ولدينا[ii]."

* هيفاء وسوسن: تمثلان ثنائية ضدية، حيث تتسم علاقتهما بالغيرة والحقد. سوسن تمثل الشخصية السلبية التي تعيق سعادة هيفاء واستقرارها… "كم كانت سوسن تحمل ضدّها من الحقد والغيرة بسبب نجاحها في عملها! بينما هي فشلت حتى في الدراسة، وبقيت جليسة الدار لا تتوانى عن إثارة المشاكل داخل الأسرة، لسبب أو بدون سبب."[iii]

* هيفاء ورجل الياسمين: يمثل هذا الرجل عنصراً غامضاً ومتكرراً في حياة هيفاء، ويمكن اعتباره رمزاً للحب الضائع أو الحلم المنشود. علاقته بهيفاء تتجاوز الواقع لتلامس البعد الرمزي والصوفي…"لكن لمْ تعرف لماذا يتكرر حضوره معها؟! هذه هي المرة الثانية، هل سيعود مرة أخرى؟"[iv]

2. بنية الأحداث والحبكة:

تتكون حبكة الرواية من سلسلة من الأحداث المتداخلة التي تتصاعد وتيرتها تدريجياً. يمكن تحليل بنية الأحداث من خلال:

1. الصراع الرئيسي: يتمثل في صراع هيفاء من أجل الحفاظ على هويتها وتحقيق ذاتها في ظل القيود الاجتماعية والأسرية. "لا لن أضعف ولن أستسلم للمشاكل التي تحيكها سوسن وأمها بين الحين والآخر. سأقاوم كل تلك العقبات وأضع ملحاً على جرحي الذي ينزف بين الحين والآخر."[v]

2. الأحداث المحورية: تشمل زواج هيفاء، والصراعات الأسرية، وظهور رجل الياسمين، وأحداث الثورة السورية، وهجرة هيفاء وأولادها. يصف الاقتباس التالي بداية الثورة كحدثٍ محوريٍّ في الرواية:"… وكان العام 2011 عام الانتفاضة ضد الطغيان، والسياسات الرعناء التي أدخلت البلاد في نفق مظلم، نفق لا أحد يعلم له نهاية، سمعت هيفاء رنين الهاتف...واعتبرها ألم فظيع لم تعرف له سبباً…[vi]"

3. التوازي والتكرار: يتكرر ظهور رجل الياسمين كعنصرٍ دلاليٍّ هام، وكذلك تتكرر صور العنف والفقد. هذه التوازيات والتكرارات تساهم في تعميق المعنى الرمزي للرواية. "قبل أن تغلق النافذة، شاهدت رجلاً ينزف بغزارة، يقوم ويسقط، والرصاص ينهال عليه بلا رحمة، ما إن سقط على الأرض، حتى نظر الى الشرفة التي كانت خلفها هيفاء، رمقها بنظرة عتاب أوجعت قلبها، واستخرج من جيب قميصه الممزق والملطخ بالدماء، زهرة ياسمين لوّث بياضها دمه الحار، ولوّح لها بها، وسقط بلا حراك."[vii]

3. بنية المكان والزمان:

يلعب المكان والزمان دوراً هاماً في بنية الرواية، حيث يساهمان في تشكيل الأحداث والشخصيات.

بنية المكان:

تتنوع الأمكنة في الرواية، حيث تنتقل الأحداث بين البيت والمدينة والمزرعة وبلاد الاغتراب. هذه الأمكنة تمثل عوالم مختلفة لهيفاء، وتعكس تحولاتها النفسية والاجتماعية. لاحظ دفء اللغة في وصف البيت وتفاصيله الإنسانية: "كان بيتهم يغصّ بالنساء والرجال، كل شيء لم يكن طبيعياً فيه، لكنها بفطرة الطفولة لم تفهم ما يجري في بيتهم بعد ان كان آمناً[viii]."، وبرودها وحياديتها حين تصف مكانزالاغتراب، على الرغم من أن الراوي في كليهما هو الراوي العالم ذاته: "لقد حطّت رحالها أخيراً في مدينة مرسيليا، ثاني أكبر مدينة في فرنسا بعد باريس، فهي تُعد من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط[ix]".

بنية الزمان:

تتناول الرواية فترةً زمنيةً واسعةً، تمتد من طفولة هيفاء إلى نضوجها، وتشمل أحداثاً تاريخية هامة مثل الثورة السورية، وما تبعها من اغتراب. الزمن في الرواية ليس خطياً، بل يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل، ما يجعل السرد في حالة من الحيوية والتنقل القلق، الذي يشي بحال البطلة هيفاء القلقة غير المستقرة، المشتتة الذهن بين ذكريات عذبة، وحاصرٍ قاسٍ، ومستقبلٍ غامض. الاقتباس التالي يصف تأثير الماضي على الحاضر في وجدان هيفاء… "لمْ تغادر ذاكرة هيفاء تلك الليلة الشاتية الباردة، ولم يغادرها ذلك الصراخ والعويل اللذين حوّلا ذاك الصباح الى كابوس مرعب ظلّ يرافقها مدى الحياة!"[x].

4. بنية اللغة والأسلوب:

تتميز لغة الرواية بالشاعرية والرمزية، حيث تستخدم الكاتبة الصور الفنية والتشبيهات والاستعارات للتعبير عن المشاعر والأفكار.

* الرمزية: يعتبر الياسمين رمزاً محورياً في الرواية، حيث يمثل الحب والجمال والأمل المفقود. كما أن رجل الياسمين يحمل دلالات رمزية تتعلق بالخلاص والتحقق… "يا إلهي! ما الذي يحدث؟! لماذا أنا مرتبكة الى هذا الحدّ؟! مَنْ هذا الذي يحمل راية الوطن خفّاقة لوحده في هذا الطريق؟! أيعقل أن يكون هو نفسه رجل الياسمين؟!"

* التكرار: يتكرر استخدام بعض الكلمات والعبارات، مثل "الحزن" و"الفقد" و"الوطن"، للتأكيد على الثيمات الرئيسية للرواية. "لقد أصبح الإنسان قارةً للحزن[xi]..."، "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه[xii]"

* التناص: تحيل الرواية إلى بعض النصوص الأدبية والتاريخية، مما يثري دلالاتها ويمنحها عمقاً ثقافياً، يمثّل استحضار اسم جيكا، المناضل المصري في ثورة يناير ربطاً فكرياً بين الثورة في سوريا، وثورات الربيع العربي المتمثلة بثورة يناير في مصر، ومن ناحية أخرى، يمثل هذا التناص الحالة الإنسانية الشاملة لأبطال الثورة السورية، باعتبارهم ثاروا على الطغيان، وهي حركة ثورية عامة وقيمة إنسانية عليا، "هل أصبحت أمنية هذا الجيل الفتيّ، الجيل الذي بدأ يحلم بالحرية، والكرامة، والخبز، الجيل الذي بدأ يسعى الى تأسيس دولة للقانون، تحفظ البلاد والشعب، وتصون كرامته، وتحقق أمنياته في الحرية والتقدم والسلام، هل أصبح همّه اليوم أن يحظى بجنازةٍ كالتي حظي بها جيكا؟![xiii]"

5. الثنائيات الضدية على مستوى الموضوعات:

تعتمد الرواية على عدة ثنائيات ضدية تساهم في بناء الصراع الدرامي وتعميق الدلالات:

1. ثنائية الحب والكراهية: يتجلى صراع الحب والكراهية في علاقة هيفاء بكل من عصام وسوسن. "على الرغم من زواجهما التقليدي، إلاّ أنّ مشاعر الحبّ بينهما أصبحت رابطاً قوياً يربطهما، لكن الحياة لن تكون هانئة سعيدة كما يتمنى الانسان، فبعد ثلاث سنوات على زواجهما، بدأت المشاكل تطفو على السطح وتعجّ بأمان البيت، وكانت بوصلة الاتهام تتجه دائما صوب سوسن!"[xiv]

2. ثنائية الحياة والموت: يحضر الموت بقوة في الرواية، خاصةً مع أحداث الثورة والحرب، مما يخلق توتراً وجودياً. "لماذا يتكاثر الموت في بلادنا؟! ولماذا الرصاص يعشق أجساد أبنائنا الفتية؟!"[xv]

3. ثنائية الأمل واليأس: تتأرجح هيفاء بين الأمل في غدٍ أفضل واليأس من الواقع المرير. "يا كريم، يا صديقي العزيز...اكتشفت كأنَّني أعرفك منذ زمنٍ طويلٍ، لمحتُ في عينيك حزني... شعرت هيفاء بأنَّ سُحباً سوداء من الضياع تحتضنها...لكنَّها قاومت حتَّى لا تشعر باليأس[xvi]..."

4. ثنائية الشرق والغرب: تبرز ثنائية الشرق والغرب في انتقال هيفاء إلى فرنسا واكتشافها لثقافة مختلفة. "في الغربة، عليك أن تتكيّف مع المحيط الجديد الذي ساقك القدر إليه، وعليك الاندماج في هذا المجتمع الجديد[xvii]."

الخاتمة:

تعتبر رواية "ياسمين سومري" للأديبة السورية سمر الديك، بنيةً سرديةً متكاملة، تتداخل فيها الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة واللغة لتشكل عالماً روائياً غنياً بالدلالات. من خلال المنهج البنيوي، يمكننا الكشف عن العلاقات الداخلية التي تربط عناصر الرواية، وفهم القوانين التي تحكم بناء النص وتوليد المعنى فيه. تتناول الرواية قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية مهمة، وتقدم رؤيةً عميقةً للواقع السوري المعاصر وتجربة الاغتراب والبحث عن الذات.

***

دراسة نقدية بقلم: منذر فالح الغزالي

بون/ ألمانيا الاتحادية في 4/5/2025

........................

[i] ياسمين سومري ص 18

[ii] ياسمين سومري ص15

[iii]  ياسمين سومري ص14

[iv] ياسمين سومري ص26

[v] ياسمين سومري ص16

[vi][vi] ياسمين سومري ص28

[vii] ياسمين سومري ص25

[viii] ياسمين سومري ص34

[ix] ياسمين سومري ص82

[x] ياسمين سومري ص34

[xi] ياسمين سومري ص11

[xii] ياسمين سومري ص63

[xiii] ياسمين سومري ص 31

[xiv] ياسمين سومري ص16

[xv] ياسمين سومري ص23

[xvi] ياسمين سومري ص154

[xvii] ياسمين سومري ص63

 

الرؤية الفكرية والجمالية في "المجنون وبنت الحبر الناكرة" لِـ مجيدة محمدي

القصيدة التي بين أيدينا ليست مجرّد نص شعري، بل مرآة ناطقة لعلاقة الإنسان – لا الشاعر فحسب – مع اللغة، مع المعنى، مع الخوف، ومع فكرة الخلق ذاتها. إنها ليست فقط قصيدة عن الشعر، بل عن ذلك الصدع الخفيّ الذي يتكوّن في الروح حين تحاول التعبير عما لا يُقال، عن تلك الولادة المؤلمة لكل نص، التي لا تتم إلا على هيئة خيانة، أو على شفير الجنون. من هنا، تتجاوز القصيدة إطارها الجمالي لتُلامس بعمق أسئلة الإنسان الكبرى حول هويته، حريته، وحدود قدرته على الفعل والتعبير. "المجنون وبنت الحبر الناكرة" ليست قصيدة وصفية، بل ذات طابع درامي داخلي، تتصارع فيه الشاعرة مع النص الذي تكتبه، ويبدو في كل سطر أنه يكتبها أكثر مما تكتبه.

تبدأ القصيدة من صورة مقلقة: "أبجديةٌ مكسورة، / تزحف على أطرافها كالعقارب". الأبجدية، أداة الشاعر الأولى، توصف بأنها مكسورة، زاحفة، سامة. التشبيه بالعقارب لا يوحي فقط بالخطر، بل بالانفلات، بالسمّ الذي يسري في اللغة حين لا تكون تحت السيطرة. وحين تقول: "كلّما رتّبتها، / عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق"، فهي لا تعبّر عن خلل فني، بل عن انهيار العلاقة بين الإرادة والإنتاج؛ إذ أن القصيدة، حتى حين تُرتّب، تعود إلى حالتها الفوضوية، كأنها تحكمها قوانين داخلية لا تستجيب لنية الكاتب.

ثم تنتقل الشاعرة إلى وصف الكلمات لا كرموز، بل ككائنات عارية، مجروحة، متمردة: "بعض الكلماتِ، / تأتي حافية القدمين، / تُدمي السطور، / وتغادر بلا وداع". هنا تتجلى الرؤية الجمالية للشاعرة التي ترى في اللغة كائنًا يتحرّك بحرية، خارج منطق الطاعة. الكلمات تُدمي النصّ ثم ترحل، بلا اعتذار، بلا اعتراف، وكأنها لا تنتمي. إن الشاعرة – عبر هذا التصوير – تعبّر عن مدى هشاشة الإبداع، عن قصور السيطرة، عن التوحّش الذي قد تتلبّسه الكلمات حين تخرج من رحم القلق.

وتتبلور الرؤية الفكرية للقصيدة حين تقول: "كأنها تعرف أن لا قلبَ لي / ولا قبرَ لها". هذه الثنائية الحادة تكشف تمزّقًا عميقًا: ذات كاتبة بلا عاطفة، وكلمات لا تجد مستقرًّا. فالشاعرة تُحيلنا هنا إلى تجربة شعورية قاسية؛ إنها لا تكتب من الحب، بل من الفراغ، ومن الشعور بالتيه واللا انتماء.

ثم تُجسَّد القصيدة في صورة أنثى، لا على سبيل التأنيس البلاغي فحسب، بل ككيان نفسي عنيد: "هناك، في ركنٍ خفي من الرأس، / تجلس القصيدةُ، / تقضم أظافرها بأسنانها". إنها صورة لامرأة قلقة، عصبية، تختبئ في العقل، لا تخرج إلا حين تشاء. وتتابع: "تضحك... تهمس للمداد، / 'لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء... / أنا الأنثى التي لا تلين'". بهذه العبارة، تعلن القصيدة عن تمرّدها، استقلالها، ورفضها للتشكيل حسب إرادة الكاتب. وهذا التصوير يعطي للنص بعدًا فلسفيًا عميقًا: القصيدة ليست طيّعة، وليست انعكاسًا لرغبة، بل كيان مضاد، ذو إرادة خاصّة.

في لحظة اعتراف نادرة، تقول الشاعرة: "هي تعرف... / أنني أكتبها، / لا حباً... / بل لأنني أخافها". هنا تنقلب العلاقة تمامًا، إذ يصبح الفعل الإبداعي وليد الخوف لا الإلهام. القصيدة تُخيف لأنها تجرّد الذات، وتكشف عمقها، وتفرض عليها إعادة النظر في وجودها، ولأنها – كما ستظهر لاحقًا – تشبه الشاعرة نفسها في تمردها وتشرّدها.

وتتتابع الصور التي تدعم هذا البعد، منها على سبيل المثال: "في كل بيتٍ منها / رائحةٌ تشبه الخيانة". فكل مقطع من القصيدة يحوي طيف خيانة، ليس بالضرورة خيانة حبيب، بل ربما خيانة الذات، خيانة الأمل، خيانة الفكرة الأصلية التي تشوّهها اللغة حين تترجمها. وهذه الخيانة تتجلّى في شكل بصري حاد: "أحرُفُها، / كأظافرٍ نَمَت في العتمة، / تخدشني... / ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه". الشعر هنا لا يداوي، بل يخدش. لا يعالج، بل يفتح جراحًا جديدة، ثم يبتسم بلا مبالاة، كما لو أن القصيدة هي الجلاد الجميل الذي يؤذي من دون تذكّر أو ندم.

ويُستمر في إبراز مراوغة القصيدة وتمنّعها، حيث تقول: "كلّما أوشكت أن تكتمل، / تمدّ ساقاً من الفراغ، / وتفرّ". إن لحظة الاكتمال تُقاطع دائمًا بفعل الغياب. القصيدة تقف عند حافة التحقّق، لكنها تهرب، تترك الشاعرة في منتصف المعنى، كمن "يعدّ المقاطع، / كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة". هذه صورة ذات بُعد شعري وفكري في آن؛ فعدّ المقاطع لا ينتج معنى، بل يستحضر عبثية التشريح دون روح، كأن القصيدة، حين تُفرض بالقوة، تصبح جثة بلا حياة.

ويبلغ التوتر ذروته حين تقول: "كلّما ناديتُها باسمٍ، / قالت: لستُ أنا. / كلّما خلعتُ لها المعاني، / ارتدت قناعاً آخر". هنا يتجلّى جوهر الرؤية الفكرية في النص: المعنى دائم المراوغة، لا يُمسَك، لا يُعرَّف، لا يُوضع في قالب. اللغة تخدع، وتتنكّر، وتُنتج من السؤال ألف سؤال، ومن الوجه ألف قناع. فالقصيدة لا تصل إلى يقين، بل إلى "سؤال جديد" يُغرس في الجبين، في استعارة توحي بالألم والدوام.

وفي مفارقة وجودية قاتلة، تعترف الشاعرة أن القصيدة لا تزورها في الحلم، بل "تنام في قلمي، / وتستيقظ حين أنام". هنا نكتشف الوجه الآخر للقصيدة: ليست حُلُميّة، بل واقعية، ليلية، تظهر حين يغيب الوعي، وتتحكّم بالأداة (القلم)، فتكتب من تلقاء نفسها. هي كينونة مستقلة تسكن الأداة وتفرض سلطتها.

أما النهاية، فهي اعتراف ملؤه الألم والفقد: "كتبتُ غيرها، / أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة، / لكنها... / هي وحدها / اللعنةُ التي تشبهني". الشاعرة تعلن أنها كتبت الكثير، لكنها لم تُشبه إلا هذه، لأنها قصيدة تشبهها في وجعها وتشرّدها وتمرّدها. إنها قصيدة ليست نتاج إلهام، بل لعنة، ليست بنتًا مطيعة، بل مرآة مكسورة للذات.

في الختام، يمكن القول إن الرؤية الفكرية في هذه القصيدة تقوم على تقويض مركزية الكاتب، لصالح قصيدة تتمتع بوعي ذاتي، وتمرّد وجودي، ولا تخضع للعرف أو المعنى المستقر. أما الرؤية الجمالية، فهي تقوم على صور مدهشة، مليئة بالعنف الرمزي، والمفارقة، والخوف، مما يجعل من النصّ تجربة وجودية وجمالية مكثّفة، تحمل في طياتها السؤال الأكبر: من يكتب من؟ الشاعر أم القصيدة؟

***

بقلم: سمير اليوسف

Alyusef Sameer

.......................

المجنون وبنت الحبر الناكرة

بقلم: مجيدة محمدي

***

أبجديةٌ مكسورة،

تزحف على أطرافها كالعقارب،

كلّما رتّبتها،

عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق.

بعض الكلماتِ،

تأتي حافية القدمين،

تُدمي السطور،

وتغادر بلا وداع...

كأنها تعرف أن لا قلبَ لي

ولا قبرَ لها.

هناك، في ركنٍ خفي من الرأس،

تجلس القصيدةُ،

تقضم أظافرها بأسنانها،

تضحك... تهمس للمداد،

"لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء...

أنا الأنثى التي لا تلين "

هي تعرف...

أنني أكتبها،

لا حباً...

بل لأنني أخافها.

في كل بيتٍ منها

رائحةٌ تشبه الخيانة،

أحرُفُها،

كأظافرٍ نَمَت في العتمة،

تخدشني...

ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه.

كلّما أوشكت أن تكتمل،

تمدّ ساقاً من الفراغ،

وتفرّ،

تتركني أعدّ المقاطع،

كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة .

كلّما ناديتُها باسمٍ،

قالت: لستُ أنا.

كلّما خلعتُ لها المعاني،

ارتدت قناعاً آخر،

وغرست في جبيني سؤالاً جديداً.

إنها هي...

الناكرة،

التي لا تزورني في المنام،

لكنها تنام في قلمي،

وتستيقظ حين أنام.

كتبتُ غيرها،

أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة،

لكنها...

هي وحدها

اللعنةُ التي تشبهني...

 

شكلت رواية يولسيس أوعوليس كما ترجمتها بعض دور النشر الى العربية، كواحدة من روائع الأدب العالمي التي تركت بصمتها على الأجيال اللاحقة، وشكلت إنعطافاً في الأعمال الأدبية فيما بعد، كما صنّفها النقاد في القرن العشرين، وتعد  أبرز أعمال الكاتب الأيرلندي جيمس جويس، حيث تم نشرها في عام 1922، إذ تقع أحداث الرواية في يوم واحد في حياة بطل الشخصية الرئيسية، ليوبولد بلوم، فهي تعتمد على هيكل زمني دقيق وتقنيات أدبية متقدمة وعالية الدقة. فإذا أردنا أن نحدد الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية عوليس، لابد من الإشارة الى هيكل الوقت، تمتاز هذه الرواية بتقنيات هيكل الوقت المعقدة والمتداخلة الأحداث، وتكون هذه الأحداث في خلال يوم واحد فقط، مما تتضمن تداخلًا ضمنياً مع الذكريات والتفكيرات الداخلية للشخصيات، ليخلق تأثيراً زمنيًا فريدًا، كذلك يعزز عمق السرد وفي معنى أعمق دون ترهل في ثيمة النص والبناء الروائي.

لقد إستخدم جيمس جويس تقنية السرد الداخلي للكشف عن تفكير الشخصيات ومشاعرها الداخلية، مما يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى الرواية، ذلك أن جيمس جويس يتقن الأسلوب اللغوي بشكل استثنائي، ويعد أسلوبه اللغوي غنيًا بالرموز والتشبيهات، إذ يُظهر اللغة بدقة مشاعر الشخصيات والتفاصيل الدقيقة للبيئة التي يعيشون فيها. فالرواية تحتوي على العديد من الرموزالتي تضيف طبقات إضافية من الدلالة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن نهر الليفي يمثل الحياة والتغيير وعدم الاستقرار، حيث يمنح الكاتب صورة تستحق التوقف عندها لمعنى التغير في طبيعة النهر التي يمزج فيه الحياة والتغيير من جهة، وحالة عدم الإستقرار من جهة أخرى كمعادل موضوعي في شخصية البطل القلقة.

كما تتناول الرواية مواضيع مثل الحب والوحدة بشكل فنتازي، وتظهر علاقة بطل الرواية ليوبولد بلوم وزوجته (مولي) بأسلوب معقد، فالكاتب يسعى أن يضع الأثنين تختلط عندهما مشاعر الوحدة والإغتراب، دون المساس بهارمونية تصاعدية في حبكة خيوط الرواية. فرواية (عوليس) تجريبية بشكل كبير في هيكلها وأسلوبها، وتمزج بين الواقع والخيال بطريقة مبتكرة، وتعرض تجارب جديدة في الكتابة، يكاد تفرّد بها جويس لوحده، كما يمكن أن يكون فهم هذه الجوانب الفنية والدلالات الإبداعية في رواية (عوليس) مفتاحًا لتقدير عمق وتعقيد هذه الرواية الأدبية الكلاسيكية. وقد شكك البعض في الحالة النفسية لشخصية الكاتب، إلا إنه ليس هناك دليل قاطع يشير إلى أن جيمس جويس، كان مريضًا نفسيًا، إذ كان معروفًا بتأثير أعماله الأدبية بتفكيره العميق ولغته الغنية، ولم يكن هناك تأكيد مستند أو أدلة تشير إلى أنه كان يعاني من مشاكل نفسية بشكل خاص.

تقنيات الرواية والدلالات الفنية

 إن الرواية تعدّ واحدة من أكثر الأعمال تعقيدًا وعمقًا في الأدب العالمي، تم تأليفها بأسلوب فريد ومتشابك، وتحتوي على تجارب أدبية متنوعة، كما تستند إلى ملحمة هوميروس وتروي حكاية بطل الرواية ليوبولد بلوم، فضلاً عن تميّزها بتعقيداتها اللغوية وهيكلها الفني. فالمتلقي للرواية يلاحظ تسارعاً في الأحداث أو إنخراطًا عميقًا في النص، وقد يكون ذلك نتيجة للأسلوب الأدبي الفريد الذي أختاره جويس للتعبير عن أفكاره ورؤيته الفنية، وليس بالضرورة بسبب مشاكل نفسية في شخصيته.

لقد رسم جميس جويس بطله ليوبولد بلوم بتعقيد كبير، حيث يُظهر جويس الطبائع المتعارضة لشخصية بطله، مما يجعلها بنفس الوقت شخصية غنية ومعقدة، كما تظهر شخصية بلوم في الرواية، كشخص يفكر بشكل عميق ويتأمل في مختلف جوانب الحياة، حيث تتوزع ويتنوع تفكيره بين القضايا العامة والخاصة.

كما يشير جويس الى تعدد الهوايات في شخصية البطل، وهو يعطي هذه الشخصية كرجل متنوع الاهتمامات والهوايات، وهو ينتمي الى عدة جوانب من المجتمع وأفراده الذي يحيطون به من كل المستويات والمراتب الفكرية والطبقات الاجتماعية العادية من شرائح الواقع الذي يعيشه من حوله. ففي فصول الرواية تجد بطله، كيف يتأثر بالبيئة المحيطة به في العاصمة دبلن، وكيف يتفاعل مع الناس والأماكن بطرق مختلفة، مما يلقي الضوء على دور البيئة وتأثيرها في النفس البشرية.

إن جويس، يقدم من خلال شخصية بطله رؤية معقدة للحياة، حيث يتعامل مع مفاهيمها، مثل الوجود والزمان بطرق فريدة ومعقدة. إذ تكمن القوة الرئيسية والبعد الدرامي في كتابات جيمس جويس، من خلال تصويره للأنفعالات الانسانية التي يرسمها في أبطاله،  وما يصطلح عليه (بتقنية تيار الوعي) التي تسمح بتدفق الأفكار ( Stream of Consciousness ) حيث أعتمد جويس في يوليسيس بشكل رئيسي على تقنية تيار الوعي والمشاعر الداخلية للشخصيات، كما تجري في ذهن الإنسان، دون ترتيب منطقي أو تسلسل تقليدي.

تُستخدم هذه التقنية بشكل خاص في تتبع أفكار ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس، بطلي الرواية، وتكشف عن أعماقهما النفسية بأدق التفاصيل. فضلاً عن (التعدد الأسلوبي) فكل فصل في الرواية يُكتب بأسلوب مختلف، من السرد الواقعي الى المحاكاة الساخرة للنثر الصحفي، أو التمثيل المسرحي أو اللغة العلمية، أو التهكم الأدبي، ما يجعل الرواية مختبراً أسلوبياً وتجريبياً بأمتياز. هذا التعدد ليس تزيين لغوي بل يعكس تغيّر الوعي والزاوية التي يُنظر بها الى الأحداث.

أما من الناحية الزمانية والمكانية، تجري أحداث الرواية خلال يوم واحد فقط يوم 16 يونيو 1904، في مدينة دبلن، ومع ذلك فأن هذا الإطار الزمني الضيق يُفتح على مصراعيه من خلال التداعيات والاسترجاعات والتخيلات الذهنية، مما يجعل الزمن الداخلي للرواية أكثر إتساعاً وعمقاً. أما مدينة دبلن، فقد حوّلها جويس الى مدينة أسطورية، ووثقها بجغرافيا دقيقة تعادل في رمزيتها طروادة أو أثينا القديمة.

إن رواية يوليسيس مبنية على هيكل ملحمي يُحاكي الأوديسة لهوميروس. فكل فصل يقابل مغامرة من مغامرات أوديسيوس، لكن جميس جويس، يحوّلها الى معادل يومي عادي، حيث يتحول البحر الى شوارع دبلن، والسفر الملحمي الى جولة في الحانات أو الأسواق. هذه المفارقة بين الحدث العادي والرمز الملحمي تُكسب الرواية طابعاً مزدوجاً من السخرية والتعظيم.

الإنسان ككائن يومي وأسطوري وهوية وأنتماء

إن الرواية في جوهرها، تُعيد لنا يوليسيس بتعريف البطل، إذ لم يعد البطل هو الفارس أو الملك أو الإله، بل هو الإنسان العادي (البطل ليوبولد بلوم) الموظف البسيط اليهودي، الغريب عن المجتمع، الذي يخوض رحلته الذاتية في عالم ملئ بالتناقضات. هذا التحول من البطولة الكلاسيكية الى (بطولة الحياة اليومية) هو جوهر الحداثة.  فالرواية تتناول أسئلة الهوّية الشخصية والوطنية والدينية، بلوم، كيهودي في مجتمع إيرلندي كاثوليكي، يمثل الآخر، والمهمش، والمنفي داخل وطنه. بينما يمثل ستيفن ديدالوس صراع المثقف مع السلطة السياسية والدينية، وبحثه عن (أب رمزي) أو مرشد روحي.

ففي الرواية، تصبح اللغة بطلة بحد ذاتها، تتشكل وتتغير وتتلاعب بالواقع. حيث يتعامل جويس مع اللغة كخامة قابلة للنحت والتشكيل، مما يجعله من أبرز مجددي التعبير الأدبي. هذا الاستخدام المفرط للغة يوصل الى مفارقة التي هي؛ كلما غاصت الرواية في التفاصيل، أقتربت من المطلق والكوني.

إن قراءة رواية يوليسيس ليست نصاً يُقرأ مرة واحدة، بل عمل مفتوح على قراءات متعددة ومتغيرة، قابلة الى التأويل اللامحدود، مما يتيح لكل قارئ أن يخلق تجربته الخاصة به. أما كثافة الإشارات التأريخية والأسطورية والدينية واللغوية تجعل الرواية بمثابة متاهة سردية تحتاج الى تأمل دائم.

يوليسيس ليست مجرد رواية، بل مشروع أدبي وفلسفي وفني في آنٍ معاً. إنها تحدٍ للقارئ، ومغامرة فكرية للكاتب، وتجسد لحلم الحداثة في أن يكون الأدب مرآة عميقة للواقع والخيال معاً. إنها ومن خلال التداخل المعقد بين التقنيات السردية والدلالات الرمزية، قدّم جويس عملاً، ما يزال الى اليوم موضوعاً للبحث والدراسة والجدل والإعجاب.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

بين تفكيك البنية وتأسيس الرؤيا..  قراءة نقدية في نص مرشدة جاويش

The Spring of Estrangement”: Fragments of the Feminine Self between Structural Deconstruction and Establishing the Vision – A Critical Reading of Morshida Jawish’s Poem

التمهيد التأويلي: في قصيدتها "نبعة التغريب"، لا تكتب الشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعرياً تقليدياً، بل تنتج نصاً مفتوحاً يتماهى مع قصيدة النثر الحديثة، التي – وفق توصيف سوزان برنار –

"تتوافق مع العزلة، تكتب من الهامش وتمنح اللا معنى شكلاً بنيوياً ."

إنها قصيدة لا تكتفي بتصوير الغربة بوصفها تجربة خارجية، بل تنقلها إلى مستوى وجودي، حيث تصبح الذات الأنثوية مأخوذة بقلق التمزق والتشتت الإدراكي.

تتجه هذه القراءة إلى مساءلة مستويات النص الجمالية والدلالية، ضمن مقاربة مزدوجة: تفكيكية تقوض الثبات البنيوي، وأنطولوجية تتقصى صيرورة الذات من داخل العزلة والغياب.

بنية القصيدة وغياب المركز: تتأسس البنية الداخلية لقصيدة نبعة التغريب على تفكيك النظام الشعري التقليدي، عبر الانقلاب على مفهومي الخطية الزمنية والمركز الدلالي. لا يحضر الزمن بوصفه امتداداً سردياً، بل كحالة مائعة، غير محكومة بالتتابع أو العلة. منذ مفتتحها تقول الشاعرة:

"أصداء لأورادٍ سقاها العشق..."

وهي جملة تفتقر إلى اكتمال نحوي ودلالي، ما يعكس استراتيجية تأجيل المعنى (différance)، كما نظر لها جاك دريدا حين قال:

"المعنى ليس ثابتاً، بل يتولد عبر الفروق والانزياحات، وكل نص يحمل تناقضه في داخله."

هنا يتعذر الإمساك بمركز دلالي صلب، إذ تمضي القصيدة في تفكيك بنيتها عبر سلاسل من الصور المنفلتة، كقولها:

"الجرح أوسع من ظلال الشمس"

حيث لا تعمل الاستعارة على التوصيل، بل على زعزعة مرجعية المعنى، وخلق فجوة تأويلية. فـ"الجرح" يتجاوز إشراق "الشمس"، في دلالة على ألم تتسع رقعته خارج حدود الفهم أو الإضاءة. هكذا، يتبدّى غياب المركز لا كفقد، بل كبنية جمالية تعكس تهشيم المعنى وتمرد الذات على انتظامه.

الرؤية الوجودية – الذات في مرآة الغربة: تنفتح قصيدة نبعة التغريب على أفق وجودي يتجاوز تمثيلات الغربة بوصفها تباعداً مكانياً، لتغدو الغربة في النص تجربة روحية عميقة، تؤطر الذات داخل دائرة من العجز الإدراكي والانكسار الشعوري. فالشاعرة تكتب الغربة لا كمفارقة مكان، بل كشرط أنطولوجي يتجلى في قولها:

"فالشمس باردة... وغربة روحي الثكلى يلاحقها الوهن..."

هنا تتلاشى دلالات النور والدفء لتحل محلها صورة الانطفاء والانهيار الداخلي. يغدو الإشراق رمزاً ميتاً، وتتحول الرغبة إلى سكون وجودي، يتناغم مع ما يسميه مارتن هايدغر:

"الانكشاف على العدم بوصفه شرطاً لوعي الكائن لوجوده."

في هذا السياق، تظهر الذات الشعرية كمعلقة بين ثنائية الفقد والانبعاث، تصوغ وجعها لا بوصفه معاناة فحسب، بل كحالة إبداعية تنتج رؤية. تقول:

"أنا الوحيدة، أرتقي بالهم موج الغارقين..."

وهي عبارة تنقل الذات من موقع الانكسار إلى مقام التأمل، حيث الألم ليس نقيضاً للحياة، بل أحد شروط تشكلها. هكذا لا تتماهى الشاعرة مع الحزن، بل تعيد تشكيله كأداة لفهم الذات والعالم.

اللغة الرمزية وصراع الإدراك: اللغة في "نبعة التغريب" لغة متوترة، تتأرجح بين الحسي والرمزي، وتبني عوالمها من مفردات الطبيعة والأصوات (النخلة، الصقيع، الناقوس، اليمامة). تتجلى في قولها:

"كيف أراك؟ حين أراك يمامة مذبوحة، بالدم تمسح كل آثام البشر..."

الصورة هنا لا تكتفي بتمثيل الضحية، بل تمنحها وظيفة تطهيرية تعيد للوجود شيئاً من التوازن. وهذا يتقاطع مع ما تراه جوليا كريستيفا في كتاباتها عن الكتابة الأنثوية:

"الكتابة تعبير عن ذات مهددة، تفكك النظام الرمزي وتعيد بناءه من موقع الهامش."

الأنوثة كمنفى ورؤية صوفية: القصيدة تعبر عن ذات أنثوية تغترب عن عالمها، لكنها لا تستسلم. بل تصوغ جمالية الخسارة كطقس تطهيري. تقول:

"ينتظر شمّاعة للعاجزين على الوصول..."

وفي موضع آخر، تستحضر البعد الصوفي:

"رابعة اللقاء يدعو فراشات الترقب..."

هنا تحضر رابعة العدوية كأيقونة صوفية، تعكس بعداً رؤيوياً  يعيد تعريف الألم بوصفه طريقاً للوصال.

أفق المقارنة – تشظيات الذات في التجربة الشعرية العالمية:

لا تنفصل تجربة "نبعة التغريب" عن الامتدادات الكونية لثيمات العزلة وتفتت الذات في الشعر النسوي العالمي، حيث تتقاطع مع ما نجده مثلاً في شعر سيلفيا بلاث، التي كتبت عن الانهيار الداخلي كمرآة لتمزقات الوعي الأنثوي الحديث، أو في قصائد إميلي ديكنسون التي تحول العزلة إلى فضاء تأملي حميم. ففي كلا التجربتين، كما في نص الشاعرة مرشدة جاويش، لا تطرح الذات بوصفها كياناً منجزاً، بل ككائن قيد التشكل، يستولد رؤيته من داخل الألم والانفصال. هذا التوازي يبرز كيف تتحول اللغة إلى آلية مقاومة، تكتب الهامش وتعيد بناء الهوية خارج المركزيات السردية والاجتماعية.

وبالتالي يمكن القول أن  "نبعة التغريب" ليست نصاً رثائياً للذات بقدر ما هي مشروع شعري يعيد بناءها من داخل الانكسار. فالشاعرة مرشدة جاويش تكتب الغربة كفعل وجودي، يعيد للذات وعيها عبر لغة متوترة، مشبعة بالصور والانزياحات. يتشابك في النص البعد التفكيكي، حيث يتوارى المعنى خلف التشظي والاختلاف، مع البعد الأنطولوجي الذي تسائل فيه الذات وجودها من قلب العزلة. وهكذا، تتجلى القصيدة في نهايتها كتمثيل شعري لـ"الغياب الحي"، حيث لا يكون الغياب نهاية، بل أفقاً مفتوحاً للانبعاث الشعري، ونداءً داخلياً للحياة من تخوم الوجع والوعي

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

تشكيل الحروف هو وضع العلامة التى تمثل حركة نطق الحرف، ووضعها على الحرف الأخير هو ما يمثل الموقع الإعرابى للكلمة. ولم يكن العرب يعرفون هذا التشكيل ولم يكونوا فى حاجة إليه، فالعربى بسليقته اللغوية الفذة ينطق ويقرأ المضموم مضمومًا والمفتوح مفتوحًا والمكسور مكسورًا دون خطأ واحد. ذلك بالملكة اللغوية دون درس أو تقعيد، تلك السليقة هى التى أخذنا منها التقعيد، فالقدماء كانوا يتحدثون بالسليقة دون خطأ، أما نحن فنتحدث بما يطابق القواعد ونخطىء. العربى القديم يتحدث دون استحضار وبذل مجهود، أما نحن فنستجمع ونستحضر كل قواعد اللغة فى رؤوسنا لكى نتحدث لغة سليمة محاولين ألا نخطئ.

ولمَّا تفشى اللحن والخطأ فى اللغة وضعفت الملكة العربية، احتاج القارئ لوضع علامات على الحروف تبين هيئة نطق الحرف. ومن ذلك يمكننا أيضـًا أن نضع تعريفـًا آخر لتشكيل الحروف، وهو: العلامات التى تبين هيئة نطق الحرف. وكان الباعث الأول فى ذلك هو الحفاظ على الموقع الإعرابى والنطق السليم لحروف القرآن الكريم، وكما نعلم أن حركة واحدة لو اختلفت لتغير المعنى. فلو قلت أو نطقت: ما أحسنَ المساء، لاختلف المعنى عن قولك أو نطقك: ما أحسنُ المساء. فالأولى بفتح النون صارت جملة تعجبية. أما الأخرى بضم النون صارت استفهامية، فصارت تحتاج إلى جواب، فإن قيل أو نـُطق: ما أحسنُ المساء ؟ لقيل: الهدوء، نجومه، سكونه، خواطره... أى شىء من ذلك.

واستدعى ذلك أيضـًا ما فى القرآن الكريم من تقديم وتأخير، ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر / 28]. فلولا التشكيل الذى نقل إلينا الآية على معناها الصحيح، لتوهمنا أن الله هو الذى يخشى من العلماء، لكن "الله" منصوبة، فنعلم أنها مفعول به مقدم، و" العلماء " مرفوعة، فنعلم أنها فاعل مؤخر، إذن العلماء هم الفاعلون، فهم الذين يخشون الله تعالى، هم الذين قاموا بفعل الخشية. من هنا باتت الضرورة ملحة لوضع علامات تمكننا من النطق الصحيح والقراءة الصحيحة لما هو مكتوب.

وكان السبق فى ذلك الابتكار يرجع إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى المتوفى 170هـ. إذ ابتكر أشكالا توضع فوق أو تحت الحرف لتبين هيئة نطقه، فابتكر شرطة توضع أعلى الحرف لتدل على نطقه مفتوحًا، وشرطة توضع أسفل الحرف لتدل على نطقه مكسورًا. وفتحتان لتدلان على تنوين الفتح، وكسرتان لتنوين الكسر. والواو الصغيرة للضم لأن الواو هى أكثر الحروف مناسبة للضم فاختاره رمزًا وعلامة للضم، وتكرارها يدل على تنوين الضم. والهاء المعقودة للحرف الساكن.

فهذه العلامات أو الأشكال يرجع فضلها إلى الخليل بن أحمد الفراهيدى، فبهذه العلامات قد حُفظت لنا قوامة اللسان وسلامة اللغة. ومن ناحية أخرى وزاوية أخرى جديدة تمامًا، فإن هذه العلامات قد أسهمت فى تنميق الحروف والخطوط وإكسابها شكلا جماليًا فريدًا، هو بحق لا نراه فى لغة إلا العربية، تلك رؤية فنية وجمالية فريدة تقف جنبًا إلى جنب جوار الغرض والهدف الرئيس وهو حماية ووقاية لسان القارىء من النطق الخاطىء.

وختامًا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من المتعة والإفادة والمعرفة الأصولية فيما تعلق بتشكيل الحروف وفضل العالم اللغوى الكبير الخليل بن أحمد، مبتكر وصاحب فكرة تشكيل الحروف. وللقارىء الكريم خالص التحية والمودة.

***

د. أيمن عيسى - مصر

تُعدّ رواية القربان للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان واحدة من أبرز روايات الواقعية الاجتماعية في الأدب العربي، إذ ترصد بانتباه تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين في منتصف القرن العشرين، وتغوص في أحوال المهمّشين والمغلوبين على أمرهم في مواجهة تحولات قاسية، سياسية واجتماعية. ومن بين المقاطع اللافتة في الرواية، يأتي مشهد الزورخانة بوصفه تصويرًا كثيف الدلالة لمكان شعبي، يتجاوز كونه فضاءً رياضيًا، ليتحول إلى رمز للهروب المؤقت، والتشبث بما تبقى من توازن داخلي.

يبدأ المشهد بعبارة بسيطة: “راح أغيب كم دقيقة”، لكنّ هذه الجملة، رغم بساطتها، تعبّر عن نزعة داخلية لدى الشخصية للابتعاد عن ضجيج الحياة. فالخروج من المقهى إلى الزورخانة ليس تحركًا عشوائيًا، بل هو فعل انسحاب رمزي من واقع خانق إلى مكان أكثر سكينة، وأكثر التصاقًا بالجسد، وربما بالذكريات أيضًا. هنا، يصبح “الغياب” لحظيًا، لكنه غني بالمعنى.

الزورخانة، كما يصفها المؤلف، ليست صالة رياضية بالمعنى الحديث، بل بيت قديم مجهول الأصل، تنهشه الرطوبة والمطر، وتكسوه طبقة من الإهمال والعزلة. وصف المكان يأتي بتفاصيل دقيقة: الجفرة المثلمة، الدكة الطينية، الحصير المهلهل، والسقف الذي يتسرب منه المطر. كلّ عنصر من هذه العناصر يحمل دلالة خفية. الجفرة، التي كانت في الماضي مركز الحركة والنشاط، أصبحت مهجورة، كأنها استعارة لحالة المجتمع أو لروح الإنسان التي أصابها الوهن. المطر الذي “ينقع الجدران” و”يتسرب من خلال السقف” لا ينظف المكان، بل يضاعف عزلته وانهياره.

اللافت في هذا المشهد أنّ المؤلف لا يصف الزورخانة كفضاء خاص ببطل الرواية وحده، بل يجعلها تنتمي للمجتمع المحلي بأكمله. إنّها “زورخانة المحلة”، تمامًا كما أنّ مقهى “دبش” هو مقهى أهل الطرف. الزورخانة هنا تتحول إلى مؤسسة مجتمعية، لكنها ليست رسمية أو منظمة، بل عفوية بسيطة صادقة. إنها من الأماكن التي تحافظ على طابعها الشعبي، والتي يلجأ إليها الناس متى أحسّوا بثقل أجسادهم أو ضيق صدورهم. بهذا المعنى، يصبح المكان ذاته نوعًا من “القربان”، تضحية بالوقت والجهد والجسد في سبيل الحصول على قدر من السلام الداخلي.

أما مستوى السرد، يتعامل غائب طعمة فرمان مع المكان بوصفه شخصية موازية، لا تقلّ حيوية عن الشخصيات البشرية. فهو يمنح الزورخانة ملامح حسية واضحة، ويجعل القارئ يشعر بخشونة جدرانها، وبرودة أرضها، وبروائحها القديمة. بل إنه، من خلال هذه التفاصيل، يزرع إحساسًا بالزمن الذي مرّ عليها، وكأنها شاهد على تحول الأجيال والمجتمع.

ما يميز هذا المشهد أيضًا هو ارتباطه العميق بالثيمة العامة للرواية: ثيمة التآكل والبقاء. في عالم يبدو وكأنه يسير نحو التفسخ، تتشبث الشخصيات بالأماكن التي تمنحها شيئًا من الثبات. الزورخانة، رغم هشاشتها، تمنح بعض الشخصيات لحظة صدق مع الجسد، مع التعب، وربما مع الذاكرة. ممارسة التمارين فيها ليست فعلًا رياضيًا فحسب، بل طقسًا وجوديًا يعيد للإنسان صلته بالأرض وبنفسه.

 إنّ مشهد الزورخانة في القربان لا يمثل فقط محطة سردية عابرة، بل يكشف عن البنية العميقة للرواية التي تمزج بين وصف الواقع وتحليل النفس، بين اليومي العابر والدلالة الرمزية. وبهذا، يبرهن الكاتب على قدرته الفذّة في تحويل أبسط الأماكن إلى مرايا كاشفة لحياة بأكملها.

***

فؤاد الجشي

 

قراءة نقدية لقصيدة "حبُّ امتناعٍ لامتناع"

 للشاعر جوادغلوم 

***

 المقدمة: بين الحب والخذلان... الوطن في مرآة القصيدة

تُعدّ قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" نموذجًا شعريًا مركبًا يدمج بين البعد الشخصي والسياسي، حيث تتزايد التساؤلات حول الانتماء، والخذلان، والهوية الوطنية التي تُهدد تحت وطأة خطاب سلطوي وطائفي يعيد نفسه من خلال الإقصاء بدلاً من المشاركة. لا يرسم الشاعر وطناً مثالياً، بل يضع القارئ أمام وطن مأزوم يكافح تحت سيطرة قوى الهيمنة، حيث تُفرغ المفاهيم الثورية من محتواها لصالح مشاريع طائفية تتجاهل قيم العدالة والحرية. بهذا الصدد، تتجاوز القصيدة كونها مجرد تعبير عاطفي لتصبح أداة مقاومة رمزية تعيد مساءلة العلاقة بين المواطن والوطن، وتكشف تواطؤ السلطة في تشويه الهويات الجمعية.

في هذا المشهد المعقد، يصوغ الشاعر جواد غلوم لوحة شعرية مليئة بالتوتر الذي يجمع بين العاطفي والسياسي، حيث تظهر علاقة غامضة بين الفرد والوطن متنازعة بين الولاء والخداع. يتأرجح النص بين آمال التغيير والحلم بالعدالة وبين انهيار هذه الآمال بفعل الفساد وعدم السعي للتجديد. تبدو الذات الشاعرة محاصرة بين ولائها العاطفي لوطن يُصارع الأزمات وصدمات الواقع السياسي الذي يعيق الطموحات.

يظهر الوطن في هذا النص ككيان متناقض يجمع بين الحب والاغتصاب، الوجود والغياب. يطلب الشعر لكنه يمنع الاقتراب، يغني للحب ويبقى صامتاً إزاء الجراح. يتغلغل هذا التوتر العاطفي في بنية القصيدة وإيقاعها، حيث يمنح اختيار البحر الخفيف مرونة موسيقية تتناغم مع تقلب المشاعر، لتصبح كل تفعيلة نبضًا متوتراً يحمل في داخله شوقاً مكسوراً وانتظاراً محفوفاً بالقلق.

تتميز القصيدة ببنية لغوية مُحكَمة وأسلوب شعري رقيق يعكس براعة الشاعر في كتابة الشعر العمودي والنثري، مؤدية صوتًا فريدًا يُعبر عن عمق الأزمة السياسية والاجتماعية عبر استعارات الحب والخذلان. هنا لا يُمثل الحب رومانسية عابرة، بل ارتباطاً عميقاً بالوطن، في حين يرمز الامتناع إلى الخذلان السياسي، مما يجعل القصيدة صرخة شعرية تعبر عن آلام أمة تبحث عن طريقها وسط وعودٍ فارغة.

....................

حبُّ امتناعٍ لامتناع

بقلم: جواد غلوم

ما الضـيـرُ لـو كانـت "إذا" جازمة

وأيـنعـت " لـو" خـضـرة دائـمــة

وحـقّـــقـتْ " ليـت " لـقـانـا مـعـاً

فــي لــيـلــةٍ سـاخـــنـةٍ حـالـــمــة

مـا الضيـرُ لـو أحـلامـنا أعشبـتْ

مــزرعــة مـن الرؤى الـهـائمــة

ما الضـيـرُ لــو قـاسيـتـي أيقـظت

فــتـوّتــي الــراقــدةَ الــنــائــمـــة

لــكــنها تــهــزأ مــن شــيــبـــتـي

يا ويــحها مــن وغــدةٍ ظــالــمــة

تريــدنــي أغــزلُ شِــعري لـهــا

ســجّــادة عــجــمــيّــة ناعـــمــة

ودون ان أقــرب مــن قـلــبــهــا

فـالقــرب مـنـهـا وصمـة آثــمــة

يا جذوتي تـمـرح فـي داخـلــي

بـيـن دمــائي فـــورة عــارمـــة

ولــم أذق مــن شـهــدها لـعـقــةً

كـأن روحي فـي الهوى صائمة

مـبـهـمـةٌ، غـامـضـةٌ روحُـهــا

أحــارُ مـن صـورتـهـا الغـائمة

فـمـرّةً تـغـضـب مـثـل الســمـا

عــاصــفـةً مـغـبـرّةً صـارمــة

ومـــرَّة تــجــيــئــني غــفْــلــةً

بــاكــيـةً، آســفــةً ، نــادمـــة

وتــارةً يــجــرفــنـي ســيـلُــها

تــقـذفـنـي ريــاحُهــا الهـائـمـة

وبيـن هـذي الحـال او غـيرها

أتــوهُ فــي ألــوانِــهـا القــاتمة

يا طـبعـها الاغرب مـن ريحها

لــيــس لــهـا إقــامـةٌ دائــمــة

قــد نـال مــنِّي كِــبَـرٌ هـــدّني

فــلا ارى واصـلــةً راحـمــة

صديــقــتي مـجـنـونـةٌ كـلُّــها

تـثقل صدري صخـرة جاثمة

***

تحليل الأبيات الرئيسية في النص:

عتبة العنوان:

"حبّ امتناعٍ لامتناع": مفارقة تبدأ من العنوان وتعمّق الأزمة

يجسّد عنوان القصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" توتراً تركيبياً ينكشف من اللحظة الأولى عبر ازدواجية المعنى وتفكك العلاقة بين الذات والمجتمع، وبين الفرد والوطن. تكرار كلمة "امتناع" في العنوان لا يُساهم فقط في إيقاع لغوي، بل يكشف عن دلالات ثقيلة لعلاقة معطّلة يغلب عليها التمنّع أكثر من التحقق. تبدأ كلمة "حبّ" بمدخل متفائل، لكنها تفقد بهجتها حين تقترن "بامتناع"، حيث يصبح الحب مجرد شغف مُحبط وتوقعات خائبة وانتظار بلا تحقق.

البنية الكاملة "حبّ امتناعٍ لامتناع" تعكس ليس مجرد تمنّع فردي نابع من معوقات شخصية، ولكن تشير أيضاً إلى عائق جماعي أكثر عمقاً يمثل نظاماً مانعاً. يشير هذا إلى سلطة تُكرّس الانفصال وتُجهِض الحُب في مهده. الامتناع الأول يمكن أن يكون تردداً أمام وطن لا يبادل العطاء، بينما الامتناع الثاني يكشف أزمة أكبر مفروضة من سلطة تُحجم الانتماء، وتستبعد من لا يدخل ضمن حدودها.

في هذا السياق، يُقرأ العنوان ليس كموضوع غرامي فقط، بل كعتبة شعرية ترمز إلى وطن يُغنّى له بينما لا يسمع إليه، يُحب ويُقمع في الوقت نفسه، يُرجى الاقتراب منه وفي المقابل يُطرد المحبّون. بهذا المعنى، يتحول "حبّ امتناعٍ لامتناع" إلى رمز لحالة الانفصام بين الدولة ومواطنيها وبين الحلم الوطني أدوات التضليل المؤسسي باسم الديمقراطية.

هذا العنوان لا يفتح باب القصيدة فحسب، بل يُعرّي تناقضات مرحلة تاريخية تُراوح بين الرغبة في التغيير وصرامة الواقع الذي يعيد إنتاج الامتناع بطرق مختلفة.

ثنائية المرأة / الوطن التحليل:

يمزج الشاعر بين العلاقة العاطفية والحالة الوطنية، إذ تتداخل صورة الحبيبة مع الوطن بوصفه كيانًا ملتبسًا بين الحنان والخذلان. تتجلى علاقة الحب هنا في تذبذب دائم؛ فتارة يبدو الوطن كحضن آمن، وتارة أخرى كمصدر للألم والتغريب. هذا التداخل يشي بتجربة مركّبة يعيشها الفرد داخل نظام غير مستقر سياسيًا أو اجتماعيًا.

الرموز اللغوية: "إذا، لو، ليت"

ما الضير لـو كانـت "إذا" جازمة

وأيـنعـت " لـو" خـضـرة دائـمــة

وحـقّـــقـتْ " ليـت " لـقـانـا مـعـاً

البيت الأول من قصيدة "حب امتناع لامتناع" يعكس الرمزية العميقة لحالة الشاعر الداخلية والتصارع الوجداني الذي يعيشه. في هذا البيت، يتساءل الشاعر عن الأثر المحتمل لو أن أدوات الشرط في اللغة العربية كالـ «إذا"، "لو"، و"ليت" كانت ذات تأثير أكبر على الواقع.

في العبارة "ما الضير لو كانت 'إذا' جازمة"، يبحث الشاعر في إمكانيات تحقيق الشرط بثبات عبر أداة "إذا"، التي عادةً ما تشير إلى شرط غير محدد. هنا، يتمنى الشاعر لو كانت تحقق ما يُرجى، مُظهرًا رغبته في قدرة أكبر على التأثير في الواقع وتغييره.

أما عبارة "وأينعت 'لو' خضرة دائمة"، ففيها تنعكس أمنيات الشاعر بأن تتحول الفرضيات إلى واقع مستمر من النمو والخصوبة. هذا يشير إلى رغبة دائمة في التحسين والازدهار، في إطار الطموح لتحقيق رفاهية مستدامة.

ولدى قوله "وحققت 'ليت' لقانا معاً"، يُعبر عن الأمل في أن التمني يتحقق، لكي يجتمع مع الوطن أو في حالة من الوحدة القوية. وهذا اللقاء يعبر عن التئام الرغبة مع الحقيقة، وعود الشعب إلى النضال من أجل وطن حرّ ومزدهر.

الرمز المكاني: "ليلة ساخنة حالمة "التحليل:

تُقدّم عبارة "ليلة ساخنة حالمة" فضاءً زمنيًا مشبعًا بالإيحاءات: تُشير إلى لحظة انتظار أو توقٍ إلى التغيير المنشود، تتداخل فيها التطلعات مع الحنين إلى مستقبل يتجاوز الجمود. هذه الليلة، رغم أنها توحي بإمكانية تحوّل قادم، تبقى حلمًا عابرًا لا يتجسد في واقع ملموس، مما يُبرز تعثّر الإصلاح أمام عراقيل بنيوية.

"ما الضيرُ لو أحلامُنا أعشبتْ مزرعةً من الرؤى الهائمة؟"

في هذا البيت، يستحضر الشاعر صورة خصبة مفعمة بالإمكان، حيث تُشبّه الأحلام المزمنة بربيع مفاجئ يعشب في أرض رمزية هي "مزرعة من الرؤى الهائمة".

 تُوحي كلمة "أعشبت" بتجدّد الآمال وسط مناخ قاحل، لكن اقترانها بـ"الرؤى الهائمة" يخلخل هذا الرجاء؛ فالرؤى هنا بلا وجهة أو أفق ثابت.

 تتمازج في الصورة الحلمية لحظة من الحنين إلى إمكان التغيير مع إدراك خفي لصعوبة تجسيده.

 هكذا يُفلت الحلم من القبض عليه، ويتحوّل إلى صورة مترددة بين خصبٍ رمزي وسراب سياسي، مما يعكس طبيعة الانتظار الوطني المعلّق بين الرغبة والإحباط.

الفتوة النائمة / الصحوة المؤجلة التحليل:

 في البيت "ما الضير لو قاسيتِ أيقظتْ فتوتي الراقدة النائمة"، تتجلى صورة مركبة لفتوة جمعية، ترمز إلى وعي تغييري حيوي كان يومًا ما نابضًا في وجدان الجماهير، لكنه رقد بفعل خيبات متراكمة ونظام طائفي قاهر. المخاطَبة في "لو قاسيتِ" تُحيل إلى القوى التغييرية المحتملة، التي لو قاومت وقاست وتجاوزت التردد، لأيقظت تلك الفتوة الغافية. هكذا تتوزع الصورة على مستويات متعددة: الوطن الذي خذل، والنظام الذي قمع، والقوى التي ترددت، لتكون الفتوة رمزًا لطاقات شعبية مكبوتة تنتظر من يوقظها.

"لكنها تهزأ من شيبتي" التحليل:

يشعر الشاعر بأن رموز الوطن - أو الجهات الرسمية - لا تُقدّر مسيرته الطويلة وتجربته، بل تستخف بها. فـ"الشيب" لا يمثل مجرد كِبَرٍ في السن، بل تجربة ومعرفة نابعة من الانخراط في مسيرة المطالبة بالتغيير. تجاهل هذه التجربة يرمز إلى إقصاء رموز النضج من دوائر التأثير.

"يا ويحها من وغدةٍ ظالمة" التحليل:

تُجسّد "الوغدة الظالمة" القوى التي تحبط محاولات الإصلاح، سواء كانت    سلطات أو بنى تقليدية تُمانع التغيير. الأسى الذي يحمله التعبير ينبع من شعور بالعجز أمام استمرار التجاهل والتهميش.

"تريدني أغزل شعري لها سجادة عجميّة ناعمة" التحليل:

 يرفض الشاعر تزييف مشاعره وتحويل صوته الشعري إلى أداة تجميل للواقع القائم. فـ"السجادة العجميّة الناعمة" ترمز إلى الخطاب الأدبي المزخرف الذي يُطلب منه خدمة أجندة رسمية، دون التطرق إلى جوهر الإشكالات الوطنية.

ودون أن أقرُبَ من قلبها فالقربُ منها وصمةٌ آثمة التحليل:

في هذين البيتين، يتّخذ الشاعر موقفًا أخلاقيًا صارمًا، إذ ينأى بنفسه عن كيانٍ فقد براءته. فـ"القلب" لا يُفهم هنا كرمز للحب، بل كوطن دنّسته أدوات التضليل المؤسسي باسم الديمقراطية.

الحبيبة، التي كانت رمزًا للحلم والانتماء، تتحوّل إلى استعارة لكيان مشوه اختطفته قوى التزييف التي تحترف إعادة تشكيل الوعي تحت عباءة الديمقراطية. لم يعد الاقتراب منها انسجامًا مع الحلم، بل انخراطًا في وهمٍ مُنمّق، ومسايرة لخطابٍ يُعيد إنتاج الغياب كأنه حضور

وهكذا، يعلن الشاعر تمرده الأخلاقي والجمالي؛ رافضًا أن يكون الشعر أداة تجميل لسلطة فاسدة، بل يصرّ على أن تظل الكلمة منحازة للناس، مقاومة للخداع، شاهدة على الحقيقة

"يا جذوتي تمرح في داخلي بين دمائي فورة عارمة" التحليل:

 "الجذوة" هنا رمز للحيوية الفكرية التي لا تنطفئ رغم الإحباط. فهي تعبير عن تمسك داخلي بأمل التغيير أو الإصلاح، وإن ظلّ مؤجلًا أو مكتومًا. "تمرَح في داخلي" تؤكد الحضور المستمر لهذه الفكرة، حتى في ظل واقع معتم.

"ولم أذق من شهدها لعقةً" التحليل:

يشير الشاعر إلى أن التطلعات الكبرى لم تُثمر، فـ"الشهد"، رمز الإنجاز الوطني أو العدالة، ظل بعيد المنال. هذا الإحساس بالحرمان يُعبّر عن فجوة بين الحلم والواقع.

"كأن روحي في الهوى صائمة" التحليل:

الصيام هنا رمزي، يُشير إلى حالة انقطاع وجداني عن الفرح الوطني أو الشعور بالانتماء الحقيقي. فالشاعر يمرّ بحالة امتناع لا عن الحب العاطفي فحسب، بل عن المشاركة الكاملة في وطن لا يحقق طموحات مواطنيه.

"مبهمةٌ، غامضةٌ روحُها" التحليل:

يؤكد الشاعر أن هوية الوطن أصبحت غير مفهومة، وكأنها فقدت بوصلتها. الغموض لا ينبع من غياب المعلومات، بل من التناقضات التي تُحيط بالخطاب الرسمي والممارسة اليومية، ما يُبقي المواطن في حيرة مستمرة.

"أحــارُ مـن صـورتـهـا الغـائمة"

 هنا يبدأ الشاعر بالتيه والتردد، فـ"الصورة الغائمة" تشير إلى وطن لم يعد واضح الملامح، وطن سُلبت منه رؤيته النقية بفعل الكيان المسيطر. الغموض يعكس واقعًا مشوّشًا يفرض الحيرة على من ينتمي إليه.

"فـمـرّةً تـغـضـب مـثـل الســمـا / عــاصــفـةً مـغـبـرّةً صـارمــة"

 الغضب هنا لا يبدو غضبًا موجهًا للعدو، بل غضب داخلي، قاسٍ، عشوائي. وكأن الوطن، تحت سيطرة الكيان، ينقلب على أبنائه، فيكون صارمًا في قمعهم مغبرًا في صورته، عاصفًا بلا عدالة.

"ومـــرَّة تــجــيــئــني غــفْــلــةً / بــاكــيـةً ، آســفــةً ، نــادمـــة"

 هنا يظهر الوجه الآخر للوطن/السلطة، الاعتذار الماكر أو الزائف ربما، وكأنه تذبذب مبرمج بين القسوة والتودد. وقد يكون هذا التصرف تكتيكًا سياسيًا يُستعمل لإخماد الغضب الشعبي أو الالتفاف على المطالب الحقيقية.

"وتــارةً يــجــرفــنـي ســيـلُــها / تــقـذفـنـي ريــاحُهــا الهـائـمـة"

 الوطن هنا لم يعد ثابتًا، بل أصبح قوة قاهرة تجرف وتطيح وتتيه، وكأن المواطن لا يستطيع أن يجد له أرضًا مستقرة داخل وطنه، فالسلطة العابثة حولته إلى مكان طارد، متقلب، لا يُعتمد عليه.

"وبيـن هـذي الحـال او غـيرها / أتــوهُ فــي ألــوانِــهـا القــاتمة"

 أصبح الوطن فضاءً للتشويش السياسي والنفسي، لا نور فيه ولا أمل. الألوان القاتمة رمز للظلم، للقهر، لفقدان المعنى في حياة سياسية واجتماعية فقدت مشروعيتها.

"ياطـبعـها الأغرب مـن ريحها / لــيــس لــهـا إقــامـةٌ دائــمــة"

 تُسند الصفات هنا للحبيبة/الوطن: مزاجها متقلّب، غير مستقر، عبثي. وهذا تلميح إلى سلطة متلونة لا تلتزم بثوابت أو مبادئ، مما يجعل الانتماء الوطني نفسه موضع تساؤل وألم.

"قــد نـال مــنِّي كِــبَـرٌ هـــدّني / فــلا ارى واصـلــةً راحـمــة"

 الزمن الذي مرّ بالشاعر/الجماعة جعله متعبًا، محطّمًا، دون أن تلوح بارقة أمل. و"لا أرى واصلة راحمة" تعني أن لا يد تمتد إليه بالعون من هذا الوطن المختطف.

"صديــقــتي مـجـنـونـةٌ كـلُّــها / تـثقل صدري صخـرة جاثمة"

 في هذا البيت الذروة، تتحول الحبيبة/الوطن إلى "صديقة مجنونة" – وصف يدل على الخذلان العاطفي والسياسي الكامل. هي وطن/صديقة تثقل الكاهل، تجرح بدل أن تداوي، تصير عبئًا بدل أن تكون مأوى.

الخلاصة:

في هذه القراءة، الحبيبة ترمز إلى الوطن الذي أصبح أسيرًا لكيان متسلّط، فاسد، متقلب، لا يُمكن الوثوق به. لا يرى الشاعر الوطن ذاته كعدو، بل يدينه بوصفه واقعًا مختطفًا، ويحمّل السلطة أو الكيان المسيطر المسؤولية عن هذا الانهيار العاطفي والوطني.

 القصيدة هنا تتحول من خطاب وجداني إلى وثيقة مقاومة رمزية، تعبر عن وجع جمعي أكثر مما تعبر عن أزمة ذاتية، وترفض أي تواطؤ مع الزيف.

البعد السياسي في "حبّ امتناعٍ لامتناع"

تكشف قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع" عن بنية نقدية حادة للواقع السياسي، من خلال لغة مشبعة بالتوترات الرمزية والانزياحات الدلالية التي تعكس تعقيد اللحظة التاريخية التي يعيشها الشاعر. في هذا النص، لا يظهر الوطن كمعطى ثابت، بل كمجال محتكر من قبل قوى سلطوية طائفية تسعى لإعادة تشكيل الهوية الوطنية على أسس إقصائية ومعادية للطائفية، في مفارقة تفضح نفاق الخطاب السائد.

سلطة الهيمنة الطائفية:

تتمثل إحدى أبرز الإشارات السياسية في توظيف الشاعر للرموز الطائفية كأدوات للهيمنة. السلطة في القصيدة لا تتجلى فقط في افتقارها إلى العدالة الاجتماعية، بل كقوة تؤدلج الطائفية وتعيد إنتاجه بما يخدم خطابها السياسي، في تجاهل تام للبعد الثقافي والفني والوطني الجامع. بهذا، تصبح الطائفية أداة للشرذمة وتقويضًا لأي مشروع وطني جامع.

الركود التاريخي و"الفتوة الراقدة":

يرمز تعبير "فتوتي الراقدة النائمة" إلى لحظة من القوة الثورية المؤجلة أو المعطلة. إنها ليست فقط طاقة شبابية تم إخمادها، بل تعبير عن جمود سياسي واجتماعي طال أمده، نتيجة سياسات ممنهجة لتغييب الوعي النقدي وقمع الحركات التغييرية. يقترن هذا المعنى بصورة وطن مغيّب، مُكبّل بقيود الخطاب الطائفي الموجّه، الذي يُقنّع فشل المشروع السياسي بخطابات التوبة الزائفة.

اغتراب الوطن وخيانة الذاكرة:

يتجسد الوطن في النص بوصفه كيانًا مأزومًا، ليس فقط بسبب افتقاره إلى الديمقراطية الحقيقية، بل نتيجة تفكك المعنى الأخلاقي والوجداني الذي كان يربط الأفراد به. تتحول العلاقة بين الشاعر والوطن إلى علاقة مشروخة، محمّلة بالخذلان، حيث تتحول رموز الانتماء إلى أعباء نفسية ثقيلة. يشير ذلك إلى تآكل العقد الوطني وانفصاله عن جذوره الثورية الأصلية لصالح ولاءات طائفية موجهة.

دعوة لتغيير رمزي:

القصيدة لا تكتفي بتوصيف الانهيار، بل تزرع بين سطورها رغبة في التغيير الرمزي، حيث يتم استدعاء اللغة الشعرية كأداة لاستنهاض الوعي الجمعي واستعادة مشروع وطني جديد، يتجاوز منطق الهيمنة، ويعيد الاعتبار لفكرة الوطن كمجال للعدالة، والحرية، والتعددية.

إعادة إنتاج الخطاب الوطني في قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع"

في قصيدة "حبّ امتناعٍ لامتناع"، يُعيد الشاعر تشكيل صورة وطنية مركّبة تتقاطع فيها الذكريات الثورية مع الانكسارات السياسية، ويتحوّل الوطن من فضاء للانتماء إلى كيان مُشوَّه بفعل التسلّط. هذا التحوّل يتم عبر لغة رمزية تمزج بين الحنين الفردي والخطاب الجماعي، ليغدو النص فضاءً تأويليًا يقاوم السائد بهدوء، دون صراخ مباشر.

أدوات التمني كوسائط مقاومة: تفكيك الثبات وبناء الحلم

تُستخدم أدوات التمني مثل "لو"، "إذا"، و"ليت" ليس بوصفها أدوات تركيبية، بل كعلامات على حالة وطنية معلّقة بين الأمل والانكسار. يُحوّلها الشاعر إلى إشارات على تأجيل الحلم الثوري، ويُقابلها بواقع سياسي جامد، مما يعكس الانقسام بين ما يُطمح إليه وما يُفرض قسرًا. التمني هنا لا يعبّر عن رغبة رومانسية، بل عن اشتقاق سياسي يحمل بذور تمرّد مؤجل.

اللغة كفعل مقاومة: خطاب لا يصرخ بل يهمس

يُعيد الشاعر بناء اللغة لتكون أداة تفكيك لا مواجهة مباشرة. إنه لا يهاجم السلطة صراحة، بل يُعرّي هشاشتها عبر كشف الفجوة بين الحلم والتحقّق. تتحوّل اللغة في القصيدة إلى شكل من أشكال "المقاومة الصامتة"، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي من خلال الهمس لا الضجيج، عبر تلميحات مشفّرة تتحدى الخطاب الرسمي.

التخييل السياسي والرفض الرمزي: الوطن كاحتمال مغيّب

يتحوّل الحلم بوطن بديل في القصيدة إلى شكل من أشكال التخييل السياسي؛ لا بوصفه مشروعًا جاهزًا، بل كأفق نقيّ يتجاوز التشويه السلطوي. بهذه الطريقة، لا يدّعي الشاعر تقديم خلاص مباشر، بل يكشف المسافة بين الوطن المأمول والوطن الموجود، ويُبقي الباب مفتوحًا أمام تأويلات تتجاوز الاستكانة.

الحيّز المكاني كفضاء مشحون: من الجغرافيا إلى الذاكرة

لا يظهر المكان في النص كحيّز جغرافي محايد، بل كفضاء دلالي يُحمّل بتوترات وجدانية وسياسية. عبارة مثل "ليلة ساخنة حالمة" لا تصف لحظة زمنية فحسب، بل تُلمّح إلى حالة وطنية مقيّدة تحت سطوة الجمود. المكان هنا يُشفّر التناقضات بين الحركة الثورية الكامنة والتوقف القمعي المفروض، ويُعيد إنتاج مشهد الخذلان في هيئة رمزية.

اللغة كأفق للتحوّل الوطني الهادئ

من خلال هذه القصيدة، لا يكتفي الشاعر بمواجهة النظام، بل يُنتج خطابًا بديلًا يُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والوطن، بين اللغة والمقاومة، بين الحلم والخذلان. فتصبح اللغة أداة تفكيك وتحريض داخلي، تُمهّد لوعي جديد يتكوّن بصمت، لكنه يحمل إمكانية التحوّل في لحظة نضوج تاريخية.

الخاتمة

من خلال هذه القراءة المتعمقة، تتناول قصيدة "حبُّ امتناعٍ لامتناع" العلاقة بين الشاعر والوطن ضمن سياق من التناقضات المستمرة. حيث يظهر الوطن كالحبيبة النقية التي يحتفظ فيها الشاعر بأحلامه وآماله للانتفاضة، إلا أن النص يوضح كيف يتم استهلاك هذه الصورة بواسطة كيان فاسد يساهم في تزوير الهوية الوطنية. تعتمد القصيدة على أدوات تمنٍّ مثل "إذا" و"لو" و"ليت"، مما يسلط الضوء على حالة الانتظار الدائمة للتغير نحو نظام ديمقراطي حقيقي. إذ إن الوطن، الذي كان ينبغي أن يكون رمزًا للحياة والعدالة الاجتماعية، يتحول إلى واقع مظلم يقع تحت هيمنة قوى تحيد الهوية النضالية.

يتجسد الصراع بين الماضي النضالي والحاضر الجامد من خلال صورة "الشيب"، التي تُستخدم للسخرية، مما يعكس فقدان الوطن ذاكرته الثورية وتراجع قيمه التقدمية. كما أن الشاعر يراوغ بالاستعارات والانزياحات الدلالية ليصوّر وطنًا غامضًا ومتناقضًا، حيث تتجاوز معاني الكلمات حدّها المعتاد، ما يعمّق من فهم النص ويشحنه بتوتر داخلي يعبّر عن صراع مستمر بين الأمل والخذلان. استعارات مثل "الجذوة" و**"صخرة جاثمة"** تبني صورة للوطن كمكان مليء بالتحديات، يجمع بين الفرح والألم، بين الثورة والقمع.

ويظهر هذا التوتر جليًا في أحد مقاطع القصيدة، حيث يكشف الشاعر عن حالة من الضياع والتشظي الوجداني والسياسي، تتجلى في العلاقة المربكة مع "الحبيبة" التي ترمز بوضوح إلى وطنٍ مسلوب، تهيمن عليه قوى فاسدة ومتقلبة. فـ"الصورة الغائمة" تفتح على واقع غامض الهوية، غير مستقر، يعيش فيه الناس في حيرة دائمة وتقلّب دائم.

الوطن، في هذه الصورة، لم يعد كيانًا ثابتًا حاضنًا، بل يتحوّل إلى قوة متناقضة: تارةً قاسية، "عاصفةً مغبّرةً صارمة"، وتارةً مدّعية للندم والأسف، تحاكي خطاب السلطة حين تتنصّل من العدالة الاجتماعية ثم تتذرّع بالتوبة الزائفة.

يتنقّل الشاعر بين فقدان العدل من جهة، وجبروتٍ سياسي مموّه بلغة المصالحة من جهة أخرى، ليجد نفسه محاطًا "بألوان قاتمة" لا تفضي إلى رجاء. فالوطن، وقد اختطفته قوى متقلّبة الطبع، بات مكانًا للتيه، لا للاستقرار، كما يُظهر البيت: "ليس لها إقامة دائمة". وهكذا يتعمّق الإحساس بانهيار الرابط الأخلاقي والوجداني بين الشاعر و"الوطن"، إذ لم تعد العلاقة علاقة انتماء، بل عبء نفسي ثقيل: "تثقل صدري صخرة جاثمة".

في نهاية المطاف، يُعتبر النص شهادة نقدية غنية تستنهض الوعي الوطني، كاشفة عن الفجوة العميقة بين الأمنيات الجذرية والواقع الخاضع لهيمنة قوى زرعت الفساد والشك داخل البنية الوطنية. إن القصيدة، بلغة شعرية تنبض بالتوتر والمفارقة، تقدّم دعوة لإعادة الاعتبار للأدب كمجال مقاومة، وضرورة استعادة هوية وطنية أصيلة، تحيا فيها روح الثورة والعدالة.

***

سهيل الزهاوي - ناقد

 

قراءة نقدية في قصيدة "ولا هكذا وجع"! للشاعرة الجزائرية آمال زكريا

***

ولا هكذا وجع!

آمال زكريا / الجزائر

كهاوية تمتطي الخيال

مرتوية الغنج

كل بنات جيلي على قدم وساق تترقب

أبي يطرٍز سروج الخيل

وأي الرشمات والخامات سيتفنن بهم في سرج مدللته!

في سري ويقيني

لن يقتني إلا أسلاك الذهب والزمرد والمرجان

وبريش النعام يميٍزه

بطراز عثماني أصيل

فصنع لي تابوت وشيّع أحلامي

لحظتها فقط

وقفت صوب مرآة الذاكرة

ليتضح يتمي المبكر!

مذ آمنت بالحب

منحته قلبي وكياني

وضعني بزنزانة موحشة

حتى يريني النور

أخرجني لموكب يزف فيه ثلاث حوريات

هو يتباهى بحسنهن

وأنا أدوخ في دوار الحضرة

ودهشة تبتلع شظايا لغتي

كل اللآلئ التي أودعتها في حصّالته

وكل رغباتي المشتهاة التي أجلّها

نثرها على جلدهن

حتى السماء خائنة تدوي بالفرح

ليهطلني فيض من دمع لا يجف

كان الشعور غريب

أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية

ألم لم يشهده كياني

كلحد ضمني كسر أضلاع هيكلي

أمي الأرض بعنف تحاصرني شامتة

هذا أباك وحبيبك

ذاك رحل

والآخر وأد نبضك

لم أقل ليتني كنت ترابا لكن تمنيت لو أنني

لم أشهق الحياة أبدا...

***

القراءة النقدية:

حين قرأت قصيدة /و لا هكذا وجع!/ للشاعرة آمال زكريا، كنت كمن يطأ عتبة عالم مليء بالأشواك والآلام المستعصية. القصيدة ليست مجرد كلمات مرصوفة بعناية، بل هي حوار داخلي طويل مع الذات، ونداء صامت يمر عبر الزمن ليحكي لنا عن القهر الذي يعتصر القلب، والحزن الذي يطفو على سطح الذاكرة ليغرق كل شيء في ظلاله. في قلب هذه القصيدة تكمن معركة مريرة بين الحب الذي كان يُفترض أن يكون مخلصًا، وبين الواقع الذي لا يعترف بالأحلام، ليُجسد الوجع الذي يتشكل من مزيج معقد من العواطف والأحلام الضائعة.

1. الخيال كهاوية: البداية التي تُنبئ بالخسارة

/كهاوية تمتطي الخيال/، عبارة بسيطة، لكنها في غاية الشدة في رمزيّتها. فالخيال هنا ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو الحفرة التي تبتلع الأحلام ببطء. الخيال يُشبه البحر العميق، عميق بما يكفي ليغري العقل بمتعة السباحة فيه، لكنه يحمل في طياته غرقًا حتميًا. وهذه هي مفارقة القصيدة: أن الخيال كان أداة السقوط والضياع، كأن الشاعرة لم تكن تعلم أن عالمها المثالي سيتحطم في لحظة من الوعي الثقيل.

2. /صنع لي تابوتًا وشيّع أحلامي/: من حلم الرفاهية إلى واقع المأساة

الشاعرة تبدأ حلمها بحياة فاخرة، مثالية، يغلفها الذهب والزمرد، في أجواء تشبه الأساطير. /أبي يطرز سروج الخيل/، ليس مجرد مشهد من الطفولة، بل هو استعارة للطمأنينة التي كانت تملأ قلب الطفلة التي كانت تظن أن والدها سيحميها من قسوة العالم. ولكن تأتي اللحظة التي يتحول فيها هذا الأمان إلى نوع آخر من العزلة، لحظة من الخيبة الكبرى عندما تُدرك أن /التابوت/ الذي صنعه والدها ليس لدفن أجسادهم، بل لدفن أحلامهم. التابوت هنا رمز للفخ الذي يدور حول الحلم المثالي ويخنقه. إن الحلم الجميل يتحول إلى عبءٍ ثقيل؛ هو إعلان عن نهاية حقبةٍ كانت مليئة بالأمل.

3. /زنزانة موحشة/ و/الخيانة المحجوبة/

في اللحظة التي تخاطب فيها الشاعرة نفسها قائلة /وضعني في زنزانة موحشة حتى يريني النور/، نرى كيف يختلط الحلم بالواقع، وكيف يصبح الحب في جوهره سجنًا نفسيًا. الشاعرة لا ترى في الحب أملًا، بل قيدًا يتجسد في زنزانة تجعلها ترى النور ولكن من خلف القضبان، كما لو كانت تراقب الضوء من نافذة ضيقة جدًا. هناك شيء أكثر ألمًا في هذه الصورة: إنه شعور بالتضحية الخالدة، أن الحب الذي اعتقدت فيه كان مجرد سراب يورطها في غياهب الحزن.

4. ألم الحب: بين التضحيات والخيانة

نحن هنا أمام حالة من الخيانة العاطفية التي لا تنفصل عن الخيانة الذاتية. الشاعرة تضع نفسها في موقع الضحية، لكن تذكر أنها /منحت قلبها وكيانها/ للحب، وهو ما يعمق الألم بشكل أكبر. لأن الحب، الذي كان يجب أن يكون ملاذًا، أصبح هو نفسه الجلاد. صورة /الحوريات/ في الموكب تضع الشاعرة في موقف المراقب العاجز الذي يرى الآخرين يعيشون في الجمال والنقاء الذي كان من المفترض أن يكون له، بينما هي غارقة في حالة من الاضطراب والدوار. الحوريات، كرموز للجمال المثالي، لا تُمثل فقط الطموحات الضائعة، بل هي في الواقع التذكير بالحلم الذي كانت الشاعرة تأمل في أن تعيشه.

5. من الفقد إلى العزلة: مأساة الأنثى في قلب المجتمع

/أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، هي صورة تراجيدية تنم عن وحدة شديدة لا تقتصر فقط على الخيانة العاطفية، بل تتعداها إلى ألم الانتماء. هنا لا تتحدث الشاعرة عن ذاتها فقط كضحية لفقدان الحب، بل تقدم نفسها كرمز للمرأة التي تتعذب في صمت داخل بنية اجتماعية لا تتفهم معاناتها. العار الذي تحمله في قلبها ليس فقط ناتجًا عن خيانة الحب، بل هو مرآة لمجتمع يضع عليها عبئًا إضافيًا: عبء الهوية، والمكان الذي يُفترض أن تكون فيه، و/الجسد العاري/ الذي لا ينتمي إلى أي شيء حقيقي أو ثابت.

6. /السماء خائنة/ و/فيض الدموع/: الفقد الذي لا يُغسل

ثم تأتي /السماء الخائنة/ التي /تدوي بالفرح/، وكأن الكون كله يتحول إلى مصدر للخيانة. السماء التي كانت تُعتبر رمزًا للأمل والرحمة، تتبدل هنا إلى مصدر آخر للحزن. الصراع في هذه اللحظة ليس فقط مع الشريك الذي خذلها، بل مع الكون نفسه الذي كان من المفترض أن يحتضنها.

الفيض من الدموع الذي لا يجف هو أعمق من مجرد حزن عابر؛ هو مرآة لنزيف روحي دائم لا يجد شفاء. الشاعرة لا تكتفي بالتعبير عن الحزن، بل تُظهر لنا كيف أن هذا الحزن أصبح جزءًا من كيانها، كيف أصبح جزءًا من جلدها وعظمها، وهو ما يجعل الخروج منه مستحيلاً.

7. النهاية: أمنية الفقد التام

وفي النهاية، تُختتم القصيدة بجملةٍ تحمل في طياتها أمنية محبطة: /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبدًا/. هذه العبارة تحمل أعمق معاني العزلة والتفكك؛ حيث يصبح الموت أو الفقد هو الحل الوحيد للمعاناة المستمرة. الشاعرة، في لحظة من اليأس الكامل، ترى أن الحياة التي عاشتها لم تمنحها شيئًا سوى الألم. هذه الجملة لا تعكس فقط خيبة الأمل، بل هي إعلان عن فشل الذات في مواجهة الواقع.

خاتمة تأويلية:

هذه القصيدة هي شهادة على فداحة الفقد، ليس فقط في الحب، بل في الوجود ذاته. الشاعرة لا تُحارب الأذى العاطفي فقط، بل تُحارب كونًا برمته لم يمنحها فرصة لتحقيق الذات كما حلمت. في هذا العالم المملوء بالقيود والخيبات، تصبح الذكريات هي الملاذ الوحيد، ولكنها مع مرور الوقت تتحول إلى شيء أشبه بالقيد الذي يلف الروح.

هذه القصيدة تفتح أمامنا أبوابًا واسعة للتأمل في كيفية تأثير الحب على الذات الإنسانية، وكيف يمكن للألم الناتج عن الخيانة والفقد أن يصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية. إنها ليست مجرد قصيدة عن الحب أو عن الخيانة، بل هي رحلة عميقة إلى عمق النفس الإنسانية التي تصارع نفسها، تبحث عن معنى في عالم غارق في الضياع.

في /و لا هكذا وجع!/ نجد أنفسنا أمام قصيدة تتسلل إلى أعماق النفس البشرية بكل تعقيداتها، لتكشف لنا عن جروحٍ لم تلتئم، وأشباحٍ لا تزال تحوم حول الذات في صمتٍ قاتل. الشاعرة آمال زكريا، من خلال كلماتها، تقدم لنا صورة عن النفس الإنسانية وهي تترنح بين الأمل والخذلان، بين الحب الذي يذبحها والذكريات التي تحاصرها.

النفس هنا ليست مجرد موضوع شعري، بل هي كائن معذب، محاصر في دوامة من التناقضات العاطفية. الحب الذي كان في بداية القصيدة يمثل الأمل والرفاهية، يتحول تدريجيًا إلى سجن، إلى نوع من /الزنزانة الموحشة/، وكأن الشاعرة تتحدث عن دائرة لا نهائية من الألم العاطفي الذي لا يجد مفرًا. ما يجعل هذا الصراع النفسي بالغ العمق هو أن الحب هنا ليس فقط خيانة من الآخر، بل هو خيانة من الذات أيضًا. الشاعرة تتنازل عن نفسها من أجل الحب، تُقدم قلبها دون تحفظ، وعندما تجد أنها قد تمزقت، يبدأ الوعي بالذنب الذاتي، /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبداً/. هذه الأمنية ليست مجرد رفض للحياة، بل هي تجسيد لصراع أعمق، صراع يخص الهوية والوجود.

الشاعرة تجد نفسها في مواجهة لا فقط مع الحبيب الذي خذلها، بل مع كونٍ أوسع، مع الحياة التي تضعها في معركة مستمرة لا تملك فيها سوى ذكرياتٍ مشوهة وألمٍ دائم. هذه المشاعر لا تقتصر على الخيانة العاطفية فحسب، بل هي خيانة وجودية، حيث تشعر الشاعرة أنها لم تلبِ توقعاتها، وأن حياتها تحولت إلى سلسلة من التضحيات التي لم تثمر عن شيء سوى الخيبة والمرارة. إن ما تعيشه هو حالة من التشظي الداخلي: إنها روح تتكسر على صخور التوقعات المثالية التي كانت تظنها حقيقية.

عندما تقول /أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، تتحول هذه الكلمات إلى مرآة للنفس البشرية التي تعاني من انفصال عميق بين ما كانت تظنه عن نفسها وما أصبحت عليه في الواقع. هي في حالة صراع مستمر مع الهوية، تتساءل عمن هي، وما الذي جعلها تكون بهذه الصورة المؤلمة. هي في حالة من اللامكان، لا تنتمي إلى الماضي الذي كانت تحلم به، ولا تجد مكانًا لها في المستقبل الذي كان يمكن أن يكون.

وفي النهاية، تظل القصيدة تسبح في بحر من الأسئلة غير المجاب عنها: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من هذه القيود النفسية التي يفرضها على نفسه؟ هل يمكن أن يعيد بناء ذاته بعد أن دمرتها الخيبات؟ إن القصيدة، بكل ألمها، تقدم لنا إجابة غائمة، لكنها دعوة لا واعية إلى الوعي الذاتي، إلى ضرورة أن نتوقف يومًا ما، لا لنتوب عن الحب، بل لنعيد تقييم علاقتنا مع أنفسنا ومع أقدارنا.

لذلك، /ولا هكذا وجع!/ ليست مجرد قصيدة عن الحب والخيانة، بل هي مرآة للنفس التي تحاول أن تجد مكانًا لها في عالم لا يعترف دائمًا بحقها في الفرح. إنها صورة عن الإنسان الذي يشعر بالحيرة والتمزق، بين حقيقة ما هو عليه وأمل ما كان يمكن أن يكون. وكأن الشاعرة قد حاولت أن تطهر نفسها من خلال الكتابة، لكن في كل كلمة، في كل صورة، تكمن تلك الذاكرة التي لا تموت، وتلك الجراح التي لا تشفى، والتي تظل تلاحق النفس حتى تصبح جزءًا من هويتها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

"ماذا لو" عنوان للمجموعة القصصية كتبها القاص سمير الشريف، صدرت عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2021م، تقع في 132 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 120 نصًا قصصيًا، تراوحت بين عدة كلمات وعدة أسطر تناولت الواقع الاجتماعي وعيوبه، وكشفت عن الألم السياسي والهم الوطني والقومي والديني.

تميزت القصة القصيرة جدًا بمراعاتها لظروف العصر من حيث ضيق الوقت وعامل السرعة، وسعت إلى إيصال المضمون بشكل سريع وعميق وكثيف للمتلقي، يحمل رسالة وفكرًا فلسفيًّا بأقل عدد من الكلمات، وهذا ما كانت عليه المجموعة القصصية "ماذا لو" للقاص سمير.

خلال قراءتي للمجموعة لاحظتُ شيئًا من موضوع أطروحتي للدكتوراه (جماليات الفوضى ودلالاتها في الشعر العباسي: (أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي) أنموذجًا) -نُوقِشَت في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في الجامعة الهاشمية، عام 2020م-، وهو ما أسميته بلاغة التشويش -الذي ورد في الفصل الرابع (جماليات بلاغة التشويش ودلالاتها)-، خاصة تقنية المفارقة وتقنية المحو والكتابة.

وبلمحة سريعة لتعريف التشويش أو الشواش، فهو أحد خصائص الفوضى غير المرغوبة، أدمجت اللغة العامية عبر التاريخ فكرة الفوضى في فكرة الشواش، ولذلك تم تعريف (الشواش) بأنه: "الاضطراب أو الاهتياج أو اللجة البدائية"، وبعدها أصبحت مصطلحًا علميًا جدليًا ومثيرًا في الفيزياء المعاصرة، و"المشوش: تكون عناصره ممزوجة بلا نظام ويصعب تمييزها أو يستحيل".(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205)، وكمصطلح علمي، فهو يعد: "نظرية في سلوكٍ يبدو عشوائيًا ضمن نسق حتمي، مثل الجو، فعدم قابلية الأنساق المشوشة للتنبؤ لا ترجع إلى عوز في القوانين المتحكمة؛ بل إلى كون النتائج حساسة لتنويعات دقيقة لا يمكن قياسها في الظروف الابتدائية، مثال ذلك (أثر الفراشة: فكرة أن مجرد خفق فراشة لجناحها قد يحدث فرقا بين حدوث إعصار أو عدم حدوثه)"(موسوعة لالاند الفلسفية. ص: 205).

وبالنسبة لمفهوم التشويش فهو مستعار من الإعلام، فالنص الإعلامي لابد أن تكون ألفاظه واضحة الدلالة وبعيدة عن الغموض، وخالية من التشويش الدلالي؛ وهذا النوع من التشويش يحدث نتيجة لعدم فهم الرسالة من جانب المتلقي حتى لو تم نقل الرسالة بدقة فائقة"(حسين علي إبراهيم الفلاحي، الديمقراطية والإعلام والاتصال. ص:177)، أما في معاجمنا اللغوية فقد تمت إضافة كلمة التشويش بحذر ودون أن يكون لها أصل عربي، فجاء في لسان العرب أن التشويش لا أصل له في اللغة العربية. ويأتي الشواش من خلال التعقيد اللفظي والمعنوي، بالإضافة لبعض الظواهر والتقنيات الفنية التي تمثل خروجًا وانتهاكًا للمألوف، وخرقًا لقوانين اللغة المعيارية، فتخرج عن المألوف والمتوقع إلى غير المألوف والمدهش وغير المتوقع.

إن لبعض التقنيات الفنية دورًا جماليًا، فيتم اختراق الأنساق ومخالفة المألوف رغبة في التشويش، والغموض والدلالة على معانٍ غير مرادة؛ لاستثارة المتلقي وإحداث مفاجأة بما لا يتوقعه، وهذا ما عمد إليه القاص في مجموعته (ماذا لو)، من خلال المفارقة، والمحو والكتابة.

المفارقة

تعد المفارقة ذات أهمية بالغة لما لها من قدرة على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، فالمفارقة هي حدوث ما لا يتوقع، وهي كما قالت عنها نبيلة إبراهيم: لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها.

في قصص "ماذا لو" حضرت المفارقة التي تقوم على الجمع بين المتناقضات، والممزوجة بالسخرية: " بعد انتهاء المؤتمر الوطني، عرجت زوجة الرئيس على باريس، لإلقاء نظرة على آخر صرعات الموضة"(موضة، ص9)، فالمفارقة الممزوجة بالسخرية واضحة ما بين المؤتمر الوطني، وصرعات الموضة، إنّ معاناة الشعوب مع حكّامها، خاصةَ من يرفعون ‏شعار الوطنيّة والموت في سبيل الوطن في تلك المؤتمرات، وما يحدث بعدها من تعارض وتناقض، والاهتمام بآخر ما توصلت له الموضة. فالحدث يبدو واقعي، إلا أنه يحيلنا إلى رمزية الفاسد، وهنا فالقاص لجأ إلى هذه التقنية ليدين فيها الاستغلالية والفساد السياسي والانحلال الاجتماعي.

في قصة (مضمضة): "عاد من مركز إيواء المسنين، مطمئناً على والده، خلع الكمامة والنظارة السوداء، اتصل بدار الإفتاء: -هل يُفطر من دخل جوفه الماء وهو يتمضمض للصلاة"(ص: 65)، تظهر المفارقة في ذلك النفاق الديني الظاهر، الذي لا علاقة له بسلوك الإنسان وما يمارسه في حياته اليومية، فالقاص يثير وعي القارئ للتأمل ويشوش تفكيره فكيف يسأل في أمر ديني وبسيط، وهو من وضع والده في دار المسنين، ربما أراد من هذه المفارقة أن يثير عاطفة المتلقي، والانقلاب على الجانب الأخلاقي والسلوكي للإنسان في التعامل بالدين.

كذلك حضرت المفارقة في قصة (دعاء): "اغتسل، تعطّر، ولبس أجمل ما لديه قبل أن يغرف من صندوق التبرعات مردداً: - اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك".(ص: 96)، المفارقة هنا ممزوجة بالسخرية وكذلك تدل على نفاق ديني، فالسخرية تعد أحد أنماط المفارقة التي يلجأ لها الكتّاب على اعتبار أنها قولًا ضد المراد لغرض الاستهزاء، فالقاص هنا يسخر من فعل هذا الرجل الذي يمثل الأغلبية في طريقة التعايش والتعامل بالدين، والدليل التناقض الظاهر بين (يغرف من صندوق التبرعات) و(اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك)، فالتضاد واضح بين الفعل والقول.

ثنائية المحو والكتابة

قد يمحو الكاتب كل ما يشد النص إلى أصل محدد فيجعله دونما انتماء، وبهذا يعمل على إجراء بعض التغييرات على النصوص فيبتعد عن السياق الأصلي ويعيد إنتاجها من جديد.

حضرت هذه الثنائية في قصص المجموعة، فمثلًا في قصة (سنتياغو): "تساءل همنجواي وهو يضع اللمسات الأخيرة على روايته: -هل كان سنتياغو منتصراً، وهو يرى مغامرته تنتهي بهيكل عظميّ؟"(ص113)، إن اسم سنتياغو يستحضر في فكر وذهن المتلقي رواية الشيخ والبحر، لأرنست همنغواي، فالبطل هو سنتياغو الذي قضى عمرًا وهو يناضل ويحاول بناء الآمال التي هاجمتها قروش البحر، وانتهت مغامرته بهيكل عظمي. لجأ القاص لهذه التقنية لإثارة المتلقي وفتح الدلالات على نصوص أخرى وذلك لتوضيح فكرته، سنتياغو كان رمزًا للشعب الكوبي الذي يقاوم ويصارع ظروف معيشته الصعبة، فقد أراد القاص إيصال خيبات أمله وتبخر أحلامه في إصلاح حال الناس في وقتنا الحالي.

وفي قصة (فسادستان): "العبيد في مزارع فسادستان يلهجون بصوت واحد: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}"(ص123)، في هذه القصة يخاطب القاص المتلقي بحسه الفكري متأملًا في التخلص من الظلم والفساد المنتشر، وهنا استحضر القاص الآية الكريمة من سورة النساء(75): {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، فالأية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والسعي في إنقاذ المستضعفين في مكة المكرمة، وفي القصة دعاء أولئك العبيد لربهم للخلاص من الفاسدين واضطهادهم للمزارعين، دعاء ممزوج بنوع من التعب بعد رحلة طويلة من القهر والقمع، والقاص يريد نقل ما يعانيه الناس في مجتمعاتنا من ظلم واضطهاد.

حملت قصص مجموعة "ماذا لو" في طياتها رسائل مضمرة، وجاءت في سياقات مكثفة للغة والسرد، فالقاص عندما يريد تحريك ذهن المتلقي نحو النص يسعى لإثارته وكسر التوقع لديه عن طريق الغموض، والمفارقة تدعو للبحث عن المعنى الآخر الذي يتضمنه النص، وفي ثنائية المحو والكتابة يلجأ الكاتب إلى تحوير وتغيير السياقات لبث رسائل مضمرة في ثنايا النص، ليثير فكر المتلقي والبحث عن المعنى المخبوء.

وأخيرَا يعد القاص سمير الشريف مبدع ورائد من روّاد كتابة القصة القصيرة جدًا، وإنَّ مجموعة (ماذا لو) تحمل الكثير في ثناياها، وتستحق الدراسة بشكل أعمق لما تحمله من تقنيات فنية جاء بها القاص، فهي مادة وفيرة للقراءة والأبحاث.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

ذنبي كبير

يحيى السماوي

ذنبي كبيرٌ.... مرَّ ليلٌ كاملٌ

من دون ِ لثم ِ قرنفل ِ الشفتين والياقوتتين

ودون تمشيطي جدائلَكِ الحريرْ

والركض ِ خلفَ غزالةِ الفردوس  ما بين الوسادة الملاءة والسرير

فلتغفريْ ليْ إثمَ معصيتي .. جدي عذرا ً لسادنِكِ الموزَّع ِ

بين بادية ِ السماوة ِ والرّصافة  مُطفأَ الينبوع ِ مُتقِدَ السعيرْ

شوقا ً الى صحن ٍ من القبُلاتِ

يقفو جُوعَهُ عطشٌ بتوليٌّ لكأس ٍ من زفير

ولِهَزِّ نخلتكِ القريبةِ.. قرب شمس من عيوني

والبعيدةِ بُعدَ قلبي من يديَّ وبُعدَ وجهِ البدرِ من مُقلِ الضريرْ

***

الخطاب الشعري الصوري نص يقوم على التداعي والتعبير عن ذات تنتج نصا يقوم على التأمل والبوح والاستبطان الذاتي، ويعمل على خلخلة الأجناس الأدبية وصهرها في بوتقة نصية موحدة تقوم على الانزياح، وخلق خطاب مابعد الحداثة..

وباستقصاء عوالم النص الشعري (ذنبي كبير) الذي نسجته انامل منتجه يحيى السماوي نجدها تنحصر في الحبيبة الوجود كونها مستقبل العالم على حد تعبير اراغون.. وعلى مبادئ المدرسة الرومانسية يوجد ال (وطن في أنثى).. وهذا من المرتكزات التي ينطلق منها المنتج (المراة الحبيبة والوطن اضافة الى الحرية التي تمثل التجيد والابداع)

ذنبي كبيرٌ.... مرَّ ليلٌ كاملٌ

من دون ِ لثم ِ قرنفل ِ الشفتين والياقوتتين

ودون تمشيطي جدائلَكِ الحريرْ

والركض ِ خلفَ غزالةِ الفردوس ما بين الوسادة الملاءة والسرير

فالنص يقوم على مستويين: اولهما.. مستوى الرؤيا الذي يترك اثره ولا يعرف النسيان فيبقى محفورا في الذاكرة... وثانيهما.. مستوى التعبير حيث تناغم الالفاظ الموحية تناغمًا يضفي على النص نبرا مموسقا جاذبا.. يمتاز بخصوصيته الجمالية والدلالية..

فلتغفريْ ليْ إثمَ معصيتي .. جدي عذرا ً لسادنِكِ الموزَّع ِ

بين بادية ِ السماوة ِ والرّصافة مُطفأَ الينبوع ِ مُتقِدَ السعيرْ

شوقا ً الى صحن ٍ من القبُلاتِ

يقفو جُوعَهُ عطشٌ بتوليٌّ لكأس ٍ من زفير

فالنص يشكل لوحة فنية.. يربطها خيط شعوري رقيق.. جسده الإحساس.. ورابطه العشق والخروج عن الذات.. تؤطره رومانسية طافحة بالعذوبة والرقة.. اضافة الى تميزه بتنويع أساليبه البنائية والإعلاء من دور التجريب الشعري كي يمنحه قدرة على استيعاب التقنيات المعاصرة كالحوار وتعدد الأصوات وحضور النصوص الغائبة بوعي شعري كشف عن شاعر متزن العواطف دقيق الرؤية، واضح المعالم...

ولِهَزِّ نخلتكِ القريبةِ.. قرب شمس من عيوني

والبعيدةِ بُعدَ قلبي من يديَّ وبُعدَ وجهِ البدرِ من مُقلِ الضريرْ

فالشاعر في نصه المتزن العواطف.. الواضح الرؤية.. يحدث مصالحة بين فكره ووجدانه.. وبين لغته وأفكاره.. اضافة الى اعتماده التكثيف والإيحاء والاختزال والسرد الشعري والتناص ..

وبهذه الروح الرومانسية الشفيفة والنبض الراقص قدم  المنتج نصا متكاملاً متوحد الدلالات والرموز والبناء الفني الذي عمق رؤيته.. واضفى عليها جمالا نابعا من صدق التجربة.. الكاشفة عن قيمة النص الموضوعية والتعبيرية والشعورية.. فقدم المنتج خلاصة اكتنزت بأبجديته الأسلوبية.. وأبرزت خطوطه الشعرية ورسّمت خطواته الإبداعية من تجلياتها الاستهلالية فاحدث تنوعا جاذبا كما وكيفا.. بتوظيف لغة مكتنزة بالفاظها الايحائية الجامعة بين الوصف والسرد والحوار...

***

علوان السلمان – كاتب وناقد عراقي

 

ظهرت الحاجة الملحّة إلى اختراع أدوات تعبير تتجاوز البُعد النفعي المباشر، منذ اللحظة التي تشكّل فيها وعي الإنسان، وبدأ يحاور وجوده ضمن سياق كوني غامض ومترامي الأطراف، لتلامس جوهر تجربته الحيّة في مواجهة الوجود، هذا الإنسان، الذي وجد نفسه في صراع دائم بين الافتتان بالمجهول والخوف منه، لم يتأخر في إنتاج أشكال من التعبير البصري على جدران الكهوف، فحوّل الفضاء الصخري الخام إلى سطح دلالي قادر على حمل تجلياته الأولى، وانفعالاته العميقة، وأسئلته البدئية.

كانت تلك الرسوم والنقوش، التي قد يُظنّ في ظاهرها أنها محاولات توثيقية بدائية، في حقيقتها انبثاقاً أولياً للغة رمزية لا تقل عمقاً عن النصوص الشعرية المعاصرة؛ إذ عملت على تثبيت علاقة الإنسان بالعالم من خلال وسيط بصري مفتوح على التأويل، وهذا ما تؤكده قراءات حديثة لفن الشارع والغرافيتي، إذ يُعرّف مؤلفا كتاب (الغرافيتي وفن الشارع: القراءة والكتابة وتمثيل المدينة)، أفراميديس وتيسيليمبونيدي، هذه الممارسات بوصفها (أفعالاً مادية وممارسات ثقافية في آنٍ معاً، تجمع بين ما هو مرئي وما هو رمزي)، وتمنح الجدران طاقة تواصلية تتجاوز مجرد الجماليات إلى التفاعل الاجتماعي والسياسي.

وقد شبّه الشاعر السريالي ليو ماليت جدران المدينة بأنها (حقل غير محدود من التجليات الشعرية)، تماماً كما كانت جدران الكهوف الأولى تجلّياً لصوت داخلي يسعى لإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم، وهذا ما يُلمح إليه أحد الكتّاب حين يقول (الغرافيتي قصيدة تكتبها المدينة لنفسها)، في إشارة إلى أن فعل الكتابة على الجدار ليس منفصلاً عن النسيج الحضري، بل ينبع من داخله ويعيد تشكيله من جديد.

لذا تصبح هذه الكتابة مرآة للذاكرة الجمعية والهويات المهمّشة، إذ (تتناقض غالباً مع السرديات المهيمنة) كما يذهب مؤلفا كتاب (الغرافيتي وفن الشارع)، فهي تعكس التوترات الكامنة في الفضاء الحضري، فالجدار ليس مجرد حامل للنص، بل (أرشيف بديل) يوثق اللحظات التاريخية والسياسية التي لا تُلتقطها السجلات الرسمية.

وهكذا، يتلاقى وعي الإنسان الأول، وهو يحفر مشهد الصيد على جدار كهفه، مع وعي الإنسان المعاصر وهو يكتب قصيدة احتجاج أو حب أو انتماء على جدار مدينة أوروبية، فكل كتابة على الجدار هي، في جوهرها، لحظة شعرية تسعى إلى الإمساك بما يتفلّت، وإعادة تمثّل الذات في مرآة العالم.

يُعتبر كتاب (ضدّ أفلاطون- قصائد على حيطان المدن) ترجمة وتقديم ناصر مؤنس، شهادة شعرية معاصرة تكشف عن الحضور الرمزي والبصري للجدران بوصفها فضاءات تعبير إنساني، تتحول فيها المادة الصمّاء إلى حامل للمعنى، ووسيط ثقافي يعكس جدلية العلاقة بين الإنسان والكون، والذي يصف فيه مؤنس شعوره بالخيبة، أنَّ مدينته التي ولد فيها وهي بغداد (على الرغم من عمقها الحضاري إلا أنها لا تريد أن تحتفظ بالأثر، أرادت أو (أريد لها) أن تمحو التراث الحضاري الضارب في عمق التاريخ وتتزامن مع العدم) ربما عكس المدينة الأخرى التي تمثل الوطن البديل؛ مدينة (ليدن الهولندية) والتي (يحتل الأثر حضوراً لافتاً في تشكيل هويتها)، حيث مثلت (القصائد المكتوبة على الجدران) أحد أثارها، والتي يضعها هذا الكتاب في مواجهة مباشرة مع التاريخ الأدبي الرسمي، مؤكّداً أنها ليست محض كتابات عابرة، بل رسائل شعرية عميقة تعيد تعريف الفضاء العام، وتُضفي على الجدران دلالة مغايرة، ففي (صفحة 6) من الكتاب، نقرأ مشهداً افتتاحياً دالاً على هذه الرؤية، إذ يصف لحظة لقائه بقصيدة عربية مرسومة على جدار في مدينة ليدن الهولندية، وهي لـ(جبرا إبراهيم جبرا)، لذا يتساءل (هل هي حاضرة هنا من دون معاونة أحد، هل هي حاضرة من أجلي، هل جاء بها بياض هذا اليوم الثلجّي، هل كتبت نفسها كتعويذة حارسة؟ يا لوهج الشعر في وعي من يعاني من ثقل وطأته)، هذا التساؤل الاستبطاني لا يكتفي بتمجيد أثر الكتابة، بل يمنح الجدار بُعداً شعرياً يوازي المخيال الأول الذي شكّل الرسوم الصخرية عند الإنسان البدائي.

وفي ضوء هذه الرؤية، يتحول الجدار إلى عنصر مركزي في إنتاج الوعي الجمالي والرمزي، فـ(الجدران هي شهود المدن، والغرافيتيا تدعونا إلى رؤية نوع جديد من الفضاء العام في المدينة المعاصرة… يدعونا هذا القول إلى اعتبار المدينة نصّاً يحمل بلاغته البصرية وسلطة خطابه)، هنا تُعاد صياغة المدينة نفسها بوصفها نصاً مفتوحاً، تتشكل معانيه من تفاعلات متعددة بين النص والمكان، بين الكلمة والحائط، بين المارّة والقصيدة، بما يشبه العلاقة الجدلية الأولى بين الإنسان وجدران الكهوف التي عبّرت عن ذهوله أمام الطبيعة.

يتقاطع الكتاب كذلك مع أطروحة "الفضاء الرمزي" التي أشرت اليها سابقاً، فكل جدار يُقرأ هنا لا كحامل فيزيائي للكتابة، بل كبنية دلالية مشبعة بأبعاد سردية، رمزية، وتاريخية، إذ (تختلف القصيدة الحائطية عن القصيدة المنشورة في كتاب فهي ليست عملاً أدبياً فحسب بل مدونة دالة على حوار بين "الحائط والمدينة" "الشعر والحياة" "الرسم والكتابة" إلى جانب دلالاتها الإبداعية هي وثيقة تكشف عن الجانب "الثقافي- الاجتماعي" للمدينة)، هذا الوعي بوظيفة الجدران كمرآة ثقافية يتجاوز التصور التقليدي للمكان، ليقارب ما يمكن تسميته بـ"أنسنة الجدران"، أي تحويل الفضاءات الباردة إلى حوامل لحرارة التعبير الإنساني وقلقه وحيرته الوجودية.

أما من حيث العلاقة مع الإنسان ككائن يسكن الرموز، فإن هذا كتاب يطرح بوضوح البعد الأنطولوجي للقصيدة الحائطية، إذ يصرّ مؤنس في أكثر من موضع على أن هذه النصوص لا تنتمي إلى المؤسسة الأدبية الرسمية، بل إلى الهامش، إلى الرفض، إلى ما يشبه "الصرخة" ضد العالم الحديث الذي بات عصراً رقمياً، يفخر قراءه (بتلك القطيعة الإبستيمولوجية مع روح الاساطير والملاحم الشعرية والفنون الشعبية والخيالات التي تعيش في وفاق تام مع محيطها)، هنا وبهذا المعنى تتماهى الجدران مع الكهوف الأولى، حين كانت الحجارة أول مرآة لانعكاس الذات، وتحوّلت يد الإنسان إلى وسيلة لترسيخ حضوره الهشّ أمام هيبة الكون.

يقدم هذا الكتاب خطاباً نقدياً بصرياً حول الجدار بوصفه حيزاً حيّاً، يتحول فيه النص الشعري من ممارسة فردية إلى فعل اجتماعي، ومن تعبير شخصي إلى تمثيل رمزي لذاكرة المدينة، وكأن كل حائط يصبح في ذاته "وثيقة وجود"، وهو ما يعيدنا إلى أن الجدار، ومنذ البدء، كان وسيظلّ تجسيداً لانبثاق الوعي الإنساني الأول، وتحوّله من الكينونة الغريزية إلى الكينونة الرمزية، التي تتوسل الفن والشعر لقول ما لا يُقال.

***

أمجد نجم الزيدي

........................

* ناصر مؤنس (ترجمة) ضدّ أفلاطون: قصائد على حيطان المدن، دار مخطوطات، 2024.

 الكتابة الشذرية.. أسلوب النبذة..

كما يقول نيتشه

***

نص شذري

يحيى السماوي

نهركِ الذي شربتُهُ

قُبلةً قُبلة

ذَرَفتُهُ

دمعةً دمعة

....................

النص الشذري الذي هو آخر المحاولات التجريبية الشعرية.. الكاشفة عن تأملات ماورائية للوجود الانساني تحققها صوردلالية قائمة على الانزياح الكلمي والإيحاء والترميز والإدهاش والعصف الذهني والتكثيف والايجاز الجملي والتبئير والتركــيز والابتــعاد عن الاستــطراد الوصفي وتفادي الكتابة النسقية..

هذا النوع من الكتابة له وجوده في التراث العربي، لاسيما في المنتج الصوفي والعرفاني.. الذي يقوم على شعرية الانفصال ويتكئ على بلاغة التشظي التي تشكل بمجموعها شاعرية تأملية وجدانية تعتمد لغة يومية ومفردات موحية بعيدة عن التقعر والضبابية.. مع خيال ممزوج بواقعية تسمو بانزياحات لغوية وفواصل تتارجح ما بين الصمت والنطق..

وبالوقوف على عوالم النص الشذري الذي نسجته انامل منتجة الشاعر يحيى السماوي..

نهركِ الذي شربتُهُ

قُبلةً.. قُبلة

ذَرَفتُهُ

دمعةً.. دمعة

نجد انه نص يكشف عن ذهنية متفتحة ورؤية باصرة لوعي الفكرة وتحقيق اضاءتها.. القائمة على مقاطع تأملية.. وانطباعات عقلية ونفسية مستقلة بنفسها على المستوى البصري.. والمتكاملة دلاليا وتركيبيا وتداوليا.. .فضلا عن قيامه على اسلوب التكرار الدال على التوكيد والنمطية الصورية والدلالة النفسية التي من خلالها يفرغ الشاعر المنتج مشاعره ليعيد التوازن ويكشف عن ايقاع داخلي مؤكد للحالة النفسية والانفعالية للذات المنتجة.. فكان لهذا التحول أثره الفاعل في انفتاح النص على المستوى الجمالي والفني والاسلوبي.. اضافة الى الصراعات الضدية (شربته /ذرفته..) التي اضفت على النص نموا متصاعدا بصوره القائمة على الانزياح، والمفارقة والإيحاء، والترميز والإدهاش، والعصف الذهني.

من كل هذا الايجاز نستخلص ان الشذرة التي عانقت الوانا تشكيلة حققتها ريشة منتجها الفنان التشكيلي حيدر عباس عبادي وهي تمارس فعلها وتفاعلها والعوالم النصية بحركية إيقاعية قوامها: الدينامية التي تبدو أنها ضد النسقية، وضد النظام النصي بتجاوزها المالوف من القول.. مع محاولة منتجها استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي ـ تشكيلي قادر على توليد المعاني.. مع اعتماد الرمز النصي المكثف.. الذي يسمو بالنص وينقله الى عوالم ابداعية محركة للذاكرة وكاشفة عن خزينها المعرفي.. كونه يمتلك قدرة تعبيرية مختزلة لتراكيبها الجملية.. خارجا عن المالوف والقوالب الجاهزة.. بتخلقه من ذاته وعلى ذاته في حركة بؤرية مكثفة.. نامية.. متجددة.. ..

***

علوان السلمان

 

صدرت رواية (عالَم صدام حسين) في بداية عام 2003 عن دار الجمل في كولونيا بألمانيا، لكاتب مجهول باسم مستعار (مهدي حيدر)، وتقع في أربعمائة وأربع عشرة صفحة. صدرت الرواية قُبيل أسابيع قليلة من غزو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها للعراق لإسقاط النظام، وكأن الرواية جاءت ضمن الحملة الإعلامية والدعائية الداعمة لعملية الغزو، على قاعدة (كلمة حق يُراد بها باطل).

التمهيد:

في رواية (وليمة لأعشاب البحر) للروائي السوري حيدر حيدر (1936 – 2023) وفي الفصل الذي عنونه الكاتب (اللوياثان) ويقع في أربع عشرة صفحة، من ص225 إلى ص238، يوجز الكاتب وبأروع وصف سيرة الحاكم المرعب الذي انبثق من ما وراء الكون ليعيد للأمة العربية والعالم، سيرة جنكيز خان وهولاكو وهتلر وستالين لئلا يتم نسيانهم:

(في غفلة من الزمن وضياع الوعي البشري، جاءنا ذلك اللوياثان المجنون. داهم القارة العذراء بقوة جنده وظلامنا. بدأ عمليات التطهير داخل البلاد ونشر الرعب بدأً من عائلته فعشيرته فطائفته فحزبه فالشعب الذي سطا عليه. وكما كان القياصرة المعتوهون والممسوسون يرتعدون من كوابيس المؤامرات والاغتيال، كان هو يتخيل في ليالي مجده المؤرقة أن هناك خونة يحيكون ضده مؤامرات اغتيال داخل جهازه الحزبي والعسكري.. كان الأمر يتم على شكل مسرحي للمشبوهين أو الذين لم يعلنوا الولاء المطلق أو الذين ينبسون بانتقادات في الاجتماعات السرية للحزب. وكان هؤلاء المتهمون يُغتالون سراً في منازلهم أو مكاتبهم أو يُصدمون بعجلات السيارات في الشوارع، وفي اليوم الثاني تقام لهم جنازات مهيبة كشهداء للوطن.. ذلك اللوياثان الدموي سطا بسحره الأرجواني وحركاته الأكروباتية على ملايين ملاثة بأقدارها وشهواتها العضوية.) ص231.

ولمن لا يعرف (اللوياثان) فقد وردت بحقه تعريفات عدّة، أهمها: هو وحش بحري خرافي أسطوري شبيه بالتنين ينفث من فمه ناراً، جاء ذكره في النصوص التلمودية.

ويبدو أن (اللوياثان) العراقي قد عمل بقاعدة دوستويفسكي: (الأصعب هو امتلاك الفكرة والأسهل هو قطع الرؤوس)، فما دامت الرصاصة والمدية والساطور تقوم بالواجب وزيادة، وهي أدوات (أصدق إنباءً من الكُتبِ)!.. ولم لا ونحن في بيئة خصبة ينطبق عليها قول شاعر العصر الأموي عمر بن أبي ربيعة:

كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا... وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ.

ملخص الرواية:

ــ يجد القارئ نفسه أمام رواية متعددة الاتجاهات، فهي رواية (سياسية، تاريخية، سيرية، بانورامية، تسجيلية، وثائقية، صحفية)، وهي ليست على لونٍ واحد. شخصيتها الرئيسة هو ذلك الصبي القروي (صدام حسين) القادم من (شويش) إحدى قرى تكريت، الذي سرعان ما تسلق المناصب كما تسلق الصعاب والجرأة والحزم والشدة والقسوة والفظاظة والشراسة. وإلى جانب هذه الشخصية تناولت الرواية عشرات الشخصيات السياسية والعسكرية التي مرّت في تاريخ العراق خلال القرن العشرين وخصوصاً خلال العقود الأربعة التي كانت تتحدث عنها الرواية (الخمسينيات، الستينيات، السبعينيات، الثمانينيات). الكثير من أحداث هذه الرواية (تاريخياً وسياسياً) وقعت فعلاً، وهي متداولة في المؤلفات التي أرشفت تلك الحقبة من تاريخ العراق السياسي، ومنها مثلاً كتاب (العراق.. الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار) للباحث العراقي المعروف حنّا بَطاطو. ولا نغفل وجود الجانب الأدبي الذي طعّمه الكاتب بخيال مبدع أضاف للرواية تلك المتعة التي يطلبها القارئ الواعي، فالمؤلف أراد الابتعاد (أحياناً) عن سيرورة الأحداث التاريخية ودقتها، فجمح به الخيال ليبتدع بعض الشخصيات الوهمية والأحداث غير الحقيقية، وقد كان موفقاً جداً في اشتباك الحقيقي بالخيال، والمتلقي الواعي هو من يكتشف ذلك بناءً على مخزونه الثقافي والفكري.

التحليل الفني للرواية:

1ــ يرى (تودوروف) أن الهدف والغاية من تحليل النص (هو الكشف عن العلاقات الأساسية التي تشكل أنساقه البنائية الخاصة والتي تتيح لنا التعرف على دلالاته الظاهرة والتاريخية والأيديولوجية وعلى طبيعة الجدل بين النص الظاهري والنص الخفي الذي يتمرد تحت قشرة هذا النص الظاهري ويتفاعل معه) وتأسيساً على ذلك، فإن كاتب هذه الرواية ليس لديه ما يخفيه بين السطور، فقد كشف مضمون روايته مذ أعلن عن عنوانها الصريح الكاشف، ومروراً بصفحات الرواية التي تجاوزت الأربعمائة بقليل وجميعها كانت تشير إلى تلك الحقبة السياسية من تاريخ العراق وما خلفته من صراعات وتنافس غير شريف للاستحواذ على السلطة.

2ــ إذا كان العنوان هو العتبة الأولى للنص والنص الموازي له، فيمنحه هويته من خلال حضوره السيميائي الذي غالبا ما يزج القارئ في لعبة الكشف والتأويل تحت وطأة الضبابية والغموض في العنوان. فإننا هنا أمام عنوان مكشوف للقارئ مسبقاً، ليس فيه ذلك الغموض المفخخ بتأويلات متعددة. (عالَم صدام حسين) هكذا رسم المؤلف بوضوح حدود سرديته، إنه ذلك العالَم الذي ساهم بتكوين شخصية صدام حسين، من (قرية، مدينة، فقر، يُتم، حزب، سياسة، عسكر، طائفة، عشيرة، داخل، خارج، مؤامرة، خيانة، عدو، فصيل مسلح، انقلاب،...الخ) وهذه الشخصية الرئيسة التي ستكون محور الرواية وقطبها هي شخصية نامية، تكبر وتتعملق كلما تقدم تسلسل السرد، من طفل يتيم إلى نائب الرئيس ظاهراً ولكنه الرئيس فعلاً، فكان يملي ما يريد على الرئيس (العجوز) المحاط بأجهزة أمنية وسرية تحصي أنفاسه أسّسها وأدارها النائب بنفسه. ففي مرحلة البناء هذه كان عليه أن يكون رجل الظل الحاضر الغائب ويشرف على الهيكل من وراء الكواليس.

3ــ مهّد الكاتب لسرديته مقدمة من ثلاث وخمسين كلمة ليكون القارئ على بيّنة أن ما يقرأه رواية وليس شيئاً آخر، فيها من الخيال كما فيها من الواقعية، وفيها من اللمحات الأدبية كما فيها من الأسلوب الصحفي والمقالي: "هذه الرواية ليست نصاً تاريخيا، بل هي عمل من نسج الخيال، يستغل الواقع لبناء عالم خيالي موازٍ للعالم الواقعي، يتطابق معه أحياناً ويختلف في أحيان أخرى، فتعطي شخصيات معروفة مصائر مختلفة عن الواقع التاريخي بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية كما يحوي هذا الكتاب اقتباسات عربية وأجنبية من أعمال أدباء ومؤرخين وصحافيين وسياسيين وشعراء." ص5.

4ــ كُتبت الرواية بتقنية الراوي/السارد الخارجي (الكلي العِلم) مع السماح لبعض الشخصيات بحرية البوح والتعبير بحسب تقنية (التداعي الحر) وهنا أبدع الكاتب في رسم تلك الشخصيات وكشف أحاسيسها فرحاً أو حزناً. كما أبدع في استدعاء أنواع الأكلات والسجائر والمشروبات الروحية والجنس بحسب ما يقتضيه المشهد من دون تفريط، وكشف المؤلف المجهول عن دراية لا بأس بها بأسماء محلات وشوارع وأزقة ومقاهي وبارات ونُصب وجداريات بغداد.

5ــ جاءت الرواية بأسلوب التدوير حيث بدأت الرواية من حيث تريد أن تنتهي واقعاً ثم انتهت من حيث بدأت:

"بدأ الهجوم عند الثانية فجراً بتوقيت بغداد يوم الخميس 16 كانون الثاني/يناير 1991. كان صدام نائماً ببذلة كاكية مثقلة بالنياشين، وبحذاء عسكري، مع مسدس في حزام جلد يزنر وسطه.. في مقر محصن تحت ملعب كرة قدم يبعد خمسة كيلومترات عن المجمع الرئاسي حيث أقام 12 سنة محاطا بحرسه الجمهوري منذ أعلن الرئيس أحمد حسن البكر يوم 16 يوليو/ تموز 1979 على التلفزيون، وأمام الأمة جمعاء، اعتزاله وتنحيه عن كل مناصبه لأسبابٍ صحية". ص7...

ثم يسترجع المؤلف لأحداث وقعت قبل عدة عقود، وقبيل انتهاء الرواية يعود لما بدأ به:

"موجة من الغارات الجوية في ذلك الليل البارد من كانون الثاني/يناير 1991.. في الملجأ المحصن تحت مدرجات ملعب كرة القدم نام الرئيس العراقي صدام حسين غير مبالٍ بالانفجارات التي تهز الأرض والسماء" ص397.

6ــ الرواية ممتعة وشيّقة، وهي من النصوص القليلة التي يستمتع بها القارئ أمام هذا الكم الهائل من النصوص الروائية التي تندم أحياناً على قراءتها. والذي أعطى للرواية هذه المتعة العالية هو أسلوب السرد المتدفق والانتقالات السريعة بين النصوص والذي يُعبّر عنه نقدياً بـ(المفارقات الزمنية) وهي بحسب قاموس السرديات: (التنافر الحاصل بالنظام المفترض للأحداث، ونظام ورودها في الخطاب) جيرالد برنس، قاموس السرديات، ص16.

إذ عمل الكاتب على قطع التسلسل الزمني لسرديته ليسترجع أو يستبق الحدث، مما منح النص الروائي تلك السِمة الفنية والجمالية التي ينتظرها القارئ الشغوف بنصوص مميّزة تثيره وتشد انتباهه. وفي هذه الرواية وجدنا تقنية الاسترجاع والاستباق حاضرة بكل قوة.

ففي الصفحة الحادية عشرة من الرواية وبينما المؤلف يتحدث عن طفولة (صدام حسين) القاسية في بداية الأربعينيات، ثم نجده يقفز إلى عام 1975: (قبل أن يهندس اتفاقية الجزائر في 1975، ويتخلى عن نصف شط العرب، كان الأكراد في الشمال يؤرقون سلطة صدام حسين الخفية بثورات مسلحة...) ص11. وبعد عدّة أسطر أخرى يعود إلى الأربعينيات: (خرج خاله خير الله طلفاح من السجن في 1946 مطروداً من السلك العسكري)، وهكذا يستمر المؤلف في هذه المفارقات الزمنية طيلة صفحات روايته.

7ــ الوصف في الرواية هو أحد أركانها الأساسية، وهو الذي يعطي للرواية ذلك المذاق الذي يستمتع به القارئ، ومن دونه تكون الرواية جافة وباهتة وبلا لون ولا طعم. وفي هذه الرواية لجأ المؤلف إلى الوصف باتجاهين: الوصف المادي، والوصف النفسي أو المعنوي.

الوصف المادي: قدم المؤلف عن طريق (السارد الكلي العلم) وصفاً خارجياً للحياة العامة من موجودات وجمادات وطبيعة، كما جاء في هذا النص على سبيل المثال: "بلغ الكرخ عند الغروب، مع كيسٍ ملقى على كتفه. في الشارع الطويل مشت أمامه عجوز محنية الظهر وحفيدتها. برد بغداد دغدغ جرحه القديم. جاءت ريح خفيفة وحملت ضجّة الكرخ بعيداً عنه. لم تكن مصابيح الكهرباء أضيئت بعد.. أسرع الخطى متأكداً أنه بات في بلده ودخل سوق الخضر. قبل أن يبلغ مخزن التمور أضيئت المصابيح دفعة واحدة، ورأى في النور الأصفر كيف تبدلت معالم الحارة. دكاكين زالت، بيوت اتسعت، وأزقة سُدّت بالكراجات. الشجرة الكبيرة أمام الجامع لم يبقَ منها إلا قرمة الجذع." ص73 – 74. نجد في هذا النص كيف رسم السارد/الراوي بدقة مسار الشخصية وهي تجوب الشوارع وجعل الجمادات تنبض بالحياة من خلال الوصف المتدفق المتميّز.

الوصف النفسي أو المعنوي: وهو الوصف الذي يُعنى بعرض تداعيات الوعي الداخلي للشخصية، وكشف الحالة النفسية والشعورية لها، كما في هذا النص على سبيل المثال: "بينما البَرَد يطقطق على الزجاج. رفع كوب القهوة السوداء إلى فمه، وقبل أن يلمس السائل الساخن شفتيه عصفت به رياح حنين غادرة فأضاع الحدود بين أرض الواقع وسماء الخيال، وانتابه ذعرٌ مبهمٌ إذ أحسّ للحظة خاطفة أنه لم يغادر ذلك السجن تحت الأرض وأنه ما زال يتعفن في زنزانة رطبة ينيرها نورٌ خفيف يتسرب عبر نافذة عريضة متسخة وعالية." ص126. وهنا أيضاً نجد السارد/الراوي كيف رسم بدقة اختلاجات الشخصية من الداخل كاشفاً تداعيات الحالة النفسية والشعورية لها.

8ــ لم تهتم الرواية كثيراً بدراسة سايكولوجية صدام من الداخل، بقدر اهتمامها بالمحيط الخارجي له من الناحية الاجتماعية والسياسية، وأكبر الظن عندي أن المؤلف تحاشى ذلك ليحافظ على حياديته في السرد. وهذا لم يمنع المؤلف أن يصوّر شخصية صدام بالشخص القليل الكلام الكثير التفكير، الذي يخطط لكل شيء بصمت ثم يضرب ضربته الاستباقية من دون ثرثرة، فيكون صاعقاً خاطفاً، يقتنص الفرصة لحظة ما تلوح في الأفق من دون تردد: "يكتشف رويداً رويداً أن الصلابة الكامنة في الكلمات هي التي تحسم المواقف. الصلابة، والقدرة على اكتشاف نقطة الضعف في الخصوم. والأهم من كل شيء، الأهم على الإطلاق، القوة، ألا تضعف أبداً، أن تكون دائماً أشرس من الآخرين" ص24.

9ــ كشفت الرواية أهم المحطات الحياتية والسياسية التي عاصرها وتفاعل معها صدام حسين: (اليُتم، الطفولة البائسة، علاقته بخاله خير الله طلفاح، علاقته بابن خاله عدنان خير الله، علاقته بزوجته ساجدة خير الله،رعلاقته بأحمد حسن البكر، علاقته بميشيل عفلق، علاقته المرحلية برفاقه والتخلص منهم لاحقاً واحداً بعد الآخر، تدرجه في المسؤوليات والمناصب) ونقلت الرواية للقارئ صورة واضحة عن الشخصية المركزية فيها، كما كشفت الرواية الاستراتيجية التي بنى عليها صدام حياته، وتمثل ذلك بنقاط محددة كأنها دستور عمله الحزبي والسياسي:

(المَلِك خارج مملكته كلب) ص50.

(يُمكن للحاكم أن يضرب الأحزاب، ويُسمح له حتى أن يرمي حلفاءه في السجون، ولكن بشرطٍ واحد: الاحتفاظ بالقدرة على إقناع النفس بصواب أفعاله. إذا اقتنع هو، لابدّ أن تقتنع الجماهير. إذا اقتنع هو، وبالدهاء الكافي، يستطيع إقناع الجماهير.) ص62.

(إياك أن تكشف مركزك الحقيقي، مقدار قوتك، قبل أن يدرك الجميع أنك فعلاً مصدر خطر، أنك الأقوى والأشرس) ص63.

(الشراسة ليست طبعاً يُولد فينا بل هي قرارٌ إرادي يتخذه المرء بكامل وعيه. الحرص ضروري والصبر فضيلة والتأني طريق النجاة. لكن الأهم من كل ذلك دقّة التنفيذ. الرصاصة التي لا تصيب من عدوك مقتلاً هي رصاصة ترتد إلى صدغك ولو تأخرت في مسارها الأفعواني عشر سنين.) ص97.

(على البعثي أن يتحصن في قلعته) ص129.

(الضعيف يُضعف الجماعة، يُهدد الحزب، علينا أن نتحصن في قلاعنا وأن نستعد طوال الوقت) ص130.

10ــ وظّف الكاتب في روايته مفردات غير عراقية، مما يدل على عدم عراقية الكاتب، وجهله بالمفردات الشعبية في العراق، ومنها: {صباط (بمعنى الحذاء)، الجاط (بمعنى الطبق أو الصحن)، الحارة (بمعنى المحلة أو الحي)، الزلعوم (بمعنى البلعوم او الحلقوم)، الجنرال والكولونيل (رتب عسكرية)، الكنزة (بمعنى (البلوزة)، القمباز (بمعنى الصاية أو الزبون، المازوت (بمعنى الكاز أو الوقود)، الزاروب (بمعنى الدربونة أو الزقاق).. وسنعود لهذه المفردات لاحقاً بشيء من التفصيل.

11ــ يمكن أن نعد هذه الرواية من روايات (الدايستوبيا) حيث صوّرت مدينة بغداد وهي الفضاء الأبرز في الرواية، على أنها مدينة العنف والجريمة والاغتيال والفساد والجنس والخيانة، فحكامها رغم اختلافهم الأيديولوجي ينتهجون (وهذه حقيقة لا غبار عليها) نهج التوحش والإرهاب والتخلف وخنق الحريات وعدم التعايش مع الآخر المختلف وفرض نظام سياسي صارم لا يقبل الرأي الآخر. هي بغداد التي حولها الظلاميون المعقّدون بهوس السلطة إلى مدينة مستباحة نتيجة صراع الإرادات والضرب تحت الحِزام وكسر العِظام، هي بغداد التي تنام على إيقاع انقلاب وتستيقظ على آخر، وعندما لا يجد النظام من ينقلب عليه ينقلب على نفسه ويأكل بعضه بعضاً، هي بغداد فاضل العزاوي في روايته (الديناصور الأخير) حيث يقول: (وفي مدينة بغداد، حيث يستقر الموتى هادئين، صامتين، رأى "س" الذي يُلقب بالديناصور أحياناً، غاليلو جاثياً أمام محكمة التفتيش ذات الوجه الأبوي السماوي، يدلي باعترافاته عن الأحزاب التي عمل داخل صفوفها.

ــ أنا غاليلو، وفي السبعين من عمري، سجين جاثٍ على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع وأحتقر من يقول أن الأرض تدور.

ضحك الديناصور: إنهم هكذا دائماً!) ص63.

12ــ توقفت الرواية عند أهم المحطات السياسية التي مرّ بها العراق خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات: ثورة أو انقلاب تموز 1958، تمرد عبد الوهاب الشوّاف آذار 1959، محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم 1959، انقلاب شباط 1963، انقلاب تشرين 1963 على الحرس القومي، مقتل عبد السلام عارف 1966، انقلاب تموز 1968 على دفعتين: 17 تموز، 30 تموز، المؤامرات والخيانات والدسائس وما رافقها من إعدامات بالجملة للضباط والوزراء والمسؤولين والمعارضين، التوتر بين الحكومات المتعاقبة والأكراد، قصر النهاية رمز الاعتقال القسري والتعذيب الرهيب الذي يذكرنا بسجن الباستيل الفرنسي، ..الخ.

13ــ تحاشت الرواية المساس بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وهما لهما الأثر الكبير في الأحداث السياسية لتلك الحقبة (وما بعدها طبعاً) سواء من تحت الطاولة أو من فوقها. ولنذكر القارئ بما جاء في كتاب حنا بطاطو المشار له سابقاً: (اتهام عناصر من القيادة القومية بإقامة اتصالات مع الاستخبارات البريطانية) ص282. وجاء في ص300 من الكتاب نفسه، على لسان ملك الأردن الحسين بن طلال خلال لقاء أجراه معه محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 27 أيلول 1967: (إن ما جرى في العراق في 8 شباط/فبراير قد حظي بدعم الاستخبارات الأمريكية)

وهذا التحاشي يؤيد وجهة نظرنا أن الأمريكان وبريطانيا هما وراء كتابة هذه الرواية.

14ــ جاء في ختام الرواية في الصفحة 414 في إشارة إلى تاريخ كتابة الرواية: (كتمندو/نيبال 1992 – ليما/بيرو 2002)

ومملكة النيبال (أصبحت جمهورية في عام 2008) تقع في قلب قارة آسيا بين الهند والصين، أما جمهورية بيرو فتقع في غرب قارة أمريكا الجنوبية. ولا نجد أي رابط بين مكان الدولتين وبين كاتب يتناول هكذا رواية تُعنى بشخصية عربية. وقد تكون عبارة الكاتب التي ختم بها روايته صحيحة وقد تكون للتمويه لتشتيت ذهن القارئ.

أخطاء في الرواية:

لم تخلُ الرواية من وجود بعض الأخطاء، ومنها:

1ــ جاء في الصفحة 13: "صلاح الدين بطل حطين الذي خرج من هذه الديار وقهر الفرنجة في القدس سنة 1138"

والصحيح أن هذا تاريخ مولد صلاح الدين، أما تحرير (بيت المقدس) فكان في عام 1187.

2ــ جاء في الصفحة 26: "حين رجع إلى بغداد وجد مهمة ثالثة في انتظاره: تهذيب إمام جامع الحسين الذي وصف البعثيين في خطبة الجمعة بقُطاع الطرق" وفي السياق نفسه جاء في الصفحة 28 عن إمام الجامع نفسه: (قارن بين خطته الصبيانية لترهيب إمام جامع عطا)

وهنا نجد أن اسم الجامع قد تغيّر من (جامع الحسين) إلى (جامع عطا)، وهو خلل بالتأكيد.

3ــ جاء في الصفحة 72: "وكراساً بقلم ميشيل عفلق: على سبيل البعث"، وتكرر في ص128: "أعاد قراءة: على سبيل البعث 7 مرات"، وفي ص187: "في 1960 قرأ: على سبيل البعث"

والصحيح في اسم الكتاب (في سبيل البعث)

4ــ جاء في الصفحة 161 عند الحديث عن خير الله طلفاح: "في خريف 1981، عيّنه الرئيس العراقي صدام حسين عمدة لمدينة بغداد"

والصفحة كلها أخطاء معلوماتية. أولاً: مفردة (عمدة) غير متداولة في العراق، وإنما محافظ. ثانياً: صار خير الله طلفاح محافظاً لبغداد بداية السبعينيات وليس في بداية الثمانينيات، إذ اشتهر عنه محاسبته ارتداء الزي الرجالي (الجارلز) والنسائي (البكيني) السائد حينئذ، وكتب عن ذلك القاص عبد الستار ناصر قصته القصيرة (سيدنا الخليفة) ونُشرت في عام 1975 وسُجن على أثرها عدة أشهر.

5ــ جاء في الصفحة 180: "أُعدّت خطة انقلابية تُنفذ في 6 كانون الثاني/ يناير 1958، يوم استعراض الجيش. عبد الرحمن رفض تنفيذ الخطة بحجة عدم وجود ذخيرة كافية. بعد خمسة أسابيع أقدم الأخ الأصغر – عبد السلام – على تنفيذ ما عجز عنه الأخ الأكبر عبد الرحمن. ثورة 14 تموز/يوليو 1958"!

والصحيح بين شهر كانون الثاني 1958 وشهر تموز 1958 ستة أشهر وليس خمسة أسابيع.

6ــ جاء في الصفحة 181 عند الحديث عن الأخوين عارف: "تحطمت طوافة الرئاسة على صخور بادية الشام، فوجد عبد الرحمن عارف نفسه مضطراً للارتفاع درجة أخرى على سلم السلطة)

والصحيح كما هو المشهور، أن تحطم طائرة عبد السلام عارف كانت في (التنومة) في البصرة، فما علاقة البصرة ببادية الشام؟

7ــ جاء في الصفحة 191: (رئيس الحرس الجمهوري العقيد عبد الرحمن داود) وتكر الاسم أكثر من مرة.

والصحيح هو إبراهيم عبد الرحمن الداود.

8ــ جاء في الصفحة 284 وما بعدها بعدة صفحات تم استدعاء اسم "يوسف رزق الله غنيمة" على أنه شخصية يهودية في العهد الملكي وصار وزيراً للمالية لخمس مرات. ومات بحادث دهس بسيارة سعدون شاكر في عام 1970.

وهنا وقع المؤلف في خطأ مزدوج، فمن جهة هذا الاسم الثلاثي (يوسف رزق الله غنيمة) هو اسم شخصية عراقية مسيحية وليست يهودية، وهو سياسي ومؤرخ وصحافي وكاتب توفي في عام 1950، ومن جهة أخرى فاليهودي الذي صار وزيراً للمالية خمس مرات هو ساسون حسقيل المتوفى في عام 1932 (اسمه موجود أيضاً في هذه الصفحات). ربما كانت مشاهد وأحداث هذه الصفحات في الرواية من خيال الكاتب، وهو ما أميل إليه، ولكن كان عليه اختيار الاسم المناسب لشخصية اليهودي، لا أن يستدعي اسم شخصية مسيحية معروفة ويلبسها الثوب اليهودي.

9ــ جاء في الصفحة 286: "بقي حسقيل – يقصد وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل – في بغداد ثلاث سنوات ثم هاجر إلى كندا ومات بسرطان البروستات في مونتريال عام 1939" والصحيح أنه مات في باريس في عام 1932.

10ــ جاء في الصفحة 366 : "العقيد رفعت مصطفى أمر بتنفيذ عملية إنزال لمغاوير اللواء السابع عشر" لغرض القبض على ناظم كزار.

ولكن بعد صفحتين أي في الصفحة 368، يُتهم هذا العقيد بالتواطؤ مع ناظم كزار ويُحكم بالإعدام، ولكن تحت اسم (العقيد عزت مصطفى) مما يدل أن المؤلف أخطأ في الاسم، وهذا طبيعي لأن الرواية حفلت بعشرات الأسماء الحقيقة والوهمية، مما يستدعي نباهة ودقة في استدعاء هذه الأسماء.

11ــ جاء في الصفحة 386 عند الحديث عن فاضل البراك: "عام 1984 نشر الأستاذ المذكور كتاباً عنوانه (المدارس اليهودية والإيرانية في العراق) كان البحث الذي نال عنه شهادة الدكتوراه في جامعة لينين عام 1949"

وهنا وقع المؤلف في خطأ ثلاثي: الأول: كتاب (المدارس اليهودية والإيرانية في العراق) ليس هو أطروحة الدكتوراه لفاضل البراك، بل كان عنوان الأطروحة (دور الجيش العراقي في حكومة الدفاع الوطني والحرب مع بريطانيا سنة 1941). الثاني: أن العام الذي حصل فيه على الدكتوراه عام 1979 وليس في عام 1949 (علماً أن البراك من مواليد 1942، فكيف حصل على الدكتوراه في عام 1949؟)، الثالث: أن الجهة المانحة للشهادة كانت معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو وليس جامعة لينين كما ذهب مؤلف الرواية.

مجهولية مؤلف الرواية:

أكاد أجزم أن مؤلف الرواية (مهدي حيدر) هو اسم وهمي، وأن مؤلف الروائي الحقيقي هو كاتب أو صحفي غربي متمرس بالشأن العراقي، ولديه معلومات واسعة عن العراق، وكتب روايته هذه باللغة الانجليزية أولاً ثم قام مترجم عربي لديه خبرة واسعة بالترجمة الأدبية بترجمة الرواية إلى اللغة العربية. وهذا الجزم تأسيساً على ما سبق ذكره من الرواية وعلى ما يلي:

1ــ ورد اسم مولود مخلص التكريتي، باسم (مولود مكلس) مما يدل أن المترجم نقل الاسم كما هو، ولو كان المؤلف عراقياً لما خفي عليه اسم (مخلص)، فالمترجم نقل كلمة (مكلس) كما هير(mukhlis)

2ــ تكرر اسم عبدالرحمن داوود ضمن أسماء الذين قاموا بانقلاب 1968، والصحيح إبراهيم عبد الرحمن الداوود، ولو كان المؤلف عراقياً لما خفي عليه ذلك.

3ــ جاء اسم ناصر الحاني، وزير خارجية انقلاب 1968 باسم (ناصر الهاني) مما يدل على أن المترجم نقلها من اللغة الانجليزية كما هير(alhani)

4ــ جاء في الصفحة 10: (حاملاً صباطه) ويقصد الحذاء، ونحن في العراق لا نقول للحذاء (صباط)؟ علماً أن هذه الكلمة تكررت أكثر من مرة في الرواية.

5ــ جاء في الصفحة 15، في وصف ساجدة خير الله طلفاح: ".. وتشبه نساء الحارة حين تفك شعرها"، وتكررت مفردة (الحارة) أكثر من مرة في الرواية، وكما نعلم فإن مفردة (الحارة) مفردة شامية ولا يتم تداولها في العراق، وإنما يُقال: محلة أو طرف أو حي.

6ــ جاء في الصفحة 22 عن صدام حسين: (في 1976، بعد أن صار حاكم العراق الخفي "رجل بغداد القوي" خلع عليه رئيس البلاد أحمد حسن البكر رتبة جنرال، وهو الذي ما كان يوماً جندياً"

من المؤكد لا توجد ضمن التوصيفات العسكرية في العراق رتبة جنرال. علماً أن الرتبة التي مُنحت لصدام أيام حُكم البكر (رغم عدم دخولة للكلية العسكرية) هي الفريق أول الركن.

كما جاء في الصفحة 30: (الكولونيل عبد الكريم قاسم) وتكررت لفظ الكولونيل أكثر من مرة. كما تكررت مفردة (جنرال) أكثر من مرة. في الصفحة 78. وفي الصفحة 153. وهذه توصيفات وألقاب لا يتم تداولها في القاموس العسكري العراقي.

7ــ جاء في الصفحة 20: (كان مولود مكلس مات قبل وقت قصير.. حارب مكلس في الثورة العربية ضد الأتراك.. عينه الملك فيصل الأول مستشاراً خاصاً بعد استقلال العراق ونائباً لرئاسة مجلس الشيوخ)

لقد تردد اسم (مكلس) في الرواية أربع مرات، والمقصود به (مولود مخلص التكريتي)، وهو شخصية سياسية واجتماعية من مدينة تكريت، له الفضل بوصول الكثير من ضباط مدينة تكريت وقتئذ إلى السلك العسكري، ومنهم (أحمد حسن البكر، وخير الله طلفاح)

وجاء في هذا النص عبارة (مجلس الشيوخ)، ونحن نعلم أنه لا يوجد في العهد الملكي هيكل او توصيف إداري أو سياسي باسم (مجلس الشيوخ) وإنما هو (مجلس الأعيان)، وهذا يدل مع كتابة اسم (مكلس) هكذا، أن الرواية كُتبت أولاً بلغة غير عربية وتم ترجمتها لاحقاً من مترجم غير عراقي.

8ــ جاء في الصفحة 33: (في آب/أغسطس 1958 أُعلن تشكيل محاكم ثورية برئاسة ابن عم الرئيس قاسم، فاضل عباس المهداوي..) وتكرر ذلك في الصفحة 68.

والصحيح إنه ابن خالته وليس ابن عمه. ولو كان الروائي عراقياً لما خفيت عليه هذه المعلومة التي يعرفها الجميع.

9ــ يبدو أن المؤلف (ولكونه غير عراقي) لا يعرف من الرُتب العسكرية العراقية غير رتبة (العقيد) إذ تردد في معظم صفحات الرواية: (العقيد أحمد حسن البكر، العقيد عبد الكريم قاسم، العقيد عبد السلام عارف، العقيد عبد الوهاب الشواف، العقيد حردان التكريتي، العقيد صالح مهدي عمّاش، العقيد يحيى عمران، العقيد عبد الكريم سليم حيدر، العقيد عبد الرزاق النايف، العقيد عبد الرحمن داود، العقيد سعدون غيدان، العقيد حماد شهاب، العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت، العقيد عبد الغني الراوي، العقيد صالح مهدي، العقيد حسن الجاسم، العقيد مدحت سليمان، العقيد يحيى هيثم، العقيد حسن التازي، العقيد رفعت مصطفى).

فهؤلاء على امتداد صفحات الرواية كلهم (عقيد)! بحسب المؤلف. وهذا دليل آخر أن مؤلف الرواية ليس عراقياً، كما أن المترجم (كما أجزم) ليس عراقياً هو الآخر.

10ــرجاء في الصفحة 39 من الرواية: (لكنه لا يجيدها كما يجيد لعبة الداما)

إذا كان الكاتب يقصد بها لعبة (الدوملة) لكتبها كما هي باللهجة العراقية، ولو كان يقصد (الطاولي) لكتبها كما هي، ولو كانت غير ذلك فلا نعرف في العراق لعبة بهذ الاسم.

11ــ جاء في الصفحة 42 عبارة: (حجارة الباطون)

لا توجد تسمية في العراق لهذا النوع من الحجارة، وربما يقصد المؤلف بها (البلوك)

12ــ جاء في الصفحة 64 من الرواية: (يشرب ويدخن سيجارة تلو أخرى، حتى بدأ الألم في زلعومه)، كما جاء في الصفحة 81: (علقت اللقمة في زلعومه)، وجاء في الصفحة 139 (كأن قلبه عالقٌ في زلعومه).

إن هذه المفردة (زلعومه) لا يتم تداولها في العراق، بل يُقال (بلعومه) أو (حلقومه)

13ــ جاء في الصفحة 70 من الرواية: (قبيلة غرغرية الكردية ضد القبيلة ذاتها.. فقراء حي المكاوي ووادي هجر ضد ارستقراطية حي الدواش..)

والصحيح في هذه الأسماء: القبيلة الكردية اسمها (الكركرية) أو (الجرجرية)، ووادي هجر اسمه (وادي حجر)، وحي الدواش اسمه (حي الدواسة) مما يدل أن المترجم نقلها من اللغة الإنجليزية كما هي.

14ــ جاء في الصفحة 72رمن الرواية: (ملابسه الداخلية وكنزته الصوف امتصتا الدم النازف من بطنه)

ومن المؤكد أننا نحن في العراق لا نتداول كلمة (كنزة) وإنما نقول (بلوزة)

15ــ جاء في الصفحة 83 من الرواية: (وعاء الثلج المعدني، جاط الخضرة، صينية الكباب)

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (جاط) وإنما نتداول مفردة طبق أو صحن؟

16ــ جاء في الصفحة 95: (وقفا وسط سحابة كثيفة من الغبار ومن دخان المازوت)

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (مازوت) وإنما الشائع تداول (كازأو بنزين أو نفط أو وقود)

17ــ جاء في الصفحة 120 من الرواية: (أحد الرفاق البعثيين في السجن حسن عادل الأميري، سأله..)

والصحيح اسمه حسن علي العامري. مما يدل أن المترجم نقل كلمة (الأميري) كما هي:

(Al-Amiri)

18ــ جاء في الصفحة 135: (.. سعدون شاكر الذي يمت بصلة قربى إلى آل مجيد)

والحقيقة أن هذا الرجل واسمه الكامل (سعدون شاكر محمود المفرجي العبيدي) من مدينة بعقوبة في ديالى، وليس له صلة قرابة مع (آل مجيد)، ولو كان المؤلف عراقياً لما خفيت عليه هذه المعلومة.

19ـ جاء في الصفحة 147 من الرواية: (ورأى انعكاس قطة سمينة، قطعت الزقاق واختفت في زاروبٍ وراء مطبخ "الوردة البيضاء")

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (زاروب) وهي بمعنى الدربونة أو الزقاق الضيّق.

20ــ جاء في الصفحة 356 من الرواية: (في عام 1989 نشر عراقي مقيم في أوسلو/النرويج كتاباً عن عمله في المخابرات بعنوان – حقوق الإنسان العراقي – باسمٍ مستعارٍ هو وليد الهَيْلي)

والصحيح اسم الكتاب (حقوق الإنسان في العراق) ومؤلفه أحد كوادر حزب الدعوة واسمه وليد الحلي. ومن الواضح أن المترجم نقل اسم (الهَيْلي) كما هو من اللغة الانجليزية (ALHALI)

21ــ جاء في صفحة 367: (.. رأى فلاحاً آخر في القمباز الفاتح اللون وفوقه الجاكيت..)

ومن المؤكد أننا في العراق لا نتداول مفردة (القمباز) ؟، بل يقال باللهجة العراقية الشعبية (صاية) أو (زبون)

22ــ جاء في الصفحة 386: (جهاز المخابرات، الجهاز الأخطر، نشأ من بقايا جهاز "حنين".. طوال عامين تولى مسؤولية هذا الجهاز أستاذ لمادة التاريخ يُدعى فاضل البراق)!

ولو كان المؤلف عراقياً لما أخطأ في اسم (فاضل البراك) وهو أشهر من نارٍ على علم.

هذه النقاط ومما سبقها من نقاط أخرى أشرنا لها، تثبت بما لا يقبل الشك أن الكاتب غير عراقي، وأن الرواية تم تأليفها أولاً باللغة الانجليزية ثم تُرجمت إلى اللغة العربية من قبل مترجم عربي غير عراقي.

***

قراءة: عبد الله الميالي

"مروة وسام قره جة" شاعرة سوريّة من محافظة اللاذقيّة، خريجة معهد هندسي اختصاص مساحة، وخريجة أدب عربي، عملت في دمشق بمهنة التعليم حيث شغفها، كما عملت في تقديم البرامج التعليميّة على الفضائيّة السوريّة... تقول عن نفسها: (بأنها تهوى الشعر كما أظنه يهواني). هي تسعى جادة لديوان شعر متى سمحت الظروف يتضمن حروفها.

قصيدة بلا عنوان، هكذا أرادت الشاعرة "مروى وسام قره جة"، أن تقدم قصيدتها للمتلقي، ولا أعرف هل السبب في تركها العنوان شاغراً هنا سهواً، أم أنها تدرك أن "الحب" الذي شغل كل مساحة القصيدة هو أكبر من أي عنوان، فـ (الحب) لا يحده زمان أو مكان... نعم الحب أكبر من أي عنوان في هذه الحياة، بل هو جوهر الحياة، هو الروح التي تعبر عن وجود الإنسان ذاته، وإن فقد الإنسان روحه أو جوهره لم يعد هناك طعم حقيقي للحياة.

من هذه المنطلق القيمي الإنساني جاءت القصيدة بكل حمولتها الفكريّة والوجدانيّة والجماليّة مشغولة بالحب. فالشاعرة إنسانة تتجلى إنسانيتها في عمق أحاسيسها ووجدانها ومشاعرها وبوحها، ولفرطِ أو عمق معرفتها بجوهر ودلالات الحبِّ، تظل أُمنيتها أن يغمرَ هذا الحبُّ (أمساً فاتها وغدها). بيد أن هذا الحب الذي شغلها تجاوز المحسوس من شهواته، ليتفرد بكل ما يعبر عن الإنسان وطموحه في خلق علاقات إنسانية نبيلة يسودها الأمن والاستقرار والهدوء والسعادة والفرح. ومن هذا المنطلق تقول الشاعرة "مروة":

من ودّ ودّك بادله وزدْ وداً

ضاعف ودادك ما أسخاكَ بالزّيد

فمن رآكَ بعينِ الحبّ أحضنه

بالحب ضاعف ولا تأبه ولا تحدِ

نعم هكذا تتجلى النزعة الصوفيّة في فهمها للحب، إلا أنها ليست نزعة مفارقة للواقع، هائمة في عالم المثال واللامعقول كما هو الحال عن المتصوفة. بل هي نزعة صوفيّة وجوديّة واقعيّة من نوع آخر، تريد أن تربط الإنسان بواقعه كي يتعلم أن خلاصه الأبدي لا يحققه الهروب من هذا الواقع أو الانغماس في ملذاته وكل مآسيه، بل الالتحام والتوحد به إيجابياً، وهذا لن يتم إلا من خلال إدراك الإنسان لمعنى "الحب والتسامح" والبحث عن القيم الإنسانيّة النبيلة في أعماق كل فرد منا وتوظيفها في علاقاتنا اليوميّة المباشرة ألفة ومحبة.

إن الحب كما تقول الشاعرة: لا يقتل بل يُحيي جوارحنا.. ففي الحب ننسى ونتلاشى الحروب والصراع والقهر والاستبداد والظلم وكل ما يسئ إلى قيمنا النبيلة. لذلك تقول شاعرتنا:

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

إني لأنسى إذا أحببتُ عالمكم

والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ

أغدو جناحاً وكم تزدادُ يا عددي

نعم العمر محدود ولن يخلد الإنسان في هذه الحياة، لذلك عليه أن يتشبع بالحب ويمارسه في حياته كي يتخلص من شقاء هذه الحياة حيث تقول:

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ...

إن الفكرة العامة للقصيدة كما بينا تشتغل على "الحب" ولقد استطاعت الشاعرة تحقيق الانسجام والترابط بين الأفكار الفرعيّة داخل معمار القصيدة والفكرة العامة، لقد نقلتنا ببراعة وقدرة على تراسل الأفكار وانسجامها وحسن الانتقال والربط بينها، كما يلاحظ المتلقي أيضًا عمق الأفكار وابتكارها وأصالتها، وهذا ما يؤثر في المتلقي ومشاعره ويشعره كأنه أمام حدث فكري صيغ بأسلوب قصصي.

الصورة في القصيدة:

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأت الأديبة إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف؛ في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي  كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي)، (فمن رآكَ بعينِ الحبّ احضنه)، (لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا)، (والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ)، (ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....).

ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة حب، فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي الذي تدفقت عواطفها واحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به عن طريق الحب.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

الايقاع في القصيدة:

لقد اشتغلت الشاعرة "مروة" على البحر (البسيط)، وعلى قافية حرف (الدال). وبالتالي هي لم تتمرد كشاعرة معاصر على الوزن والقافية، بل أجادت اختيار البحر والقافية معا، فجاء الرتم الموسيقي هنا مطابقاً في الواقع لمضمون بنية القصيدة وإعطائها جماليّةً ورهافةً أثرت بالمتلقي. إلا أن الشاعرة استطاعت برأيي أن تعتمد بحرفيّة على الصوت في تحقيق الإيقاع، فالصوت جًسًدُ الشّعر، وبه يقوم المعنى. إن المادة الصوتيّة في السياق اللغوي هي عبارة عن الأصوات المتميّزة من تعاقب الرنات المختلفة للحركات والإيقاع والشدّة وطول الأصوات والتكرار وتجانس الأصوات المتحرّكة والسّاكنة ونعومتها، وغير ذلك ممّا يثري الإيقاع ويغنيه، كما اعتمدت الشاعرة أيضاً على الصورة كثيراً في قصيدتها بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة نغمتها مشاعرها وانفعالاتها المرتبطة بالموقف (أهمية الحب) الذي أدى إلى إعطاء قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي من صورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن الشاعرة بالصوت والصورة والبلاغة، أمنت في أبيات قصيدتها موسيقى داخليّة جميلة جداً يتساوق بناؤها مع تجربتها.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً مضمرا يحمل هماً وطنياً إلى جانب الهم الإنساني العام.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا  في مضمونها إلا أنه هم عام في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبه والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفة فصيحة بسيطة في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يحمل فيها آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.).

أخيراً نقول : لقد كنا أمام قصيدة لشاعرة، تمتلك أدوات حرفتها تماماً، استطاعت عبرها أن تنقلنا إلى مساحة كبيرة من الأمل والتفاؤل والمعرفة معاً.. ففي الأمل رحنا نجد أن هناك أصواتاً حرّةً في عالمنا الإنساني الذي فُقد الحب بين مكوناته البشرية في كل مكان، أخذت تقول بإمكانية هذا الأمل أن يزرع عندنا التفاؤل بعالم أفضل. (ونحن محكومون بالأمل) كما يقول المسرحي الراحل "سعد الله ونوس". وكما تقول شاعرتنا:

لفرطِ حبي لطعمِ الحبِّ أُمنيتي

أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي

وفي التفاؤل بينت لنا الشاعرة عبر بوحها إن تمسكنا الحب هو طريق لتجاوز معوقات هذا الواقع المرير المشبع بالقهر والظلم والفقر والجوع والغربة والدم.

لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

وأخيرا استطاعت الشاعرة عبر بوحها أن تحقق المعرفة بأهمية الحب لمن يجهل قيمته بقولها:

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا

.......................

القصيدة:

لفرطِ حبي لطعمِ الحبِّ أُمنيتي

أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي

من ودّ ودّك بادله وزدْ وداً

ضاعف ودادك ما أسخاكَ بالزّيد

فمن رآكَ بعينِ الحبّ احضنه

بالحب ضاعف ولا تأبه ولا تحدِ

لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

إني لأنسى إذا أحببتُ عالمكم

والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ

أنسى الحروبَ وخوفاً بات يخنقكم

أغدو جناحاً وكم تزدادُ يا عددي

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....

***

الشاعرة مروة وسام مروة

لكي ننفكَّ من قيد المصطلحات؛ إذ نقف على رزمةٍ منها منذ كتاب (تدوروف)، الذي تُرجِم بعنوان «مدخل إلى الأدب العجائبي»- مثل: الخرافي، والأُسطوري، والعجائبي، والغرائبي، والخوارقي، والفنتازي- نرى أنَّ جماع تلك المصطلحات يتمثَّل في ما هو (فوق الواقع من الأدب). واختزال هذا المصطلح في (السُّرياليَّة) في بعض الكتابات محض اختزال؛ فما فوق الواقعيَّة مفهوم أشمل من مذهب فنِّيٍّ واحد. ولقد يجمع نصٌّ ألوانًا شتَّى من تلك الأشكال غير الواقعيَّة، ما يحملنا على أن نسميها جميعًا (أدب ما فوق الواقع).

على أنَّ الأدب من هذا القبيل ضربان: ضربٌ شَعبيٌّ، موروث، وضربٌ فرديٌّ مختلَق، وغير خلَّاق؛ وإنَّما يَنْجُم لغايات شخصيَّة، أو أيديلوجيَّة، أو إعلاميَّة، أو تجاريَّة.

وإذا كان من بدهيَّات فَنِّ السَّرد عمومًا أن يُفضي النصُّ إلى قيمةٍ ما للمتلقِّي آخر المطاف- لا ميزة في ذلك لنهجٍ في القَصِّ على نهج- فإنَّ النُّصوص لتتفاوت في درجة التركيز على تلك القيمة، ومن ثَمَّ لا بُدَّ تتفاوت أدواتها وأساليبها ومستوياتها الفنِّـيَّة.  فكيف إذا كان النَّصُّ يَنْصَبُّ على تأدية تلك الرسالة المنوطة به أوَّلًا وأخيرًا، كما هي الحال في نصٍّ مثل «نَبَأ حَيِّ بن يقظان»، الذي رواه (ابن طُفَيْل) في إحدى رسائله؟ وكيف إذا كان لتلك الرسالة سيطرتها على الناصِّ، بحيث تستحيل إلى عقيدةٍ تتَّخِذ القَصَّ سبيلًا إلى الدعوة والوصول إلى أفئدة الجماهير؟ فنحن عندئذ إزاء نوعٍ من الالتزام، التزامٍ عميقٍ كأعمق ما تكون العقائد.  فما مدَى تأثير ذلك كلِّه في البناء النَّصِّي نفسه؟ وما مدَى تمثيل ذاك النَّمَط من النُّصوص خصوصيَّةً جِنسيَّة؟  تلك هي المنطلقات الأساس لدراسةٍ كُنَّا اشتغلنا عليها حول «نَبَأ حَيِّ بن يقظان»، توخَّىنا فيها الوصول إلى نتائج في حقل النظريَّة النُّصوصيَّة.(1)

لقد كان هذا النصُّ السردي- على سبيل النموذج- يمتاز بخصائص، مثل «الما ورائيَّة»؛ إذ يرتبط بالغَيب، ارتباطًا يميِّزه عن «الخَبَر».  و«الغيبيَّة» هنا قد تعني ما فوق الطبيعة من العالَم، أو عالَـمًا رُوحيًّا، طُوباويًّا، مفارِقًا للواقع المألوف. كما يمتاز بالإعجازيَّة، دورانًا على المعجِز من الأحداث والاستثنائيِّ منها. وكذا «الفَنْتازيَّة»؛ بحيث يتَّكئ على الخيال المجنَّح، بما هي عليه (الفَنْتازيَّة Fantastic) من تحريضٍ مطلَقٍ للخيال في التصوير، وعدم احتفالٍ بمِصداق القَصِّ من الوجهة الواقعيَّة. وكذا «الميثولوجيَّة»؛ متَّخِذًا من الحكايات الأُسطوريَّة، والمصادر السَّلَفيَّة للمأثورات الشَّعبيَّة، ونحوها ممَّا يندرج تحت مصطلح (الميثولوجيا)، وسيلةً للتخييل والتعبير.  وقد تمثَّل هذا في (أُسطورة الظَّبْية الأُمِّ)، إضافةً إلى أنواع منبثَّة من الإشارات ذات المرجعيَّات الميثولوجيَّة المختلفة. كما يَدخل عنصرُ (الحيوان) بصفةٍ محوريَّة أو ثانويَّة.  وما نعنيه من ذلك تلك الاستخدامات ذات البُعد الرمزيِّ والتصويريِّ الأساس. ماثلًا في دَور (الظَّبْية) المحوريِّ، إلى أدوار أخرى ثانويَّة لغيرها: كـ(العُقاب)، و(النَّسْر)، و(الغُراب). 

ومن خصائص هذا النوع من السرد ما تَكتنفه من ضِنانة به على غير أهله، تتوسَّل الرَّمزَ والإيماء.   لكنَّها ضِنانةٌ- كما يصفها (ابن طُفَيْل)- تُشبِه الحِجاب الرقيق، والسَّتْر اللَّطيف، «يَنْهَتِك لِـمَن هو أهله، ويتكاثف لِـمَن لا يستحقُّ تجاوزه حتى لا يتعدَّاه».  فهي ضِنانةٌ نِسبيَّة؛ تُتيح لكلِّ قارئٍ أنْ يأخذ من النَّصِّ بحسبه.  وهي من لوازم هذا النوع من النُّصوص بخاصَّة؛ مِن حيث هو نصٌّ شِفْرَوِيٌّ رمزيٌّ، ومحكومٌ بأهداف رسالةٍ، تسعَى إلى التسامي والشمول في الشكل والمضمون والتأثير. وتلك الخصائص تُفضي إلى طابعٍ عامٍّ في علاقة هذا النوع من النُّصوص بالمتلقِّي.  فـ(النَّبَأ) يرتكز بكلِّ تقنياته الخارجيَّة والداخليَّة، الأسلوبيَّة والخياليَّة، على إحداث التأثير الإيمانيِّ، لا الإقناعي. 

-2-

وكما وُجِد هذا النموذج في تراثنا العربي فإن في تراثنا الشَّعبي منه الكثير. ومنه ما هاجر إلى ثقافات أخرى، غربًا وشرقًا. وفي بحثٍ تطبيقيٍّ كنتُ توقفتُ من ذلك على نموذجَين من المأثورات القصصيَّة في جبال (فَيْفاء).  لا لاستعادة تراثٍ مجهولٍ إلى بيئته الأُولى وأهله فحسب، ولكن أيضًا للإسهامٍ في الدَّرس الأدبي المقارن بما تهيِّئه المادَّة المدروسة من إسهام في هذا الميدان.  ذلك أن الأدب المقارن يفتح الآفاق للتعرُّف على الذات والآخَر، ولسبر العلاقات الثقافيَّة الإنسانيَّة بين شعوب العالم، متخطِّـيًا بمنهاجه الحدود اللُّغويَّة والعِرقيَّة، فضلًا عن الحدود الجغرافيَّة والتاريخيَّة.  ليأخذنا في رحلةٍ إنسانيَّةٍ ماتعةٍ، تكسر الفواصل المصطنعة بين بني الإنسان في تجاربهم على هذه الأرض، تنضاف قيمتُها الثقافيَّة والجماليَّة إلى قيمة أدواتها النقديَّة، الأنجع في تناول مادَّةٍ كمادَّة هذا الموضوع. النموذج الأول تمثَّل في بحثٍ تحت عنوان «بين أُسطورة امْحَمْ عُقَيْسْتَاء في جبال فَيْفاء وأُسطورتَي كَلْكَامش وأوديسيوس Odysseus».  والنموذج الآخَر حكاية أُسطوريَّة تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة».  وتبدو تلك الحكايةُ الأصلَ الأصيلَ لما أصبح يُعْرَف عالميًّا بأُقصوصة «سندريلا»، التي اتَّخذتْ صِيَغًا عالميَّة متنوِّعة، وبلُغاتٍ شتَّى.(2) 

والحقُّ أنَّ من هذا التراث الشَّعبي المنسي الكثيرَ ممَّا هو جدير بجمعه وتحقيقه ونشره.  وهو تراثٌ نستخفُّ به عادةً، حتى ينبِّهنا الآخَرُ (الغربيُّ) إلى جماليَّاته، أو إلى دِلالاته، أو إلى قِيَمه الإنسانيَّة.  والأنكَى أن ننام عليه حتى نَجِد الآخَر نفسه قد سطا عليه، أو قُل: «أفاد منه»؛ بعيدًا عن حُكمٍ في شأنٍ ما فتئ محلَّ التَّحَرِّي والبحث.

-3-

وإذا كان (الإغريق) معروفين بأساطيرهم، فأساطير الساميِّين أقدم، وأوسع انتشارًا، وإنْ اعتمدتْ على الرواية أكثر من التدوين.  ولقد كان تأثُّر الإغريق بحضارات المشرق وثقافتهم- ويشار هنا إلى حضارة (بلاد الرافدين) و(وادي النِّيل)- منذ وقتٍ مبكِّر في التاريخ، غير أنها اندثرت الأصول المشرقيَّة في معظمها، وبُرِّزَت الآثار الإغريقيَّة حديثًا، بوصفها أصولًا أُولَى، واشتهرتْ مرجعيَّةً للمؤصِّلين، في غضون التيَّار المؤدلَج بالمركزيَّة الأوربيَّة في العقل والفلسفة والحضارة، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين.  وهو ما بات في ذاته اليومَ أُسطورةً من أساطير الأوَّلين!  ذلك أن من النتائج التي تحصَّلت عن البحوث الأنثروبولوجيَّة أنَّ العقل الإنساني واحدٌ في كلِّ مكان، يمتلك القُدرات نفسها، على الرُّغم من الفروق الثقافيَّة بين الشعوب.(3)

-4-

أمَّا في البُعد الثقافيِّ الأدبي، فربَّ قائلٍ: إنَّ الأدباء الغربيِّين هم الذين وضعوا أُسس الرواية بمفهومها الحديث، كما وضعوا أُسس أشياء كثيرة في حياتنا المعاصرة. ذلك لأنَّ الأُمة العَرَبيَّة عاشت منذ القرن السابع للهجرة في سُباتٍ تامٍّ على ماضيها، حتى في مجال فنِّهم الأوَّل: الشِّعر. وخلال تلك الحِقبة وُلِد (ابن خلدون) ووُلِدت مقولته الحضاريَّة، حول «غرام المغلوب بتقليد الغالب».

وفي هذا السياق يمكن أن يقال: كذلك إنَّ أدباء أميركا اللاتينيَّة هم أصحاب السبق في خلق «الفانتازيا» السِّحريَّة، التي يتهافت عليها الروائيُّون العَرَب اليوم، أو بالأحرى ما يُسمَّى الواقعيَّة السِّحريَّة؛ من حيث إنَّ مفهوم «الفنتازيا» يبدو مختلفًا شيئًا ما، يشير إلى أساليب اللَّامعقول، والعبثيَّة التخييليَّة. وهي أمورٌ مشتركةٌ بين فنون شتَّى، وهي قديمة الاستعمال في المصطلح النقدي، ولا تتعلَّق بمدرسة اللَّاتين الأميركان في السَّرد تحديدًا. غير أنَّ هؤلاء «السَّحَرة الواقعيِّين» إنما جاءوا متأثِّرين بالتراث العَرَبي. بل إنَّ بعض بيئاتهم نفسها ما زال متأثِّرًا بالبيئات العَرَبيَّة، ولاسيما الأندلسيَّة، وبعضهم ينحدر من جذور عَرَبيَّة، بعيدة أو قريبة. وهم يقولون ذلك، ويفصِّلون فيه، سواء في مجال السَّرد أو الشِّعر. ولذا فهم أكثر عُروبة منَّا، إذا كانت العُروبة انتماءً ثقافيًّا لا نَسَبًا؛ إذ يؤسفك أن تقف على رأي لـ(أكتافيو باث)، أو (ماركيز)، فتجده يتحدَّث عن التراث العَرَبي وتأثُّره به، وعن الأصول التي ألهمته، أو حتى أخذ عنها مباشرة، ثمَّ تجد العَرَبيَّ في المقابل يجهل تراثه، ويُنكِر على نفسه أنه ذو أصولٍ وعطاءٍ إنسانيٍّ كالآخَرين، ولا يرى الفضل إلَّا «للخواجة»، وكأنه بداية التاريخ ونهايته! ذلك لمرضٍ أُمميٍّ من جهة، ولجهلٍ بالذات وبالتراث من جهةٍ أخرى. وأذكر هنا أنني كتبتُ ذات يوم مقالًا عن (الواقعيَّة السِّحريَّة)، وأصولها العَرَبيَّة، فما كان من أحد الموالين التقليديِّين إلَّا أن انتفض ضدَّ ذلك المقال، منافحًا عمَّا يراه ولاءً مطلقًا للغرب في كلِّ إبداع وحضارة!

إنَّ تطوير الغرب، أو المكسيكيِّين تحديدًا، أو غيرهما، لما ثقفوه عن تراثنا أو التراثات الإنسانيَّة بعامَّة أمرٌ لا خلاف فيه، لكن الخلاف في عزو كلِّ إبداعٍ إلى الغرب، بدءًا وانتهاءً، وكأنه جاء هكذا من فراغ، أو هطل عليهم من السماء، وكأنهم لم يُفيدوا فيه من أحد. وكأنَّنا نحن- بحُكم عمانا المطبق الأخير- خُلِقنا هكذا، وكنَّا كذلك طوال التاريخ. وتلك (عقدة الآخَر الغالب)، في كلِّ مجال. بل إنَّها لم تعد تكفينا (عُقدة الغالب)، التي تحدَّث عنها (ابن خلدون)، بل ترقَّت ليصبح كلُّ ما ليس بعَرَبي جميلًا- في عينينا- وحضاريًّا، وإنْ لم يكن أهله من الغالبين؛ يكفي أنهم ليسوا بعَرَب، وإنْ كانوا متخلِّفين بمعايير التحضُّر. 

وبالعودة إلى مجال الرواية والسَّرد، فإنَّ كتَّابنا المحدثين، بدءًا بـ(نجيب محفوظ)، لم يستلهموا التراث العَرَبي، ولم يطوِّروه كما فعل الآخَرون، وإنَّما قلَّدوا الجاهز المستورد من الغرب؛ لأنهم جزءٌ من الأُنظومة الحضاريَّة التابعة العامَّة؛ ولأنَّ ذلك أسهل. ولهذا لم ينشأ في هذا الميدان تميُّزٌ عربيٌّ حديثٌ يُذكَر، ولا مدرسة، ولا لون ولا رائحة. مع أنَّ بدايات الرواية الحديثة والمعاصرة تشهد بأخذها عن تراث العَرَب، إلى درجة السرقة. وهذه مسألة يعرفها الباحثون في النقد المقارن، وهم كذلك غربيُّون لا شرقيُّون ولا عَرَب. بل لعلَّه ما كان لنا أن نعرف قيمة «ألف ليلة وليلة»، ولا «رسالة الغفران»، ولا «التوابع والزوابع»، ولا «حي بن يقظان»، ولا «رحلة ابن فضلان إلى أوربا في القرون الوسطى»، ولا غيرها، لولا جهود المستشرقين في تحقيق تلك النصوص، وإخراجها من غبار السنين. ولولا جهود الآخَرين في تنبيهنا إلى أهمِّيتها، وقيمتها، وسبقها، فيما كان الأدب الغربي ما يزال «شِعريًّا» بما في ذلك المسرح، ومنذ الإغريق. وعندئذٍ بدأنا نستعيد الذاكرة! لكنها ذاكرة لمَّا تُثمر بعد إبداعًا.

إنَّ أوَّل نصٍّ يمكن أن يمثِّل نصًّا روائيًّا هو نصٌّ عَرَبي، إنْ أخذنا «حيَّ بن يقظان»، لـ(ابن طفيل الأندلسي)- الذي سطا عليه غربيُّون منذ بدايات النهضة، وليس نص «روبنسن كروزو Robinson Crusoe»، لـ(دانيال ديفو Daniel Defoe، ـ1731) إلَّا إحدى تلك السطوات- أو أخذنا سِواه من النصوص، المطبوعة، أو المخطوطة، أو المطمورة.

وهكذا فإن أسلوب السَّرد على طريقة الواقعيَّة السِّحريَّة هو أسلوب الحكي العَرَبي، الذي نجده قديمًا لدَى (الجاحظ) وغيره، بل نجده لدَى أمهاتنا وجداتنا البسيطات، اللائي سمعنا منهن بعض قصص «ألف ليلة وليلة»،  وقِصصًا شبائه بها، قبل أن نسمع بذلك الكتاب التراثي، فضلًا عن أن نقرأه.

ولقد كان بدأَ، فيما نعلم، هذا النَّسَق السَّردي الشَّعبي منذ العصر الأموي مع ازدهار فن القُصاص، و«الحكواتيَّة»، الذي كثيرًا ما يمتزج بالشِّعر والأُسطورة والاستطرادات والنقد السياسي إلى غير ذلك. فهل كُنَّا سنعترف بأسلوبنا السَّردي لولا أن عُلِّب لنا في أميركا اللَّاتينيَّة، وجاءنا على طبقٍ من الإبهار النقدي الحداثي، والمصطلحات السِّحريَّة، والتبشير به مدرسةً معاصرة، وما هو إلَّا بضاعتنا رُدَّت إلينا؟!

نحن، إذن، لا تعجبنا أشكالنا إلَّا إذا رشحت لنا جماليَّاتها عبر المرآة الغربيَّة! بل بالأصح، لا نرى أنفسنا إلَّا من خلال تلك المرآة. وهذه الغفوة قد آن الصحو منها. بل هو العمى الذي يجب أن نجلِّيه عن قلوبنا قبل عيوننا! غير أنَّه لو نادى أحد بغير السائد في النسخة المستوردة، قبل أن يشهد على ذلك شاهدٌ غربيٌّ معتمَد، لقيل عنه: متعصِّب، متخلِّف، متكلِّس، تقليدي، لا يُدرِك القفزات الحديثة التي خطاها الغرب، وإنْ كانت تلك الخطوات إنَّما مشت على جثَّته، بعد أن لبستْ ثيابه. إنَّه العمى الحضاري، الذي نمرُّ بدورته، كما مرَّت به أُمم قبلنا. لا ينفي ذلك ما لدَى الآخَرين من إبداع واستلهام وإسهام، غير أنَّ الفنون تراكم، وتوارد، وتثاقف، وتلاقح. أمَّا أنْ تصل بنا دماثة التواضع إلى نكران الذات، أو أنَّنا كنَّا شيئًا مذكورًا في مسيرة الدهر كلِّه، فإنَّما ذلك هَوانٌ صعب، بَيْد أنَّ مَن يَهُنْ يسهُل الهَوان عليه!

إنَّ المغامرات الحديثة، والحداثيَّة، وما بعد الحداثيَّة، هي لكسر القالب الأوربي- الذي وُضِعت الرواية بأُسسها الحديثة فيه- والتمرُّد عليه. أعني التمرُّد على (البروكرستيَّة Procrusteeanism) الحداثيَّة، نسبةً إلى (سرير بروكرست) في الميثولوجيا الإغريقيَّة، لقولبة كلِّ العالم وفق مقاس السرير الغربي.  من أجل العودة إلى أساليب السَّرد الأصيلة، والمتنوِّعة بحسب الشعوب المختلفة. وما الواقعيِّة السِّحريَّة إلَّا إحدى تلك الصيغ للتمرُّد على الدمغة الاستنساخيَّة التي سادت العالم، كجزء من الدمغات الأخرى، في نطاق الاستعمار الثقافي، سعيًا نحو العودة إلى قيم الاختلاف والتنوُّع الإنساني المثري في الثقافات واللُّغات.

-5-

على أنَّ من الحق القول: إنَّ من النصوص الحديثة والمعاصرة ما لا يرقى لقيمةٍ أدبيةٍ أو اجتماعيةٍ تُذكر. ليس ذلك في السَّرد وحده، بل في الشِّعر أيضًا. ولا سيما حين يصبح النصُّ محض وسيلة إلهاء، وإغواء، وتغييب.  يجاور ذلك فيه أحيانًا عنفٌ لُغوي، ممَّا يُعَدَّ عَرَضًا لمَرَضٍ معاصرٍ عالمي، أكثر استشراءً.  والعنف اللُّغوي ليس سِوَى تمظهرٍ صوتيٍّ للعنف الدموي. وأمَّا ألاعيب الأدباء والنقَّاد المبرِّرة لمثل هذا العنف، فلا تنطلي إلَّا على الثقلاء من أتباع الهوى، أو البلهاء من حوارييهم.  وأنَّى للجمهور الذي يصفِّق عادةً لمثل هذا الأدب، ويتهافت عليه، أن يفقه في النهاية الفرق بين الحقيقة والمجاز، وَفق نظريتهما في البلاغة العَرَبيَّة، أو يعي نظريَّات (كلود ليفي شتراوس) في المعاني الرمزيَّة للكلمات. 

وما هؤلاء الكتاب من العَرَب غير تلاميذ لبعض الخطاب الأدبي الغربي الحديث، الذي يعجُّ بالبذاءات، وبالعنف اللُّغوي، وتصوير الجريمة، والرُّعب، وتطبيع النفوس على تقبُّل الأعمال الدمويَّة، وغير الأخلاقيَّة بأيِّ معيار، سواء في الأدب أو السينما، مسوَّقةً على أنها عبقريَّةٌ وابتكارٌ إبداعي، لا يُشقُّ له غبار! ويمكن أن نضرب مثلًا هنا بمدرسةٍ تأسيسيَّةٍ في هذا المضمار، وهي مدرسة (إدغار ألان بو Edgar Allan Poe، ـ1849)، الشَّاعر والقاص والناقد الأميركي، المشهور بأدبه الغرائبي الغامض، والمعدود رائدًا في الأدب البوليسي. وفي هذا النوع الأخير كان يكتب (بو) أعمالًا أشبه بالتحريض على الإجرام، والتحبيب فيه، أكثر من كونها أدبًا بوليسيًّا، يرسم للجريمة عقابها؛ لتكون له حينئذٍ رسالته النبيلة، حسب مقولة التطهير الأرسطيَّة، أو حتى رسالته العقلانيَّة.  من ذلك، مثلًا، قصة (إدغار ألان بو) القصيرة بعنوان «The Tell-Tale Heart»، التي يمكن ترجمتها إلى «القلب الحاكي، أو الواشي»، المنشورة 1843. وتصوِّر القِصَّة جريمة قتلٍ بشعةٍ جِدًّا ضِدَّ رجل عجوز، وهو نائم. ولم يكن للقاتل من سببٍ منطقي، وإنْ كان منطقًا إجراميًّا، غير أنَّ البطل، كما قال لنا الكاتب، كان يُحِبُّ الرجل العجوز! الذي لم يخطئ في حقِّه قط، ولم يوجِّه إليه أيَّة إهانة، لكن عينه الزرقاء، التي تُشبه عين نَسر، كانت تزعج القاتل! وتذكِّرنا فكرة القصَّة هنا بحكاية «عين الذئب»، للقاصِّ السعودي (محمَّد علوان)، مع الفارق.(4) وهكذا كانت عَين العجوز تزعج البطل المغوار، فقرَّر أن يقتل صاحبها ليتخلَّص من تلك العَين المزعجة إلى الأبد.. هكذا ببساطة، أو قل: بسخافة، قد تُنعَت بالرمزيَّة! ثمَّ بعد شرحٍ مفصَّلٍ طويلٍ ومملٍّ لكيفيَّة تخطيط البطل لتنفيذ الجريمة، الذي استمر عدَّة ليالٍ، يشرح الكاتب للقارئ كيف قام بطله بتقطيع جثة ضحيَّته وإخفائها. كلُّ ذلك بمتعةٍ وتفاخرٍ والتذاذٍ جنوني. لتصيبه في آخِر القِصَّة نوبةٌ هيستيريَّةٌ نفسيَّة، غير مفهومة الأسباب أيضًا، تجعله فجأةً يعترف من تلقاء نفسه لرجال الشرطة بما ارتكبه.

وتلك قِصَّة إجراميَّة بمحتواها أوَّلًا، بائسة، ثانيًا، في فنيَّاتها القصصيَّة. بل قُل: هي قِصَّة لا قِصَّة فيها أصلًا، فلا الجريمة وقعت لأسباب، ولا اعتراف المجرم جاء كذلك لأسباب، واقعيَّة أو غير واقعيَّة. وكأنما الهدف لا يعدو تطبيع الجريمة في المجتمع، بل تعليم هواة المجرمين كيف يمكن أن يجعلوا جرائمهم لُعَبًا احترافيَّة وممتعة. والعجيب أنَّ هذه القِصَّة تقدَّم في (الولايات المتحدة الأميركيَّة) في كتاب منشور بعنوان «The Best Short Stories for High School»، «أفضل القصص القصيرة لطلبة المدارس الثانويَّة»، وقد جعلوها أُولى تلك المفضَّليَّات من القصص القصيرة لطلبة المرحلة الثانويَّة. وبعدها قصَّة «The Murder»، «القاتل»، لـ(جون ستاينبك  John Steinbeck، ـ1968)، الفائز بجائزة نوبل في الأدب، لعام 1962.

وإذن، لا غرابة في ما تشهده الشخصيَّة المعاصرة من تشوُّهٍ، وامِّساخ، ونزوعٍ إجرامي، وجنوحٍ إلى العنف والإرهاب. بل لا غرابة كذلك أن نشهد حديثًا تفنُّن الدول الغربيَّة نفسها في ارتكاب جرائم الإبادة للشعوب، وتأييد ذلك ودعمه بالمال والسلاح، وشرعنته بشتَّى ألوان الخطابات النفاقيَّة واللا أخلاقيَّة؛ فهم خريجو تلك المدارس الأدبيَّة والتعليميَّة، التي تعلِّم فنون الجريمة والانحطاط. هذا علاوة على مدارس تراثهم، بأيديولوجيَّاته العتيقة، التي من تمخُّضاتها أن ترى (الولايات المتحدة الأميركيَّة) اليوم مستعدَّة لدعم الاحتلال الإسرائيلي لـ(فلسطين)، ولو باعت في سبيل ذلك بلاد العم سام بحذافيرها- المحتلَّة بدورها- تاريخًا واقتصادًا وجغرافيا.

إنها الثقافة المسخ- وقد تحوَّلت من نتاج اجتماعي، إلى نتاج أدبي، وتعليمي، وإعلامي- يُمجَّد رموزها، ويمنحون الجوائز، وتُفتَّح لهم أبواب الخلود الوهميَّة، ويروَّج لهم بوصفهم قادة فكر، وروَّاد أدب، ونجوم إبداع، ونماذج عُليا للأجيال الناشئة، وإنْ كانوا بالأحرى مرضى نفسيين، مختلِّين إنسانيًّا، أكثر من أيَّة صفة أخرى شكليَّة يمكن أن تُلصَق بهم أو يُلصقوا بها.

وما الأدباء العَرَب المحدثون؟

إنْ معظمهم إلَّا أيتام، اقتاتوا على موائد أولئك اللئام. مع عُقَد نقصٍ أخرى راسخةٍ لا تخفى، تجعلهم يَعُدُّون كلَّ غربيٍّ قِمَّةً من قِمم التحضُّر والإبداع، ونموذجًا للتأسِّي، لكلِّ حُرٍّ ومجدِّد. والغربي، إلى ذلك، معصومٌ من السَّفَه والعَتَه، وهو فوق النقد والنقاش دائمًا. أمَّا إنْ بدا قبيحًا، فما ذلك إلَّا لأنَّ الشرقيَّ المسكين- لتخلُّفه- لم يَرْقَ إلى المستوى الذي يُدرِك من خلاله عُمق القُبح الجميل المستورد، ومغازيه النيِّرة، ومآربه العظيمة!  

نعم لقد آن الأوان لنقدٍ ثقافيٍّ جادٍّ للأدب، فأين هو؟

وإلَّا كيف يجهد ناقد نفسه في التنقيب عن الأنساق المضرَّة بثقافة المجتمع، المضمرة في النصوص الشِّعريَّة التاريخيَّة، المجازيَّّة، الملبسة، والنخبويَّة جدًّا، ولا يرى الوصفات الجاهزة المكشوفة اليوم، والصريحة، والمباشرة ،والمشروحة بمختلف الوسائل الإيضاحيَّة، المقروءة جدًّا، والمطبوعة جدًّا، في الرواية العَرَبيَّة، ورقيًّا وإلكترونيًّا؟! أيهما أكثر خطورةً هنا، وتأثيرًا على الثقافة، والأخلاق، والمجتمع؟ إلَّا إنْ كانت تلك الأنساق الخفيَّة القديمة- الملومة في إفساد السَّويَّة الثقافيَّة- منظورًا إليها من وجهة نظرٍ عوراء، تُظهر بعضها وتُغطِّى آخَر، وتمتدح ما وافق المزاج- لأنه وافق المزاج- وتعيب نقيضه. وعندئذٍ يكون النقد نفسه قد تَأَدْلَج، فلم يعد نقدًا، ولا عِلمًا؛ إذ لا يرى إلَّا ما يريد، وتُصبح الثقافة تلك مرادفةً للسخافة والسفاهة!

-6-

بالأمس اختُطف الشِّعر العَرَبي إلى ضروب من الهَلْس(5) العَرَبي، تارةً باسم النثر وقصيدته الخُلاسيَّة، وتارةً باسم السَّرد والرواية وديوانهما المعاصر. ثمَّ ها نحن هؤلاء اليوم نشهد اختطاف الرواية العَرَبيَّة نفسها، باسم الرواية التجريبيَّة الفارغة، أو الفنتازيا والعجائبية، أو قل: ما فوق الواقعيَّة. فإذا كان لمضامين تلك الضروب من الأدب في تراثنا العَرَبي القديم وفي تراثنا الشَّعبي القريب مسوِّغاتها وقِيَمها الثقافيَّة، فلا أرى لاستدعائها اليوم من قيمةٍ أدبيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ أو ثقافيةٍ يُعتدُّ بها، بل هو إسهام مع غيره في تغييب العقول، في عصر العِلْم والتحدِّيات المحدقة بالوعي العَرَبي على كل المستويات. ومن هنا يلزم التفريق بين حمولات أدبٍ كانت لائقة بعصر الطفولة البَشَريَّة وأدبٍ يسعى إلى أن يعود بنا اعتسافًا إلى تلك العصور الطفوليَّة، مسثمرًا بقايا جاهليَّاتنا ونزوعاتنا البدائيَّة، التي لم يُفلِح في علاجها التعليم العَرَبي، إنْ لم يكن ما انفكَّ يُمِدُّها بإكسير الحياة الأبديَّة!

وتلك عجائبيَّة معاصرة، حقًّا، تفوق عجائبيَّات التراث مجتمعة!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1)  بحثٌ محكَّمٌ منشورٌ ، (1999)، تحت عنوان «في بِـنْـيَـة النَّصِّ الاعتباريِّ (قراءة جيولوجيَّة في نبإ حَيِّ بن يقظان: نموذجًا)»، (مجلَّة «أبحاث ‏اليرموك»، (جامعة اليرموك)، الأردن، المجلَّد 17، العدد 1، ص 9- 52).

(2)  يُنظَر كتابنا: (2015)، هِجرات الأساطير: من المأثورات الشَّعبيَّة في جبال فَيْفاء إلى كَلْكامش، أوديسيوس، سندريلا (مقاربات تطبيقيَّة في الأدب المقارن)، (الرِّياض: كرسي الأدب السُّعودي- جامعة المَلِك سُعود).    

(3)  يُنظَر: ليفي-شتراوس، كلود، (1986)، الأُسطورة والمعنى، ترجمة: شاكر عبدالحميد؛ مراجعة: عزيز حمزة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 38.

(4)   الحكاية تبدأ هكذا، (قِصَص قصيرة)، (الرياض: دار العلوم، 1403هـ= 1983م)، 80- 83. ولعل فكرة «عَين الذئب»، كما صوَّرها (علوان)، جاءت من إيحاء عَين (إدغار ألان بو) في قِصَّته تلك. غير أن قِصَّة علوان قد استطاعت الارتقاء عن وحل (بو) إلى شِعريَّة سرديَّة، ذات قيمة فنيَّة. فصَّلتُ القول فيها في كتابي (فصول نقديَّة في الأدب السُّعوديِّ الحديث، (الرِّياض: كرسي الأدب السُّعودي- جامعة المَلِك سُعود، 2014، 1: 255- 281).

(5)   من معاني (الهَلْس) في العَرَبيَّة: مرض السُّلِّ، والهُزال والضمور بصفةٍ عامَّة. وتُحسِن العاميَّة استخدام هذه المفردة في الإشارة إلى كلِّ كلام فارغ، هزيل، مسلول المعنى، لا ماء فيه.

إينانا في الموروث العراقي، هي آلهة رافدينية ترتبط بالحب والجمال، والحرب والعدالة والسلطة السياسية، وكانت تعبد في سومر وعبدها الأكاديون والبابليون والآشوريون تحت اسم عشتار... وقد اختار الأديب سالم الزيدي عنوان روايته (إينانا)(1) التي تمثل اسم فتاة عراقية أيضاً هي قسيمة بطولة الرواية مع حبيبها (مخلص) الذي بقي مخلصاً للوهم الآيدلوجي دون تحديثٍ لأفكارهِ السابقة التي آمن بها أيام فتوته الباكرة، كما هو حال آلاف الشباب الذين وقعوا تحت نير الآيدلوجيات التي دخلت إلى العراق في الربع الأول من القرن العشرين ومنتصفه... ثم دفعوا ثمن ذلك باهضاً (إعدامات / سجون / معتقلات / فصل وظيفي / الهروب إلى الخارج).....

رواية النوفيلا أي الرواية القصيرة وهي ليست من النوع الأدبي الجديد؛ لأن هنالك روايات قصيرة من هذا النوع لأدباء كبار كأرنست همنجواي وديكنز وسواهم وهي نشأت في إيطاليا في القرن الرابع عشر...

وبما أن العنوان يمثل عتبة إجرائية تقارب المحتوى فأقول: إن العنوان هو نص خارجي يكمل النص الداخلي... إن الأفكار الأساسية في الرواية هي الآتي: شاب يساري يغترب بسبب الاضطهاد والملاحقة ويعيش في غربة ويتوقف الزمن لديه عند زمن الأفكار التي آمن بها في صباه التي أصبحت لاتلائم الواقع السياسي المحلي ولا المتغيرات العالمية في موازين القوى الكبرى... بعد التغيير الذي حدث في العراق يأتي (مخلص) بطل الرواية الذي يمثل الشخصية الرئيسة، ويحاول أن يتكيفَ مع الواقع الجديد لكن بصعوبة... فقد وجد من تركهم في حالة تغير ذهني حتى صديقه الذي نظمه سياسياً (قرر الذهاب إلى صديقه الذي كان السبب في انتمائه إلى الحزب حين كان طالباً في الإعدادية) ص 11 ليجد صديقه هذا ومسؤوله بعد عقود من الزمن يقول له (أنا لم يعد لدي أي علاقة بالحزب منذ عشرات السنين توقفتُ عن النشاط السياسي تماماً وأنا الآن مشغول بأمور البيت والوظيفة معذرة) ص 14 وهنا يحدث التقابل السلبي بين مخلص الذي بقي الزمن متوقفاً عنده وبين مسؤوله الذي وعى التغيير؛ فتخلى عن أحلام شبابه المتراكمة وبدأ يفكر بواقعية....إن التجاذب الفكري والنفسي والعاطفي في هذه الرواية كشف حقيقة الشباب المخدوع الذي استعمل كوقود للصراعات على السلطة... وبدأ (مخلص) يقارن بين ما بقي عليه وما هم عليه أعني أصدقاءه في الحزب أو الحياة (تفاقمت المشاكل بين مخلص وأصدقائه القدامى بسبب مواقفه الصارمة) ص53 ف(مخلص) يشهد تحولَ من حوله في الوعي الجديد وبقائه بوعيه القديم... فبدأ يلوك الذكريات (تجول في المدينة وتوقف عند الجدار الذي كان فيه صيد لرجال الأمن عندما كان يكتب شعارات الحزب في ساعة متأخرة من الليل) ص 20 فظل يصارع هاجسين الأول أفكاره القديمة والآخر الواقع الجديد، وفي مسار محاذٍ أيضاً يجد حبيبته السابقة (إينانا) قد تغيرت عندما أصبحت مديرة مدرسة وتلبس الحجاب (لم يعلم أن إينانا قد تغيرت كثيراً لم تعد تلك الفتاة المتحررة من التقاليد المجتمعية كما عرفها) ص 9.... وفي ظل الأوضاع الأمنية المتوترة يقنع حبيبته (إينانا) بالزواج منه وسداد دين حبها له وحبه لها بالزواج؛ ليعوض إحساسه بالهزيمة الفكرية بالانتصار الاجتماعي... وبدأ الحبيبان يحادثان بعضهما يومياً بالهاتف لكن في ليلة ذات وضع أمني متوتر وعند نفاد رصيد هاتفه بالليل أرسل (مخلص) ابن أخته كي يشتري له الرصيد؛ لكنه وجد المحل مقفلاً، فأراد من ابن أخته أن يذهب إلى محل أبعد !!! لكن أخت (مخلص) منعت ابنها من الخروج قائلة لأخيها: (إن الوضع الأمني متوتر فقد انفجرت سيارة عصر اليوم في المنطقة فرد عليها ــــــــ مخلص ـــــــــ بعصبية إذا لم تسمحي له بالذهاب اذهبي أنتِ.. نظرت له أخته بتساؤل وأنت كيف تقبل أن أختك تخرج في ساعة متأخرة من الليل؟ ماذا سيقول أبناء المحلة؟ وماذا سأقول للدوريات عن سبب خروجي؟ هل يصدقوني أنني خرجت لشراء رصيد للهاتف؟) ص 61 فيجيبها بغباء تام (في أوربا المرأة تخرج في أي وقت دون إحراج أو خوف) ص 62 فتجيبه إجابة واعية (أخي نحن في بلاد محترقة وليس في أوربا) ص 62  لم أجد كمتلقٍ أي قناعة في حوار (مخلص) مع أخته فوقع البطل في فخ عدم الإقناع والتعلي؛ فثمة وضوح لأنانيته وخوفه على نفسه من الخروج في الليل... وقعت الرواية في المباشرة والتقريرية بنقد الوضع السياسي وإدانته والاحتجاج الدائم عليه بشكل مباشر(وجد أحد الموظفين الذين يعرفهم جيداً يدير قسماً في الدائرة علماً أن هذا الشخص لا يمتلك الشهادة التي تؤهله لهذا المنصب.....) ص 67 فالنقد جاء مباشراً جداً بالإسهاب حول هذا الموظف... كما جاءت الحوارات قريبة إلى حوارات المسرح أكثر منها إلى حوارات الروايات، ولعل ذلك؛ لأن الكاتب هو مخرج ومؤلف مسرحي أيضاً... فضلاً عن خلو الرواية من المنلوج الداخلي تقريباً مع أن المنلوج الداخلي هو من أعمق الأدوات في الكشف عن دواخل الشخصية وأفكارها الداخلية... يحيط الرواية خيط من الحب ذو التغذية الراجعة الذي كاد أن ينتهي بالزواج لولا أن اُتهم الخطيبان بتفجير السيارة المفخخة التي انفجرت قربهما بسبب تلقي (مخلص) لمكالمة هاتفية بعد الانفجار... فكرة الرواية متداولة ومعروفة إلا أن الإضافة المائزة فيها هي كشف المراهقة السياسية لجيل ضاع بسبب الأدلجة والولاء الأعمى وزيف الوعي.

***

د. مثنى كاظم صادق

..................

(1) إينانا / رواية قصية جداً / سالم الزيدي / الطبعة الأولى 2024 دار رؤى للطباعة والنشر / كركوك

صمت الحواف حين يهزم صوت الطريق

ثمة نصوص لا تُقرأ من أجل الاستمتاع، بل من أجل أن نختبر من خلالها الخدوش التي أحدثها الواقع في وعينا الجمعي.

“نحن والحمير في المنعطف الخطير”، الذي يكتبه القاص اليمني محمد العمراني، ليس مجرد سجل لذكريات قروية أو سرد لحكايات عابرة، بل هو كتابة تستدعي الذات والجماعة إلى مساءلة مؤلمة عن معنى العيش تحت وطأة القهر اليومي والتخلف المتوارث. إنه نص بسيط في ظاهره، لكنه يمارس قسوته على القارئ عبر صمت الأشياء المهملة، وعبر الأصوات التي ارتطمت بجدران التاريخ وانكسرت دون أن يسمعها أحد. هنا، لا تدور الحكاية حول بطل خارق أو فكرة تجريدية، بل حول حيوات معلقة بين انتظار الماء في المنعطف وبين انتظار رحمة السماء. كتابة تهب الألم شكله الأشد تواضعًا: شكل الطفولة المشروخة، شكل الأمل الذي تسرقه الخرافة، وشكل الحروب التي تُنتج الفجيعة اليومية بلا أساطير.

لا تبدو الحكاية هنا مجرد استعادة طفولية أو سرد لسيرة ذاتية متواضعة فحسب، بل هي استعارة مكثفة لانكسار جماعي طويل الأمد، عبر نثر حياة تتشظى بين الجبال والقرى والخراب. الكتاب، وإن جاء تحت غلاف السرد القصصي، إلا أنه يتكئ على بنية تراجيدية تتهكم من مصير الإنسان العربي، خاصة في سياق اليمن المثقل بأعباء الحرب والتهميش.

في بنية النص، يتحول الحمار إلى رمز ثقيل: إنه ليس مجرد دابة تحمل الماء عبر المنعطف الخطر، بل صورة للإنسان ذاته، المساق قسرًا عبر المنعطفات الحادة للتاريخ، بلا وعي ولا إرادة. العمراني يقيم سردية الهلع الطفولي حول المنعطف كمجاز عن رحلة أمة كاملة تسير وراء “الحمير” في لحظة خطيرة من وجودها، مكررة نفس الدروب دون أن تفكر في تغيير المسار.

تتكرر فكرة الفشل الجماعي عبر امتداد السرد: من مشروع إيصال الماء إلى البيوت، الذي احتاج عقودًا كاملة لإنجازه، إلى انهيار المشروع ذاته لاحقًا بسبب غياب التنظيم والفهم المؤسسي. كأن الكاتب يقترح، بلا تصريح مباشر، أن مشكلة المجتمع لا تكمن في الفقر وحده، بل في قابلية عميقة للانقياد والتعطيل الذاتي، في هيمنة ثقافة الإذعان واستمراء الكارثة.

لغة السرد تميل إلى البساطة الخادعة، لكنها تخبئ حسرة ثقيلة. لا يتوسل العمراني البلاغة الزائدة، بل يتعمد أن يجعل التهكم حبل النجاة الوحيد من وطأة الواقع، وكأن الضحك هو الدرع الأخير أمام الانهيار الكلي. تتجاور مفردات الألم والطفولة والموت والخرافة، متداخلة دون أن يضع السرد بينها فواصل صارمة، مما يخلق إحساسًا بالزمن الهلامي، حيث تتراكب التجارب وتتحول الذاكرة إلى وعاء ممتلئ بالخذلان.

تقدم قصص العمراني نقدًا مزدوجًا: نقدًا للبنية الاجتماعية الغارقة في الخرافة، وللذات الفردية العاجزة عن الثورة على الخوف. ففي قصة “بيت تسكنه الخرافة”، لا يتوقف السرد عند السخرية من تقديم العسل والسمن إلى ولي ميت، بل يتجاوزه إلى كشف آلية الاستسلام التي تجعل الأطفال يكبرون وهم يُلقّنون ألا يسألوا. وكأن الكاتب يريد القول: لا شيء ينقذ طفولة مشبعة بالخرافة سوى الكذب الأبيض، أو التمرد الصامت، أو الخيانة الصغيرة التي يبررها البقاء.

الحرب، بما هي ذروة الانهيار الاجتماعي، تحضر بقوة لا تخلو من مشاعر الفقد واليأس. في قصة “الحرب طفل”، يتحول ميلاد طفل إلى لحظة تتزامن مع ولادة جحيم الحرب في اليمن، ليُكتب على المولود أن يحيا في ظل التشرد والخوف. وكأن الحياة ذاتها صارت مشروطة بالنجاة اليومية لا بالتحقق الإنساني. الجملة القصصية هنا تصبح أثقل، يغلب عليها التكرار الموجع، كأن العمراني يريد أن يجرّ القارئ إلى تجربة الانسحاق عبر إعادة اجترار التفاصيل الصغيرة التي تصبح قاتلة عندما تتكرر: الصراخ، الخوف، النزوح، البحث عن دواء، تدهور الصحة، غربة القلب والجسد.

وإذا كانت القصص المبكرة تلعب على وتر الكوميديا السوداء، فإن القصص المتأخرة تتشظى إلى مزيج من العبث والأسى. في قصة “كابوس في العالم”، يبدو السرد وكأنه يحاكي تيار وعي مشوش، حيث الألم الجسدي من خلع الضرس يتحول إلى استعارة صريحة للألم الوطني والاجتماعي: محاولة النجاة في ظل ظروف عبثية ومخيفة، حيث الزمن نفسه يتآمر على الإنسان. خمس ليالٍ من الألم تتحول إلى تاريخ شخصي صغير يعكس تاريخًا جماعيًا أطول.

هنا، يكمن ما يشبه العبث الوجودي الذي تحدث عنه ألبير كامو: أن تجد نفسك مدفوعًا إلى تكرار محاولة الخلاص، رغم معرفتك بأنها عبثية. وكما في عوالم كافكا، تبدو الشخصيات محاصرة في متاهة بلا مخرج، تدور داخل أقدارها الضيقة، مستسلمة لقوى لا تفهمها ولا تستطيع مقاومتها. الطفولة، في هذا النص، ليست بداية بريئة، بل أول خطوة في طريق طويل من الانكسارات الموروثة.

مفارقة أخيرة يزرعها العمراني في قصة “خبر وفاتي”: حين ينتشر خبر وفاته بالخطأ، يجد نفسه محاطًا بأمواج من التقدير والاعتذار، وكأن الموت الزائف وحده يمنح الإنسان، أخيرًا، الاعتراف الذي حُرم منه حيًّا. بهذا يقفل الكتاب بدورة كاملة: تبدأ بالطفولة المعذبة، تمر بمخاض الحرب، وتنتهي بالسخرية من عبث الوجود الإنساني في عالم لا يعترف بالناس إلا وهم جثث أو أخبار عابرة.

ليس “نحن والحمير في المنعطف الخطير” مجرد عمل بسيط. إنه شهادة أدبية على هشاشة الحياة تحت وطأة التخلف والحرب. عمل ينتصر للصوت الإنساني، لا بالخطابة، بل بالحكاية اليومية التي تخترق العظم وتصمت حين تصير الكلمات عبثًا آخر. العمراني هنا لا يطلب منا أن نبكي أو نضحك، بل أن نحمل هذا العبء الصامت للوعي في عالم يركض وراء حميره، ظانًا أن الخلاص يكمن في اللحاق بها.

هكذا تتدفق القصص في هذا العمل كأنهار حزينة فقدت مصباتها، فلا تصل إلى البحر ولا تعود إلى الينابيع. يمضي محمد العمراني بين الذكريات كما يمضي طفلٌ حافي القدمين على حجارة الجبل، يتلمس الوجع في تفاصيل الأشياء الصغيرة: حمار، حجر، كوب ماء، أو نظرة طفل مذعور. في نهاية هذا النص، لا يقدم الكاتب خلاصًا ولا يقترح نجاة، بل يتركنا مع سؤال صامت: هل يمكن أن نواصل العيش بينما نعيد عبور نفس المنعطفات، خلف نفس الحمير، نحمل على ظهورنا نفس الأحلام المهشمة؟

إنها كتابة تنتمي إلى سلالة الألم النبيل، حيث تصير السخرية آخر ما تبقى من جدارة الإنسان بأن يروي، لا ليُغير العالم، بل ليشهد على عبثه، صامتًا كصوت الطريق المهزوم على حواف المنعطف.

***

إبراهيم برسي - كاتب وباحث سوداني

أبني على الغيم للشّاعر التونسي محمّد العلّاقي

** قَبل الغَيم الهَتون:

لاحظتُ عند المصافحة الأولى للمجموعة الشّعريّة: ابني على الغيم.. الصادرة عن دار البياتي للنشر والتي ابدعها الشاعر التونسى محمد العلّاقي (أصيل محافظة القصرين وأستاذ الأدب واللغة العربية بالمعاهد الثانوية وباعث منتدى انطالاس الأدبي والمشرف عليه) لاحظت انّها تمثّل مرحلة أكثر تنوّعا وانفتاحا على أنماط الكتابة الشعرية في تجربة شاعرنا الذي عرفناه آنفا في مجموعته الشعريّة الأولى: ذَوب الرّواح... منحازا الى هَيْبة القصيد العمودي.. فإذا به آنًا يطوّر تجربته باختبار قريحته في قصيد التّفعيلة (الشعر الحرّ) والقصيد النّثري أيضا.. تضمّنت هذه المجموعة أربعا وخمسين قصيدة توزعت على حوالي تسعين صفحة منها حوالي ثلاثين صفحة من الشّعر العمودي (الثلث) والبقية قصائد من الشعر الحرّ والنثري ممّا يحملنا الي القول بأن لشاعرنا نظرة في الكتابة لا تختلف عن الكثيرين من جيلنا في حسم المسائل الخلافية حول ضوابط الكتابة الشعرية ومعايير الشاعرية تمثّلت في توخّي موقف مرن مفاده (أن الشعر هو عملية خلق فنّية تنطلق من خلجات الذّات نتيجة حالة شعوريّة يعيشها الشّاعر الفنّان فيحوّلها إلى حالة شعريّة بلغة متجاوزة للغة المعاجم.. على رأي الدكتور محمد الخبو). وبالتالي تُقاس جودة الكتابة إلى مدى التوغّل والتّوسّع في توليد إمكانات تجسيد تلك الحالة الشعرية (بلغة تتجاوز لغة المعاجم) بقطع النظر عن هيكل القصيدة او وزنها او قافيتها.. وعلى هذا الأساس أكّد الدكتور مصطفى الكيلاني دوما أنّ (المعاجم هي قبور للغة الإبداع الأدبي) هكذا تراءت لي تجربة شاعرنا من خلال هذه المجموعة فيما سأحاول قشع حُجُب الغيم عمّا استطعت إليه سبيلا منها..

** الغيم: (المفتاح اللّغوي الأساسي لرؤيا الشاعر بين العنوان وألمتن)

و الغيم إسم / مصدر مذكّر يستخدم عادة للدّلالة على جمع غيمة التي هي في الأصل كتلة تكثف الماء بعد تبخّره وانخفاض حرارته في الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض وهذا المعنى طبعا لا يتناسب مع سياق اللّفظة في الجملة الفعلية التي وضعها الشاعر عنوانا لكتابه: " أبني على الغيم " فجعله قائما على الانزياح بما يمحّض الغيم ليكون أرضيّة صالحة للإنجاز والفعل وبالتالي إثبات الوجود ونحت الكيان أو (تأصيل الكيان) حسب عبارة المرحوم محمود المسعدي..

فماذا يبني لنا محمد العلاقي على الغيم في زمن ممتدٍّ من الماضي إلي الآتي حسب دلالة تصريف الفعل في صيغة المضارع؟؟ وعلى أيّ (غيم) يبني وهو يخرج بالعبارة عن سياق المعاجم؟؟

هذا البناء أو إن شئنا الإنجاز ورد مسندا إلى الأنا / الذّات الشاعرة منشئا كونا شعريا من معالم الخصب تتجاوب اصداؤه في عناوين القصائد (أغلبها من قبيل: سلوا الورد - ربيع مختلف - ابني على الغيم - نحيب الجبل - غيمة سادرة - هي الأرض -وعد الغيم...) وكذلك في مُتونها كتيمات ميّزت لغة الخطاب الشّعري سواء عبر التّوظيف البلاغي أو الرّمزي للمجاز مداره هذه الذات في علاقة بذاتها الفرد وبمحيطها الاجتماعي والثقافي والمكاني والزماني بين الانفعال والتّفاعل.. لذلك انعقدت لغة الكتابة على توظيفات متنوعة لمواقع ضمير المتكلم وطبيعة حضوره وو توظيفات متنوّعة لأبحديات الغيم والمطر والطبيعة عموما وكذلك القصيدة والكتابة في مسارات متنوّعة.. فألفيناه بناء بألواح الكلم على سوامق الغيم دَرُّهُ هتونٌ ودِيَمُ.. من هنا جاء عنوان هذه المداخلة التي حاولت أن تنفذ الي شيء من كوامن هذا الكون الشعري المبلّل بعوامل الرّواء..

** الهتون وما بعده:

يحيلنا تشكيل الكون الشعري في هذه المجموعة على النّزعة الرومنسية المرتبطة بالطبيعة الغنّاء خاصّة بالمطر سواء في ثقافتنا العربية التي يمثل الغيم فيها ظاهرة مُبشّرة بنزول المطر اي الرّواء والخصب احتفى العرب بها كحدث بمثابة عرس وجودي وخاصة منهم الشعراء (امرؤ القيس في معلّقته وعمر ابن أبي ربيعة في مواعيد غرامه تحت جناح المطر وابن خفاجة في تغنّيه بجمال المطر في الأندلس...) أو في الثقافة الغربية التي يمثل الغيم والمطر فيها رمزا للحبّ والزواج حتى أنّ النّاس كانوا يتيمّنون بالزّيجات التي تتمّ في جوّ ممطر لكونها ستعمّر طويلا حسب معتقَدهم (قابريال قارسيا ماركيز في (رواية الحبّ في المنفى) كما أن ما يخلفه جوّ الضباب والغيم والهواء النديّ المنعش وإيقاع نزول المطر من إحساس بالهدوء والارتياح والرّقّة وما يبعثه من مشاعر الحنين يمثّل أرقى درجات الإلهام لدي الشعراء والأستاذ العلاقي منهم إذ يبني على الغيم مستلمها من بواعثه المرجعيّة في جبال القصرين الغابيّة منشئا في ذات الوقت تجربة شعرية رومانسية ليس بالمعنى الغربي الوافد للظاهرة إنّما بالمعنى الدّافق بالمشاعر والتأملات في إطار كتابة معتّقة اتسمت مرجعياتها بخيارات لغوية متينة وصور مُحكمة السّبك متناسلة في مجملها من ثلاثية الأنا (الإنسان والشاعر) والطبيعة بأرضها وسمائها وفصولها وتضاريسها ومناخاتها وخاصة منها المطر وحيثياته المجاورة كما ارتسمت في (قصيدة هي الأرض ص 57:

هي الأرض من تِبر حرفي

تحوك سناها

ومن تُرب حلقي جناها...

وأرضي تعانق سحر السّماء

بأحداق تبر صفا

ربيع وصيف.. خريف شتاء...)

إضافة إلى الكتابة بحرفها وحبّرها وقوافيها وبوحها وإلهامها وأحلامها (قصيدة غيمة سادرة ص 40:

كيف اُسيل لعاب القوافي؟

لتعزف تفعيلتي عن رنين الخواء) في توليفات من تنويع الرمز  والمجاز تروم التّنميق اللّفظي ولا تكتفي باللغة الشعريّة المعتادة (قصيدة: ترصيع الحرف ص 23

سَبّاك مبنى بالبيان مرصّعا

حبّاك مغنى مطرب كرباب

بسلال من لا يحتفي برنيمه

لولا الحروف لما رسمت كتابي)

وكذلك (قصيدة: البياض ص 91

الأغاني مغسولة بدفء الثلج.. كبياض الصّباح على قلبك.. يبعثر الحنين إلى مراتع الخضرة والماء.

و لا تكتفي أيضا بإيحاءات الصورة في تشكُّلها البلاغي أو التركيبي لترتقي أحيانا كثيرة إلى التّشكّل الثّقافي (امضي ولا تغضي ص 51:

هل أستعين بعاضد فيشدّ أزري

مثل هارون لموسى....)

وكذلك (قصيدة عندما. ص 38

عندما ينداح شوقي مدلهما كغروب

يتجنّى لا يعي ما جرّفت أنهُر

 هيرقليدس الفذ من كُروب)

تتجلى الذات الشاعرة من خلالها منحازة إلى الكتابة غير المهلهلة خاصّة في الشعر الذي لا يكون ابدا تعبيرا معتادا ولعلّ التصدير الذي قدم الشاعر فيه وجهة نظره في الكتابة الشعرية ومقروئيتها يبرز تعارضه وبصرامة القوالب الجاهزة ومع الابتذال على حدّ سواء (كلّ قديم حديث في عصره وكلّ تجربة شعريّة تفرض نفسها بمستوى جودتها)

إلى المقطع الذي وضعه على ظهر الغلاف (وهو جزء من قصيدة أبني على الغيم ص 14:

أبني على الغيم صرحا من عطور النّدى

وأملأ الأفق شدوا منه مرتاحا

وأزرع العطف طيبا في رياض الجوى

يُظلّل الوجد قلبا عاج سرّاحا....)

وهذا يؤكده ايضا جنوح الشّاعر إلى المعجم الحوشي في كثير من الأحيان فنجد عبارات من نوع (الرّوق / مهصور الجناح ص15 / هملج النّوم / النّعاس الهمَيسع ص 62 / الدّجنّ ص87 / ندامة الكُسَعيّ ص91...)

لذلك لم يمنع نفسه من المباهاة بامتلاكه ناصية الكتابة في عدد من القصائد وله ذلك بالتّأكيد.

لقد حمّل الشّاعر القصيد موقفا ورسالة جماليّة فنّا ومعنى فضمّنها محتويات لها من الارتدادات نحو الذّات ما لها من الامتدادات نحو الآخر إنسانا ووطنا وحضارة ووجودا. بذلك تجاوزت رؤاه أناه الأدبيّة نحو أناه العاطفيّة في عدة قصائد منها (قصيدة: تعود الذكريات ص11

وهبتكِ قلبي صِدار الأماني

فهلّا وعيتِ مدى ما أعاني...)

فتغنّى بالحبّ وشكا الوجد والشوق بإحساس عميق. ونحو أناه الوجوديّة فتأمّل الحياة والموت ومنزلة الإنسان بينهما واستاء إزاء خريف العمر الدّاهم (قصيدة: قاسٍ عليّ ص 95

قاس عليّ ولا أعيد إلى المدى خفقانه

والعابرون كقطع شحن

ما تركوا لي من نصيبي في الوراثة

ما يصلح للحراثة...

أيّ لحن يتّكئ على مقل الغيم

ليقلب شتائي المتعَب

ربيعا لا يُترِب...)

وامدت أيضا نحو الجذور انتماء وهويّة بدءً بالعائلة (قصيدة: احتفاء بعيد ميلاد ابني عزّو ص 33) والمَنشإ (سبيطلة ص 17 وجدليان ص 20) مرورا بتونس الوطن الأول العشق والقضيّة (قصيدة قرطاج ص 15.. وقصيدة هل من سبيل إلى الإنصاف ص 30:

هل من سبيل إلى الانصاف في بلدي

أم ذاك طيف سراب خلّب نكد؟...

أنّى احتمال الهوان والبلاد لنا

عنوان فخر كغصن ماس من ملد...)

وصولا إلى العراق وفلسطين الوطن الأشمل المثخن بالجراح المنهك بالنّكبات (قصيدة: سلمتم ص 22

سلمتم يا أهالي الرّافدين

لدجلة والفرات تحيّتين...

ترانيم الهوى باحت بحرف

حدا قرطاج بابل أجمعَيْن...)

رافده في ذلك تجربة على وعي عميق بصروف الحياة يحاورها تجربيب على إلمام غير هيّن بتصاريف اللغة الشعريّة..

* آخر المطاف: أو (عرس الذيب بلهجة القصرين التونسيّة):

القصيدة بناء والجملة الشّعريّة بناء.. إلا أنّه بناء يروم (الكون فالاستحالة) في مصافّ الإبداع بصفوة الكتابة وصفوة الرّسالة الجماليّة والقيميّة.. و* أبني على الغيم * لبنة مُجزية من بناء المعنى / القيمة الفُضلى ومحطة مشرقة من بناء القصيدة في سياق الأدب التونسي، تجربة شعرية معتّقة منحازة الى الأصالة والهوية دون انغلاق منفتحة على عصرها وعلى مسار الحداثة دون انقياد أو انسياق. تتحسّس عبر التجريب ذاتها بقلق التّوق نحو أرحب الآفاق.. لذلك أراها امتدادا وإضافة لسابقتها في تجربة الشاعر محمد العلّاقي (ذوب الرّواح) ننتظر ان يواصل (غَيلانها) في مغامرة البناء على الغيم الهَتون إلى أن يصيبَ الشعرَ منه صبيبٌ نافع من رواء الإبداع تكتمل به ذاته وينهل منه القرّاء.. ألم يقل:

أعطّر بالسّحر كلّ الثنايا

أرنّح حرفي ليُرضي أناي..؟؟

***

قراءة أعدّتها الأديبة التونسية كوثر البلعابي

(تاريـخ يتمـزق في جسـد امـرأة) لأدونيس

تمهيـــد: عرف الشعر العربي الحديث حركة إبداعية حديثة ومتطورة، شكلت ظاهرة لفتت انتباه الشعراء والدارسين، تمثلت في تجاوزِ التجاربِ الشعرية السابقة إلى تعميق المضمون بالنهل من مختلف الثقافات الإنسانية، مثل الأساطير والرموز والتصوف، والفكر والفلسفة، والموروث الديني الوثني والسماوي؛ مما أضفى على القصيدة مسحة من الغموض والإبهام أحيانا، عُدَّا من نتائج تطور الشعر الحديث عند عدد من الدارسين منهم الدكتور عبد الرحمن محمد القعود الذي يضع ثلاثة عوامل لظاهرة الإبهام في الشعر العربي المعاصر: " العامل الثقافي والمعرفي وعامل الثقافة والمذاهب الأدبية الغربية، ثم هناك العامل الثالث المتمثل فيما أصاب الشعر العربي من تحولات في بنيته ومفهومـــه(1)

ومفهوم القصيدة الحديثة يَتَشَكّلُ من عالم شِعْري يُعبِّر عن رؤية للوجود والواقع والتاريخ والإنسان وقضاياه وكل ما يتعلق به؛ اعتمادا على رؤيا الشاعر؛ لذلك نهلت القصيدة الحديثة من روافد معرفية متعددة لا يمكن حصرها لدى أهم الشعراء العرب مثل أدونيس قطب الحداثة الشعرية العربية، الذي تتضمن أشعاره، بالإضافة إلى القيمة الفنية الحداثية التي عمل على تطويرها وتحديثها، قيمةً معرفية تتعلق بمختلف الثقافات الإنسانية من تراث فكـري فلسفي وتراث ديني سواء كان وثنيا أو سماويا، تجعل منه مفكرا ومثقفا موسوعيا فضلا عن كونه شاعـرا كبيـرا ومتفـردا. يقـول أدونيس: "لم تعد القصيدة الحديثة تُقَدِّمُ للقارئ أفكاراً ومعانيَ شأن القصيدة القديمة وإنما أصبحت تقدم حالة أو فضاء من الأخيلة والصور ومن الانفعالات وتداعياتها، ولم يعد الشاعر ينطلق من موقف عقلي أو فكري واضح وجاهز إنَّما أخذ ينطلق من مناخ انفعالي نسميه تجربة أو رؤيا"(2)

هكذا، إذاً، كتب شعراء الحداثة قصائدهم محمَّلةً بمضامينَ عميقةٍ تحتاجُ من القارئ أن يكون في مستوى ثقافتهم لفهم قصائدهم وتأويلِ معانيها غيرِ المباشرة التي لا يجوز الوقوفُ عند ظاهرها، بل تجاوزها إلى معانيها الخفيَّة عنْ طريق التأويلِ وفهمِ اللّغة الإيحائية في القصيدة.

وهذا الشعر الجديد حسب أدونيس "يعبر عن قلق الإنسان، أبديا. الشاعر الجديد، والحالة هذه، متفرد، متميز في الخلق وفي مجال انهماكاته الخاصة، كشاعر وشعرُه مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وأمته وفي نفسه هو بالذات".(3)

تلك (المشكلات الكيانية التي يَعْنيها الشاعر في حضارته وأمته) هي التي حدت بالشاعر أدونيس إلى النبش في التاريخ الإنساني، والموروث الفكري والديني فأنتج دواوين شهدت على رؤياه الخاصة للإنسان وحضارته، بدءا من (الكتاب)(4) الذي أعلن فيه أدونيس عن موقف جريء من التراث: فقد سعى إلى إزالة صفة القدسية عنه! معتبرا إياه حقلا ثقافيا أنتجه بشر يصيبون ويخطئون، ويمكن أن نحكم لهم أو عليهم، لذا أصبح أدونيس يمارس فكرا نقديا للتراث بلغة الشعر.

والمدونة الشعرية الأدونيسية منطوية على مخزون ثقافي هائل يضع أمام القارئ تراث الإنسانيةَ، بأساطيره ودياناته المختلفة وخرافاته وتاريخه وأحلامه ورموزه، فأدونيس يستدعي كل ذلك ويوظفه توظيفا فنيا يجعل من تجربته الشعرية علامة فارقة في المشهد الشعري العربـي.

ويعد ديوان (تاريخ يتمزق في جسد امرأة)(5) من الدواوين الجريئة في طرح التساؤلات و"تجاوز الخطوط الحُمْر" في تناول الموروث الديني، فقد تجاوز أدونيس ما يُعَدُّ قداسة في الدين. قد نتريث ونقول إن الشعر لغة استعارية بالدرجة الأولى، فيصعب أخذ هذا الديوان على ظاهره، لكن عندما نكتشف أنه يحكي: قصة أم نبي وزوجِ نبي و"معاناتها وكفاحها"، بشكل يناقض النص المقدس يجب أن نتريث لفهم النص الشعري ومقصديته. وكما قلنا سابقا، فأدونيس شاعر موسوعي ويلزمنا - نحن القراءَ- أن نوسع ثقافاتنا للوصول إلى مقصدياتٍ من هذا النوع من الأشعار التي تثير إشكالات كبرى مثل النظرة إلى الموروث الديني الذي يحفل به ديوان (تاريخ يتمزق في جسد امرأة). سنتريث ونحاول سبر أغوار هذا النص الأدونيسي بامتياز.

تأمـل العنـوان:

(تاريخ يتمزق في جسد امرأة) عنوان كبير جدا بالرغم من كلماته المعدوات؛ فالتاريخ علم كبيـر يُعَرِّفه ابن خلدون بأنه " خبرٌ عن الاجتماع الإنسانيِّ الذي هو عُمْران العالم، وما يَعْرِض لذلك العُمْرانِ من الأحوال؛ مثل التوحُّش والتآنس، والعصبيَّات، وأصناف التقلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعايش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران من الأحوال"(6)

فهذا التاريخ بضخامته المادية والمعنوية يصيبه التلف والتلاشي عندما يُخْتزل في جَسَد المرأة، ولا يؤول إلى ذلك إلا بسبب "عقلية متخلفة". إن للعنوان بعدا نقديا معترضا على ما أصاب تاريخ الإنسانية وفكرها، فجسد المرأة هو الظاهر الذي يخفي كيانا تجاوزته "العقلية المتسلطة"، إن المرأة في (تاريخ يتمزق في جسد امرة) هي المحك الذي امتحنت فيه قيم الرجولة والعدالة عبر التاريخ، وهي "الضحية" التي "يرجمها العامة مع ابنها"، وكان بإمكان أدونيس أن يقول (تاريخ يتمزق في امرأة) لكن المقصود هو الجسد الذي نُظر إليه نظرة سلبية عبر العصور - في بعض التأويلات الخاطئة للمـوروث الديني- ، وهو الإنتاج المعرفي المستمد من النصوص الدينية، الذي تأوله علماء الدين في مختلف فروع المعرفة، وتم تناقله عبر الأجيال. ذلك الجسد هو العبء الذي جر على المرأة جميع لعنات التاريخ وخطاياه في المجتمعات الذكورية التي تسعى إلى "رجم امرأة مع ابنها". وهي التي كانت تتوق إلى الحرية والحب (أأنا حرة / لأغنيَ حُبــِّـي؟/ص65).

لكن قصدية الشاعر ومحتوى الديوان لا يمكن تَبَيُّنُهُما إلا بعد النبش في باطن قصيدة (تاريخ يتمزق في جسد امرأة) التي يتكئ فيها أدونيس على موروث ديني متنوع بشكل يدعو إلى الرَّويّة في التعامل معها نظرا للجرأة الاستثنائية التي اعتمدها.

- قصيدة بوليفونية:

يستحضر القارئ مباشرة بعد قراءة الأسطر الأولى من هذه القصيدة البوليفونية قصة هاجر زوجِ النبي إبراهيم التي أنجبت له النبيَّ إسماعيل عليه السلام، فهي زوج نبـي وأم نبــي تماما كما في المقطع الأدونيسي:

(هذهِ سيرةُ امرأةٍ عبْدةٍ وابْنِها

نُفِيَتْ لا لِشيْءٍ سوى أنـَّها

كَسَرَتْ قَيْدَها، وَيُحْكى

أنَّها زُوِّجَتْ لِنَـبِيٍّ،

وأنَّ ابْنَها

صارَ مِنْ بَعْدِها نَبِيَّا)(ص7)

إن الصفاتِ التي أسبغها أدونيس على شخصياته تُناقِض ما تضمنه الموروث الديني من عِفَّة وطهارةٍ واستقامَة وتقوى الشخصيات وامتثالٍ لأوامر الله تعالى، فإبراهيم عليه السلام سَلَّم بقضاء الله وترك ابنه وزوجَهُ في "وادٍ غير ذي زرع بمكة" إنها طاعة نبـي قام بما أُمر به من قبل إلهه الذي اصطفاه لتبيلغ الرسالة، وذلك اختبار إلهي، لكن النص الأدونيسي يقدم الأمور على نحو مختلف فالنبي ترك زوجَه وابنه "لا ماءَ لا زرْعَ ..". (ص23) وهذه المرأة في التصوير الأدونيسي شهوانية، تقدس الجسد ونزواته:

" ..ولي شَهـواتٌ،

وأبْحَثُ عَمّا يُمَتِّعُ؟ كَمْ يَصْدُقُ الكافِرونَ. شَهِيٌّ،

جَميلٌ أَنْ نَصُبَّ السَّماواتِ والأَرْضَ في كَأْسِ لَذاتِنا.(39)

وهذه جرأة كبيرة انْتُقد عليها أدونيس غير ما مرة. لقد قدَّم زوجَها النبي متسلطا تَعَمَّد تركها وابنَـها. صحيح أن المبدع يوظف التناص توظيفا خاصا؛ قد يخرج النصُّ الغائب عن مدلوله، لكن أن يتجرأ أدونيس على الشخصيات التي تعتبر شخصياتٍ مقدسةً فهذا توظيف سيء يخدش المشاعر وينبئ القارئَ بما ستأتي به هذه القصيدة المتعددة الأصوات (المرأة – الزوج/الرجل – الراوية) من تطاول على الموروث الديني.

الرجل (النبي/الزوج) متسلط متشبث بالتعاليم التي حصرها أدونيس في القبيلة والأسلاف ومتشبث (بكتاب قديم) ! وصِفَة القِدم عند أدونيس ليست إيجابية طبعا؛ بل ترمز إلى الماضي المتجاوَز وإلى العقلية المتحجرة. والتحرر هو أن "يَقْذِفَ الْحُبُّ جِسْمَ المرأةِ أنَّى يشاء ضد هذي السَّماء) ! (ص21)

يضع الراوي نفسه موضع المدافع عن امرأة: فقد نُفِيتْ لأنها "كَسَرتْ قَيدها"، وكسرُ القيد فعل إيجابي يعادل الحرية والحياة الكريمة، لكنْ أيَّ قيد يقصد أدونيس؟ إنه التعاليم السماوية التي جاءت بها كتب الأنبياء الذين لهم قداستهم في الموروث الديني؛ إنه يزيلها عنهم، فالنبي زوج المرأة العبدة "لم يَجِــئْ في تَعاليمِهِ أنَّها حُرِّرَتْ"(ص7) هذا يشير إلى أن النبي يقيد زوجه العبدة ويمارس قهرا عليها.

هذا هو المدخل الذي يفْتَتِح به أدونيس قصيدته البوليفونية التي تصدم المتلقي بما يراه تناقضا مع ما هو متعارف عليه في الموروث الديني؛ فالأنبياء إنما بعثوا من أجل كرامة الإنسانية وعدالة قضيتها فكيف يكون نبيٌّ طرفا في استهداف امرأة تريد "كسر قيدها".

تتعدد الأصوات ويتمادى الراوي في "تعرية الأنبياء" وفي الدفاع عن امرأة تمردت، لكنها مقيدة بالطفل وهو امتدادها؛ في مقابل حرص النبي زوجِها على " التعاليم الإلهية" حسب ما يُفهم من هذا النص الأدونيسي.

ويفيد الراوي أن كاهنا تحدث عن المرأة بإشفاق (إنها امرأة حية- ميتة)(ص9) مقابل ما "يصدر في حق المرأة من قبل النبي" ! لكنها امرأة النزوات التي تنهج لنفسها حرية التصرف في أنوثتها (قمر للأنوثة للجنس للنزوات وللصبوات)(ص11). هذا القمر الذي "تعبده" متمردةً على تعاليم السماء والأرض (قمر لا لأرض ولا لسماء). (ص11) وتعترض على كونها "عورة" وترتكب زلاتها، وهو اعتراض على ما جاء في غير موضع في الموروث الديني عن أن المرأة عورة. فقد جاء في سنن الترمذي، (حديث1093 ) أن "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان". وبالرغم من أن الحديث موجود في أكثر من موضع فهو غريب وضعيف عند فقهاء الحديث، لكن أثره كبير جدا في تشكيل الوعي الديني فيما يخص النظر إلى المرأة، وهو الوعي الذي استهوى أدونيس للدخول من خلاله إلى نقد الموروث الديني من باب الموقف السلبي من المرأة.

والمرأة في نظر المجتمع أداة لإشباع النزوات وما تبقى فهي شر(نصفها رحم وجماع والبقية شرٌّ)(ص13). وفي ذلك إشارة إلى ما تُدووِلَ في الموروث الديني، وتُؤُوِّلَ تأويلا خاطئا يسعى من خلاله أدونيس إلى بناء مواقفه التي تبدو في ظاهرها دفاعا عن المرأة وهي في واقع الأمر بيانٌ لـــتحقير الموروث الديني، ومناصرتها في اعتناق التصورات الوثنية التي تتفق على عبادة الطبيعة واتخاذ عناصرها آلهاتٍ مُبَجّلةً. ورد في نهج البلاغة أن الإمام عليا قال: (المَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَشَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لاَبُدَّ مِنْهَا). وفضلا عن أن هذا الحديث انفرد بروايته الشريفُ الرَّضِي في نهج البلاغة، وعلى فرض التسليم بصحته، يمكن حمل الشَّرِّ فِي الحَدِيثِ عَلَى الجَانِبِ الابْتِلَائِيِّ الَّذِي يَعِيشُهُ الرَّجُلُ مَعَ المَرْأَةِ لَا عَلَى الطَّبِيعَةِ وَالفِطْرَةِ، لِأَنَّ فِطْرَةَ المَرْأَةِ لَا تَخْتَلِفُ عَنْ فِطْرَةِ الرَّجُلِ، فَالعَقْلُ وَالبُعْدُ الإِنْسَانِيُّ وَاحِدٌ فِي كِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْدَادَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَافْتِتَانَهُ بِالآخَرِ جَعَلَ المَوْضُوعَ يَكُونُ فِي مَحَلِّ الاخْتِبَارِ وَالابْتِلَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَلِمَ ينزع أدونيس وهو المثقف والمفكر الكبير إلى التأويل الذي ينال من المرأة أولا ومن الموروث الديني ثانيا؟ !

إن تقديسَ الجسد ورفضَ تعاليم السماء، والاستعانةَ بالميتولوجيا الإغريقية الوثنية من أجل الصراع مع كل ما هو سماوي؛ من أهم الأسس التي بنيت عليها هذه القصيدة البوليفونية. فلابد "من إقفال السماء وعدم تواصل الجسد الذئب الكريم معها" و(أرتميس)، آلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، وآلهة الإنجاب، والعذرية، والخصوبة،(7) في الميتولوجيا الإغريقية؛ هي الـمَــثَلُ والقُدوة والمرجعُ لا تعاليمُ السماء.

ولا تتوقف الجرأة على الدين عند هذا الحد، فأدونيس ينتقل من مستوى إلى مستوى أكثر جرأة على لسان المرأة المتمرِّدة على السماء؛ فهي الحرة في جسدها/ معبودِها ...و"الملائكُ ليسوا ملوكا عليها"(ص17) ولا تجب طاعتهم والامتثالُ لما كُلفـوا بـه؛ بل الطبيعة الوثنية هي السبيل إلى التمرد والخلاص ولا بد من الاعتصام بها. وترفض هذه المرأة أن (تُطْفَأَ الطبيعةُ فيها)(ص18). إنها متمردة تواجِهُ السَّماء بما تحمله من رمزية لأن التعاليم نابعة منها لكنها حزينة، لأن العالم كلَّه يستهدفُها إذْ تريد حرية يرسم أدونيس معالمها الوثنية الشهوانية. وهو ما يرفضه الرجل "المتسلط الماضوي" المتشبث بالسماء وتعاليمها والقبائل وأمجادها وأعرافها.(ص19)

إن أدونيس كاتب موسوعي حقا، لكن موسوعيته في هذا الديوان توظف ضد الدين بشتى أنواع الإشارات والرموز من ذلك استخفاف المرأة "المتمردة" بمسألة فقهية هي (ميراث الحمْل): "كُلُّ ميراثها حَمَل ضائع(7))* ذلك أن الرجل إذا مات، وكان في بطن الأم جنينٌ، فتوريثه ثابت، في الشريعة الإسلامية، وليس بين العلماء في هذا الأصل خلاف. وقد فُصِّلت هذه المسألة في كتب الفقه. (8) كما تستخف بالوحي والتعاليم بنبرة تشكيكية وبلغة جرِّيئة: "هجَّرَتْنا تعاليمُه. أذلك وحي؟"(ص25)

ماذا يريد أدونيس من كل هذا البيان الفكري والموقف من التراث الديني؟ إنه يقدم صورة لامرأة يراها تتوق إلى الحرية وقرنها بأزواج "الأنبياء الذين اسْتَعْبَدوا بتعاليمهم السماوية القبلية المتحجرة المرأةَ" !!. لذا تمردت على الموروث والمجتمع ومارست حرية الجسد في مواجهة المجتمع الشرقي المقيد بأحكام الغيب وتعاليمِ كتبِ أنبيائه؛ فكانت مـدار الصراع ومحور النص وما يصدر عن الآخرين (الرجل والرواية والجوقة) ما هو إلا صدى لفكرها ومواقفها. أدونيس يريد أن "يُعـــرِّيَ" تاريخ البشرية في الشرق أمام العالم بشكل لم يجرؤ شاعر عربي حديث اعتماده؛ فهو، بالنسبة إليه، تاريخ أعمى تقوده رسالات الغيب التي جاء بها الأنبياء الذين "اعْتَدَوا" على الطبيعة الحسية للإنسان لكبت شهوته ونزواته. وفي مقابل كل ذلك ينحاز أدونيس للخرافات الميثولوجية ويعظم وثنيتها، وعلاقتها بالطبيعة وتقديس الجسد على حساب "الكتاب السماوي القديم" فتمني المرأة أن تكون (أرتميس) الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية؛ انحيازٌ لوثنيتها. والنبي - حسب أدونيس - "حائــر" لا يعرف كيف يتحايل على تعاليم كتابه السلفي المتوارَث والمفروض من "السماء/ الله" !!!!.

المرأة بين (الجوقة والراوية والرجل) "مناضلة متمردة" ضد ما جاءت به السماء في كتبها وتجاهر برفضها "لا كتاب، خطواتي كتابي"(ص47) كما تجاهر بوثنيتها مخاطبة زوجها:

"اخلعْ ثيابَ السماء، وجئني

في ثياب الطبيعة

لا نشوةٌ، لا كتاب

غير هذا التراب".(ص67)

سيؤول الأمر في آخر هذه المشاهد التي تنضح عصيانا لتعاليم السماء، وتشكيكا بكل ما يرتبط بها إلى رجم المرأة من قبل الحشد مع ابنها الذي اعْتُبِـــرَ جزءا من خطيئتها؛ فلا تسامح ولا رأفة بالمرأة من قِبَل من يرفضون حريتها ووثنيتها. وفكرهم في النص الأدونيسي ذو طبيعة غيبية (موثوقة بحبال النبوات) مناقضة لجوهر الطبيعة القائم على الحس وحرية الجسد دون رقيب سماوي !.

هذه هي النهاية المأساوية التي يختارها أدونيس لكشف (همجية يرى أنها مورست على امرأة تريد حريتها بتجاوز كل التعاليم السماوية وتقديس الطبيعة والجسد) وتعريةِ مجتمعٍ (خاضع لقوى الغيب وجاهل أو متجاهل معنى حياة الطبيعة الحسية).

نقول – مرة أخرى - ماذا يريد أدونيس من (تسفيه) كل ما له علاقة بالدين السماوي الذي يُعَدُّ الغيبُ أحدَ مرتكزاته. قال تعالى (ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ/البقرة آية 3:). إن ما سلكه أدونيس لم يطرقه حتى شعراء المجون والشعوبية في العصرين الأموي والعباسي. إنما الشعر لغة الجمال تهفو إليه النفس لما تشكل من صور يبدعها الخيال الثــَّرُّ الذي ينفر عادة من القبح ومن الصدام مع الخصوصيات الدينية كيفما كانت. فالتصدي لتلك الخصوصيات من شأنه إثارة النعرات الطائفية والدينية التي تؤول بالمجتمعات إلى الخراب.

لا تنتهي الأسئلة التي تبحث عن دوافع هذه اللغة الجريئة والمتطاولة على الدين. لعل الراحل جبرا إبراهيم جبرا كان محقا إذ قال مُعَلقا على انحرافات أدونيس الفكرية (لا تعجبوا إن فاز أدونيس بجائزة نوبل !!!) طبعا لم يفز بالجائزة وبقت أراؤه وأفكاره الجريئة تثير أكثر من تساؤل.

***

ميلود لقاح

......................

الهوامش:

1-  الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عبد الرحمن محمد القعود، عالم المعرفة، الكويت 2002- ص279.

2-  زمن الشعر: أدونيس –دار العودة بيروت - 1978 (ص 278)

3-  زمن الشعر – ص: 9

4-  دار السـاقــي- بيــروت 1995

5-  دار الساقي 2008- ط: 2

6-  المقدمة. ص33

7-  قاموس المورد، البعلبكي، بيروت، لبنان.

* الشاعر فتح الميم في كلمة(حمل) للحفاظ على السياق العروضي للمتدارك.

8- [الملخص الفقهي:2/290-293] لصالح بن عبد الله آل فوزان.

 

فوق سابع عشق

بعيدةٌ فوق حدودِ الصوت والضوء، وجغرافيةِ الكلام كيانٌ يبني ملجأً خلف القَدر أنا البُعدُ حيث لا آخِر أنا ضحيَّةُ حُلم بلغَ قيامَتَه شَرَدَ من الصَّفعاتِ وخيانةِ الوسائدِ الفاضلة أتأمَّلُ أشيائي الساكنة صباي وكلَّ التفاصيل التي تتدافعُ في البال عَلَّها لم تهرم لم تبلً يرتِّبها الخيال أفراداً تنتظر العاشقَ الذي عاد وانتصر من هذا المكان القصيِّ بي عَنّي يضيق الأُفق في أخمص شوقي أُحطِّمُ جدران بحرٍ عتم تحاصرني هالاتُ ذكرياتٍ غافيةٍ في نظرة لومٍ وعتاب دموع تنهش الصدى حولي وحيٌ تنزّٓل من فوق سابع عِشق يرسمُ عينيك مدينةً من ماءٍ وطين زوارق تحملني إلى حضن السكينة ورسائل ذات أجنحة تبلغني آيات حب تطوي الغربة كطيّ السجل تعود إليّ أسراب قصائد لم تستطع أن تملأ خانات الفراغ أغلقْ دفاترَ لم تدوِّن حضورك فأنت الغيابُ الذي استقرّ أريدك وطناً لا متحفَ ذكريات

***

يسرا طعمة - سوريا

...................

القراءة النقدية:

قصيدة "فوق سابع عشق" للشاعرة السورية يسرا طعمة هي تجربة شعرية تأخذ القارئ في رحلة نفسية وروحية مع الذات الباحثة عن الأمان والهوية في ظل العشق والألم والغربة. تبدأ القصيدة بمقدمة تستعرض مفردات القوة والبعد، مثل "بعيدةٌ فوق حدودِ الصوت والضوء"، ما يخلق انطباعًا بأن الشاعرة تتحدث عن حالة من الغياب أو الابتعاد الشديد، ليس فقط عن المكان بل أيضًا عن الزمن والأحاسيس. هذا البُعد يتيح لها فرصة للتأمل والتفكير في الكيان الذي لا يصل إليه أحد.

اللامحدودية والتأمل في الذات: في هذه النقاط تبرز الشاعرة متأملة في "أشيائها الساكنة" من الماضي، محاولًة الحفاظ على هويتها ومشاعرها، متأرجحة بين حضور الماضي وغياب الحاضر. من هنا يظهر المعنى العميق للحلم الذي بلغ "قيامَتَه"، إذ يعكس الوصول إلى نقطة النهاية أو الاستنارة التي تقود الشخص إلى مرحلة من الفقدان أو التجدد.

علاقة العاشق بالغربة: تعبر الشاعرة عن الفقدان بمرارة، وتحاول عبر تمثيل "الوسائدِ الفاضلة" و"الصفعاتِ" تصوير التجارب الإنسانية القاسية، سواء كانت خيانة أو فقدان للأمان. يقترب هذا التوظيف من بناء الحزن الذي يكتنف الذات ويؤدي إلى انفصال داخلي عاطفي، لاسيما مع "دموع تنهش الصدى حولي"، مما يخلق صورة من الألم النفسي.

الرمزية والتخييل: واحدة من أبرز سمات هذه القصيدة هي غزارة الرمزية التي تنطوي على تصورات شعرية عميقة. فالقصيدة تخاطب مفاهيم "العشق"، "الحنين"، "الغربة"، و"الذكريات"، مستخدمة عناصر مثل "مدينةً من ماءٍ وطين" و"زوارق تحملني إلى حضن السكينة" لترمز إلى الإحساس باللجوء إلى حب قديم، أو إلى رغبة في العودة إلى جذور عاطفية أساسية، بعيدة عن مشاعر العزلة والفراغ.

الانتظار والعاشق: العاشق في هذه القصيدة هو أكثر من مجرد صورة لشخص آخر؛ فهو تعبير عن الأمل في العودة والتجدد، وهو "الذي عاد وانتصر". هذا الانتصار لا يعني بالضرورة الانتصار في الواقع، بل هو انتصار روحي أو عاطفي على الصعوبات والهموم. من هنا، تصبح القصيدة نصًّا تأويليًّا بامتياز، يتناول موضوعات الزمن، والحب، والوجود في صور تعكس تناقضات الإنسان بين الحنين إلى الماضي ورفضه.

الغربة والهويات المفقودة: إن الغربة، سواء كانت في المكان أو في النفس، تتجسد في العديد من النقاط في القصيدة. هناك إشارة إلى "أسراب قصائد لم تستطع أن تملأ خانات الفراغ"، ما يعكس حالة من العجز العاطفي، حيث تظل الكلمات عاجزة عن إعطاء معنى حقيقي للوجود المفقود. إضافة إلى ذلك، تعبير "أريدك وطناً لا متحفَ ذكريات" يكشف عن الرغبة في العثور على الاستقرار الحقيقي، بعيدًا عن مجرد تذكر الأشياء الماضية.

الختام: ختام القصيدة يظهر استقرار الغياب في الذات بقولها "أنت الغيابُ الذي استقرّ". هذا الاستقرار قد يكون صورة للقبول الداخلي بالغربة أو العجز عن التغيير. إن العودة إلى "وطن" وليس مجرد "متحف ذكريات" تشير إلى حالة من الإيمان العميق بضرورة التجدُّد والمصالحة مع النفس والمكان، مما يجعل القصيدة تبرز كوثيقة نفسية تتحدث عن رحلة الإنسان مع العشق والموت والتجدد.

خلاصة: إن "فوق سابع عشق" ليست مجرد قصيدة رومانسية، بل هي تأمل في البعد الروحي والفكري للإنسان الذي يعيش صراعاته الداخلية، بين العشق، والفقد، والعودة إلى الذات. تسلط القصيدة الضوء على محورية العواطف الإنسانية عبر صور أدبية عميقة، مما يجعلها أكثر من مجرد تجربة شعرية، بل رحلة تأويلية تسبر أغوار الروح.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

ينطلق العرض من رصد ومعايشة عميقة لواقع مرير مضى، اعاد قراءته وصياغته مؤلف الرواية جمال حيدر واعدها للمسرح جميل الرجه، تمت المعالجة على وفق رؤية المخرج (علي عادل السعيدي) وأداء الممثلة (همسة هادي)

المسرحية ذات الصوت الواحد (مونودراما) هي مسرحية بناء الشخصية المنفردة التي تطرح أفكارها ومشاعرها وتتصارع مع ذاتها و/او مع محيطها الخارجي، ذهبت المعالجة النصية والرؤية الإخراجية في هذا العرض إلى انشطار الشخصية، وعرضت حالات ومواقف لعدة شخصيات تأتلف بين حين وآخر مع بعضها وتعود لتظهر كبنية واحدة هي ذاتها بنية المسرحية، ذلك ان تكوين الشخصية في النص المونودرامي يتماهى مع مكونات المسرحية (الفكرة والحوار والحكاية والجو النفسي) مما يقتضي جهدا اخراجيا وتمثيليا أعلى من تقديم عرض تتواجد فيه عدة شخصيات يؤديها عدد من الممثلين، لأن بناء العرض سيكون موزعا عليهم ويشاركون في تقديم الفكرة وطرح العواطف والانفعالات وصناعة الجو العام، يتطلب عرض المونودراما معادلة ميزانسينية تعتمد على ممثل واحد في التوزيعات الحركية وتصميم وتنفيذ المنظر والتفاعل معه ووضعه في المشهد بما يملأ الفضاء بثراء وحيوية وإشباع بصري.1400 show

انطلقت بداية العرض من فضاء ينيره القمر بلونه وتضاريسه الطبيعية، ولكن المكان قاتم وشبه مظلم، تكونت صورة المشهد من حطام ألواح أسطوانية بإيحاء وجود كتابات مسمارية، أو جذوع نخل خاوية وأكياس مواد بناء و مرايا معلقة بحبال ومدرج بثلاث مستويات، يرتفع في المكان ضجيج أصوات محركات ومنبهات السيارات وصافرات قطارات، الشخصية الوحيدة تأتي من اعلى وسط الخشبة وتنزل من مرتفع إلى وسط الوسط، لتبدأ الغناء باللهجة الشعبية العراقية لتقترب من المجتمع الذي تقدم نفسها اليه، وبمرور الزمن يبدو انها من منبثقة من رحم المجتمع وذلك بتكرار اللهجة والخطاب المباشر للجمهور، وعرض الحالات المتعددة فهي تقول: (أنا روح هائمة، بلا بداية او نهاية، هائمة في التيه والألم، احمل في صدري نغما حزينا)

عمل التأليف والإخراج على تشظية الشخصية الواحدة إلى أجزاء من شخصيات متعددة ، وكل شخصية عرضت حالة مكثفة واحدة، أول هذه الحالات هي حالة الشاعر الثمل الذي ينشد شعرا في الطرقات، الحالة الثانية هي المجنون الذي ينطق حكما، ثم الحالة الثالثة: التعرض للاغتصاب ، وبعدها تتصالح مع نفسها لتخاطب الناس المارة / الجمهور الحاضر في القاعة بقولها: (عرفت كل لحظات حزنكم، بكائكم فرحكم ، لقاء على مر السنين … أتحسس خطواتكم كأنكم تركتم أرواحكم هنا) تعود لتجسيد حالة رابعة: الألم من المرض والحزن العشق والدخان والحرائق، ومنها تدخل الشخصية إلى حالة خامسة: الشهيد وأم الشهيد تودع ابنها وسط الدموع والحسرات، تقول عن الشهيد: (لكنني أراه في كل زاوية مظلمة، أراه في كل دمعة تنسكب على هذا التراب، أراه في قمرنا الاحمر) ومن هنا تبدأ نقطة صيرورة القمر الأحمر وكأنها نقطة انطلاق الصراع الدرامي المتصاعد نحو الذروة، بهذا المشهد تمكن الإخراج من تجسير الهوة بين العرض والمتلقي بجمع شتات الحالات الاربعة السابقة التي بدت غير متصلة، وبلورتها في صورة الشهيد وما لها من صدى غاية في الحزن في روح المتلقي.1398 show

الحالة السادسة: بائع الكتب الثرثار الذي يستعرض عنوانات كتبه وينادي على المثقفين، دون استجابة منهم، لا احد يشتري كتب، المثقفون غير متواجدين.

وقد تصدى العرض إلى حالات أخرى باللهجة الشعبية العراقية حينا وحينا باللغة العربية الفصحى المحملة بالصور الشعرية، بالغناء والمواويل الشجية، وبفضل هذا التنويع في لغة العرض المنطوقة تخطى الإخراج الرتابة السردية للنص، وجاء التعزيز الدرامي بمساهمة السينوغرافيا في صناعة عرض (قمر أحمر) بفاعلية كبيرة.

المنظر الواحد الكتلة المنظرية شكلت خلفية ثابتة للعرض ولم تتحرك ولم يتم تفعيلها والتعامل معها إلا في بداية العرض ونهايته، في حين تم تفعيل قطعة الأثاث (المصطبة) بصورة ملفتة، فقد تعددت دلالات استخداماتها (للجلوس، الاغتصاب، تابوت الشهيد، منضدة بيع الكتب …) وكذا الحال مع الورد الأحمر ومصباح الموبايل وقطع المرايا المتأرجحة.

تجلت مهارات الممثلة (همسة هادي) في الانتقال بين الحالات الكثيرة بمرونة عاطفية وحركية عالية، وساهمت بوضوح في الإيهام الشعوري، واثارة التفاعل وصنع المزاج العام للعرض، الانتقالات الصوتية من شخصية إلى أخرى، أظهرت قدرات تعبيرية بالصوت والالقاء، ففي مطلع الأداء الصوتي كانت صوتا مرتجفا رقيقا ، وانتقل إلى الخطابية بصوت مرتفع، وبعدها إلى البكائية، لقد تمكنت من تحقيق نقل الصورة الصوتية وتأثيراتها، فضلا عن سرعة تغيير الأزياء في مشهد بائع الكتب، والتعامل مع قبعة إطفاء الحرائق … وغيرها من الاشتغالات التي أظهر قدرات الممثلة التي فقدت شيئا من حضورها في المشهد الأخير الذي تزاحمت فيه تقنيات الخشبة بكثافة إلى جانب مشاهد الداتاشو والمؤثرات الصوتية والضوئية، التي أخذت تركيز المتلقي وجذبته إليها، وتحديدا منظر الانفجارات (انفجار الكرادة عام 2016 خلف أكثر من ثلاثمائة شهيد) وتحول القمر - الثيمة المركزية للعرض - إلى اللون الأحمر، وتسيّدَ الخشبة بصورة صادمة، وتحيط به غيوم حمراء، بالتزامن مع عروض صور وأفلام وثائقية للانفجارات وما تخلفه من خراب وحطام وشهداء وجرحى وعواطف وانفعالات حزن وغضب.1399 show

ترجمة الحوارات في المشهد الأخير إلى الانكليزية تعولم رسالة العرض وتسعى إلى تدويل قضيته، ولا يريد القائمون على بقاءها في الإطار المحلي والفضاء الوطني بقدر ما يريدون جعلها قضية انسانية عامة، ومن جهة أخرى قد تبدو زائدة ولا ضرورة لها.

في نهاية العرض، يبرز تساؤل أمام المتلقي: من هي هذه الشخصية التي شاهدها في العرض التي خاطبتنا مرارا بقولها: أيها المارون … أيها المارون .. ؟ اذ لابد من تحديد هويتها التي لم تفصح عنها بوضوح طوال زمن العرض، لتأتي إجابة التحليل: أنها ليست شخصية امرأة، أنها المكان والمدينة والعالم بأجمعه تخاطب المارين بها، تجسدت بملامح وصوت أنثى لإيصال فكرة مفادها: أن هذه الشخصية/المدينة تجلت من عمق المأساة وشهدت وعرضت حالات اهل المدينة كلهم، ثم انصرفت من حيث أتت.

هذه التجربة الثانية للمخرج علي عادل والممثلة همسة هادي مما يجعلهما ثنائيا منسجما متوافقا في ابتكار لغات العروض المونودرامية، ويضاف اليهم الفريق المتكامل من التقنيين والفنيين الذي دعم العرض بالمزيد من العناصر الجمالية.

لابد من الإشارة والإشادة بدعم نقابة الفنانين العراقيين في إنتاج الأعمال الفنية وتعشيقها مع دائرة السينما والمسرح.

ملاحظة عامة: دأبت عروض كثيرة على ادخال الجمهور وسط ظلام القاعة وستارة المسرح مفتوحة وتشغيل المؤثرات الصوتية وغالبا يتواجد الممثل/ون على الخشبة. حتى بات هذا التقليد هو القاعدة والاستثناء هو دخول الجمهور واستقراره في قاعة مضاءة والستارة مسدلة .. حبذا لو تم الرجوع إلى التقليد المسرحي الأصلي، إلا في حالة الضرورة الدرامية.

ملاحظة اخيرة: عرض اي مسرحية ليومين أو ثلاثة ثم ينطفئ، لا يصنع جمهورا، ابسط متطلبات صناعة الجمهور هو استمرار العروض حتى آخر متلقي.

عرضت المسرحية على قاعة مسرح الرشيد في العاصمة بغداد، يومي الأربعاء والخميس ٢٣-٢٤ /٤/ ٢٠٢٥، زمن العرض أربعون دقيقة. انتاج نقابة الفنانين العراقيين بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

الأبعاد السياسية لرواية يوتوبيا للكاتب المصري الدكتور أحمد خالد توفيق

أود في البداية أن استهل هذه المقالة بأربع نقط أساسية:

- تعتبر الرواية من فصيلة روايات الفانتازيا بأبعاد سياسية محضة. لقد تنبأت بخطورة الاحتقان الاجتماعي في مصر مبكرا. لقد وصف لنا الكاتب بإبداع الكبار تطور حدته، أي حدة الاحتقان والتوتر الشعبي، وقابليته في تفجير ثورة عارمة. لقد قدم للقارئ نصا من صنف الديستوبيا أو أدب الفوضى، وبين بمشاهد مبهرة ومخيفة كيف تحول هذا القطر العربي إلى فضاء استقوى فيه الشر وساد فيه الظلم والقهر. الرواية صدرت سنة 2008، وتوقعت انفجار الأوضاع سنة 2023، وحل الربيع العربي بمصر الشقيقة سنة 2011. توقعات الكاتب كانت صادقة ووطنية محضة (دق ناقوس الخطر مبكرا، ولم يجد الآذان الصاغية لدى مصادر القرار السياسي في بلاده).

- الرسالة السياسية القوية في الرواية تتجلى في إبراز الدور المحوري للطبقة الوسطى كصمام أمان، وعماد الاستقرار، ومحرك دائم للنمو، ومرسخ لمقومات التربية على الديمقراطية والعقلانية. التاريخ يشهد لها بذلك. لقد كانت أساس نجاح عصر الأنوار الغربي. لقد كانت وراء انفجار الثورات العلمية والثقافية والسياسية والصناعية الكبرى في التاريخ، وتحولت بعد انتصار النيوليبرالية إلى الآلية القارة الحامية للتوازن وديمومة التفوق الحضاري. بفضل قوة هذه الطبقة الاجتماعية تم القضاء على المعتقدات البالية والأفكار الرجعية وعلى رأسها الفكرة التي روجتها الكنيسة لمدة قرون "الفقير أقرب إلى الله من الغني".

- عكس ما وقع في أقطار الدول العربية من ثورات شعبية إبان ما عرف بالربيع العربي، وعلى رأسها تونس ومصر، تمكنت الخصوصية المغربية من تجاوز هذا المنعطف الصعب. فتطورات الأحداث في إطار "20 فبراير" أبانت أن لحمة المجتمع المغربي غير منفكة وغير منحلة. لقد عرفت الطبقة الوسطى انتعاشة ما بين 1999 و2000. كما كان للانفتاح السياسي وتراكماته الدستورية والسياسية منذ مطلع التسعينات وقع إيجابي على تطور النظام السياسي المغربي. سقف المطالب حركة 20 فبراير اقتصر على المطالبة بالإصلاح، وتوج المسار برمته في إطار الاستمرارية بتراكم المكتسبات بالإصلاحات الدستورية والسياسية المعروفة. تقدمت البلاد في العهد الجديد بشكل ملموس في تشييد بنياتها التحتية والصناعية والخدماتية والتكنولوجية. هناك كذلك جهود لإضفاء نوع من المناعة على مشروعي التغطية الصحية والحماية الاجتماعية.....

- مغرب اليوم في حاجة إلى الانتباه لآفة تراجع الطبقة الوسطى. البلاد تعيش موجات تصخم مربكة للقدرات الشرائية ومضعفة للادخار والاستثمار الوطنيين. إنها الموجات المرتبطة بالظرفية الاقتصادية العالمية والظروف الداخلية للبلاد (اختلالات في الحكامة السياسية). على السلطات بمختلف مشاربها الانتباه إلى المكانة المحورية للأسرة والمدرسة العمومية كصانعة للطبقة الوسطى. هذه الأخيرة في حاجة لدعم متواصل من طرف الدولة، دعم ينسجم مع تطلعاتها واحتياجاتها. الدولة في حاجة في هذا الشأن لتشييد مصاعد قارة بين الطبقات وتوطيد ديمومة آثارها الإيجابية على البنية المجتمعية بشكل عام.

عودة إلى الرواية وعنوان المداخلة نتساءل: كيف عالج الكاتب معضلة التناحر الطبقي ووأد الطبقة الوسطى وانفجار الأوضاع في مصر الشقيقة في الرواية؟

جوابا على هذا السؤال الهام، واعتمادا على المنهاج البرهاني المعتمد في قراءتي التأويلية لهذا النص، سأبين للقارئ كيف أبدع الكاتب في عتبات النص الروائي ومتنه للرفع من قوة تأثير مضمونهما والوصول إلى أهدافه التي حددها مسبقا بإتقان الأدباء الكبار. لقد استثمر في جملة من الوحدات الأيقونية واللغوية والإشارية مستهدفا أفق انتظار القارئ وإثارة اشتهائه لقراءة الرواية، بل وتحريك فضوله ودفعه بحماس لمعرفة تفاصيل أكثر تخص النص الحكائي في مجمله.

إن ثقافته السياسية والعلمية والفكرية والأدبية العالية، التي يشهد له بها كبار رواد الفكر والأدب عربيا، والتي سخرها بإتقان لنسج متخيل إبداعي في خدمة السياسة، يمكن القول أن توفيق تمكن بنجاح في إحكام صياغة عبارات نصه الروائي، موجها إياها إلى المتلقي العارف، المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، مخاطبا العقل والوجدان، ومحرضا إياه في نفس الآن على التعلم والتطور والوعي بأوضاع واقعه وبالوقع السلبي للتذبذب في منطق ممارسة السلطة في دولة الجمهورية العربية المصرية الشقيقة منذ الاستقلال. إنه عمل تخيلي مرعب عكس صورة واقع اجتماعي أصيب بآفة الترهل والتفسخ القاتلين.

لقد دحرج توفيق الكلمات المختارة بانتظام وعناية وتدبر الأدباء الكبار. لقد انتقاها الواحدة تلو الأخرى، محولا إياها إلى تعبير موضوعي صادق عن هموم الشعب المصري، متعمدا شحن هذا التعبير برسائل مبطنة داعية للتغيير قبل فوات الأوان. لقد صوب سهام كلماته مركزا على استنهاض الهمم الشعبية والمؤسساتية ملتمسا برفق ورحمة حاجة الشعب المصري الاستعجالية لخلق منعطف سياسي يليق بتاريخ حضارته. الأولوية بالنسبة له، كما ورد في عبارات الرواية تتجلى في مناهضة الظلم والاستبداد الوائد لعزائم الأفراد والجماعات، والحاجة إلى إنتاج الزعامات السياسية والمجتمعية المسؤولة والشجاعة، والقادرة على تامين الانتقال إلى أوضاع مغايرة تتوج بنجاح الثورة الهادئة المنشودة، وبالتالي خلق نسق سياسي جديد يساعد المصريين على استرداد حقوقهم المسلوبة.

لقد عبرت بجلاء عن الأدوار المحورية التي يلعبها الأدب في التصوير الإبداعي لأوضاع وأحوال المجتمع المصري في مختلف المجالات وبالأخص في المجال السياسي. ما توقعه الكاتب بالفعل تحول إلى واقع معاش. توترت الأوضاع في الأقطار العربية مجسدة إلى حد بعيد أحداث الرواية. النص تحول في مضمونه إلى ما يشبه دعوة أو صرخة وصلت إلى الناس بسرعة بعدما فضحت لهم حقيقة مآسي أوضاعهم. في نفس الآن، سجل المتتبعون نوع من التماهي أو اللامبالاة في منطق ممارسة السلطة لدى الطبقة الحاكمة. استمر التذبذب في تدبر شؤون البلاد إلى أن خرجت التطورات الخطيرة عن السيطرة. انفجرت الأوضاع، وتفاقم الاحتقان عربيا، وازداد الاقتناع لدى جمهور القراء بالأدوار الريادية للأدباء والمفكرين في حياة مجتمعاتهم ومنعطفاتها السلبية والإيجابية. النظرة العلمية الثاقبة للكاتب كطبيب جعلته يتفوق عربيا وبامتياز في تعرية مخاطر التماهي مع استفحال الانكسار في روح وجسم المجتمع الواحد، وما يترتب عن ذلك من نشر للمآسي والظلم والتناقضات القاتلة وسوء الأحوال.

لقد استثمر توفيق في العتبات بعبقرية ليعكس للقارئ الأبعاد السياسية التي خالجته منذ البداية: العنوان الرئيس، العناوين الفرعية، التنويه، التصدير، الاستهلال.... لقد تحول البعد السياسي إلى الهدف الأكثر حضورا منذ بوابة النص وفتح مغاليقه باحترافية على المتن الروائي. إجمالا، تخللت النص عبارات مؤثرة جدا قدمت إضاءات جمالية راقية أعانت وتعين المتلقي عن فك شيفرات النص في مجمله وحمولاته الدلالية والإيديولوجية.

الانشغال بالهموم السياسية جعل الكاتب يختار عنوانا مدويا في تاريخ الفكر والفلسفة: "يوتوبيا" أي "المكان الطيب". كلنا يستحضر العبارة ومكانتها في فلسفة كل من أفلاطون، وتوماس مور مدشن أدب المدينة الفاضلة، و"مدينة الله" للقديس سانت أوغسطين، و"آراء أهل المدينة الفاضلة "للفرابي"، و"أطلانطس الجديدة" لفرانسيس بيكون، و"مدينة الشمس" لتوماس كامبيلا. الامتعاض من أوضاع الحياة الدنيا وتدني مستوى العدالة والكرامة بها جعل الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين يفكرون في مكان مثالي متخيل لا وجود له في الواقع، وهو مكان يتجاوز نطاق الوجود المادي، ويترجم الأفكار المثالية السامية المجسدة لأهداف العصر ونوازعه غير المحققة.

عقائديا، الشائع في الأوساط الشعبية العربية يبرز أن مفهوم "يوتوبيا" يصنف ب"اللامكان"، أي أنه من الحقائق الربانية التي يجب أن يصبو إليها الإنسان كمستخلف في الأرض. فهو مرادف في القرآن الكريم لكلمة "طوبى": "الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب". وكلمة "طوبى" هي اسم الجنة بالحبشية، وبذلك تكون عبارة "طوبى لهم" تعني "الجنة لهم"، وهو في حد ذاته دعوة للبحث عن مكان تتحقق فيه السعادة الكاملة. فبحث الفرد مع مجتمعه عن تحقيق جزء منها على وجه الأرض هو السبيل الوحيد المعبر عن اشتياقه للمكان الطيب الموجود في الآخرة المعد للصالحين.

في نفس الآن، إثارة كلمة "يوتوبيا" في الرواية هي مماثلة لإثارة اليوتوبيات في مختلف مراحل التاريخ. ترديدها من حين لحين لا يتم إلا في حالة الحاجة للاحتجاج جراء رفض الواقع وما فيه من شقاء ومتاعب، بحيث يعبر مرددوها عن حلمهم بمستقبل مشرق تلفه السعادة والسعي لدنوه من الكمال في جميع جوانبه الإنسانية. يتم إثارتها بسبب الامتعاض من "الديستوبيا" كفضاء أكثر قسوة وجور للإنسان، فضاء يفيض بالظلم والبشاعة، ويعني المكان الخبيث الشرير المغرق في الفساد والقهر والمرارة.

الرواية هي عبارة عن صرخة سياسية محضة تحذيرية مسبقة أكثر من كونها معالجة لمشكلات الواقع. العنوان "يوتوبيا" كتب بلون معبر عن الضجر والسخط والانحطاط والقسوة لجعله مرادفا لكلمة "الديستوبيا". فناس يوتوبيا عالجوا الملل الذي يعتري حياة الترف والمجون بالبحث عن الإثارة في إيذاء فقراء أرض الأغيار "شبرا"، والتلذذ بتعذيبهم بممارسة البطش والتجبر المتوحش عليهم. التسلية بالنسبة لهم لا ترتقي إلى أعلى المستويات إلا بالعبث بجسد الفقراء المستباح مجانا.

لقد أشاع الكاتب للقراء مآسي الشرخ الطبقي على صعيد الأمة الواحدة. لقد أبرز بحبكته السردية من البداية إلى النهاية كيف يضيع روح الأمن ويستفحل العداء الداخلي. تفاقم حدة الاضطراب لا تقتصر على الأغنياء المترفين، بل عمت كذلك الفقراء في مجتمع الأغيار كذلك. الكل يعاني من اضطراب في الفكر وخلل في السلوك. الفقراء كذلك يسوغون قبح أفعالهم بحاجتهم وعوزهم. بدورهم يمارسون العنف والقتل والاغتصاب والإدمان. الفقر لم يجعل القلوب رحيمة ببعضها البعض بسبب تلاشي معنى الحياة لديهم.

صور الكاتب انكسار روح الأمة متعمدا إبراز التقابل المروع لسلوك طبقتين متناحرتين. إنه تقابل بتفاعلات أدت إلى غرق شعب الأغيار في الفقر والضياع والظلام والتشرذم واختفاء كلي للسلطة العمومية، وانعزال سكان يوتوبيا الحاكمة المتحكمة والمسيطرة على زمام السلطة بدعم عمالقة الرأسماليين معتقدين أن ديمومة الاستقرار مرتبطة بحماية الأجنبي.

شباب يوتوبيا، الذي جرب كل شيء إلى أن أصبح سجين واقع البذخ والضجر والملل، باحثا تحت ضغط الإدمان عن الإثارة والحماس وتجرع ملذات العبث بأجساد الفقراء، وممارسة الإثم والتعدي وخرق القواعد وكسر التابو والتمرد على كل القيم الإنسانية...... إنهم جيل لا يعمل، عشش الكسل والملل في نفوس شبابه. إنهم جيل فاشل وفاسد لا يأبه بأي شيء. مشاعرهم خالية من أي عاطفة أو مشاعر نبيلة. سيطر عليهم الكبر والاستعلاء بسبب تنشئتهم في مدينة يوتوبيا. يشعرون بالنشوة والسعادة حد الثمالة عندما يتمكنون من إلغاء ووأد الآخر المهمش بوحشية معتبرين إياه لا يستحق الحياة.

في المقابل، في بلاد الأغيار (بلاد شبرا بمصر القديمة) يجثم شبح الفقر بوطأته الثقيلة على قلوب الناس ساحقا وجودهم اليومي. يعيشون بلا مأكل ولا مشرب ولا ثياب ولا سقف ولا كرامة ولا تلفزة أو جهاز هاتف .... هم غارقون في سوء التنشئة والانعدام الكلي لقيم التربية والتعليم. تتفشى بينهم كل موبقات الانحراف كالسرقة والنهب والخوف والنذالة والجبن والعنف... يصفهم شباب يوتوبيا بكونهم يتظاهرون أنهم أحياء.

عبر الكاتب عن هذا المكان الموحش بعبارة: "نحن في قلب اللامكان بالمعنى الحرفي للكلمة". إنهما المكانين اللذان دفعا بالكاتب إلى عنونة فروع الرواية بتوالي كلمتين : الصياد (شباب يوتوبيا الذي يمثله علاء) والفريسة (أهل الأغيار الذي يمثلهم ضمير الرواية جابر المثقف). أبشع عبارة وردت في الرواية وعبرت عن هذا التوحش والعداء المرعب: "راسم فعلها (شاب يوتوبي).. اختطف واحدا من هؤلاء الأغيار العاطلين وعاد به إلى يوتوبيا. قضى ورفاقه أياما ممتعة في ملاحقة هذا المخطوف بالسيارات، ثم قتلوه واحتفظ راسم بيده المبتورة بعدما قام بتحنيطها". أما حدث الغدر بجابر من طرف علاء والتنكر لجميله، بعدما نجح في إنقاذه من مخالب الأغيار بمعية صديقته، فبين بجلاء قسوة الطبقة الرأسمالية المحتكرة للسلطة وخيرات البلاد. لقد طفى على سطح الأحداث في الرواية وواقع الأقطار أن النعومة في السياسة على المستويين الوطني والدولي في طريقها للاضمحلال.

لقد غمر الكاتب عتبة التنويه بالرسائل السياسية. لقد كشف عن نواياه المكنونة والمعلنة. لقد أفشى في هذه العتبة أن المكان سيكون موجودا عما قريب أو سيكون هناك مكان يشبهه وإن اختلفت التسمية. في نفس العتبة وجه احمد خالد توفيق تحذيرا من مآل استمرار نفس منطق ممارسة السلطة في التفاعل الرسمي مع الواقع المعاش للمصريين. لقد أنذر مبكرا بتحول أحداث الرواية إلى واقع. وبذلك يكون التنويه قد أدى وظيفة الإغراء وتوجيه القارئ نحو دلالة النص السياسية.

بدورها عتبة التصدير كانت بمثابة تحذير سياسي. عنونها الكاتب ب "إلى الأجيال القادمة" مبرزا العلاقة بين الاقتباس والمتن الروائي، محذرا بذلك من خطر قادم ومصير أسود ينتظره المصريون.

والحالة هاته، يكون الكاتب محقا عندما عبر سياسيا عن مآسي صراع الطبقتين الاجتماعيتين بترديد كلمة "الظلام" كمرادف لعقم الإنتاج والفقر والإهمال. لذلك تم تكرار هذه اللفظة بكثرة في المواطن التي تتحدث فيها الرواية عن أرض الأغيار: "خرائب مظلمة"، "ممرات مظلمة"، ... لم يتحدث لا عن الشمس ولا عن القمر في وصفه لهذا الموطن. الفضاءات التي يتحرك فيها شباب الأغيار بممراتها وأنفاقها مظلمة حالكة كما هي حياتهم. فباستثناء جابر، والذي يمكن تصنيفه كضمير للرواية، وضع الأغيار الاجتماعي لا يجعلهم يستحضرون في حياتهم أي قيمة من القيم الإنسانية الدالة على كونهم يعيشون فوق تراب وطن واحد. فبروز الطيبة في بعض اللحظات والأمكنة، يعتبرها شباب يوتوبيا غباء وسداجة. إنه الاعتبار الذي مكن علاء من استغلال إنسانية جابر والإطاحة به، واغتصاب شقيقته صفية. لم يجد هذا الشاب اليوتوبي، بتوحشه الرأسمالي الليبرالي، أي رادع للنيل من أثمن شيء يملكه جابر، ألا وهو شرف وعذرية أخته وكرامتها. لقد عبر عن ذلك، وهو يتحدث عن الأغيار، بالعبارة التالية :" لم يكن فقركم ذنبنا ... تدفعون ثمن حماقاتكم وغبائكم وخنوعكم ... ". إنها مآسي نشر ثقافة الإنتاج والاستهلاك المفرطين. تجبرت النوازع المصلحية ووئدت الروح الإنسانية وتأزمت الأوضاع النفسية والاجتماعية للفقراء والمهمشين.

تحقيقا لأهدافه السياسة المرسومة مسبقا، أسهب الكاتب في التعبير السياسي عن تعالي القيم الرأسمالية الليبرالية على لسان علاء الشاب اليوتوبي : "عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية" .... "أنتم لم تفهموا اللعبة ... عندما هب الجميع ثائرين من كل قطر في الأرض هززتم أنتم رؤوسكم وتذرعتم بالإيمان والرضا بما قسم لكم ... تدينكم زائف تبررون به ضعفكم ... أنتم أقل منا في كل شيء...". لقد ردد هذه العبارات مبررا استباحة شرف صفية وقتل جابر وقطع يده والاحتفاظ بها كتذكار. في نفس السياق، منطق الرواية صنف الطبقة الشعبية في مصر بمثابة ديكور رخيص وشكلي لا قيمة له، لكن وجوده ضروري لعلية القوم (العمل الشاق، الترفيه، الاستهلاك، ......).

على المستوى الفني، استثمر الكاتب في المجال السينمائي لإثارة الانتباه أن الفنون الجميلة في خدمة الثقافة والسياسة. في عتبة الاستهلال استعرض الكاتب فيلم "الفصيلة" Platoon الذي جرت أحداثه في الفيتنام. وهو تعبير واضح عن فترة الحرب الباردة. الفيلم حائز على عدة جوائز لكون القضية الفيتنامية تحولت إلى رمز للمقاومة في العالم. فبالرغم من الأوضاع المتردية بالفيتنام لم تستطع أمريكا من فرض سيطرتها عليها. في نفس الوقت تبين القضية أن إرادة الشعوب لا تقهر.

منذ عتبة الاستهلال حافظ الكاتب على استرساله في تقديم الإضاءات السياسية الساطعة متعمدا إنارة طريق القارئ في مسار كل فصول الرواية. الصراع بين الصياد والفريسة شكل واقعا تاريخيا أفرز بشكل دائم الحقيقة السياسية الآتية: استفحال الصراع الطبقي يزيد من حدة الكراهية والحقد ما بين أبناء الشعب الواحد وما بين شعوب الدول المتخلفة أو السائرة في طريق النمو وشعوب الدول المتقدمة المستفيدة من تطورات القرن الماضي. لقد عبر مشهد اتلاف عين جابر على قساوة التوحش الديستوبي، وبشاعة استباحة استغلال القوي بغناه وعلمه وتفوقه التكنولوجي للضعيف بفقره وجهله وتخلفه.

فحتى اليد الملقاة على الأرض والغارقة في بركة من الدماء على صفحة الواجهة من الغلاف كانت لها دلالة سياسية معبرة عن عجز السواعد في الوطن العربي وتخليها عن واجبها. اليد البيضاء للمواطن المعتنى بوجوده هي رمز للإحسان والقدرة والسلطان والعمل والإنتاج. وئدت اليد الوطنية في مصر، بحيث أصبحت ترمز للذل والخضوع وتشي بالحاجة والفقر المدقع. الحياة في مكان الرواية تشبه أي شيء عدا الحياة. إنها حياة ينعدم فيها النظام وينتفي فيها العدل وتتلاشى فيها المساواة في أبسط أشكالها.

استثمر الكاتب في التناص الديني والأدبي والتاريخي مركزا على إبراز الأبعاد السياسية للرواية.

- التناص الديني: تم استحضار قصة بني آدم وقابيل وهابيل مبرزا طبيعة التجبر والبطش ما بين الأخ وأخيه في بداية استخلاف الإنسان أرضا. تم الفتك بجابر من طرف الشاب اليوتوبي في الرواية حيث تم تعمد إثارة عبارة "لم يكن هناك غراب ... لم يكن هناك غراب" مرتين متتابعتين (التوكيد اللفظي). الإحالة على قصة قابيل وهابيل هي مجرد تذكير بطغيان الصراع كطبيعة بشرية بين الأخوة. بفعل تطور استفحال دوافع الصراع بين البشر، تم تجاوز الدوافع التقليدية كالغيرة والحسد والطمع كمحرضات على الصراع الدموي، وإبراز المرور إلى دوافع جديدة لا تمت بسابقاتها بصلة. اليوتوبيون يقتلون الأغيار بدون ذنب لمجرد الرغبة في التسلية وحب المغامرة وتلذذ سفك الدماء البشرية. في هذا الصدد، قتل جابر بعد الغدر به. في هذا الحادث قابل الكاتب الخير/الشر وصراعهما التاريخي في الحياة البشرية. تم قتل جابر ببرودة دم بعدما غامر بحياته من أجل إنقاذ الشاب اليوتوبي وصديقته.

- التناص الأدبي: لقد استحضر الكاتب نصوصا أدبية دامجا إياها في نسق حبكة سردية مدروسة منذ العنوان، مرورا بالمتن ووصولا إلى النهاية. لقد اقتبس الكاتب من منهجية ومواضيع جورج أوربيل، كاتب رواية الديستوبيا سنة 1984، والتي تحكي عن مستقبل تسيطر فيه سلطة استبدادية وعالم لا تهدأ فيه الحرب والرقابة الحكومية والتلاعب بالجماهير. لقد قام أوربيل بتصور المستقبل المظلم حيث توجد التكنولوجيا في المجال العام كأداة في يد النخبة للسيطرة على المجتمع. إنه التصور الذي بدأت معالم تحققه اليوم تبرز بالواضح. استحضر كذلك أشعار عبد الرحمان الأبنودي وقصيدته التي كتبت بالعامية "احنا شعبين شعبين شعبين ... شوف الأول فين والثاني فين". لقد استثمر توفيق في الأدب لاستحضار التقابل التاريخي لطبقتين مجتمعيتين، تارة بمنطق السيطرة والاستغلال، وتارة بنشوب شرارات الثورات (الأغنياء محتكري سلطة السياسة والاقتصاد والفقراء المهمشين)، مبرزا صعوبة هدم الحاجزين بين الشعبين: الحاجز المادي (الأسوار والبوابات والأسلاك المكهربة والحراس)، والنفسي الذي يتجلى في الحقد الاجتماعي الطبقي الأعمى.

- التناص التاريخي: استحضر الثورات التاريخية التي أسقطت الأنظمة كالثورة الفرنسية، منبها القارئ إلى ظهور سمات جديدة في العالم العربي سماها بالزمن الغريب. وذكر بوعد بلفور وحكم نابليون بونابارت وعبارته الشهيرة "أنا إمبراطوركم فاقتلوني ... لكن الجند لم يفعلوا .. هيبته جعلتهم يجثون على ركبهم أمامه وهم يبكون". فجابر طغت عليه صورة الأقوى المتفوق وسقط ضحيتها...

الخاتمة

يتضح من خلال التمعن في فصول الرواية ومضمونها، أن الهم الذي سيطر على الكاتب منذ عتبات الرواية إلى النهاية كان أساسه تمرير الدلالات السياسية من خلال تطور الصراع الطبقي في المجتمعات العربية. لقد عبر أدبيا وبإبداع تخيلي متميز إلى المآل الزمني لهذا الصراع السياسي ما بين أبناء المجتمع الواحد (مصر) ووصوله إلى درجات متوحشة في العقود الأولى من الألفية الثالثة.

لقد اعتمد في حبكته السردية على التتابع الزمني للأحداث. الزمن بالنسبة للكاتب في هذه الرواية أعم وأشمل من المكان، وبذلك يكون قد نجح في جعل مضمون الرواية في رمتها فنا زمانيا ملتصقا بامتياز بتطور حياة مجتمع بلاده كنموذج. لقد جسد لنا طوال فقرات صفحاتها أن زمن الإنسان المصري وتطور وعيه وأوضاعه منذ الاستقلال إلى مرحلة تفاقم تردي الأوضاع في مختلف المجالات.

إجمالا، لقد اكتسى مفهوم الزمن في الرواية بطابع العمق السياسي المرتبط بالتطورات الحضارية العالمية. الرواية تجاوزت النظرة السطحية في تحليل الظواهر. الأنظمة الحاكمة العربية تعيش في حلقات مفرغة لم تراكم من خلالها إلا الضعف وهشاشة اللحمة الشعبية المؤيدة لها. لقد ربط بإتقان زمن الحكاية بزمن الكتابة وزمن القراءة وزمن الكاتب والزمن التاريخي.

الرواية في توالي أحداثها حزينة ومقلقة بفعل تجسيدها لحقيقة مطاردة القوي للضعيف تاريخيا. المطاردة التي وصلت إلى حدود لا تطاق في عصرنا الحالي. ما جعل الرواية متميزة يتجلى في كونها ركزت على تقنيات المفارقات الزمنية في خدمة البعد السياسي.  تخللتها الاستذكارات والاسترجاعات من الماضي. لجأ الكاتب كذلك إلى الإستباقات والتنبؤات والاستشرافات وتقنية المشهد المبهر والمخيف في نفس الآن، ليتوج عمله هذا بتقنية الخلاصة المؤثرة. انكسار لحمة المجتمع الواحد وصلت إلى حد ملل شباب يوتوبيا من كل أنواع الترف وفقدان أهالي شبرا الإحساس والمشاعر وغرقهم في مستنقع العنف والقتل والاعتداء.

إنه الواقع المتناقض الوائد لطموحات ترسيخ الوعي بأهمية القراءة والمعرفة والتدين العقلاني في المجتمع المصري. فسكان يوتوبيا يعتمرون ويلجؤون للعبادة لكن ليس حبا في الدين، بل بسبب خوفهم من فقد الثراء والنعيم الذي يعيشونه. على عكس ذلك لا يمارس أهل شبرا التدين إلا من باب تشبثهم بالأمل في حياة النعيم بعد الموت. القراءة عند جابر لا تفيده إلا في تحقيق تغييبه عن الواقع المرير الذي يعيشه، بينما عند الشاب اليوتوبي ما هي إلا نوعا رخيصا من المخدرات تغيب مستهلكيه عن الوعي. إنه مآل مخيف في زمن مرعب. الأهداف النبيلة للقراءة التي يتوخى منها المرء اكتساب وتراكم المعارف وتطوير وعيه بمعاني الحياة أصبحت تضمحل لتحل محلها التفاهة والإدمان والكسل.

***

الكاتب الحسين بوخرطة

تعد مجموعة القصص "تفاصيل" لجمعة شنب والصادرة عن دار العائدون للنشر لعام 2022، نافذة على عوالم إنسانية متنوعة، تتناول موضوعات مثل الفقر المدقع والأحلام المؤجلة، والحب الضائع واليأس القاتل. يستعرض شنب بعمق شخصياته التي غالباً ما تكون مهمشة ومنسية، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق لظروفها وآلامها المستترة.

ضمت المختارات قصص منتخبة من خمس مجموعات هي نتاج تجربة شنب في القصة القصيرة والقصيرة جدًا، إضافة إلى قصص لم تنشر في مجموعة بعد، أي أنها تنشر للمرة الأولى. ويقول المحرر الأول لسلسلة المختارات "لعل هذه المختارات تفتح الباب واسعًا على عالم واحد ممتد ومتعدد، منذ البدايات حتى اليوم، فيقرأ من يريد "تفاصيل" هذه التجربة، بعناصرها الأساسية، وسِماتها الأبرز، فاجتماع هذا العدد وهذا التعدد يتيح قراءة لا تتيحها قراءة المجموعات منفردةً، بل يبرز هنا المؤتلف والمختلف، الواقعي والفانتازي، السوداوي مقابل بعض ثقوب الأمل وبواباته ربما"، لافتا الى "أنها قصص مدهشة بتفاصيلها ولغتها التي تقترب من لغة الشعر. وليست هذه سوى ملامح من عالم جمعة شنب الثري والعجيب، هنا، والآن!".

عالم شنب القصصي

عالم شنب الأدبي ليس عالماً مثالياً، بل يعكس واقعنا الصعب بكل تناقضاته وصراعاته. يتناول شنب في كتاباته حياة البسطاء والمكافحين، هؤلاء الذين لم يحظوا بفرصة الظهور في الصفحات الأولى من الحياة. يمنحهم صوتاً مميزاً، ويجعل القارئ ينظر إليهم بنظرة مختلفة، نظرة تقدّر إنسانيتهم رغم كل التحديات التي يواجهونها.

لغة مكثفة وموحية

يستخدم شنب لغة مكثفة وموحية تختزل الكثير من المعاني بكلمات قليلة. يصف المشاهد بدقة ويترك مساحة للتفكير. كلماته ليست مجرد حروف، بل صور حية تنبض بالحياة.

شخصيات لا تُنسى

الشخصيات التي تعرضها أعمال شنب هي شخصيات لا تُنسى وتظل عالقة في الذاكرة، فهي ليست مجرد أسماء عابرة، بل تمثل نماذج إنسانية واقعية. نتفاعل معها ونتفهم دوافعها، ونشاركها مشاعرها من حزن وفرح. يكتب شنب عن هذه الشخصيات بحب واحترام، بدون إصدار أحكام عليهم، مما يتيح لنا كقراء حرية تقييمهم واتخاذ القرارات بشأنهم.

قضايا إنسانية

يتناول شنب في كتاباته قضايا إنسانية متنوعة، مثل الفقر، واليأس، والحب، والوحدة. يعبر عنها بصدق وشجاعة، ولا يتجنب الخوض في المواضيع الحساسة. لا تقتصر قصصه على التسلية فحسب، بل تهدف إلى تحفيز التفكير ودعوة للتغيير.

"تفاصيل" هي أكثر من مجرد مجموعة قصصية

"تفاصيل" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي رحلة في العوالم الإنسانية، صرخة ضد الظلم واليأس، واحتفاء بالإنسان البسيط. تدعونا لنرى الجمال في التفاصيل والأمل في الأوقات الصعبة.

بعض الملاحظات:

- تصوير واقعي: يسلط العمل الضوء على الواقع بشفافية، حتى وإن كان مؤلماً.

- وضوح اللغة: تتميز اللغة بالبساطة والوضوح، مما يسهل التواصل مع القارئ.

- العمق الفكري: تحمل القصص دلالات ومعاني عميقة تدعو للتأمل والتفكير.

- تأثير الشخصيات: تظل الشخصيات عالقة في الأذهان بفضل واقعيتها وبُعدها الإنساني.

تحليل موجز لإحدى قصص المجموعة (عمارة تحت الحجر)

بعد قراءة القصة استمالني أسلوب الكاتب وبراعته في استخدامه سيكولوجية الحجر.... وقد حفّزتني لكتابة تحليل بسيط لهذه القصة الجميلة التي أعلم واعتقد أنني لن أفيها حقها في التحليل... هذه محاولتي الأولى في هذا المجال... وآمل أن تروق لصاحب النص لأنه يعد من أكبر وأفضل كتّاب القصة القصيرة.

عمارة تحت الحجر، تأتي تحت تصنيف أدب العزلة الذي من خلاله يوظف المؤلف مصطلح العزلة الذي يعد محفزًا سيكولوجيًا لإنتاج نموذج توصيفي، ووصفي للتعبير والبوح، كما أنه يخلق نوعًا من الصدمة الشعورية تضطرب من خلالها الصورة النمطية لدى المتلقي سواء على مستوى الوعي أو التفكير، وبالتالي يؤدي إلى إرباك في معتقداته الوجدانية والعقلية فتفتح له المجال للتأمل والتأويل.

في هذه القصة يوظف جمعة شنب سيكولوجية الحجر وما له من تأثيرات، فالحجر يولّد لدى الإنسان شحنات انفعالية يصعب التحكم بها، فتتولّد عنها أعراض نفسية مثل الخوف والقلق واضطراب المزاج واضطراب النوم.

جمعة شنب في مجموعاته القصصية يبحث عن العوالم الداخلية للإنسان، ودائم الإفراط في الخيال إلى حد لا يقبله العقل، وهو ما أطلق عليه الدكتور محمد القواسمة في إحدى ندوات جمعية النقاد الأردنيين، مصطلح الاستحالية، فهو الإفراط بالخيال، وكذلك عدم إمكانية وجود الشيء أو حدوث الفعل على أرض الواقع.

تلتقي هذه القصة مع بعض قصصه في مجموعته (قهوة رديئة) مثل قصته (محكمة) و(خلاص)، وكذلك تتوافق مع ما كتبه في تصدير مجموعته بنت الحرام "إن عليّ أن أفعل شيئاً حيال هذا السكون المقيت، كأن أقوم عن الكرسيّ، وأخبر الجدار أني غير مرتاح لانتصابه في وجهي طوال الوقت.. عليّ أن أهمس في أذنه: إنه إن لم ينصرف، فسأنصرف أنا"؛ فالتصدير كان حالة استشراف مستقبلي، وتطابق لما نعيشه الآن من حجر إجباري.

بالنسبة لكريم حاله حال أي شخص محجور عليه، ولقد بدت آثار الحجر النفسية تظهر لديه، فقد تولد عنده شحنة انفعالية قوية اتجاه ليلى ومنشوراتها العديدة، ولم يستطع التحكم بنفسه والتقليل من هذه الشحنة، فجال في خاطره أن قتل ليلى هو الحل الوحيد للتخلص من سماجتها ومن منشوراتها البذيئة، وكذلك رسائلها المتكررة. وإن استخدام الرقم (11) له دلالاته النفسية فتكرار الرقم واحد يعزز نظامًا عصبيًا شديد الحساسية، وكذلك يرتبط بالخيانة وبالجانب الجنائي، وهذا ما تنبه له القارئ من خلال سرد الأحداث وما يجول في خاطر كريم من جريمة قتل ليلى.

ولو أتينا القصة من باب الفوضى، والتي تعبّر عن موقف الإنسان من الوجود ومن الآخر ومن ذاته، نجد أنها تمثلت في سرد المؤلف للأحداث، وتنقله بين الماضي والحاضر، والعودة إلى ماضي كريم منذ الطفولة وما عاناه من قسوة والدته ووالده، وتأثير ذلك عليه في الحاضر، حيث إن الكوابيس تلاحقه وتجثم على صدره ليستيقظ لاهثا يستنشق الهواء بقوة، فأحداث القصة الفوضوية صنعت لدى المتلقي نوعًا من فوضى المشاعر تعاطف مع كريم على الرغم من تفكيره بالقتل، وكره ليلى على الرغم من أنها الضحية. بالرغم من أن ليلى أيضًا تعد ضحية لهذا الحجر، وقد تولدت أيضا لديها شحنات انفعالية، وما منشوراتها سوى تنفيس عن ضغطها النفسي، وربما أرادت التسلح ببعض القيم الإيجابية مثل التكافل الاجتماعي والتضامن والتعاطف، للتخفيف من تلك الشحنات الانفعالية، لذلك تواصلت بكثرة مع سكان العمارة.

وما أن ينتهي القارئ من القصة حتى يصدم بالنهاية التي جاءت على غير المتوقع، فقد كسر المؤلف أفق توقع المتلقي بموت كريم مختنقًا، فقلب الموازين الاجتهادية، محدثًا تشويشًا لوعيه الذي كان ينتظر إلقاء القبض على كريم بسبب جريمة قتل بشعة، ليفاجأ بوجوده مقتولًا خنقًا.

وتبقى الأسئلة معلّقة في ذهن القارئ: هل قتل أحدهم كريم؟ أم قتلته كوابيسه التي كانت تراوده؟

نهاية غير متوقعة، ومفتوحة التأويل، أعدتها سيكولوجيا الحجر... ويبقى السؤال معلّقًا: لماذا مات كريم وعاشت ليلى؟

أخيرًا "تفاصيل" هي إضافة قيمة للأدب العربي، وهي شهادة على موهبة جمعة شنب وتمكنه من أدواته، أتمنى له المزيد من التألق والإبداع.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

يعد شعر التصوف من أرقى التعابير الفنية التي تلامس الروح والعقل معًا، فهو دليل على قدرة الإنسان على مزج الجمال الشعري بالكلمة مع العمق الروحي للتعبير عن أسمى معاني الحب والعشق الإلهي رضمن رحلة تأملية تسعى إلى بلوغ الحقيقة الإلهية.

ظهر شعر التصوف كأحد أبرز الألوان الأدبية في التراث العربي والإسلامي، بوصفه جزءا من الحركة الصوفية التي تطمح إلى الوصول للحضور الإلهي عبر الحب والتأمل والزهد. التصوف باعتباره طريقًا روحانيًا يسعى الإنسان من خلاله إلى التقرب من الله والتطهر من شوائب النفس، والانفصال عن العالم المادي. في هذا السياق، جاء بوصفه وسيلة لتصوير العلاقة بين العبد وخالقه، وحب يتجاوز حدود الحب البشري ليصل إلى المطلق.

الحب الإلهي هو المحور الأساسي الذي تناوله شعر التصوف، والذي حمل مجموعة من الموضوعات تبين تجربة المتصوف الروحية. يبرز اسم سلطان العاشقين "ابن الفارض" (1181-1235م)، يوافق بالهجري ( 576- 632). وهو متصوف اشتغل في شبابه بفقه الشافعية، سوري الأصل، مصري المنشأ، وقد دفن في جبل المقطم بجوار مسجده.(1)

تميز ابن الفارض، شاعر الغزل المتصوف، بقدرته الفائقة على التعبير عن ولهه وشوقه لله عزّ وجل باستخدام لغة العشق. من أبرز أعماله "التائية الكبرى" التي تبلغ 760 بيتًا، وهي تحفة فنية تتحدث عن رحلة الروح في البحث عن الخالق، والتي نجد فيها أوجه تشابه مع الأسئلة الفلسفية الكبرى التي يطرحها الإنسان المعاصر.

تجاوز ابن الفارض التصورات التقليدية للعشق، فجعل منه مدخلًا لفهم العلاقة بين الإنسان والخالق. أشار إلى فكرة الفناء في الحب، والتأكيد على الصدق والإخلاص في المحبة لله، وأن الكذب يمنع السالك من الوصول. وقد حملت قصيدة التائية، كسائر قصائده، معاني باطنة ترتبط بشعائر الدين، على غرار قصائد الصوفية التي تقدم الشريعة في صورة مميزة تختلف عن تلك التي صاغها رجال الفقه. يُظهر فيها بعض معاني الصوفية من شوق وخوف ورجاء وإقبال على الحبيب، فيقول:

فطوفانِ نوحٍ عند نَوحي كأدمعي

وإيقادُ نيران الخليلِ كلوعتي

ولولا زفيري أغرقتنيَ أدمعي

ولولا دموعي أحرقتنيَ زفرتي

عبر ابن الفارض عن شدة العشق الذي يعيشه في صور حسيّة ومجازية، يشبه فيها فيض دموعه بطوفان نوح، واحتراق قلبه بنيران الخليل (إبراهيم عليه السلام)، ويشير إلى أن زفيره ودموعه تخففان عنه لهيب الوجد، وإلا لاحترق من شدة نيران شوقه. كما أبدع في قصيدته الخمرية، فقال:

قلبي يحدّثني بأنّك مُتلفي

روحي فداك عرفتَ أم لم تعرفِ

يعبر هذا البيت عن شدة الحب والتعلق الروحي بالمحبوب لدرجة فداء الروح، وهو انعكاس للتجربة الصوفية التي ترى في الحب والجمال المادي تجليًا للجمال الإلهي، حيث يصبح الحب وسيلة للارتقاء الروحي نحو المطلق، وهي الصورة النهائية التي مثلها شعراء التصوف.

حملت قصائد ابن الفارض، بأسلوبه الفريد، أبعادًا روحانية ذات رؤية عرفانية تتخطى الزمان والمكان، وتُلهم الأجيال إلهامًا روحيًا. فجاءت قصائده بمثابة دعوة للتصالح مع الذات، وتجاوز القلق النفسي، والتحرر من الضغوط المادية للوصول إلى السلام الداخلي.

في كتابه" ابن الفارض شاعر الغزل في الحب الإلهي" تناول د علي نجيب عَطوي شعر ابن الفارض، مبينًا كيف ارتقى بالغزل إلى مستويات روحية لا مثيل لها، فيقول:" غربة المحب بين أهله كناية عن تحققه في نفسه بالحي القيوم على النفوس كلها".(2)كذلك" عبر ابن الفارض عن الحب والوجد الإلهي بصور شتى من التعبيرات التي استعارها من شعراء الحب العذري، وبعض الصور من شعر الخيّام".(3)

في عصر الرقمنة يمكننا التحدث عن الخلوة الروحية كفكرة مُلحّة أكثر من أي وقت مضى. "الخلوة" مفهوم صوفي يشير إلى الانفصال عن العالم المادي والاتصال بالعالم الروحي. وفي هذا الزمن لم يعد ينفصل الإنسان عن هاتفه الذكي أو شبكات التواصل الاجتماعي، فتبدو وسيلة لاستعادة الذات بعيدا عن صخب التكنولوجيا.

وإن اشترك شعر التصوف مع الشعر العربي في جمالياته، لكن ما يميز شعر التصوف عنه:

1- فكرة الفناء: وهي محو الصوفي نفسه تمامًا ليصبح وجوده هو وجود الله فيه. الصور الرمزية في هذا السياق تعبر عن الذوبان في النور الإلهي.

2-الرمزية والوجد: استخدام الرموز للتعبير عن الحنين والشوق العارم لله، مثل رمز "الحبيب" للإشارة إلى الله، و"الخمرة" تعبير عن النشوة الروحية، فيقول في قصيدة الخمرية:

شربنا على ذكر الحبيب مدامةً

سكرنا بها من قبل أن يُخلقَ الكرْمُ

3- الزهد والتحرر من الدنيا: يتحدث عن الدنيا ومتاعها، باعتبارها حاجزًا بينها وبين الله.

دنوتُ منها فكانت نار المكلّم قبلي

صارت جبالي دكّا من هيبة المتجلّي

ولولا سرّ خفيّ يدريه من كان مثلي

أنا الفقير المعنّى رقّوا لحالي وذلّي

4- الموسيقى والصور الشعرية ذات إيقاع عذب وصور غنية تصور التجربة الوجدانية للصوفي.

لولا الهوى ماذلّ في الأرضِ عاشقٌ

ولكن عزيز العاشقين ذليلُ

5-الوحدة الموضوعية: ترابط العلاقة بين الإنسان والله.

يربط د. عطوي بين ابن الفارض والتصوف بقوله:" لا يمكن فهم شعر ابن الفارض بمعزل عن التجربة الصوفية، حيث كان مسكونًا بشغف الوصول إلى الحقيقة الإلهية" (عطوي، 1414ه-1994 م)، فكانت قصائده تعبيرًا عن حالاته الروحية المختلفة، من الشوق والوجد إلى الفناء في المحبوب.

لم يكن ابن الفارض مجرد شاعر غزل أو صوفي، بل كان فيلسوفا روحانيّا عبر عن أسمى معاني الحب الإلهي بأسلوب شعري رفيع. تُعد تجربته الشعريّة تجربة إنسانية كونية تعبر عن شوق الإنسان الدائم إلى الجمال والحقيقة. وصفها د. عطوي بأنها كشفت عن الجوانب الخفية في شعره، وحملت رسائل تضجّ بالدعوة إلى التسامح والمحبة الكونية، فيقول ابن الفارض:

ومازلتُ أرى في الحب وحدتي

فلا فرق بين الفِرق والطوائفِ

يمثل في هذا البيت رؤية عالمية تتجاوز الحدود الضيقة لتفسير الإنسان للحياة والأديان، وتقدم الحب كجوهر إنساني مشترك لتعزيز الحوار بين الشعوب.

نرى شعر ابن الفارض، في القراءة المعاصرة، منظومة روحية وفلسفية تتجاوز الزمن، وإرث أدبي يمثل جسرًا بين العصور، قد نكتشف فيه أجوبة للأسئلة الوجودية والنفسية التي تواجه الإنسان اليوم. إذ تمثل رؤية ابن الفارض في الحب رؤية عالمية تتجاوز الحدود الضيقة للتفسيرات التقليدية للحياة والأديان، وتقدم الحب كجوهر إنساني مشترك يعزز الحوار بين الشعوب، مازجًا العشق الإلهي والعاطفة الإنسانية في تجربة شعرية عميقة خلّدت اسمه في الذاكرة الصوفية والأدبية.

***

بقلم: ريما آل كلزلي

......................

 المراجع:

1-شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج5، ص 149.

2-د علي نجيب العطوي: ابن الفارض شاعر الغزل في الحب الإلهي. الطبعة الأولى: 1994م، بيروت: دار الكتب العلمية، 1994،ص156.

3- نفسه،ص 162.

4-ديوان عمر ابن الفارض. شرح عبد الغني النابلسي، دار إحياء التراث، بيروت.

 

"في انهاركِ يتلاطمُ الغيم"

أيّتها الليليت المكسوة بعطشِ البَساتين، القابعة في حنايا شراشفِ الليل، أيّتها النافرة في تضاريسِ قفصِ الصدر، تينكِ لمّا يزل ينضجُ على أغصانِ التمرّدِ، وشرارةُ الثديينِ تقدحُ في مائدةِ الرغبةِ، وأنتِ تنضحينَ بالأغراءِ مِنْ ضلعِ آدم، أيّتها الراقصةُ على شَبَقِ أنغامِ التولّهِ، وفي الدفاترِ معمّدة بأمطار تعاويذ الشهوةِ، اسكبي عطوركِ جبارةً في كأسِ الخيال، العصافيرُ المحبوسة بأحلامي تبحثُ عنْ هديلكِ، عنْ البريق النابضَ في صلواتِ الشفتينِ ’ والشهقةِ المنسكبة توقظُ القرابينَ في الحلكةِ، ألَمْ يَئِنُ لغاباتكِ تفتحُ سيقانَ اشجارها، تلقّحُ جذوراً نخرَ فيها سوسَ الانتظار، وتشربَ الجوعَ مِنْ غدران يعشقها النسيان ..؟؟!!!، طوووووويلةٌ أيامكِ مرتعشةٌ كـ ارتعاشةِ وحدةِ الشتاء، خفيفةٌ أهدابُ فراشاتكِ تلتحفُ الحلم، لكنَّ نافذتي مجروحة بلوعةِ أغنيةِ الحرمان، حطامُ زوارقي للآنَ تجثو على بؤبؤِ الطوفان،  ينمو في ركامها دَغَلٌ غريبٌ يهدهدُ غربتي، وسيولكِ جارفةٌ حدَّ الانعتاق مِنْ ظلمةِ الهاوية، كلّما فتحتُ خزانةِ الأسرارِ تنعتقُ مفاتنُ الغوايةِ، عاليةً ترفرفينَ راقصةً تحتَ صفصافتي، وسراجكِ يرسمُ طبتَ المخدعِ وهمهمةً مفضوحةً، مَنْ إذا ينحني يحصدُ اللهفةَ في خيامِ الصخب، ويُشعلُ بالابتداء نزفَ الطرقاتِ الملغومةِ، ويحصدُ الخمرةَ خلفَ ابوابِ الهذيان؟!.

***

د. كريم عبد الله - العراق

...............

هذه القصيدة استكشافٌ غنيّ وحسيّ للرغبة، والإغواء، والحنين غير المُشبَع، وقد غُمرت بصور طبيعية حيّة وإشارات توراتية. أدناه تحليلٌ لموضوعاتها وبنيتها وصورها ونبرتها، مع التركيز على تفسير معانيها المتعدّدة.

الرغبة والإغواء:

تدور القصيدة حول توقٍ عارم، يكاد يكون غريزيًا، يتجسد من خلال شخصية حواء، الرمز التوراتي للإغواء. يستهلك المتحدث الشغف والانبهار، وقد صُوِّرا كأنهما خمران ساحران ومعذّبان في آنٍ معًا.

تُعزز صور النضج، والجوع، والإغواء الذائب الجاذبية الجسدية والعاطفية للرغبة غير المُحققة.

الطبيعة والجسد:

تمتزج الطبيعة مع الجسد الإنساني، حيث تُستخدم المناظر الطبيعية (الأنهار، والبساتين، والغابات) لعكس ملامح الرغبة والجسد. وهذا يخلق نوعًا من الألفة بين العالم الداخلي للشاعر والعالم الخارجي، إذ تعمل الطبيعة كرمز للشغف والخصوبة.

التمرّد والحبّ المحرَّم:

تشير الإشارات إلى حواء، وضلع آدم، والتين "الذي لم / ينضج بعد على أغصان التمرّد" إلى صراع ضد القيود أو الأعراف الاجتماعية. تصوّر القصيدة الرغبة كقوة مبدعة ومدمّرة في آنٍ واحد، تقف على حافة المحرَّم.

الحنين وعدم الإشباع:

تخترق القصيدة مشاعر من الانتظار والتحلّل ("جذور تعفنت من انتظار السوس"). يظل شوق الشاعر دون ارتواء، وينعكس ذلك في صور البساتين المهجورة.

البنية والأسلوب

القصيدة مكتوبة بأسلوب الشعر الحر، دون نمط إيقاعي أو قافية منتظمة، وهو ما يعكس طبيعة موضوعاتها العضوية المتدفقة. تتفاوت أطوال الأسطر وتُستخدم الجمل المتقطعة (enjambment) لتوليد إحساس بالعجلة والتشظي، وهو ما يعكس الاضطراب العاطفي للشاعر.

تنقسم القصيدة إلى مقاطع فضفاضة، كل منها يغيّر التركيز قليلًا — من الكوني (الأنهار والغيوم) إلى الحميمي (الصدور، الأضلاع، الشفاه)، ثم تعود إلى الصور الطبيعية الواسعة (الغابات، المجاري الجافة). هذا التذبذب بين الشخصي والكوني يُضخّم البُعد العاطفي للنص.

الاستخدام المتكرر لـ "يا" (O) يُضفي طابعًا كلاسيكيًا، كما لو أن الشاعر يتوسّل أو يُناجي إلهامًا غامضًا.

الصور الرمزية والتشبيهية

صور القصيدة غنية، حسيّة، ومليئة بالرموز:

العناصر الطبيعية:

الأنهار، والبساتين، والغابات، والمجاري الجافة، تُثير معاني الخصوبة والنمو والتوحّش. لكنها غالبًا ما تُقرَن بالتحلّل أو الهجر ("جذور تعفنت")، ما يشير إلى توتر بين الحيوية والفقد.

الإشارات التوراتية:

حواء وضلع آدم يُؤطران القصيدة في سردية الخطيئة الأصلية، حيث تظهر حواء كمُغوية وككائن جدير بالتبجيل في آنٍ معًا. ترمز "ثمار التين" إلى الفاكهة المحرّمة، التي لم تنضج بعد، ما يدلّ على رغبة مُغرية بعيدة المنال.

الجسد كجغرافيا:

يُصوّر الجسد كأرضٍ ("شرارة الصدور")، فيمزج بين الحسيّ والمجازي. هذا يخلق ارتباطًا حسيًا بين رغبة الشاعر ومحلّ الشوق.

النار والشرر:

تصوّر النار ("إشعال مائدة الرغبة") شدة الشغف وخطورته، بينما ترمز "الشرارات" إلى لحظات خاطفة من الاتصال أو الإلهام.

السجن والانعتاق:

"الطيور المسجونة في أحلامي تبحث عن هديلكِ"، و"الضوء النابض في صلوات الشفاه" تُثير شوقًا للتحرر، جسديًا وعاطفيًا. تُوحي الصور الختامية للأشجار المنفتحة والجذور المُخصبة بإمكانية التجدد، وإن كانت غير مُحققة.

النبرة والمزاج

النبرة عاطفية، تبجيلية، وأحيانًا مليئة بالمعاناة. يتأرجح الشاعر بين التقديس واليأس. أما المزاج فهو حنين مسكر، مشوب دومًا بالتوتر بين النشوة والإحباط. تتوازن حسّية القصيدة بشعور خفي بالحزن، إذ تبقى رغبات الشاعر على الدوام عصية على التحقق.

التفسير

في جوهرها، تستكشف القصيدة مفارقة الرغبة: فهي قوة إبداعية تُغذي الخيال، لكنها أيضًا مصدر للعذاب حين لا تُشبع. وتُجسّد شخصية حواء هذا التناقض — رمزٌ للإغواء ومثلٌ أعلى بعيد المنال.

إن انشغال الشاعر بها يوحي بصراع داخلي — ربما بين قيود المجتمع والعاطفة الشخصية، أو بين الخيال والواقع.

تُرسّخ الصور الطبيعية القصيدة في إطار أسطوري بدائي، حيث تبدو المشاعر البشرية شاسعة وغير مروّضة كالأودية والغابات. ومع ذلك، توحي الرموز المتكررة للتحلّل والهجر بثمن التوق الطويل — الجمود العاطفي أو الفقد.

***

بقلم الشاعرة الهندية: راجاشري موهاترا .

تكتب التاريخ بأظافر الحائرين!

في عالم تتداخل فيه الهزائم بالأسئلة، والأوجاع بالأساطير، تطفو رواية "صلاة القلق" للكاتب المصري محمد سمير ندا كمرآة مشرعة على جراح عربية لم ترتق بإبرة الزمن، بل نزفت حروفا تبحث عن ذاكرة ضائعة. من قرية صعيدية تحاصر بأوهام النصر، إلى أجساد تتحول إلى سلاحف تحت وطأة وباء غامض، ينسج الكاتب خريطة سردية تختبر الهوية في زمن التشوهات. 

لا يكتفي سمير ندا بسرد حكاية عن ماض مثقل بالهزائم، لكنه يحفر في جداريات التاريخ بأظافر الخيال، ليكشف كيف تصادر السلطة حق الإنسان في الحقيقة، وتحوله إلى كائن مسوخ يرقص على إيقاع أوهامها. عبر ثماني حكايات متشابكة، تتحول "نجع المناسي" – بوبائها الغامض وجدرانها الناطقة – إلى استعارة مرعبة لعالمنا العربي: جيتو مغلق تديره صحف الدعاية، وحروب وهمية تخفي خلفها جوعا للحرية. 

بينما يحتفي النقاد بالرواية كـ"صوت جريء" حصد جائزة البوكر العربية (2025)، تظل أسئلتها الأكثر إيلاما عالقة في الذهن: كيف نكتب تاريخنا دون أن نصبح شخصيات في رواية مأساوية؟ وهل يكفي الأدب لإنقاذنا من متاهة الهزائم التي نعيشها مرتين: مرة على الأرض، ومرة في الذاكرة؟

 محمد سمير ندا.. ابن الحكايات المتنقلة 

ولد محمد سمير ندا في بغداد عام 1978، ابنا لأب من أدباء جيل الستينيات، وأم عملت في وزارة الثقافة المصرية. نشأ في بيت تقرأ فيه كتب محمد حسنين هيكل قبل النوم، وتحفظ فيه مسودات الأب بين أوراق المكتبة الهائلة. تنقل بين العراق ومصر وليبيا، فاكتسب "تنوعا ثقافيا" صاغ وعيه ككاتب يبحث عن الهوية في فسيفساء الجغرافيا. 

لم يخلق ندا ليكون مديرا ماليا في مشروع سياحي، بل ليحمل قلما يقلب صفحات التاريخ ويمسك بجراح الأمة. بدأ برواية "مملكة مليكة" (2016)، ثم "بوح الجدران" (2021)، التي اعتبرها تحررا من ظل الأب، قبل أن يصل إلى ذروة نضجه مع "صلاة القلق" (2024)، التي حولته من كاتب واعد إلى صاحب "صوت جريء" يرمي الحجارة في بحيرات الأدب الراكدة. 

فوز "صلاة القلق" بجائزة البوكر العربية (2025) اعتراف بجرأة كاتب يرفض أن يكون "مخدرا للوعي". الجائزة، بقيمتها 50 ألف دولار، لم تمنح للرواية لأنها تمس جرحا عربيا نازفا: صدمة الهزيمة، ووهم السيادة، وآلة تزييف الوعي التي تديرها السلطة. 

الرواية تعيد طرح سؤال قديم جديد: من يملك حق كتابة التاريخ؟ هل هو المنتصر الذي يروي الحكاية بالدبابات، أم المقهورون الذين تختزل أصواتهم إلى همسات؟ هنا، يختار سمير ندا أن يكون صوت "حكيم"، الطفل الأخرس الذي يكتب فضائح القرية على الجدران. حكيم هو الاستعارة الأقوى لكاتب عربي يجبر على الصمت، لكنه يرفض أن يغمض عينيه. 

الرواية، برغم ثقلها السياسي، لم تنس أن تكون أدبا: لغة شعرية تنساب كأنها ترتيل، شخصيات تخرج من الأعماق لتذكرنا بأننا جميعا – في النهاية – نسكن "صناديق معتمة" تحت الحصار. 

الأدب والتغيير 

"الكاتب الحقيقي لا يحل الأزمات، لكنه يلقي بالحجارة في المياه الراكدة"، يقول محمد سمير ندا. ربما لن تنهي "صلاة القلق" حربا، لكنها كشفت أن الأدب العربي لم يمت بعد. فبينما تترجم الرواية إلى لغات العالم، يبقى السؤال: هل نستحق نحن – كقراء – هذا الأدب الجريء؟ أم أننا سنظل نعيش في "نجع المناسي" الخاص بنا، ننتظر معجزة لن تأتي؟ 

لا يمكن فصل "صلاة القلق" عن سياقها التاريخي الذي تنبثق منه: هزيمة 1967، التي لم تكن مجرد كارثة عسكرية، بل زلزالا هدم أسطورة "القيادة الثورية"، وكشف عن مجتمع مثقل بأوهام السيادة والبطولة. قرية "نجع المناسي" ليست إلا استعارة للعالم العربي الذي تحول إلى جيتو مغلق، تديره سلطة تبيع الوهم كسلعة، وتحول الهزيمة إلى "حرب دائمة" ضد عدو مجهول. هنا، يذكرنا محمد سمير ندا بجرأة غسان كنفاني في "رجال في الشمس"، حيث الموت البطيء تحت أشعة الواقع المحرق. 

الوباء الذي يشوه أجساد أهل النجع ليس سوى الانزياح الأبرز للكارثة الجماعية: تشوه الذاكرة، وانزياح الهوية، وتحويل الإنسان إلى كائن مسوخ، يركض خلف أسطورة "النصر القادم" التي تروجها صحيفة "صوت الحرب". هذه الآلية التضليلية ليست ابتكارا أدبيا، بل هي استنساخ لدور الإعلام الناصري في تحويل الهزيمة إلى "نصر مؤجل"، كما حدث في أعقاب 1967. 

المثقف والسلطة

في الرواية، تبرز شخصية "خليل الخوجة" كممثل للسلطة التي تعيد إنتاج الوهم عبر خطاب ثوري مزيّف، بينما تشبه شخصية "حكيم" الطفل الأخرس، المثقف العربي الذي تقيده السلطة بأصفاد الصمت، فيلجأ إلى الكتابة على الجدران، كفعل مقاومة صامت. لكن هل تكفي الكتابة على الجدران لمواجهة آلة السلطة؟ التاريخ يجيب أن الثورات لا تندلع من الجدران، بل من بطون الجياع، كما حدث في انتفاضة الخبز عام 1977، التي تتزامن زمانيا مع أحداث الرواية. 

اللافت أن ندا، رغم جرأته، يقع في فخ التناقض ذاته الذي ينتقده: فخاتمة الرواية التي تشرح كل شيء عبر تقرير طبي، تعيد إنتاج منطق السلطة المستبدة التي تفرض رواية واحدة للحقيقة، مكرسة بذلك إيمانا زائفا بـ"العقلانية العلمية" كبديل للخرافة، دون أن تدرك أن العلم نفسه قد يصير أداة للقمع إذا تحالف مع السلطة. 

البنية السردية

الرواية تقدم نفسها كـ"فسيفساء" من ثماني حكايات، لكن هذا التعدد يشبه – في رأيي – محاولة كتابة تاريخ بديل للهزيمة عبر وجهات نظر المهمشين. هنا، يذكرنا ندا بتقنية غسان كنفاني في "باب الشمس"، حيث تتداخل الأصوات لتكشف زيف الرواية الرسمية. لكن الفارق الجوهري هو أن خوري احتفظ بغموض المأساة، بينما ندا ينهي روايته بـ"تقرير طبي" يغلق الأبواب على التأويل، وكأنه يعيد إنتاج خطاب السلطة التي ترفع شعار "الحقيقة العلمية الواحدة". 

البوكر العربية: جائزة للتاريخ أم للأدب؟ 

يعتبر فوز "صلاة القلق" بالبوكر اعترافا بأهمية طرح الأسئلة المحرمة عن الهزيمة وتزييف الوعي، لكن الجوائز الأدبية – في العالم العربي – غالبا ما تكون جزءا من لعبة ثقافية تدار من أبراج عاجية. فهل نالت الرواية الجائزة لأنها "مزعجة" فعلا، أم لأنها تعبر عن وعي زائف يظن أنه يزعج السلطة بينما هو يدور في فلكها؟ التاريخ يعلمنا أن الأنظمة العربية ترحب بأدب ينتقد الماضي، شرط ألا يمس حاضرها. 

الأدب كـ"شاهد زور"!

"صلاة القلق" تذكرنا بأن الأدب العربي ما زال يعيش في ظل هزيمة 1967، كشاهد يدلي بشهادة متحيزة عن الجريمة. لكن الأدب الحقيقي – في رأيي – ليس من يصف الجريمة، بل من يبحث عن المجرم الحقيقي خلف ستار الأبطال المزيفين. الرواية نجحت في فضح أوهام الماضي، لكنها فشلت في اقتحام أسوار الواقع الراهن، حيث تعاد إنتاج الهزيمة يوميا تحت مسميات جديدة: "الاستقرار"، "مكافحة الإرهاب"، و"الشرعية الدولية". 

السؤال الذي يظل معلقا: متى سنكتب رواية عن هزائمنا دون أن نتحول نحن نفسنا إلى "شخصيات روائية" تائهة في متاهة التاريخ؟

***

د. عبد السلام فاروق

 

تقديـم: كلما حضرني اسم الشاعر عبد العزيز أبي شيار سعدت وحزنت في الوقت ذاته فالسعادة لأنني أحببت كلماته منذ أن اكتشفته شاعرا قبل أن أتعرف شخصه، أما الحزن فلأن الشاعر لم يحـظ بالاهتمام والمواكبة النقدية وهو يستحـق ذلك وهذا موضوع ذو شجون في وسطنا الثقافي والإبداعي.

والأستاذ الشاعر عبد العزيز أبو شيار ظهر في الساحة الشعرية حسب علمي ومتابعتي متأخرا، فقد نشر أول ديوان وهو أوتار النزيف سنة 2010 وهو يختلف عن عدد كبير من الشعراء الذين ظهروا في الساحة شبابا وطوروا تجاربهم شيئا فشيئا، في أنه قدم شعره ناضجا ومكتملا يخفي وراءه تجربة ثرية في الظل. وهذه الحالة نادره جدا ولم أقف عليها هنا في المغرب إلا مع شاعر مغربي واحد هو إدريس عيسى.

على مدى اثنتي عشرة سنة نشر الشاعر أبو شيار أربع مجموعات شعرية هي (أوتار النزيف 2010) و(فيض الأباريق 2014) و (معـارج الروح 2019) و(نحت فوق السحاب2022) الذي صدر قبل أشهر.

في ديوان (نحت فوق السحاب) نحت الشاعر ستا وثلاثين قصيدة، والنحت كما هو معروف فن من الفنون الجميلة قائم على نحت الخشب أو الصخر أو الحديد لتسوية وإبداعِ نموذج فني، لكن الشاعر عبد العزيز ينحت باللغة سيرة شعرية يملأها الشوق والحنين والحزن وعدم الرضا على ما آلت إليه الأحوال مع تشبث بالأمل فلفظة الشوق وردت في الديوان ثلاثين مرة:

لا الشِّعْرُ يُزْهرُ في كَفِّي فَأَنْثُرُهُ == إِلا حَنينــا بِقَلبٍ كــــادَ يَنْفَجِـــــر

إِنِّي هُنا قِبْلَةُ الأحْرارِ مِلْءَ دَمي == وَالشَّوْقُ وَحْدَهُ فيها جاءَ يَعْتَذِرُ

مِنْ أيْنَ نفرح والأحباب ما اقتربوا== منا ولا أصبحوا فينا فنزدهــر

لم يترك الشاعر عبد العزيز في هذه السيرة الشعرية صغيرة ولا كبيرة تتعلق به وبما حوله وبمن حوله وبماضيه وبالأماكن التي تربطه بها ذكريات إلا ذكرها بفيض من الحنين والشـوق. (اللقلاق الذي استأصلت الأشجار التي كان يقيم فيها عشه - وصاياه لابنه – الطحطاحة – رائحة الزيت الكحلاء – معشبة ابنِ الأخضر – أحياء الطفولة – الأحياء الأولى - المنازل المهجورة – الحي الغربي – سهول تريفة – تشريبة الأم – الحائك – القصبة – التشريبات – حكايا الغول وجحا – الجيلاني – الهجرة السرية وضحاياها.....)

الشاعر ملتاع بحنينه وتشوقه إلى الماضي الجميل وذكرياتِه التي تعجز قافيته عن إحصائها : (ص34)

إنَّ التَّشــوُّقَ للذِّكـــرى يُلَوِّعُنـي == ما مِثْلُهُ في الْتياعاتِ الْجَوى أَحَدُ

حرف اشتياقيَ ما أحصته قافية == ذراتُ قلبــــي لا عـــــدٌّ ولا عَــــــدَدٌ

ولا نَسَجْتُ قوافي الشَّوْقِ أُغْنِيَةً == إِلّا تَعانَقَ فيها الــرّوحُ والْجَسَـــدُ

إنه الماضي الجميل والمفقود الذي يُنيخ بكلكله على الشاعر؛ فلا يملك إلا أن يلهج بما يعتريه من شوق وحنين وحيـرةٍ وتساؤلٍ عن إمكانية إحضار الماضي، أو كما يقول (رد الحاضر للماضي)، هذا الماضي الذي: "كانت فيه الدنيا نسيما وعطـورا ومرايا وطريقا تصعد الأشجار فيه للسماء" وهو ليقاوم قسوة الحاضر يصله بماضيه. يقول

لا تَكْتَرِثْ لـمَلِمْ عَقاربَ ساعَةٍ == صِلْ ماضيا في عَيْشِ لَحْظَةِ حاضِرِ

وما هذا الحنين إلى الماضي إلا لبشاعة الحاضر كما يقول المفكر علي الوردي.

يقول الشاعر عبد العزيز أبو شيار:

احترتُ الآنَ فلم أفهمْ

هذا الزمن الأسودْ

فتشت كثيرا عن زمني

في هذا الزمن المنفي

لكني لا أعرفُ

كيف أرد الحاضر للماضي

وفؤادي يختزن الذكرى

عطرا ضَوَّعَ أجنحة الروح

آه مِنْ حاضرنا

زحف الإسمنت الزِّفتُ

الوقت الجبْتُ السُّحتُ

على الطَّحطاحَةِ يا أمي

وسأرحل عنك ومنك إليك

معي الذكـرى تحمل

ألف حنين وحنين.

وهـذا الحنين إلى الماضي لا يـرتبط بجانب واحـد من جوانب الحياة إنما بكل تفاصيلها، فقد ضم الديوان جملة من المواضيع المرتبطة بالجانب الاجتماعي والذاتي والتربـوي والديني يحضـر فيها الحنين والشـوق والحزن، صهر فيها الشاعر تجربته الثرة.

* حضـور الذات في الديـوان:

الذات هي المحور الرابط بين تفاصيل الديوان فلا قصيدة إلا وتحضر فيها ذات الشاعر المتأرجحة بين الشوق والحنين من جهة والأمل من جهة أخرى، حضورُ الذات متمثل في ضمير المتكلم المفرد (ياء المتكلم التاء المتحركة، والضمير المنفصل أنا) وينتقل الشاعر أحيانا من ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير الجمع المتكلم وضمير الجمع الغائب؛ فالشاعر لا ينكفئ على ذاته وعيا منه أن الهم جماعي.

* النقـد الاجتماعـي في الديـوان:

يتطرق الشاعر إلى مواضيع اجتماعية مختلفة بعين الرفض فلا الواقع هو الواقع المنشود ولا المكان هـو المكان المعهود، فكل شيء جميلٍ وبريءٍ تحول إلى ضده بدءا باجتثاث الأشجار وتشريد الأطيار .

يا لقلق الشوق هل طافت بك النُّوب == حتى اعتزلت فـلا شـدو ولا طرب

إني عهدتك فــي الصفــاف تلثمــه == مــاذا دهـاك فكدت اليــوم تحتجب

إني أرى الأرض ناحت بعدما هوتِ الـ == أشجار هامدة والسرب ينتحـب ص(5)

الإنسان هو المسؤول عما آل إليه الوضع لذا يوجه الشاعر اللوم إليه محملا إياه المسؤولية بكل أسى؛ لكنه يبث في حنايا بعض القصائد بصيص الأمل على عادة الشعراء المتفائلين الذين يرسمون الغد المنشود.

* الجانب التربوي في الديوان:

يتمثل في الوصية التربوية التي يحلم كل أب أن يلتزم بها أبناؤه، فالآباء كما هو معلوم يسعدهم رؤية أبنائهم في حال أفضل من حالهم، ولا يسرهم أن يكونوا نسخا لهم وعيا منهم أن كل جيل خلق لعصره، ووعيا منهم أن الأبناء في مراحل معين في حاجة إلى وصايا تبصرهم بأمور عدة تفيدهم في حيواتهم. لذا يضمن الشاعر قصيدةَ (لا تكن شبيهي) مجموعةً من الوصايا التي يمررها من خلال ابنه إلى كل الأبناء.

احذر أن تشبهني يا ابني فتكون مجرد نسخهْ

ها أنت الآن تعيش الوقت الأول من عمرك

كن مختلفا عني

وتيقن أن حياتك ليست أرجوحه

الشوط الصاعد فيها: فرح

والشوط النازل فيها حزن

ما يفرحك اليومَ

يكون غدا كفراشة صيف

ترتاد جفافا فـوق هشيم أبله. (ص12)

* الجانب الديني:

حضور الجانب الديني متمثـل في قصيدة واحدة هي قصيدة (المعذب بالرحيل) يستهلها الشاعر بذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه لا يسترسل في المديح النبوي إنما يعرج على نقد النفس الإنسانية وبيان أهوائها وهو موضوع لا يحيد عنه الشعراء في قصائدهم الدينية ومدائحهم يقول:

والنَّفْسُ كالطِّفْلِ الْمُدلل دأبُها == طلبُ المزيدِ مِنَ الرَّغائِبِ والمُثولْ

لا يملك الشاعر، بعد الاعتراف بهوى النفس، إلا أن يتضرع إلى الله خاشعا ونادما ومتحسرا في نهاية القصيدة على عادة الشعراء الذين يتناولون موضوع المديح النبوي أو التأمل في النفس الإنسانية :

رَبِّي عَرَفْتَ الضَّعْفَ فِيَّ خلَقْتني == للإبتــــلاءِ أنا جَــزوعٌ أو عجــولْ

يارَبِّ جِئْتُكَ خاشِعــا مُتَضَـــرِّعا == أَرْجو السَّلامَةَ في جِوارِكَ وَالْقَبولْ

فاضَتْ دُموعي بِالنَّدامَــةِ حَسرَة == كالغيث يكتنف المدامع بالهطــــول

* كوفيديات:

أنهى الشاعر أبو شيار ديوانه بقسم سماه (كوفيديات) وفي ذلك تمييز لقصائده عن باقي القصائد لأنها تتحدث هذا عن الوباء المستجد كوفيد، وهـو مظهر من مظاهر البشاعة الذي ابتليت به البشرية مؤخرا وأثار شهية المبدعين فحولوه موضوعا إبداعيا بالرغم من أنه بعيد عن حقل الأدب.

والحديث عن الأوبئة في الأدب تناولته كتابات عالمية وعربية مشهـورة مثل رواية (الطاعون) لألبير كامو، ورواية (الحب في زمن الكوليـرا) لغارسيا ماركيز، وهناك رواية (إيبولا) للروائي السوداني أمير تاج السـر.... وللقاص المبدع السي أحمد بلقاسم له أيضا مجموعة قصصية مخطوطة عنونها ب(برقية مستعجلة في زمن كورونا) لكن في حدود علمي ليس هناك شاعر خصص ديوانا أو قصائد لهذا الجائحة إلا الشاعر عبد العزيز أبو شيار، وهذا سبق يحسب له.

تناول الشاعر عبد العزيز في حديثه عن كوفيد التفاصيلَ اليومية المختلفة التي عاشها أفراد المجتمع في ظل الجائحة بلغة شعرية إيحائية: (الشك، الخوف من الإصابة بالوباء- حظر التجول - المعاناة من حظر التجـول- الاحتفال بالعيـد تحت الحظـر - تضارب الأخبار والشائعات – الحلم بالتجول – الخصاص في الأوكسجين – التعقيم اليومي – الغسل بالصابون – إجبارية ارتداء الكمامة – الفيروس – التلقيح – العادات الاحترازية....إلخ). ويكون الشاعر بذلك قـد قـدم شهادة إبداعية تؤرخ لفترة عصيبة عاشتها البشرية بكل هلـع وجزع.

* الجانب الشكلي:

اشتمل الديوان على ست وثلاثين قصيدة؛ عشرون منها عمودية وستَّ عشرة تفعيلية، اعتمـد فيها الشاعر عددا من البحور (البسيـط – الخبب (في اثنتي عشـرة قصيدة تفعيلية) الكامل –الرمل - الرمل المجـزوء – الوافر ..) وهذا يعكس مراسا إيقاعيا لا يشعر فيه القارئ أن العروض يشكل عقبة لـدى الشاعر فلا تكلف ولا وزحافاتٍ أو عللا مستقبحة، وليس ذلك بغريب على شاعر يستحضر براعة القدماء في عمودِيِّه وحداثة الشعراء الرواد في تفعيليِّـه.

أما اللغة فأنيقة ومعتنى بها عناية فائقةً، ينحتها شاعر تشرب صفاء اللغة العربية وأصالتها وطوعها ليعبر بصوته المتميز عن قضايا الإنسان.

أخيرا يمكن عد ديوان نحت فوق السحاب إضافة مهمة في تجربة الشاعر عبد العزيز أبي شيار بخاصة، وفي المشهد الشعري المغربي.

***

ميلود لقاح

 

لكل فنٍّ من الفنون الجميلة وسيلة يَبْلغُ مبدعها من خلالها غايته، ولها دورها في التأثير على المتلقين ومنهم محبي الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وبداية ماذا نقصد بالصورة هنا، هل هي الصورة الكاريكاتوريّة، التي أداتها القلم.؟، أم الصورة التشكيليّة التي أداتها الريشة واللون.؟. في طبيعة الحال إن ما نقصده لا هذا ولا ذاك، إن ما نقصده هنا هو التصوير المتعلق بمجال أخر، أداته اللغة، إنه التصوير الأدبي بما فيه من شعر ونثر. والشعر من هذه الفنون الجميلة، وكغيره من هذه الفنون، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية في جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً، وذلك من خلال استخدامه المفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول بين الأفراد والجماعات، فالشعر إذن فن ينتهي إلى غايته الجماليّة عن طريق اللغة التي يشكل منها عالمه الشعري وتأتي الصورة أحد الأدوات الهامة في تشكيل هذا العالم الشعري. يقول الكاتب والشاعر والناقد والمترجم ألماني. "أوجست ولهم شليجل" في هذا الصدد "إن الشعر تفكير بالصور ».(1). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

إن الصورة في سياقها العام، هي تركيب لغوي يمكّن الشاعر من تصوير معنى واقعي/طبيعي أو عقلي/فكري وعاطفي/وجداني حيث تعرف الصورة الشعرية بأنها انعكاس للواقع من جهة، ومتخيل من جهة ثانية، ليكون المعنى متجليا أمام المتلقي حتى يتمثله بوضوح ويتمتع بجماليّة الصورة التي تعتمد التجسيد والتشخيص والتجريد والمشابهة. ويعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة، ومن جهة أخرى تعد الصورة مقياسا فنيّا وشخصيّا للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والكناية والتمثيل وحسن التعليل.

الدلالات الفكريّة والفلسفيّة للصورة:

تُعًرًفُ الصورة الأدبية أيضاً بأنها (تركيب فني يجمع بين ما هو مطلوب وما يتم تحقيقه في العمل الأدبي. وهي نقطة التقاء بين الظاهر والباطن في النص الأدبي. والصورة الشعريّة تتميز بكثافتها الحسيّة، مقارنةً بالرمزيّة التي تعتمد على التجريد والذاتية.). (2).

إن الصورة في الشعر الأصيل بشكل خاص، لا يؤتى بها للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما هي شيءٌ أصيل تمليه الحالة النفسيّة للشاعر، فالصورة الفنيّة هي الحامل الأمين لمشاعر الشاعر وتُرجمان نفسه الشاعرة، فالشاعر يترجم أحاسيسه وعواطفه، وينقل كوامن نفسه من خلال الصورة الفنيّة التي يبدعها في نصه الشعري، والشعر ذو طبيعة حسيّة ومنطقيّة يخضع لنوعٍ من التنظيم أو التشكيل، ويُبين عن شعور بلغ درجة الانفعال وتحريك الخيال لدى المبدع لإنتاج سلسلة من الصور. (3).

إن الشاعر وبوساطة التصوير الشعري، يقوم بعملية التخطي والتجاوز للمعني الإدراكي المباشر، أي هو يقوم بإلغاء العلاقة الأصليّة الحقيقيّة الموجودة بين الدال والمدلول، محاولاً خلق علاقة جديدة.

إذاً تُعدّ الصورة الأدبيّة بشكل عام والشعريّة منها بشكل خاص، من المفاهيم الأساسيّة في الأدب، بل هي تُشكل العمود الفقري للتعبير الأدبي. والصورة كما تبين معنا أعلاه تشكل في أهم تجلياتها وسيلة لتحويل المعاني الذهنيّة لدى الأديب إلى صور مرئية معبّرة. ومن أهم الأدوات الشعريّة الرئيسة لإنشاء الصورة الشعريّة هي التشبيه والاستعارة والكناية، وأن جميع النظرات المجازيّة/ المتخيلة المتجلية في الصورة الشعريّة يقع خلفها بالضرورة بواعث اجتماعيّة ونفسيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وغير ذلك، هذا إضافة إلى الحس الابداعي الذي يمتلكه الشاعر بكل أدواته والذي أغنته تجربته الذاتيّة التي تجعله يحرص أن يقدم من خلالها صوراً إبداعيّة تدهش المتلقي. وبالتالي نفهم من هذا أن الصورة أساس بناء الشعر كما بينا في موقع سابق. إنها عالم حي، منفتح، متعدد الألوان، مفاجئ وسحري، يصلنا بحقيقة حياتنا وجماليتها بواسطة الاستعارة والتشبيه والكناية والتراكيب الجميلة وتجربة الشاعر الغنية الابداعيّة، كما يولد فينا نتيجة هذا الاتصال نشوة غير عادية. نعم إن الصورة عالم الكلمة الساحر.

مفهوم الصورة في النقد القديم:

يعتبر كتاب أرسطو في " فن الشعر " من الكتب الهامة التي لم يزل تأثيرها قائماً إلى يومنا هذا، أو هي المرجع الذي يتعرف منه الباحثون عن أهمية الصورة في الشعر، ويثرون به دراساتهم. لذا لا بد من القول بأن مصطلح الصورة عرفه القدماء، وإن اختلفوا في الدلالة مع المحدثين والمعاصرين.

لقد تسرب مفهوم الصورة إلى القاموس العربي مع الفلسفة اليونانية، وبالتحديد الفلسفة الأرسطيّة. فأرسطو قام بالفصل بين المادة وشكلها، ونتيجة التداخل بين المعارف، انتقل مصطلح الصورة بمفهومه الفلسفي إلى حقل الأدب، شعره ونثره، ليتم الفصل بين اللفظ والمعنى، باعتبار اللفظ صورة والمعنى مادة الصورة. (4).

ومن القدماء العرب الذين أشاروا إلى الصورة في الأدب هناك "الجاحظ" الذي أثار مسألة التصوير في الشعر بقوله: (إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.).(5). إنه ينسب صفة التصوير للشعر، وهذا يعد خطوة نحو تحديد مفهوم الصورة.

نقول: من هنا بدأت إشكالية الصورة، مصطلحاً ومفهوماً تعرف طريقاً نحو التوسع. لقد ترك الفكر الأرسطي، تأثيرا واسعا في فكر الباحثين العرب، وبخاصة البلاغيين، فقد تبنوا المصطلحات الواردة في " فن الشعر " ليحددوا مفهوما للصورة الحسيّة في الأدب بشكل خاص، على اعتبار أن الصور المتخيلة أو الناتجة عن الخيال كما سيمر معا بعد قليل، والذي أطلقوا عليه مصطلح المغالطة، لأنه يخلق نوعا من عدم التناسب المنطقي بين الواقع والصورة المنتجة من التخيل، ففضلوا أن يحصروا مفهوم الصورة في التشبيه والاستعارة والكناية، لكونه يجمع بين حقيقتين حسيتين على الأغلب، وتحقق التناسب المنطقي بين عناصر الصورة.

هنا نلاحظ مدى سيطرة الفكر الأرسطي، على فكر البلاغيين العرب، إلى درجة أنهم نبذوا كل ما هو بعيد عن المنطق. هكذا تبنوا مصطلح الصورة البلاغيّة، التي تنبني في مفهومها على قاعدة فلسفيّة أرسطيّة، تتبنى كما بينا التشبيه، والاستعارة وتهمل المجاز. أي تهمل دور الخيال المنتج للصورة. عكس المتصوفة بنظرتهم المتميزة إلى الصورة، وكأنهم يردون على البلاغيين، الذين لم يدركوا بوعي كامل، مدى أهمية الخيال في تشكيل صورة جديدة (6). وهذا التبني للمجاز اشتغل عليه أدونيس الذي تأثر في الشعر الصوفي من جهة، وبشعر ما بعد الحداثة من جهة أخرى.

فمن خلال اهتمام المتصوفة الكبار بالخيال، استطاعوا تحديد مفهوم جديد للصورة. بالرغم من أنهم ينطلقون هنا من العالم الأرضي، عالم المحسوسات، ولكنهم يسعون لتشكيل صور جديدة ذات علائق جديدة بين عناصرها بواسطة الخيال والتجريد، وذلك ليعبروا عن أحاسيسهم غير الملموسة في الواقع الدنيوي.

إن البلاغيين العرب القدماء، حاولوا التملص من الخيال، باعتباره يخادع المتلقي، لكنهم من جهة أخرى، حاولوا الاعتراف بوجود الصورة البلاغيّة التي تكونها الاستعارة والتشبيه، كونهما البنية التي تقوم عليها الصورة.(7).

مفهوم الصورة الشعرية عند المحدثين:

لقد صاحب عصر النهضة الأدبية، ظهور المذاهب الأدبيّة، التي كان لها انعكاس على مفهوم الصورة، ذلك أن كل مذهب أو مدرسة أدبيّة تقوم على فلسفة معينة، فتعدد المدارس الأدبية، نتج عنه تعدد في مفهوم الصورة، الذي أسهم في تطويرها. ومن أهم هذه المدارس التي درست الصورة الفنيّة هناك":

المدرسة البرناسيّة: التي ترى أن الصورة تتشكل بالمحاكاة، أي باستخدام حاسة (البصر). فروادها يعترفون فقط بالصور المرئيّة المجسمة أو ما يسمى بالبلاستيكية. فالبرناسيّة تنطلق من الوجود الحسي الواقعي وتعود إليه في تشكيل الصورة، فلا دخل لأي عالم أخر في تشكيلها.

أما المدرسة الرمزيّة: فإنها ترى أن المبدع في تشكيله الصورة، ينطلق من الموجود الحسي، ثم أثر هذا الوجود في أعماق اللاوعي، لينتج لنا في النهاية، صورةً هي مزيج من المحيط الواقعي والذات الفرديّة. لقد ابتدعوا وسائلهم الخاصة في التعبير، كتصوير المسموعات بالمبصرات والمبصرات. بالمشمومات وهو ما يسمى بتراسل الحواس.

أما المدرسة السرياليّة: فقد أسهم السرياليون في توسيع مفهوم الصورة برؤيتهم المتميزة في كيفيّة تكوين الصورة، إذ نجدهم يهملون إسهام الوعي في تشكيل الصورة وجعلوا اللاوعي يقوم تشكيلها، إذ جعلوه منبعا تتولد منه الصوّر باستمرار. هكذا حصر السرياليون مفهوم الصورة في اللاوعي، فالصورة عندهم لا واعية، إلى درجة أن المتلقي يحس أن الصور التي يشكلها المبدع السريالي، تنبعث من حلم عميق أو خيال مجنح لا يقيده ضابط. (8). وقد تجلت معطيات هذه المدرسة في أدب ما سمي بأب ما بعد الحداثة.

وهناك أيضاً المذهب الاتباعي: الذي اعتمد على العقل أساساً له، أي إخضاع الأديب لسلطان العقل القائم على أسس وقواعد. فالصورة الفنيّة الاتباعيّة كانت أنموذجاً عقليّاً وقالباً جاهزاً يصب الشاعر فيه مادته ويصوغها في ألفاظ توافق غرضه، وليس للشاعر الحق في توليد المعاني وخلق علاقات جديدة بين الأشياء، لأن المعاني قائمة قبل أن يصوغها الشاعر في صوره الفنيّة، وما على الشاعر إلاّ أن يكسو المعنى بألفاظ التي توافق غرضه. (9).

وهناك المذهب الابتداعي: في الأدب – وقد قام كردَّة فعل على المذهب الاتباعي – حيث تغيرت النظرة إلى الأدب عامة، وتغيرت المعايير التي ينظر من خلالها إلى الأدب، ففي مجال الشعر ضاق الابتداعيون بسيطرة العقل وتقييد الخيال بقواعده، لذلك نادوا بتحرير الخيال تحريراً مطلقاً، وقد انعكس ذلك على بناء الصورة الفنيّة التي أخذت تتحرر من ربقة العقل وتخضع لخيال الشاعر، وأصبحت وظيفتها نقل الشعور وتصوير العواطف والأحاسيس، ولم تعد تلقي بالاً للواقع، وإنما تعتمد على ما يمليه الخيال، (وقد كان الخيال الابتداعي خيالاً طموحاً وجموحاً، يتطلب له مثالاً أينما وجده في غير زمانه ومكانه لا يستوحيه أولاً وأخيراً إلاّ من ذات نفسه ولا يتاح له فهم ما تجيش به عواطفه وآماله إلاّ بالصور والأخيلة التي يضفيها على الحقائق ... إذ إن الأحاسيس لا تفصح عن نفسها إلا في صور، وكل كنوز المعرفة والسعادة الإنسانيّة مقصورة على الصورة.). (10).

خصائص الصورة الشعريّة:

تمتاز الصورة الشعريّة بالعديد من السمات والخصائص من أهمها:

1- التطابق بین الصورة والتجربة: لابد ان تكون الصورة مطابقه تماما للتجربة التي مر بها الشاعر لإظهار فكرة أو حدث أو مشهد او حاله نفسيّه أو غير ذلك.

2- الوحدة والانسجام التام: عندما تكون الصورة متطابقة مع تجربة الشاعر، فستشكل بالضرورة بنيه حيّه منسجمة بين الأفكار وتلازم متصل بين المشاعر، وبالتالي تجانس محكم بين هذا كله وبين مصادر الصورة جميعاً.

3- الشعور: الصورة الشعريّة في حقيقتها حالة وجدانيّة يقدمها الشاعر للمتلقي بعد عناء تجربته ورهافة إحساسه في عكس قضايا الحياة الإنسانيّة، وهذا ما يمنحها القدرة على تحريك مشاعر المتلقي ومشاركته مشاعر وأحاسيس الشاعر ذاته.

4- الحیویّة: ويرى جابر عصفور في كتابه الصورة الفنيّة: "إن الصورة الجيدة هي الصورة الحيويّة، وحيويّة الصورة تنبع من قدرة المبدع على تحريكها، وقدرته على التقاط أجزائها وصهرها في بوتقة المشاع".

5- الایحاء: إن الصوره الجيده هي التي لا تصح بالمضمون مباشره ولا تكشف عنه، بل توحي إليه لكي يحمل المتلقي فكره، فهي كما قال جابر عصفور " في كتابه "الصورة الفنيّة" إن الصورة موحية بلا غموض ولا تعتيم وقد يكون الايحاء بكلمه تستدعي معاني متعددة، وقد تكون أصوات كلمة تستدعي معاني متعددة.

وظائف الصورة الشعريّة:

هناك وظائف كثيرة تؤديها الصورة الشعريّة، ويمكننا تحديد العديد من هذه الوظائف، كالوظيفة الجماليّة ولانفعاليّة والتعبيريّة والايحائيّة، كما تستطيع الصورة أن تؤدي دورًا مهمًا في نقل تجربة الأديب أو الشاعر والتعبير عنها كما أشرنا في موقع سابق. ومن أهم هذه الوظائف للصورة الشعريّة هي:

أولاً – إن الصورة تساهم كثيراً في إعادة إنتاج المخزون العاطفي والوجداني لذكرى أو تجربة عاطفيّة وإدراكيّة غابرة، ليست بالضرورة أن تكون بصريّة.

ثانياً – إن الأصوات أي الألفاظ المنبثقة من اللغة قادرة أن تخلق صوراً تستعمل لخلق ارتباط بين نفوسنا والوجود الخارجي وتخيلاتنا.

ثالثاً – تحطيم الواقع والذهاب إلى عالم إبداعي جديد يجسده الأدب عبر الصورة بشكل خاص. لقد ذهب الشاعر والمسرحي والناقد الأدبي الانكيزي "إليوت" في رؤيته الما بعد حداثيّة إلى تحديد مهمة الشعر من خلال عمل الصورة حيث يقول: (على سبيل التخييل يجب أن يهدم الواقع ويمحق، لكي يختار الأدب من يمتلك القدرة الفريدة على تصويره كتجربة صافية، فالمهم أن تكون للأدب هذه القدرة في تهديم الواقع، أي تهديم العالم الرياضي لولادة عالم آخر هو عالم الأدب، باستثناء أن الصورة فقط، هي التي يمكن أن تعطي للأسلوب لوناً من الخلود”.) (11).

رابعاً - هذا وتعتبر الصورة الشعريّة من الناحية الوظيفيّة أيضاً من أهمّ المرتكزات والرّوافد الفكريّة الّتي تثري الدلالة، وتغني المعنى في النّصّ. ومالا شكّ فيه أنّها من أهمّ الوسائل التّعبيريّة الّتي تفوق اللّغة التّعبيريّة المباشرة، فهي مثلما تمثل الواقع، تمثل أيضاً مواقف الشّاعر الذّاتيّة المتخيلة.

خامساً- إن الصورة الشعريّة تمثل الروح التي تسري في كل عملٍ شعري وتمنحه شاعريته، وهي السر الذي يضعه الشاعر في قصيدته حتى يجعل المتلقي يتفاعل معها، ويحسُّ بما يريد أن يقول فيها.

سادساً – إن كل صورة في العمل الفني تؤدي وظيفة محددة كما تتعاون مع غيرها على إبراز الصورة الكليّة للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبير عنه.

سابعاً - ومن الوظائف التي تؤديها الصورة الفنية في النص الشعري (التكثيف الشعوري) (فالصورة الفنية وحدة تعبيريّة تجسد القصد الذي يدور في ذهن الشاعر بكثافة. أي إنها توحي بما يختلج في نفس الشاعر من مشاعر، وتقدمه في تركيبة تختزل في داخلها عدّة مشاعر وأحاسيس مختلفة، وربما كانت متباينة أحياناً. ومصدر هذا التكثيف يرجع إلى الإيحاء وإقامة علاقات جديدة بين أشياء الوجود الداخلة في بناء الصورة الفنيّة، فهي لا تقول كل شيء، وإنما تقول القليل وتترك للمتلقي إكمال الباقي بحسب ما يجد من مشاعر أوحت له بها الصورة الفنيّة). (12).

ثامناً- ومن وظائف الصورة الفنية في الشعر – أيضاً – تجسيد المجرد، فهي تقوم بنقل المشاعر والأحاسيس والعواطف إلينا بطريقة مقروءة أو مسموعة، بحيث نستطيع أن نحس المجردات إن جاز التعبير ولنقرأ قول مجنون ليلى:

(كأنّ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدَى بِليلى العامـريةِ أو يُراحُ

قَطاةٌ عزَّها شَرَكٌ فباتتْ تُجاذِبُهُ وقد عـلِقَ الجناحُ

لها فرخانِ قد تُركا بوَكرٍ فعُشُهما تصفِّقُـهُ الرّيـاحُ

فلا بالليل نالت ما تُرجِّي ولا بالصبحِ كان لها بَراحُ.). (13).

ملاك القول: إن الصورة الفنيّة هي المفتاح الذي يستطيع الناقد أو الدارس أن يفتح بها مغاليق النص الشعري، ويلج إلى عوالمه الغامضة، فعن طريق متابعة فيض الصور الفنيّة في النص الشعري يستطيع الناقد أن يُلمّ بالحالة النفسيّة والشعوريّة المسيطرة على الشاعر عندما أبدع نصه الشعري، إن فهم التجربة الشعريّة للشاعر، وإدراك القيمة الفنية للقصيدة لا يمكن أن يتم للناقد أو الدارس إلا بعد دراسة صور القصيدة مجتمعة وتتبع العلاقة التي تنشأ بين أجزائها، وذلك لأن في الصورة الشعريّة بكل أشكالها المجازيّة وبمعناها الجزئي والكلي تكمن روح الشعر، وفيها تستقر رؤية الشاعر للموقف الذي يصوره.

إن الصورة الشعريّة تحتل أهميه كبيره في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه هو صورة يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. فهي تعبر أيضاً عن جمالية البناء الفني في فضاءات الإبداع. وهي كما قال أحد النقاد تشكل عنصراً هاما من الركائز التي يقوم عليها العمل الأدبي، كالأسلوب، اللغة، والموسيقى، والصورة. لذا هي لا تعبر فقط عن إحساس وعاطفة الأديب أو المبدع فحسب، بل تعبر أيضاً عن حقائق وصور من واقع الإنسان وعن تجارب الشاعر وخلجاته ومكوناته التي يكشف عنها بطريقه بالغه الدقة والروعة بعد أن رسمها بحواسه، وعبر عنها بعاطفته المشحونة بالإحساس. وهذا ما يجعل المتلقي لهذه الصورة أن يعيش التجربة مع الشاعر فيتفاعل معه ويفهم تجربته ويحس بها. وعلى هذا الأساس نستطيع القول إن الشعر ليس فقط تعبيرا بسيطا أو سطحيّا عن التجربة الفرديّة الذاتيّة للأديب، بل يتجاوز ذلك إلى تصوير الظواهر الاجتماعيّة بكل دقه مستعينا في ذلك باتساع مخيلته، وقوه لغته، لتنتج صوره شعريّة قويّه ومؤثره للكشف عن جوانب خفيّه في تجربته الشعريّة وعكس مستوى تجربة الشاعر وقدراته الفنيّة والأدبيّة. ومن خلال تتبع المتلقي للصور داخل القصيدة ودراسته لها يستطيع أن يُلمّ – أو على الأقل يحسُّ- بما يريد الشاعر أن يقوله من خلال نصِّه الشعري فكل صورة في العمل الفني كما بينا عند حديثنا عن وظيفة الصورة، تؤدي وظيفة محددة كما أنها تتعاون مع غيرها على إبراز الصورة الكليّة للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبير عنه، وكل صورة فنيّة في القصيدة يجب أن تحمل صدق الأداء. وميزة الصورة الخصبة أنْ تُشع في كل اتجاه وأنْ تسمح لك باستكناه مزيد من المعاني كلما أوغلت معها بحسك. إنها صورة معطاءة تكشف عن المزيد دائماً (14).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريا

..........................

هوامش البحث:

1- (الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة: آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة.).

2- (مفهوم الصورة الشعرية – موقع الدكتور عبده منصور المحمودي – https://dr-almahmoodi.com/مفهوم-الصورة-الشعرية/).

3- .( الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف.

4- (علي البطل - الصورة في الشعر العربي - دار الأندلس - بيروت ١٩٨١- ص ١٥ ).

5- (5). (أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، ج ٣، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربي، بيروت – ١٩٦٩- .١٣٢ ، ص ١٣١).

6- (الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة: آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة.). بتصرف.

7- (علي البطل، الصورة في الشعر العربي- دار الأندلس- بيروت 1981- ص- 17-18- .). بتصرف.

8- (يراجع لمعرفة المزيد عن هذه المذاهب المتأتى عليها دراسة - الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة: آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة. بتصرف.).

9- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف).

10- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/).

11- ( في تعريف الصورة الشعرية وأهميتها – موقع - https://kmarabian.me/ .).

12- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع - https://daifi.yoo7.com/ ).

13- ( ينظر: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري: دراسات في أصولها وتطورها ، د.علي البطل ، دار الأندلس ، ب.بل ، الطبعة الأولى ، 1980 م ، ص24 . وكذلك: الصورة والبناء الشعري ، د.محمد حسن عبد الله ، دار المعارف ، ب.ط ، ب.ت ، ص27.).

14- ( الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف.

فى مجال رصد إرهاصات و” تنبّؤات” بعض الكتّاب، والمفكّرين والروائيين الغربييّن حول ما عُرف أو أُطلق عليه “الربيع االعربي” ! نَسْتحْضِرُ، أو نُذكّر فى هذا السّياق بما كانت قد صرّحتْ به الكاتبة، والمترجمة الإسبانية ” بِيلاَرْ دِيلْ رِيُّو ” أرملة الكاتب البرتغالي الرّاحل” خوسّيه ساراماغو” (نوبل في الآداب عام 1998 ) حيث قالت ” أنَّ زوجها كان قد ” تنبّأ” (!) في إحدى رواياته التي نُشرت عام 2004 والتي تحملُ عنوان ” البصيرة ” أو ” بحث في الوضوح” (صدرت ترجمتها إلى العربية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب – سلسلة الجوائز-)، تنبّأ – حسب تصريحها- بريّاح التغييرات التي هبّت، والثورات التي عرفتها، وشهدتها بعضُ البلدان العربية. (الربيع العربي) الذي سرعان ما أضحىَ فى عُرْف البعض، أو أصبحَ، أو كاد أن يصبح خريفاً عربياً، شاحباً، حزيناً، كئيباً، رديئاً، مُدلهمّاً، وفى بعض الجهات مُخيّباً للآمال، والتطلّعات.

حكاية شَعْب..

رواية خوسّيه ساراماغو الآنفة الذّكر حسب أرملة الكاتب” بيلار ديل ريّو” تحكي حكاية شعب قرّر بالاجماع مقاطعة الانتخابات فى البلاد، ممّا أشاع نوعاً من الهلع، والفزع، والذّعر، والرّعب والتخوّفات لدى المسؤولين، حيث اعْتُبِرهذا التصّرف بمثابة شكلٍ من أشكال التحدّي، والمواجهة والعصيان، أو إعلان، أوأمارات، أو إرهاصات تُنذر بقرب قيام الشعب بتمرّد عام على السّلطة الحاكمة .

وتقول” بلار ديل ريّو” فى نفس السّياق :” إنّ هناك فقرةً في هذا العمل الأدبي الرّوائي تشير إلى ما معناه :” أنّ المواطنين يظلّون معتصمين لعدّة أيام في السّاحة الرئيسية، أو الميدان الكبير للمدينة حيث يتمكّنون بالفعل تحت ضغط التظاهر، والإحتجاج المتواصليْن من الإطاحة بالحاكم الطاغية المُستبدّ – كما تصفه الرّواية – . وعندما ينتهي كلّ شئ، ويعود المتظاهرون إلى أعمالهم الإعتيادية، ومزاولة نشاطاتهم اليومية، يقرّرون فيما بعد تنظيم أنفسهم ويبدأون – قبل كلّ شئ- بتنظيف المكان الذي كانوا مُعتصمين فيه “..!.

وتشير”بيلار ديل ريّو” أنّ ذلك ما حدث بالضبط أو ما يشبهه الى حدّ بعيد في مصرَ، وفي بعض البلدان العربية أو فى أماكن، ومدن أخرى من العالم العربي، التي طالتها ريّاحُ الغضب، وأعاصيرالتغيير فى المدّة الأخيرة “.

وتؤكّد هذه الكاتبة الإسبانية، وهي مترجمة أعمال زوجها ” ساراماغو” من البرتغالية إلى لغة سيرفانتيس :” أنّ زوجها لم يكن قارئَ طالع، أو يتنبّأ بالمستقبل، بل إنّه كان مثقفاً يعيش زمانَه، ويعيه جيّداً ويتفاعل مع أحداثه والتطوّرات التي يشهدها بدون إنقطاع، وبالتالي فهو كان يرصد عيوبَ العالم، ونواقصَه، وزلاّته بالتأمّل فيه، وإعمال النظر بمجرياته”- على حدّ تعبيرها-.

وتضيف زوجة ساراماغو :” إنّه كان رجلاً دائمَ التفكير في كلّ ما يحيط به ويعايشه، مُمْعْناً النظرَ في العالم، ومتتبّعاً لكلّ ما يعتريه من تغيّرات، أو تعثّرات، أونواقص، وعيوب، وقصور”. وتَزْعُم “بيلار ديل ريّو” فى نفس السّياق أنّ زوجَها: ” كان يعرف أنّه لم تكن هناك أزمة إقتصادية حادّة إجتاحت العالم، بقدر ما كانت هناك أزمة أخلاق، وسلوك، ومبادئ، وعليه فانّ البشرية سوف تتأخّر كثيراً للخروج والتخلّص من هذه المُعضلات العويصة، والأزمات الحادّة التي تعصف بها “- حسب منظوره – .

العَمىَ وساراماغو

يرى بعضُ الكتّاب منهم بلديُّه الباحث البرتغالي”كَارْلُوسْ رِيَّاسْ” عميد جامعة ” أبيرتا” البرتغالية أنّ خوسّيه ساراماغو أثار خلال حياته غيرَ قليلٍ من الزّوابع، والتوابع، والجَدل حول مختلف القضايا المعاصرة سياسيةً كانت، أم أدبية، أو فلسفية، أو تاريخية، أو إجتماعية، أو دينية والتي لم تخلُ في بعضها من بعض الأباطيل، والمبالغات، والمغالطات .وإثارة النقع، والعجاج على صفحات الجرائد، والمجلات، والكتب دون طائل يُذكر. ولعلّ روايته الشهيرة” العَمىَ” التي نال بها أو عنها (جائزة نوبل فى الآداب..!) قد جعلتِ الأمورَ تدلهمّ أمام ناظريه، منها عدم تفهّمه – قيد حياته – بشكلٍ واقعي لمطالب المغرب فى إستكمال وحدته الترابية المشروعة، هذا فى الوقت الذي كانت له من جهة أخرى مواقف مشرّفة على الصعيد العربي كموقفه الدّاعم لقضيّة فلسطين، وإنتقاده العنيف لإسرائيل بعد الممارسات الوحشية التى قامت بها ضدّ الفلسطينيين العزّل والتنكيل بهم فى العديد من المناسبات . وقد قام عام 2002 بزيارة لرام الله متضامناً مع الفلسطينيين أثناء الحصارالذي فرضته إسرائيل عليهم بعد إنتفاضة الأقصىَ آنذاك، حيث هاجمتْه الصهيونيةُ العالمية، ونكّلت به، وطالته حِرَابُها، وغشتْه سِنَانُها بعد تصريحاته ضدّ إسرائيل .

جزر الخالدات وخوسّيه ساراماغو

ويشير “كَارْلُوسْ رِيَّاسْ” من جهة أخرى أنّه عندما صدرتْ رواية خوسّيه ساراماغو ” الإنجيل حسب يسوع المسيح” عام 1991 أثارت ضجّة كبيرة إنقلبت الى نقمة عارمة عليه، إذ يوجّه فيها الكاتبُ إنتقاداتٍ مجّانية للكنيسة الكاثوليكية، ممّا حدا به إلى التفكير فى الإغتراب والهجرة بصفة نهائية من بلاده، خاصّة بعد أن قامت الحكومة البرتغالية بحجز كتابه، وإتّهام رجال الدّين والفاتيكان له بالإساءة وبالمساس بالتراث الديني للبرتغاليين، ومنذ مغادرته البرتغال 1998 بدأ يُبدي نوعاً من الإفتخار والتباهي بأصوله الأمازيغيّة – حسب إدّعائه – إذ كان يزعُم أنّ أجدادَ جدّه ينحدرون من شمال إفرقيا، وذلك – حسب رواية البّاحث الجامعي البرتغالي الآنف الذكر – .

وقد إستقرّ خوسّيه ساراماغو في جزيرة “لانثاروطي” البركانية بالأرخبيل الكنارى (الخالدات) بشكل دائم حتى آخر أيام حياته مولّياً وراء ظهره الغربَ والشمال، ومُعانِقاً هذه الجزيرة الكنارية الضائعة فى غياهب بحر الظلمات، والغارقة فى متاهات المحيط الهادر، وتشكّل هذه الجزيرة البركانية إحدي سلسلة الجزرالسّبع التي تشكّل أرخبيل الخالدات ذي الأصول والجذور الأمازيغية قبل وصول الإسبان إليها فى القرن الخامس عشر، حسب معظم الدّارسين، والكتّاب، والباحثين، والمؤرّخين الثقات فى هذا الشّأن من مختلف الجنسيات بمن فيهم الإسبان والكناريون أنفسهم الذين يعرفون هذه الحقيقة، ويتباهى بعضُهم بها .

الظلَاَمُ المُلْتَهِب وبويرو باييخو

وينبغي الإشارة فى هذا الصّدد أنّ للكاتب الإسباني المسرحي الكبير” أنطونيُو بْوِيرُو بَايّيِخُو” مسرحية ناجحة تحت عنوان” الظلام الملتهب” وهي تدور حول العَمىَ كذلك، حيث تُعتبر هذه المسرحية تقصّياً مَهْوُوساً للظرف التراجيدي للإنسان كعنصر بارز من عناصر التاريخ، وبذلك تتحوّل الدراما عنده إلى حقيقة تاريخية، عاش “أنطونيو بويرو بايخو” سنتين من عمره في مدينة العرائش (شمال المغرب) حيث كان والده عسكرياً يعمل بالجيش الاسباني هناك. ولا يُستبعد أن يكون ساراماغو قد قرأ هذه المسرحية أو تأثّر بها ولا شكّ، ومع ذلك نال بروايته (العَمىَ) الآنفة الذّكر إيّاها أعلى، وأرقى تكريم أدبي فى العالم (نوبل فى الآداب) .. !

من أعمال خوسّيه ساراماغو الرّوائية الأخرى”أرض الخطيئة” (1947)، “تاريخ حصار لشبونة”(1989).”، ” الإنجيل حسب يسوع المسيح”(1991) “كلّ الأسماء” (1998.)”رحلة الفيل” (2008).”قابيل”(2009) وسواها من الأعمال الروائية والإبداعية الأخرى. هذا وتجدر الإشارة كذلك فى هذا القبيل أن رواية ساراماغو “العّمىَ”( 1995)، قد تحوّلت إلى فيلم سينمائي عام 2008 . توفّي خوسّيه سراماغو عام 2010 عن سنّ تناهز 87 سنة فى مقرّ إقامته بجزيرة “لانثاروطي” الكنارية وهي سابع الجزر فى أرخبيل الخالدات .

***

د. السفير محمد محمد الخطابي

كاتب وباث ومترجم من المغرب. عضوالأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – كولومبيا.

 

نيسان الرحيل

من نيسان قديم والجراح تفيض

قطرةُ حزن على شفتيكِ تحومُ

يا خائن الحبِّ والرُّوح ترحَم

شظايا قلبي في الانكسار تئن

*

يا ابتاه.. صفير الشتاء

بعد ثمان وعشر

يلفعني

وأسناني تساقطت

لقد كبرت ياأبي

ثقل الصدى في اذني

تركتني في صخب السرد

رميت خلفك ليال شقراء

*

ظننت وداعَك الألم الأعظم

تفاجئت بما خبئه لي غدر الزمان

تركني حبيبي في صقيعَ الوحدة

لقد مت يا ابي مرارا

موتٌ يوجعُ في أعماقِ الروحِ

الليل لم يعد يحضنني

لا ذراع لها قصائدي

البراري موحشة دون ظله الطويل

ذئابُ الخوفِ تعوي في صدري

وأنا شاردةٌ بلا أنياب ولا رفاق

كلُّ ثقتي نزفتْ بلا عودة

*

المرايا صدقت إذ رسمتْ ملاكاً

متوجاً برِفق في ظل الهمسِ الطويل

ابتسمتِ السماء برداً

رمتني حبلى وانا اليتم

تشبثت برقَّة أبوةٍ عادتْ

لكن الموج رقص على وجه الحقيقةِ

فحطم معتقدي في لحظة طائشة

*

ثم زال الغمام وتلاشت الضلال

لقد رحلت

واليتم ثوبي

والكون صار حديداً

*

بكيت وداعَك دمعاً

وهنا أنا

أنوحُ شوقاً

لحنانك

ولصفاء قلبكِ

اعلم انك كما رحلت

ستعود

مثل سنونو

ستعود إلى عشك الأنيق

وترسم لي أجنحة جديدة

وقصائد

كي نحلق معا

في اسفار العشق

من جديد ..

***

ٱمال زكريا - الجزائر

23/4/2025

....................

مقدمة

تأخذنا الشاعرة آمال زكريا في قصيدتها "نيسان الرحيل" في رحلة عاطفية غنية بالعواطف والألم والذاكرة، حيث تمزج بين الحزن العميق والأمل المستمر، وبين الموت والرجاء. من خلال هذا النص، تبرز الصورة الشعرية المتقنة واستخدام الرمزية التي تعبر عن تجارب الحياة المختلفة، لاسيما تلك المرتبطة بالفقدان والذكريات المؤلمة.

الرمزية والمعنى العميق

تبدأ الشاعرة بتقديم صورة نيسان – الشهر الذي يرتبط عادة بالربيع وبالفرح والتجدد، لكن في قصيدتها، يصبح نيسان رمزًا للفقد والرحيل والألم. "من نيسان قديم والجراح تفيض" هو بداية مؤلمة تعكس كيف أن الفقد قد أضحى جزءًا من التاريخ الشخصي للشاعرة. فهي تعبر عن جراحها النفسية التي تتجدد مع مرور الزمن، خاصة عندما تقول: "قطرةُ حزن على شفتيكِ تحومُ"، لتوحي أن الألم أصبح لا يفارقها وكأنه جزء من كيانها.

شخصية الشاعرة تتألم من الخيانة، وتصف هذه الخيانة بأنها تصل إلى أعماق الروح، إذ تقول: "يا خائن الحبِّ والرُّوح ترحَم". هذه العبارة تعكس صراعًا داخليًا، حيث تُحمّل الحبيب مسؤولية الخيانة، وهو في ذات الوقت يعكس ألمًا لا يُحتمل يعصف بالشاعرة.

الرحيل والفقد الأبوي

القصيدة تتعامل مع رحيل الأب وذكرياته الحية التي تلاحق الشاعرة. هنا، يبدو أن الشاعرة تحاول مواجهة الفقد الأبوي، ولكن دون أن تستطيع التخلص من الألم الناتج عن غيابه. من خلال العبارات مثل "يا ابتاه.. صفير الشتاء" و"أسناني تساقطت" نجد أنها تبرز كيف أصبح الزمن عبئًا ثقيلًا بعد رحيل الأب. هذه الصور تحيلنا إلى مراحل من التراكم النفسي والجسدي على الشاعرة، حيث أصبحت تشعر بأنها تكبر وتتغير دون أن تجد في حياتها ما يعوض فقدان الأب.

رمزية الوحدة والصراع الداخلي

"لقد مت يا أبي مرارًا"، هنا تُظهر الشاعرة الصراع الداخلي العميق الذي تعيشه بعد موت أبيها. الموت الذي يشير إلى حالة من العزلة والفراغ العاطفي والروحي. هذا الموت يتكرر مع كل ذكرى أو موقف يذكّرها بغيابه، مما يجعلها تشعر كأنها تموت داخليًا في كل مرة. "الليل لم يعد يحضنني" تعبير عن فقدان الأمان والراحة التي كان يوفرها لها وجود الأب.

الأسى والبحث عن الأمل

ثم تأتي الشاعرة لتصف مرحلة من الضعف والوحدة: "البراري موحشة دون ظله الطويل / ذئابُ الخوفِ تعوي في صدري". البراري تمثل الفراغ أو اللامكان، حيث لا شيء يملأ الفراغ سوى الخوف الذي يعصف بالشاعرة. ومع ذلك، تظل تبحث عن الأمل رغم كل شيء.

المرايا التي تصدق "إذ رسمتْ ملاكاً" هنا تمثل محاولة الشاعرة لرؤية صورة مثالية لم يكن بإمكانها الوصول إليها في الواقع. وهي أيضًا تمثل صورًا عن رغبتها في العودة إلى البراءة التي كانت عليها في الماضي، حينما كان الأب مصدر الأمان والطمأنينة.

التحول والتجدد: العودة إلى الحياة

نهاية القصيدة تحمل بارقة أمل تُنقض الفقد. "اعلم انك كما رحلت / ستعود / مثل سنونو / ستعود إلى عشك الأنيق". هذا التحول في النهاية يعكس الفكرة الرئيسية في القصيدة: التحول من الحزن إلى الأمل، ومن الفقد إلى الرجاء. السنونو، الطائر الذي يُعرف بعودته السنوية، يصبح رمزًا للتجدد والرجوع. ربما تكون الشاعرة تتحدث عن العودة الروحية لأبيها، حيث تؤمن بعودته في صورته الطيفية، تعود لتمنحها الأمل وترافقها في حياتها.

الأسلوب الشعري والتأثيرات الأدبية

تُظهر القصيدة أسلوبًا شعريًا غنيًا بالصور البلاغية والاستعارات التي تضفي عمقًا على النص. الشاعرة تستخدم تقنيات مثل التكرار، والرمزية، والانتقال بين الأزمنة والأماكن، مما يساهم في بناء حالة من التشويش العاطفي والعقلي. لغة القصيدة تُعبّر عن التوتر الداخلي، وتُظهر الصراع بين الأمل واليأس، بين الحزن والرجاء، مما يعكس قدرة الشاعرة على تجسيد المشاعر الإنسانية المعقدة بلغة مرهفة.

الخاتمة

قصيدة "نيسان الرحيل" هي شهادة على قوة التحمل الإنساني في مواجهة الفقد، والبحث المستمر عن الأمل حتى في أحلك اللحظات. من خلال استخدام الرمزية القوية والأسلوب الشعري المؤثر، استطاعت آمال زكريا أن تُقدّم تجربة إنسانية عميقة تدور حول الحزن، الفقد، والأمل. تلك الرحلة التي تبدأ بالحزن لا تنتهي إلا بالإيمان بالعودة، والتجدد، وتحقيق الذات من خلال الحب والذكريات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

لم يكن العطر بدالّ غريب عن نصوص الشعراء وقد اختلفت مدلولاته من شاعر إلى آخر وتنوّعت تنوّع أساليبيهم ورؤاهم فنرى الشاعر الفرنسي بودلير يصفه قائلا:"من العطور ما هو نضر مثل بشرة الرضيع

وما هو حلو مثل صوت المزامير

وما هو أكثر خضرة من البراري "

بينما يحاول نزار القباني حصر مفاهيمه بقوله:

"العطر لغة لها مفرداتها وحروفها

وأبجديتها ككل اللغات

وللعطور أصناف وأمزجة منها ما هو تمتمة ومنها ما هو صلاة

و منها ما هو غزوة بربرية ".. ولعلّ محاولة قراءة واجهة.. العطر" هي محاولة تبين خصوصيات هذا العطر ومكونات تركيبته ورصد مدلولات هي غيرما يوحي به العطر ذلك المستخلص طيب الرائحة..

تتنوع الحقول الدلالية فى هذه القصيدة

وتتعدد معه الحركات.. فكأن القصيدة تسافر بنا في كل الاتجاهات.. كما تسافر الرّائحة فى كل الامكنة.. تاخذنا الدّلالة في كل مرّة الى ريح ورائحة... بين مجرد ومحسوس.. ذهني وملموس.. فكيف كان السفر وأين ينتهي بنا المطاف ؟

العطر (الحسّي/ الحركة الافقيّة)

فى بداية القصيدة الاولى تتوالى التعريفات.. وتتوالى الحركات... بين السنة تتلاحس...بين الماء والماء...معجم حسّيّ يحتفي بالرغبة والعطر هنا لا معتصرُ الزهور.. بل معتصر الحقيقة.. ماء الحياة.. حين يكون الحبّ...

العطر ايضا طيب القلوب.. حركة افقية.. فى اتجاه المرأة المشتهاة.. يُستدلّ به على نوافذها.. و"الذي غذّى الحياة من البداية وردة.. "فالعطر هو محرّك الحبّ أو هو ماء الحبّ أو هو كلاهما.. شهوةٌ للحبّ وللحياة.

العطر (المجرّد/ الحركة العموديّة ):

فى المقطع الموالي تنتمي أغلب المفردات الى الحقل الدلاليّ الدينيّ.. فالعطر (قول الله تعالى-وعد النبيّين-طيب الدّعاء -الملائكة_العروج_

مباركا.. ).. يتزامن مع هذا المعجم الدينيّ.. حركة عموديّة.. "يا عطر زد من شوقك العلويّ واصعد الى حيث السّماء.. أرى البعيد ولا يراه الآخرون.. "

حركة صوفيّة تجعل من العطر سبيلا الى معانقة الغيب والانعتاق.. فيها شوق الى ما لا يُعرفُ.. ويحضر "البخور" رمزا دينيّا

(يستخدم عادة فى المناسبات الدينيّة.. أو اماكن العبادة.. ).

هكذا بدأ العطر ماءً للحياة ليتجلى في مستوى آخر.. فى ابعادٍ روحيّة..

فهل هذا تقديم للحسّ على الرّوح.. أم انّ رائحة العطر تأخذنا هنا وهناك.. نتلمّس أثره بين لذّة حسيّة ولذّة روحيّة.. لذّتان تعانقان سماء النشوة...بل ان المفهوم يتّسع أكثر ليكون العطر مرادفا للعقل..

"عقولنا ايضا عطور".. يختلف مدى طيبها من عقل الى عقل.. من فكر الى فكر حسب الغايات والنيّات..

العطر/عطرنا (أنا +انتِ)

ينتقل الشاعر من العامّ الى الخاصّ. من مفاهيم مختلفة ومعاجم متنوعّة الى ما يفوح بينهما بين هو وهي.. وبينهما تتلوّن الروائح حسب الطقس والطقوس والفصول.. تضوع رائحة البرتقال في غير موسمها صيفا متمازجة مع عبير الفانيليا...وتبدو رائحة "العطر المعدّ من الخشب."محبّذة أكثر شتاء...

هي روائح تذكي نار الرّغبة فلا تهدأ...

يظهر العالم الذي يلتقي فيه بالحبيبة..

مليئا بكلّ مكوّنات اللّذة.. (عطر.. موسيقى.. نظرات قهوة.. فراش نبيذ.. لوز) مكونات المشهد تُشبع الحواسّ لمسًا.. وذوقًا.. وبصرا.. وشمّا....

غير ان هذا العالم يبدو حلمًا.. فالحبيبة

بعيدة.. ولا يحمل انفاسها سوى "عشب بحرها" خلف المدينة.. رائحة اخرى.. رائحة العطر،مفهوم آخر للعطر يتعالى عن كونه محسوسا الى ان يكون فكرة للّقاء لكسر المسافة بينها وبينه..

العطر/ الذكرى

"توقّعي ان لا نحبّ سوى المُحَبِّ من القديم.. "وكانّ العطر هو كلّ ما مرّ/رائحة ما هو جميل من الماضي.. انها لذاكرة انتقائيّة تلك التي لا تحتفظ الاّ بما نحبّ

وما نحبّه من الحاضر هو "ما يشبهنا من عطور جميعها.".. العطر لم يعد له ذات خاصة به بمعزل عنّا نتطيّب به.. انه أجمل ما كان فينا وما سيكون...

فى المقطع 4 يؤكد على هذه الفكرة من خلال علاقة العطر بالمكان.. حيث يقول الشاعر" هل جرّبت تعطير المقاعد قبل ان يصل القطار.. فقد ننام لساعة متوسّدين شعورنا بالاحتماء.. " مقابلة بين البقاء والسّفر.. بين الحضور والغياب.. يخلّد العطر حب العاشقين على مقعد.. فيذهبان ويبقى عطرهما كما تبقى القصيدة.. وقد ياخذهما العطر.. فلا تسافر غير الحقائب.. "هي الحقائب تستعدّ لأن تسافر قبلنا.. "

ويقول.،"ونحن نصير رائحة وعطرا، ونحن نصبح ذكرى.. ".. ويقول "نحن مجبرون على المنافي والرّحيل.. ونحمل الباقي من الباقي صداقات وذاكرة".. العطر ذكرى قد تكون حملا ثقيلا.. ف"ما السبيل الى اغتسالنا من ملابسنا القديمة.. ؟"

العطر/السحر

"كتبوا روايات ودوّنت الاساطير الغريبة عن عطور كان منها السّحر.... ".. يبدا المقطع7باشارة الى رمزية العطر في الموروث الشعبي خاصّة في علاقته بالسّحر.. في اسلوب اخباري لينتقل الى توظيفه فى الحديث عن علاقته بالمعشوقة من خلال اسلوب انشائي.. يقوم على الامر لغاية التحذير والتنبيه.. "فلتحذري المشموم من بين الهدايا" ويقول "احرقي ثوبا رششتُ عليه عطراً"...لينتهي الى التّأكيد "قد سحرتك "بواسطة رائحة تسافر خلطت من "نوتات العطور". صورة شعريّة رائعة.. ربط بين ما يحيل على الموسيقى/الصوت وبين ما يحيل على الرائحة /العطر..

يوكِل الشاعر دورا آخر العطر .. وهو ايقاعها فى الحبّ اليس العطر هو ما يفوح به الكلام..؟

والغاية هي " أن تبقى ذرّات هذا المسك فى مساماتنا... غذيته من طيب ارواحنا.. "

مراوحة فى اوّل النص بين الحسٌي والروحي تنتهي الى انصهار بينهما.. فالعطر "فضَح الليالي الباذخات."

وفي نفس الوقت هو ما "عبّق الصلاوات"

ثم يكون هو المنادى في نهاية القصيدة.. "خذ احلامنا منا.. ودعنا في نوافذنا.. ".. هل هي رغبة فى ان تنتشر الأحلام عطرا حتى لا تزول. .وتُختم القصيدة بموقف خاصّ "لن نبالغ فى السّكوت".. "لن نموت.. "هي دعوة للبوح /للحياة .. فالسكوت صمت والصّمت موت فما احوجنا لزجاجة عطر حمراء.هي رائحة الحب في زمن التلاشي والاغتراب.. اليس هو الحبّ "شمعتنا التي لا تنطفيء"

واجهة العطر واجهة لدلالات كثيرة رائحة خاصة مستخلصة من صور مختلفة تمزج بين المجرد والمحسوس اسلوبا وبين الحس والروح مضمونا

شكل آخر.. رائحة اخرى تضوع من ازاهير الحب والحياة وتنضاف الى الأرث الادبي الانساني..

***

حياة بن تمنصورت

10/2021

..........................

الواجهة العاشرة: عطر

شعر: علاء نعيم الغول

العِطْرُ مُعتَصَرُ الحقيقةِ شهوةٌ مفقودةٌ بين الفضيلةِ والغوايةِ لسعةٌ رغويةٌ تمتصُّ أولَ رعشةٍ نبتتْ على نهدٍ صغيرٍ واستجابتْ بعدها الرغباتُ وانفتقَ الغشاءُ وفُضَّ واندلقتْ بكاراتُ الأسرةِ وانتشى العقلُ الجموحُ مؤطرُّ اللذاتِ مبتكرُ افتتاحياتِ هذا الليلِ والعطرُ التزامنُ بينَ ألسنةٍ تلامسُ بعضها وَلَعًا وبينَ الماءِ والماءِ اللذيذِ وبين نهديكِ ارتأيتُ بدايتي في قطرةٍ يهتزُّ منها الظنُّ هل عيناكِ مغمضتانِ أم زاغَ البصرْ ⓪︎ ما كان يومًا من طعامٍ أو شرابٍ بل أثيرًا ليسَ يُحْبَسُ في صدورٍ أوحشَتْها كثرةُ النياتِ تنفثهُ الملائكةُ النبيلةُ في هواءٍ عاجزٍ فيصيرَ أكثرَ فتنةً يا حاديَ الزهراتِ عرِّجْ إنْ وددتَ على قرىً قد أنكرتْها الذكرياتُ هناكَ في بيتٍ قديمٍ مرأةٌ جاءت من البحرِ الملونِ والضبابِ ويُستَدَلُّ على نوافذِها برائحةِ الطريقِ الآنَ تكنُسُ بابَها هُدْبُ السماءِ هناكَ طيبٌ من قلوبٍ أيقنتْ أنَّ الذي غذى الحياةَ من البدايةِ وردةٌ ①︎ والعطرُ قولُ اللهِ في آياتِهِ وعدُ النبيينَ الذين اسْتُنْزِفوا بين الهدايةِ والرجاءِ وفاض في أرجائها طِيبُ الدعاءِ تصاعدي سحبَ البخورِ فللملائكةِ العروجُ ولي هنا أملُ الولوجِ إلى هواءِ الزعفرانِ مبارَكًا أنَّى وطئتُ أماكنَ العشبِ النديةَ سابحًا في غيمةٍ عطريةٍ فتحتْ جلالَ الإنعتاقِ مرفرفًا في راحةٍ قدسيةٍ يا عطرُ زِدْ من شوقِكَ العلويِّ واصعدْع بي إلى حيثُ السماءِ أرى البعيدَ ولا يراهُ الآخرون ②︎ وعقولنا أيضًا عطورٌ أيها أزكى منوطٌ بالذي سارتْ بهِ أفكارُنا وأنا وأنتِ الآن عطرٌ من زهورِ البرتقالةِ والفانيلا غير أني في الشتاءِ أفضلُ العطرَ المُعَدَّ من الخشبْ كوني معي في الليلِ لن نحتاجَ أكثرَ من مكانٍ دافىءٍ سنكونُ ملتصقينِ هذا ما يراهُ الوقتُ ما تأتي بهِ النظراتُ لن يغتالَنا إلا الذي يغتالُنا عطرٌ وموسيقى وقهوتُنا وإنْ شئتِ المزيدُ من النبيذِ وكم أحبُّ اللوزَ أيضًا مالحًا شيئًا③︎  أبدو كما نبدو ويعبقُ بي فراشكِ حين ننزعُ قطعةً أخرى ويغلبُنا النعاسُ وتنتشي أفكارُنا بالورد أو ما ينبغي من قبلةٍ إذ لستُ أدري كيف تزدحمُ الحياةُ الآن في رأسي وبين يديكِ ثم تهبُّ من خلفِ المدينةِ نسمةٌ من عشبِ بَحْرِكِ لا تقولي الآن شيئًا لا يزالُ الوقتُ أبكرَ هل تعلقنا ببعضٍ ربما أكثرْ وقالَ الصيفُ ما قال الخريفُ أنا أحبُّ البيلسانةَ واتقاءَ الحرِّ أجملَ في ظلالِ الزنزلختِ ④︎ توقعي ألا نحبَ سوى المُحَبِّ من القديمِ وما استجدَّ يكونُ مما كانَ تشبهنا العطورُ جميعها وتعيشُ فينا الذكرياتُ كما يعيشُ اللوتسُ الصيفيُّ فوق الماءِ هلْ جربتِ تعطيرَ المقاعدِ قبلَ أنْ يصلَ القطارُ فقد ننامُ لساعةٍ متوسِّدَيْنِ شعورَنا بالإحتماءِ ببعضنا مما يجيءُ هي الحقائبُ تستعدُّ لأن تغادرَ قبلنا وتوقعي أنْ نتركَ البحرَ الصغيرَ على وسادتنا ليروي قصةَ العشبِ الطويلةَ يومَ كان الموجُ يغري النورساتِ وكنتِ أنتِ تُطَيِّبينَ الرملَ من قدميكْ ⑤︎هذي الخلايا المجهريةُ ليس يشبعها الحنين ونحن أيضًا مجبرون على المنافي والرحيلِ ونحملُ الباقي من الباقي صداقاتٍ وذاكرةً وفي هذا الغيابِ نصيرُ رائحةً وعطرًا ربما للآخرين ومَنْ سيذكرُنا على سهوٍ ودون تحكمٍ بالقلبِ يا عطرَ المنافي ما السبيلُ إلى اغتسالكَ من ملابسنا القديمةِ والتخلصِ من خلايانا الثقيلةِ وهي ترشحُ بازديادٍ في ليالي الصيفِ في وهجِ الجلوسِ أمامَ هذا البحرِ تغرينا المقاهي والتسكعُ من مكانٍ ما لبيتٍ ما يناسبُ مَنْ يناديهِ الهروبُ إلى المحطاتِ البعيدةِ والمدنْ⑥︎حمَّامُكِ اليوميُّ من عطرِ اللافندرِ رغوةُ الصابونِ تنعشُ مفرداتِ العشقِ فيكِ وأنتِ تنغمسينَ في حوضٍ تغطى بالهواءِ ومغرياتِ الماءِ ماذا بَعْدُ هذا المشهدُ المغمورُ بالبللِ اللذيذِ يثيرُ رائحةَ النعومةِ والفضولِ ورغبةً في أنْ نكونَ هناكَ جلدكِ ممسكٌ عطرَ الخزامى باشتهاءٍ يفتحُ التفكيرَ يخدشُ نشوةَ النظراتِ والصمتِ البليغِ وبالغي فيما أبالغُ في تأملهِ معكْ ⑦︎ كتبوا رواياتٍ ودُوِّنَتْ الأساطيرُ الغريبةُ عن عطورٍ كانَ منها السِّحْرُ أفسَدَتِ العلاقاتِ التي حكمتْ قديمًا أهلها فلتَحْذَري المشمومَ من بينِ الهدايا واحرقي ثوبًا رششتِ عليهِ عطرًا كان من غرباءَ مثلي قد سحَرْتُكِ مِنْ هنا وزرعتُ رائحةً تسافرُ في بياضِ الريشِ نحوكِ كلُّ نافذةٍ لها أسرارُها زوارُها وهواؤها وجعلتُ قلبَكِ لي ولي وحدي أنا خلَّطْتُ نوتاتِ العطورِ ببعضها وعبثتُ عمدًا بالمقاديرِ الدقيقةِ والنتيجةُ أننا في حوضِ ماءٍ واحدٍ وأنا وأنتِ الهاربانِ⑧︎الكائناتُ المجهريةُ مرةً أخرى تفيقُ ولا يغذيها سوى هذا الرذاذِ المُرِّ ينعشُها لتبدأَ في التهامِ منابتِ الضجرِ العميقةِ ثم تسبحُ في مشاعرِنا كنملٍ جائعٍ والعطرُ يدفعها بعيدًا ثم أبعدَ هكذا أتخيلُ الأمر البسيطَ كفكرةٍ تأتي إليَّ من الفضاءاتِ التي لم تُغْزَ بعدُ وأنتِ لي لونُ المجرةِ وهيتلتهمُ النجومَ وتكسرُ الضوءَ المسافرَ في غياهبها وفي عينيكِ آخرُ ما أرى في الكونْ ⑨︎ هنا وهناكَ تتفقُ الحياةُ على مكانٍ بيننا فقط الذي نرجوه أن نبقى كما ذراتُ هذا المسكِ في مسماتنا تبقى ولا تبقى ولكن غُذِّيَتْ من طيبهِ أرواحنا يبدو البقاءُ هو اتزانُ القلبِ والرغباتِ توظيفُ الدقائقِ بيننا بمهارةٍ محسوبةٍ لا أنتِ تبتعدينَ عن دقاتِها ولا حتى أنا حبلُ المشيمةِ بيننا ماءٌ يمرُّ من المسافةِ للمسافةِ سائغًا وهنا هنا والباقياتُ من الدقائقِ شهوةٌ مفتوحةٌ لمكاشفاتٍ ممكنةْ ⑩︎ وعدٌ كما وعدُ الفراشةِ أنْ نطيرَ وقد حملنا وِزرَنا حُبَّا وشكوى والرفاهيةُ التي في المسكِ أيضًا تستحقُّ وعودَنا حتى إذا بلغتْ سماءً غير غائمةٍ تخلصنا من الجملِ الأخيرةِ في تفاصيلِ العتابِ ولم نزلْ متفائلينَ وموقنينَ بأننا لم نرتكبْ سوءًا وفي نياتِنا أنْ نسحبَ الدنيا بعيدًا عن طريقِ الشوكِ نسلكَ شارعًا فيهِ الإضاءةُ شبه كافيةٍ لنقرأَ شاخصاتِ مدينةٍ مفتوحةٍ للبحرِ واتسعتْ خطانا وابتهلنا أيها العطرُ الذي فضحَ الليالي الباذخاتِ وعبَّقَ الصلواتِ خُذْ أحلامَنا منا ودعنا في نوافذنا الصغيرةِ قادرينَ على التعاطي مع بقايا القلبِ والصورِ التي أمتلأت بنا ⑪︎حتى إذا بلغَ الهواءُ اللوزَ قلنا لن نموتَ ولن نبالغَ في السكوتِ حبيبتي ماذا تبقى في زجاجةِ عطركِ الحمراءِ ماذا ينبغي تغييرهُ حتى تليقَ بنا الحياةُ هنا وفي الدنيا كما في كلِّ شيءٍ صورةٌ مخفيةٌ تبدو لنا مجروحةً ونقيةً أيضًا ألا هذي الحياةُ مسافةٌ مقطوعةٌ وتعيدُ فينا الشوقَ مراتٍ ويبقى الحبُّ شمعتَنا التي لا تنطفىءْ ⑫︎

الجمعة /٦/٢٠٢٠

واجها

 

للباحث الدّكتور فؤاد عزّام- مؤلّفٌّ هامّ في عالم الرّواية العربيّة

المقصود بالسّرد الإِخبار عن الأحداث ونقلها، باستعمال اللّغة أو التّصوير أو غيرهما من وسائل التّعبير، ويندرج في مفهوم النّصّ السّرديّ أنواعٌ مختلفة من النّصوص؛ منها القصّة، والرّواية، والحكاية، والخرافة، والتاريخ، والخبر الصحفي العابر، والنّوفيلا.

أمّا شعريّة النّصّ السّرديّ كما جاء في الكتاب ص20 فهي السّمات والخصائص الّتي تجعل من نصٍّ نثريّ معيّن نصًّا سرديًّا، أو ما يجعلنا نميّز نصًّا ما على أنّه نصٌّ سرديٌّ، والشّعريّة إضافة لذلك تحاول الإجابة عن أسئلة مثل: ما هي مركّبات العمل القصصيّ وطرائق اشتغالها؟ وكيف تتعالق هذه المركّبات لتبنيَ العمل القصصيَّ وتولِّدَ دلالاتِهِ؟

يستهلّ د. فؤاد بحثه بالمادّة النّظريّة، ويبدأها بمقدّمة حول تطوّر مفهوم الحبكة بدأً بأرسطو وصولًا إلى يومنا هذا، ثمّ يأتي الباب الأوّل والّذي يبحث فيه كلَّ عناصر الحبكة، وهي: الزّمن الروائيّ، المكان الروائيّ، الشّخصيّة الرّوائيّة، الأحداث الرّوائيّة، الرّاوي. أما الباب الثّاني فهو باب تطبيقيّ، حيث يحلّل الكاتب كُلًّا من العناصر السّابقة في عدّة روايات للكاتب السّوريّ لحيدر حيدر، وهي: رواية الفهد، رواية الزّمن الموحش، رواية شموس الغجر، ورواية مرايا النّار. ومن الجدير ذكره أنّ هذه الرّوايات لا تتبع لمدرسة واحدة، فرواية الفهد تتبع للمدرسة الواقعيّة، وروايتا الزّمن الموحش، ومرايا النّار تتبعان لمدرسة الحداثة، بينما تتبع رواية شموس الغجر لمدرسة الحداثة المتوسّطة؛ وهكذا يقوم د. فؤاد ببحث عناصر الحبكة الرّوائيّة لروايات من مدارس متعدّدة ليكون بحثة واسعًا شاملًا.

الزّمن في الرّواية

يُعد الزمن عنصرًا محوريًا في بناء السّرد الرّوائيّ، حيث يتحوّل الزّمن الواقعيّ إلى "زمن الحكاية" الّذي يُعاد تشكيله داخل النّصّ وفقًا لرؤية الكاتب. يعتمد د. فؤاد في تحليل عنصر الزّمن على رأي الكاتب جيرار جانيت من كتابه خطاب الحكاية، والّذي يعتمد بدوره على ثلاثة محاور رئيسة يتناولها المؤلّف بالشّرح والتّفصيل، (ص 71-81) وهي:

أ‌. المِحور الأوّل في تحليل الزّمن هو التّرتيب الزمنيّ:

ويُقصد به ترتيب الأحداث في النّصّ مقارنة بتسلسلها في الحكاية (وهنا نذكر أنّ الحكاية هي أبسط وأدنى التّراكيب الأدبيّة، وهي تتابع الأحداث المرويّة زمنيًّا، فكلّ حدث يأتي بالتّرتيب كما لو كان يحدث في الحياة الحقيقيّة، وسنترك الحديث عنها والشّرح حولها للدّكتور ناصر). في حال وجود أكثر من حكاية داخل القصّة الواحدة فهناك ثلاثة أنماط لترتيب هذه الحكايات في السّرد:

- التّسلسل: حيث تتتابع الأحداث بشكل طبيعيّ زمنيًّا.

- التّضمين: سرد قصّة داخل قصّة أخرى.

- التّناوب: سرد حدثين أو أكثر بشكل متوازٍ.

أمّا وسائل التّلاعب بالتّرتيب الزّمنيّ للأحداث، والّتي تناولها د. فؤاد بالشّرح وَذِكرِ أنواعها فهي:

- الاسترجاع/ اللّواحق (الفلاش باك): ذكر أحداث وقعت في الماضي قبل اللّحظة الحاليّة للسّرد.

- الاستباق (الفلاش فوروورد): يتمثّل في إيراد حدث آتٍ، أو الإشارة إليه مسبقًا، أو هو سرد حادثةٍ قبلَ موعد حدوثها في الرّواية، وتظهر قيمة هذا الحدث المذكور لاحقًا مع تطوّر الأحداث.  وتسمّى هذه العمليّة بـالتّوقّع، وكذلك تُسمّى بالاستشراف.

- المدى والسّعة: المدى هو المسافة الزّمنيّة الفاصلة بين النّقطة الّتي توقّف فيها السّرد وتلك الّتي انتقل السرّد إليها (في الماضي أو المستقبل). أمّا السّعة فتشير إلى طول المدّة الزّمنيّة المغطاة بالمفارقة الزّمنيّة.

ب. المِحور الثّاني في تحليل الزّمن هو المدّة الزّمنيّة:

وهي العلاقة الّتي تربط بين زمن الحكاية (ثوانٍ، دقائق.. سنوات) وطول النّصّ القصصيّ الّذي يُقاس بالأسطر والصّفحات. ولها أربعة أشكال أساسيّة تمثّل الحركة السّرديّة تناولها د. فؤاد بالشّرح والتّمثيل، وهي:

- الحذف: حذف فترة زمنية بالكامل من السّرد.

- الوقفة: تعليق السّرد والانتقال إلى وصف عناصر أخرى، ما يوقف تدفّق الزّمن الرّوائيّ.

- المشهد: يحدث تزامنٌ بين زمن الحكاية وزمن النّصّ، ويظهر عادة في الحوارات.

- التّلخيص: ضغط الأحداث الزّمنيّة في كلمات قليلة، كسرد أشهر أو سنوات في جملة واحدة.

ج. المِحور الثّالث في تحليل الزّمن هو التواتر:

التّواتر يشير إلى العلاقة بين تكرار الأحداث في الحكاية وفي النّصّ. على سبيل المثال، وهناك أربعة أنواع من علاقات التّواتر:

أن يُروى مرّة واحدة ما حدث مرّة واحدة/ أن يُروى أكثر من مرّة ما حدث أكثر من مرّة.

أن يُروى أكثر من مرّة ما حدث مرّة واحدة/ أن يُروى مرّة واحدة ما حدث أكثر من مرّة.

2. المكان في الرّواية

يلعب المكان دورًا جوهريًا في الرّواية، ليس فقط كبيئة تجري فيها الأحداث، بل كمؤثّر في الشّخصيات والأفكار. وللمكان أهمّيّة في بَلورة الثّقافة، كما للثّقافة أهمّيّة في بلورة المكان، والمكان قادرٌ على تفسير الظّواهر الاجتماعيّة، والتّاريخيّة، والاقتصاديّة، والأدبيّة.

يذكر د. فؤاد المراحل الّتي مرّ بها المكان في الرّواية عند الرّومانسيّين ثمّ كتّاب الواقعيّة، ثمّ الحداثيّة، واهتمامات كلٍّ منهم بتفاصيل مختلفة للمكان. ثم يعدّد لنا أنواع المكان، وكيف أنّ هذه الأنواع ترتبط بعلاقة الشّخصيّات الرّوائيّة بهذه الأماكن، لأنّ الأماكن في حالة عزلها عن علاقتها بالعناصر الأخرى، وخاصّة الشّخصيّات، لا قيمة لها، فالمكان هو الّذي يمنحُ الشّخصيّة هُويّتها، أو يسلبُ الهُويّةَ من الشّخصيّةِ فيُغرّبها، بالإضافة إلى تحكّم المكان في سلوك الشّخصيّة ونفسيّتها، وانعكاس ذلك بدوره على المكان. وهذا التّقسيم جاء على النّحو التّالي:

1-  الأماكن المأهولة: الأماكن الّتي يسكنها النّاس، وتنقسم إلى:

o   أماكن خاصّة: كالمنازل والمكاتب، الّتي تعبّر عن الخصوصيّة والأمان.

o   أماكن عامّة: مثل الأسواق والمقاهي، حيث تكون الشّخصيّات معرّضة للنّظرات الخارجيّة والرّقابة المجتمعيّة.

2-  الأماكن الخالية: أماكن لا يسكنها البشر بشكل دائم، كالصّحراء والجبال والغابات، الّتي قد تكون رموزًا للوَحدة والضّياع.

ويشير د. فؤاد أنّه يمكن للكاتب أن يجعل للمكان دلالاتٍ مختلفةً، وذلك من خلال السّياقاتِ الّتي يُدمج فيها المكان مع العناصر المختلفة، فالبيت يمكن أن يأخذ شكل الحرّيّة، والحميميّة والدّفء، أو على العكس شكل الوَحدة والعزلة واللّا انتماء، وخاصّة في المجتمعات الأبويّة القمعيّة، حيث يصبح المكان سجنًا للفتاة والمرأة.

ومن صور المكان في الرّواية حسبما أورد د. فؤاد في كتابه:

- المكان المفتوح: كالشّوارع والصّحراء والبحر، ما يمنح الشّخصية شعورًا بالحرّيّة أو الضّياع.

- المكان المغلق: كالسّجن أو البيت، الّذي قد يرمز إلى العُزلة أو الحماية.

أمّا أساليب رسم المكان فنذكر منها:

- الوصف: تصوير المكان بالكلمات كما هو في الواقع.

- الأنسنة: أي إعطاء المكان إمكانيّة التّعبير عن الأحاسيس والأفكار، كأن يكون البيت "حزينًا".

- الرّمزيّة: المكان قد يرمز إلى الحرّيّة، كالبحر، وقد يرمز للقهر، كالسّجن.

- التّقطيع: أي تَنقّلُ الشّخصيّةِ بين أماكنَ مختلفةٍ، ما يعكس التّطوّر والتّحوّل في حالتها النّفسيّة.

- الفانتازيا: تقديم المكان بشكل عجائبيّ وغريب.

3. الشّخصيّات في الرّواية:

يذكر د. فؤاد المكانة المهمّة الّتي تحتلّها الشّخصيّة في بنية الشّكل الرّوائيّ، فهي من الجانب الموضوعيّ أداة ووسيلة الرّوائيّ للتّعبير عن رؤيته، وهي من الوجهة الفنية بمثابة الطّاقة الدّافعة الّتي تتحلّق حولها كلّ عناصر السّرد، والوسيلة الّتي من خلالها تُنقل القيم الإنسانيّة من الحياة للنّصّ ليتمّ تحليلها فيه. تُعد الشّخصيّة العنصرَ الأهمَّ في السّرد، حيث تتمحور حولها جميع عناصر الرّواية. يقدّم د. فؤاد ثلاثَ تصوّرات حول الشّخصيّة في الرّواية:

1.  الشّخصيّة ككائن حيّ: وهي شخصيّة من لحم ودمّ، ولها حياتها المستقلّة، وعُمقها النّفسيّ.

2.  الشّخصيّة كلغة: الشّخصيّة ليست سوى مجموعة كلمات.

3.  الموقف التّوفيقيّ: يجمع بين الرّأيينِ السّابقين، حيث تكون الشّخصيّة حدثًا ولغةً في آنٍ واحدٍ.

كما ويتناول الباحث الشّخصيّةَ المسطّحةَ والشّخصيّةَ المستديرةَ بالشّرح والتّفصيل. ثمّ ينتقل للحديث عن أساليب رسم الشّخصيّات الرّوائيّة: الأسلوب المباشر، والأسلوب غير المباشر (الّتصويريّ)، شارحًا الأسلوبين مبيّنًا الوسائل الّتي من خلالها يتمّ رسم الشّخصيّة وفقًا لكلٍّ منهما. الأسلوب المباشر: يقوم به الرّاوي بتقديم الشّخصيّة الرّوائيّة من خلال وصف أحوالها، وعواطفها وأفكارها بحيث يحدّد ملامحها العامّة منذ البداية على الأغلب، ويقدّم أفعالها، معلّقًا عليها ومعلّلًا لها.

2- الأسلوب غير المباشر- التّصويريّ: يستنتج القارئُ استنتاجاتٍ معيّنةً عن طبع الشّخصيّة وصفاتِها دون أن يُصرَّحَ بهذه الصّفاتِ مباشرةً في النّصّ. وأهمّ الوسائل غيرِ المباشرةِ لرسم الشّخصيّات: المظهر الخارجيّ للشّخصيّة، أعمال الشّخصيّة، كلام الشّخصيّة، بيئة الشّخصيّة.

ويميّز الكاتب بين أنواع الشّخصيّة المركزيّة: شخصيّة البطل، اللّابطل، البطل الجزئيّ، ويتناول التّغييراتِ الّتي طرأت على البطل بمرور الوقت، وتغيّرِ العصورِ ومنظور النّاس للأمور (من البطل الإله، إلى البطل الأرستقراطيّ، ثمّ إلى الإنسان العاديّ).

أمّا فيما يتعلّق بالجانب التّطبيقيّ من هذا الكتاب فأذكّر بما أسلفت من أنّ هذا الجانب شمل عدّة روايات للكاتب السّوريّ حيدر حيدر، وهي: رواية الفهد، رواية الزّمن الموحش، رواية شموس الغجر، ورواية مرايا النّار، وهذه الرّوايات لا تتبع لمدرسة واحدة، فرواية الفهد تتبع للمدرسة الواقعيّة، وروايتا الزّمن الموحش، ومرايا النّار تتبعان لمدرسة الحداثة، بينما تتبع رواية شموس الغجر لمدرسة الحداثة المتوسّطة؛ ممّا يجعل البحث واسعًا شاملًا.

كمثال لهذا الجانب التّطبيقيّ سنأخذ تحليل د. فؤاد للبناء الزّمني في رواية الفهد، والّذي قسمّة لثلاثة أقسام.

في القسم الأوّل بحث د. فؤاد مسألة التّرتيب الزّمنيّ، وفيه يقارن بين ترتيب الأحداث في النّصّ القصصيّ، وترتيب تتابعها في الحكاية، من الحدث الأقدم إلى الأحدث للوقوف على المفارقات الزّمنيّة الّتي تحدث في النّصّ من استرجاعات، واستباقات وغيرها.

في القسم الثّاني بحث د. فؤاد قضيّة المدّة أو السرّعة في الرّواية، أي إنّه قام بتحليل العلاقة الّتي تربط زمن الحكاية المقيس بالثّواني والدّقائق، والسّاعات، والأيّام، والشّهور والّسنوات، مع طول النّصّ القصصيّ الّذي يُقاس بالأسطر والفِقرات والصّفحات. ومن خلال هذه المقارنة استطاع الباحث الوقوف على سرعة السّرد والتّغييرات الّتي تطرأ على نظامه من تسريع أو إبطاء، وبالتّالي الوقوف على الأشكال السّرديّة المهيمنة في النّصّ، وعلاقة ذلك بالدّلالات. ومن أجل تحليل الإيقاع الزّمنيّ في الرّواية من حيث السّرعة أو الإبطاء درس د. فؤاد الحركات السّرديّة الأربعة المؤثّرة في هذا المجال وهي: التّلخيص (ويكون ضمن الافتتاحيّة بتلخيص فترات زمنيّة طويلة أو خلال الرّواية بتلخيص الأحداث السّرديّة بواسطة فِقرات قصيرة) والحذف (الحذف يأتي من أجل تسريع وتيرة السّرد، والقفز فوق فترات زمنيّة ميّتة لا أهمّيّة لذكرها) حيث يتسارع السّرد، والمشهد (الحوار بين الشّخصيّات وهنا تتساوى سرعة النّصّ والحكاية عادةً) والوقفة (الوصف) حيث يتوقّف السّرد. وقد عالج الكاتب كلًّا من هذه الحركات بالشّرح والتّحليل والتّمثيل لها من خلال الرّواية.

أمّا القسم الثّالث فبحث فيه د. فؤاد قضيّة التّواتر في الرّواية وهو كما أسلفنا علاقة التّكرار بين النّصّ والرّواية.

ومن الجدير ذكره أنّ باحثنا د. فؤاد بحث التقنيات الخاصّة والفريدة لكلّ رواية، فنجده في رواية الزّمن الموحش يبحث قضيّة التّناوب (أي حكاية قصّتين أو أكثر في آن واحد من خلال إيقاف إحداهما طورًا والأخرى طورًا آخر، ومتابعة إحداهما عند الإيقاف اللّاحق للأخرى)، والتّضمين (وهو إدخال قصّة في قصّة أخرى، أي أن تأخذ الشّخصيّة في سرد قصّة أخرى، وهو ما يسمّيه جانيت بالسّرد من الدّرجة الثّانية).

وأخيرًا أرجو للأديب الباحث د. فؤاد كلّ التّوفيق والنّجاح، ومزيدًا من الإنتاج ليثري مكتباتنا بأبحاث عميقة شاملة كما فعل ببحثه هذا.

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية في قصيدة الشاعر يحيى السماوي

مقدمة: تشكل قصيدة "هذيان" للشاعر يحيى السماوي نصًا شعريًا يتداخل فيه الخاص بالعام والذاتي بالوطني، ضمن بنية رمزية متقنة تُعبِّر عن تجربة اغتراب قسري وانتماء جريح. فهي ليست مجرد حالة ذهنية تنطق بالتيه أو الاضطراب، بل تتحول إلى صرخة إنسانية وسياسية تفضح واقعًا منهكًا بالخداع والخذلان، وتفتح فضاءً شعريًا يُعيد فيه بناء الوطن عبر اللغة بعد أن فقد جذوره في الجغرافيا.

ولا يمكن فهم هذه القصيدة دون الوقوف عند التجربة الشعرية للشاعر ذاته، إذ يُعد السماوي شاعرًا وطنيًا من الطراز الأول ظل وفيًا لقضايا الوطن رغم المنفى. يعبر عن حبه للوطن بأشعار مشبعة بالحنين والتأمل، ويشخص أزماته دون تجميل؛ فهو يسعى عبر شعره إلى كشف أسباب الخلل واقتراح إمكانيات التغيير. يستلهم رموزه من ثلاثة منابع أساسية: التناص الديني والتناص التأريخي والتناص الأسطوري، ويُعرف عنه استخدامه المبدع لتقنية القناع في التعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية.

تتميز القصيدة بقدرتها على توحيد مشاعر الألم والرفض مع لمسة من الحنين، حيث توظف صورًا من الطبيعة وعناصر الحياة اليومية لتجسد التباين بين الطموحات الفردية والجماعية، وبين الهوية الأصيلة والاغتراب القسري. كما تتجلى في النص إشارات قوية إلى وحدة الجراح الوطنية؛ إذ يمتد الألم من البصرة جنوبًا إلى "بيرة مكرون" في كردستان، ليصبح جرحًا مشتركًا يجمع معاناة الشعب بأكمله.

أولًا: العنوان – "هذيان" كمدخل تأويلي شامل

دلالة العنوان ووظائفه في قصيدة "هذيان"

يمثّل العنوان بوصفه العتبة النصية الأولى مفتاحًا تأويليًا أساسًا؛ فهو يفتح أفق التلقي ويضع القارئ في حالة استعداد لفهم المضامين والدلالات. في قصيدة "هذيان" للشاعر يحيى السماوي، يتجاوز العنوان معناه النفسي المباشر المرتبط بحالة ذهنية مشوشة، ليغدو رمزا متعدد الأبعاد يجسد الأبعاد الاجتماعية والسياسية إلى جانب الأبعاد النفسية.

فـ "الهذيان" هنا لا يُفهم كغيره من الانفعالات الداخلية المعزولة، بل يُتخذ بعدًا وجوديًا يُعبّر عن تفكك داخلي ناتج عن صدمة الاغتراب، وخراب العالم، وانهيار قيم الانتماء. هذا يجعل العنوان صرخة إنسانية وسياسية تُدعو إلى الوعي والتمرد وإعادة بناء الهوية الوطنية، كما يتبين من التصوير الشعري الذي يشير إلى الانقسام بين الطموحات والواقع القاسي.

يؤدي العنوان في هذه القصيدة ثلاث وظائف أساسية:

1. الوظيفة التعيينية: يضع العنوان القارئ أمام تجربة شعورية خاصة، فيُمهّده لدخول عالم النص الداخلي. فهو يُعلن حالة في اضطرابٍ متعمدٍ، تتطلب إعادة قراءة المفاهيم الثابتة، وهو ما يتجلى في صورة "الهذيان" كحالة عقلية وصراعية تعكس الحالة الوطنية.

2. الوظيفة الوصفية: يكشف العنوان عن الجو النفسي والفكري الذي يسود النص؛ فهو يرسخ فكرة الاضطراب الشامل ليس فقط في أذهان الأفراد، بل في الحالة العاطفية للمجتمع بأسره. مثلاً، حين يصف السماوي تجربة الهذيان، يصبح هذا الوصف إشارة إلى انزلاق الهوية بين الحلم والواقع، بين الصوت المقموع والرغبة في الإفصاح.

3.  الوظيفة الدلالية الضمنية: تتجلى هذه الوظيفة بشكل تدريجي؛ ففي كل قراءة يُعمق القارئ فهمه بأن "الهذيان" ليس مجرد اضطراب فردي، بل هو مرآة للمأساة الجمعية. فالقصيدة تضع هذا العنوان كرمز يستحضر انتقادات لاذعة للنظام والواقع السياسية والاجتماعية غير العادلة، حيث يتحول الهذيان إلى شكل احتجاجٍ على عالم مختلّ.

وتتجلى جمالية العنوان أيضًا عبر الانزياح اللغوي الذي يُعد سمة بارزة في أسلوب السماوي، إذ لا يُقصَد من "الهذيان" اختلالًا عقليًا بحتًا؛ بل هو شكلٌ من أشكال الاحتجاج على عالم يفقد معانيه، ويصبح علامةً على التوتر بين الحلم والواقع. تعكس هذه الشحنة الرمزية المكنونة في العنوان مختلف أوجه المقاومة والانكسار والحنين والتمرد، لتكشف عن خلاصة التجربة الشعرية الكامنة في القصيدة.

إنه عنوان يُوحي بتوتر داخلي لا ينفصل عن توتر خارجي؛ فهو تعبيرٌ شعري عن وعي مأزوم يعيش في وطن مفكك، تحت فوضى عارمة، ويبحث عن خلاصه في لغة متمردة على السائد. على سبيل المثال، في قراءة بعض الصور النصية المتفرعة من العنوان، يتجلى أن الشاعر يسعى لإعادة تأطير مفاهيم الانتماء والهوية في ظل الانقسامات المعيشية والاجتماعية، مما يبرز دلالات نقدية ترتبط بأزمة حضارية لا تعرف سوى التردي.

ثانيًا: القصيدة

هذيان

مـا أقـربَ الـسـمـاءَ مـن عـيـنـي..

ومـا أبـعـدَ الأرضَ عـن قـدمـي!

*

كـنـخـلـةٍ تـنـتـصـبُ وسـط الـريـح:

جذري في مكانٍ

وظلي في مكانٍ آخرَ

أتـدلّـى مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ الـغربة

مُـتـَّـهَـمـاً بـيـقـيـنـي فـي مـحـكـمـة الـظـنـون

ولـيـس مـن نـبـيٍّ جـديـدٍ

يُـخـيـطُ جُـرحـي الـمـمـتـدَّ

مـن نـخـيـل الـبـصـرة

حـتـى سـفـوح " بيره مكرون «!

*

أنـا الـراعـي..

لا أمـلـكُ مـن الـقـطـيـع إلآ:

الـروثَ والـبـعـر!

ومن النفطِ إلاّ:

السخامَ والدخان!

وأملكُ مـن الـوطـن:

بـعـضَ تـرابـهِ الـعـالـق بـحـذائـي

حين عبرتُ حدودَهُ

بجواز سفرٍ مُزوَّر..

وأمـلـكُ مـن ساستِهِ الذين امتلكوا

قصور الدنيا:

وعـداً بـمـرحـاضٍ فـي الـجـنـة!

*

ومع ذلك: سأبقى مبتسمًا

رغم قوس النارِ الملتفِّ حول رقبتي!

***

ثالثُا: تحليل النص – من الرمزية إلى المواجهة

1- المشهد الافتتاحي:

"ما أقربَ السماءَ من عيني / وما أبعدَ الأرضَ عن قدمي!"

يعرض الشاعر تناقضًا بين مشهدين يبدوان متضادين على المستوى المادي. فعبارة "ما أقربَ السماءَ من عيني" تُشير إلى بُعد فكري قريب يُعبّر عن رغبات أو تصورات يمكن الاقتراب منها ذهنيًا، بينما تُبرز عبارة "وما أبعدَ الأرضَ عن قدمي" فقدان الارتباط بالواقع المادي. وفي هذا السياق، يحمل الحديث عن بعد الأرض دلالة مزدوجة؛ فهي لا تعكس فقط انقطاع الصلة مع الجذور والظروف الحسية، بل تؤكد أيضًا حالة الاغتراب عن الوطن، حيث يبدوا الشاعر منفصلًا عن تربة أصله التي كانت يومًا رمزًا للانتماء والأمان.

بهذا، يستخدم الشاعر هذا التباين ليُظهر الصراع بين عالم التصوّر والشعور الملموس، مُسلطًا الضوء على الحالة المادية والانفصال عن الوطن. إذ أن "الأرض" هنا تمثل ليس فقط الواقع المحيط والذي يفترض أن يثبت الفرد وترسخ هويته، بل تُعبّر أيضًا عن فقدان القرب من الوطن، مما يضفي على النص بعدًا نقديًا يعكس شعور الاغتراب والانفصال عن الجذور الوطنية.

2- استعارة النخلة المشطورة:

كنخلةٍ تنتصب وسط الريح...

جذري في مكانٍ

وظلي في مكانٍ آخرَ

تـدلّـى مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ الـغربة

في هذه الاستعارة يتجلّى استخدام الشاعر لصورة النخلة كرمز متعدد الأبعاد يُعبّر عن معاناة الانفصال والانتماء معًا. يبدأ النص بتصوير النخلة ككيان ثابت يقف شامخًا وسط عاصفة الرياح، حيث يعلن الشاعر من خلال عبارة "جذري في مكان" ارتباطه العميق بأصول الوطن وهويته الراسخة كما تُمثّلها الجذور. وعلى النقيض من ذلك، يظهر عبارة "وظلي في مكان آخر" حالة الانفصال بين الداخل والظاهر، إذ يُشير الظل هنا إلى بُعد منفصل لا ينتمي إلى نفس الإطار المكاني، مما يعكس الانقسام النفسي والمادي الذي يعاني منه الفرد في حالة الاغتراب.

يتجاوز التباين الموضّح بين الثبات والانفصال مجرد تصوير جمالي، حيث يُعيد الشاعر من خلاله صياغة الهوية الشعرية لتتحول إلى صرخة نقدية تُفضح واقع الاغتراب والانهيار السوسيو-سياسي. ففي سياق هذه القراءة، تصبح النخلة أكثر من مجرد رمز نباتي، إذ تتحول إلى أيقونة معقدة متعددة الطبقات تُجسّد الهوية الوطنية المقسومة بين الأصل والمنفى، وهو ما يُسلط الضوء على محاولات التجذر في زمن يفرض فيه الواقع الانقسام والتشتت.

كما تُضفي صورة "أتدلّى مشنوقًا بحبل الغربة" بعدًا وجوديًا على الاغتراب؛ إذ لا يخلو من الدلالة على أن قيد الاغتراب يتجاوز الانفصال الجغرافي، بل يمتدّ ليخلّد حالة ألم وجودي مستمر يعانيها الشاعر في ظل ظروف الانفصال والضياع.

باختصار، يسعى الشاعر إلى دمج الرموز الطبيعية مع تجارب الوجدان المرهقة لتسليط الضوء على الصراع الدائم بين الرغبة في الثبات ورغبة البقاء على اتصال بالجذور، وبين واقع الانفصال الذي يفرض نفسه في مختلف جوانب الحياة. هكذا، تتحول النخلة إلى رمز نقدي يشمل معاناة الهوية الوطنية، مما يتيح للقارئ استيعاب التوتر الأساسي بين الهوية والاغتراب في ظل واقع اجتماعي وسياسي متشظٍ.

3- حالة الاتهام والشك المحيط باليقين:

مُتَّهماً بيقيني في محكمة الظنون"

يبدأ الشاعر بتحويل اليقين إلى كيان يُدان ويُتهم ضمن "محكمة الظنون"، حيث تتحول الأفكار الثابتة والمفاهيم المعتقدة إلى موضوع مطروح للشك والنقد. إن عبارة "متَّهماً بيقيني" لا تعني أنه يُهاجم يقينه بشكل عشوائي، بل تشير إلى أن حتى الثوابت التي يُعتد بها تصبح عرضة للمساءلة في بيئة يغلب عليها الريبة والشك. تُعد "محكمة الظنون" رمزًا مليئًا بالتساؤلات، فهي ليست مؤسسة قانونية بقدر ما هي مساحة فكرية تُحاكم فيها المشاعر والأفكار تحت وطأة عدم الثقة. بهذا، يُظهر الشاعر كيف أن اليقين، الذي يُفترض أن يكون قاعدة صلبة، يتحول إلى مفهوم متغير وغير مستقر في ظل مناخ من الشك المتواصل، مما يفتح الباب لتفكيك المفاهيم الثابتة وإعادة تقييمها.

4- مفردات الاغتراب القاسي:

"وليس من نبيٍّ جديدٍ يُخيط جرحي الممتدّ من نخيل البصرة حتى سفوح بيره مكرون"

استخدام الصورة الرمزية والجغرافية:

يُوظّف الشاعر صورة رمزية ذات طابع جغرافي وشعبي لتحديد مدى اتساع الألم. فتحديد الجرح بأنه يمتد من "نخيل البصرة" إلى "سفوح بيره مكرون" يؤكد أن معاناة الشاعر ليست خاصة بفئة أو منطقة بعينها، بل هي تجربة وطنية تشمل كافة مكونات الشعب العراقي. هذا الاستخدام يسلّط الضوء على الوحدة في الوجدان الجمعي رغم الانقسامات الجغرافية أو الاجتماعية.

رمزية "النبي الجديد": الشاعر لا يقصد بالنبي الجديد المفهوم الديني التقليدي، بل يستخدمه كرمز لحاجة المجتمع العراقي إلى قيادة تغييرية وقادرة على شفاء الجراح وإرساء العدالة الاجتماعية. إذ يشير إلى أنه ليست مجرد كلمات أو وعود دينية تُستشعر في المناسبات، بل يحتاج الشعب إلى شخصية قيادية تُترجم الوعود إلى أفعال ملموسة تُضمّد الجراح وتعيد الثقة والانتماء.

الجراح كرمز للوحدة والجماعية: الجرح الممتد الذي تذكره العبارة يُجسد معاناة جماعية، إذ يمثّل الذكرى المؤلمة للانقسامات والتهميش في المجتمع. هذا الجرح ليس مجرد تجربة فردية، بل هو صرخة موحّدة ضد الانقسام والتهميش الذي يعيشه المواطنون. الشاعر بذلك يتخذ من الألم وقالب الانتهاكات تجربة سياسية واجتماعية تُبرز الحاجة إلى تجاوز الخلافات من أجل قلب صفحة جديدة من العدالة والمصالحة.

الدلالة السياسية والنقد الاجتماعي: يجسد المقطع نقدًا لاذعًا للأنظمة التي تترك الجراح مفتوحة وغير معالجّة، مؤكِّدًا بأن الشعوب التي تعاني من الظلم والتهميش تحتاج إلى قيادة تغييرية لا تعتمد على الرموز الفارغة أو الوعود الباطلة، بل تسعى لإصلاح الواقع وتحقيق العدالة. إن هذا الموقف يُعد تحديًا للسلطات التي تترك الشعب يتألم دون أن تتحمل مسؤوليتها عن الانقسامات والخيبات.

5- التعبير عن الهوية المُهملة:

أنـا الـراعـي..

لا أمـلـكُ مـن الـقـطـيـع إلآ:

الـروثَ والـبـعـر!

ومن النفطِ إلاّ:

السخامَ والدخان!

يُصوِّر الشاعر نفسه برمز الراعي الذي فقد القدرة على امتلاك سوى بقايا لا قيمة لها، مثل "الروث" و"البعير"، في إشارة إلى حالة العجز والفقر التي يعاني منها نظامه. هنا يُظهر الشاعر كيف أن الهوية الوطنية المُهملة لم تعد تحمل الأمل أو الازدهار، بل أصبحت رمزًا للإحباط الجماعي والضياع.

كما يُبرز النص التناقض الجذري بين ما كان من المفترض أن يكون مصدر النهضة—النفط الذي يرمز إلى الثراء والعزة الوطنية—وما تحول إليه في الواقع، أي "السخام" و"الدخان". هذا الاستخدام للرموز يكشف عن الخيانة الأعمق؛ حيث تُستغل موارد الوطن لخدمة مصالح نخبة محدودة تُضاعف من الفجوة بين الغنى والفقر، بينما يظل المواطن العادي مُنهَكًا بتلوث يعكس الفساد المنتشر في هذا النظام.

بهذا، يُقدِّم الشاعر نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا حادًا، يعكس حالة الانقسام والانفصال بين الطموحات المتداعية للشعب والواقع المُرّ الذي يفرضه النظام. تتجسد الهوية الوطنية هنا في صورة شذوذ، تجمع بين ملامح الإحباط واليأس كدلالة على سخونة الظلم والاستغلال، مما يجعل القصيدة صرخة احتجاجية ضد تلك المعادلات غير العادلة.

6- فوضى الهوية والانتماء:

وأملكُ مـن الـوطـن:

بـعـضَ تـرابـهِ الـعـالـق بـحـذائـي

حين عبرتُ حدودَهُ

بجواز سفرٍ مُزوَّر ..

يُجسّد الشاعر في هذا المقطع معاناة الاغتراب والتمزق النفسي من خلال تصويره لحالة فقدان الهوية والانتماء. يقول:

"وأملكُ من الوطن بعضَ ترابه العالق بحذائي حين عبرتُ حدودَهُ بجواز سفرٍ مزوَّر.. "

في هذه الأسطر، لا تُعدّ الذرات العالقة بالحذاء مجرد بقايا أثر لعبور جغرافي؛ بل تتحوّل إلى رمز لهوية مفقودة وحنين معنوي ثقيل. فالوطن هنا لم يعد ملكًا يتمتع به الشاعر، بل صار أثرًا يُنتزع منه مع كل خطوة، مما يدل على حالة الانفصال والاغتراب العميق.

كما يُبرز الشاعر استخدامه لجواز السفر المزوّر ليس كدلالة على انتهاك قانوني فحسب، بل كاستعارة كبرى لفقدان الشرعية في العيش ضمن حدود الهوية والانتماء الحقيقي. هذا الجواز المزور يرمز إلى مأزق الذات التي تُنازع بين الرغبة في الانتماء والواقع الذي لا يعترف بها، أي أن الوثائق التي كان يُفترض أن تُثبت علاقتها بالوطن ما هي إلا أوراق تُزيّن صورة زائفة بدلًا من أن تعكس الانتماء الحقيقي.

بهذا، يُظهر النص حالة من الفوضى والاضطراب داخل الذات، حيث يعاني الفرد من انفصال بين هويته المُتوقعة وهويته الواقعية في وطن لا يبقي له مكانًا ثابتًا، مما يعكس نقدًا حادًا للواقع السياسي والاجتماعي الذي يُسرق فيه الفرد حتى جزئاته الأكثر حميمة

7- ترف القصور ووعود المراحيض: سخرية سوداء من سلطة تُراكم وتخدع:

"وأملك من ساسته الذين امتلكوا قصور الدنيا / وعدًا بمرحاض في الجنة"

تناول القصيدة فكرة الترف المبالغ فيه لدى السلطة مقابل وعود جوفاء للشعب بأسلوب السخرية السوداء، وتحديدًا في البيت الشعري "وأملك من ساسته الذين امتلكوا قصور الدنيا / وعدًا بمرحاض في الجنة". من خلال هذا التباين، يكشف الشاعر عن التفاوت الحاد بين الاستغلال الفاحش للثروات والامتيازات من قبل قادة المتنفذين، وبين الوعود التي تبدو فارغة وتقدم للفقراء بطريقة استهزائيه، مثل الوعد بـ"مرحاض في الجنة." يتجاوز الشاعر بذلك النقد التقليدي ليبرز العلاقة غير المتكافئة بين السلطة والشعب، حيث يتم توظيف السخرية السوداء لتحويل مسألة الوعد بالجنة إلى سخرية مؤلمة، مما يكشف عن كيفية استخدام الدين كغطاء لممارسات الفساد السياسي والتمييز الطبقي. إذ أن هذا الطرح ليس مجرد مفارقة شعرية، بل هو دعوة لوعي مجتمعي يندد بنظام يمنح المواطن القليل، فيما يحصر الثروة والكرامة والقرارات المصيرية بين أيديه.

8. لحظة التحدي في النهاية:

"ومع ذلك: سأبقى مبتسمًا / رغم قوس النار الملتفّ حول رقبتي"

تعبير عن الإصرار على الحياة والمقاومة، وعن التمسك بالأمل والكرامة رغم كل المعاناة. الابتسامة هنا ليست خضوعًا، إنما فعل تحدٍ وجودي، كأنها سلاحه الأخير أمام القهر.

قوس النار هي صورة مركبة ذات دلالة قوية، تعكس الضغوط المفروضة والتهديد الدائم، وربما تشير إلى شيء عسكري مثل ساحة معركة أو خطر محيط. النار تعبر عن الخطر والعذاب والعنف، وربما ترمز إلى الرقابة السياسية أو القمع.

الجزء المتعلق بالالتفاف حول الرقبة يعكس البعد الجسدي الحسي للعذاب، حيث تعتبر الرقبة رمزًا للحياة والتنفس والكلام، وكل ما يهددها هو تهديد للوجود أو للحرية.

بشكل عام، الشاعر يوحي بأنه محاصر بالخطر والكبت وربما الموت، لكنه يظل مبتسمًا متحديًا تلك الظروف. هذا يمثل ذروة المقاومة الشعرية والوجودية، حيث تتحول المعاناة إلى عنصر للصمود بدلاً من الانكسار.

من الناحية السياسية، قوس النار قد يعبر عن الحصار من السلطة أو الاحتلال أو القمع الاجتماعي والسياسي الذي يطوق الشاعر أو شعبه، ومع ذلك فهو لا يتخلى عن الأمل أو الكبرياء.

على الصعيد النفسي، الابتسامة تحمل معنى الرفض الصامت أو التمسك بالذات رغم الألم. إنها توازن داخلي بين الخارج المضطرم والداخل الصامد.

رابعًا: الشعر كأداة للتغيير: التأمل السياسي في 'هذيان

تطرح قصيدة "هذيان" رؤية شاعرية مشحونة بالغضب والخذلان، حيث يتحول الشعر إلى وسيلة لمساءلة الواقع السياسي وتفكيك بنية النظام التي تمارس التهميش والخداع. العنوان "هذيان" لا يُشير فقط إلى اضطراب نفسي، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزًا لحالة التشويش الناتجة عن واقع سياسي واجتماعي مختل، حيث يتحول الحلم إلى جحيم يومي.

في مقاطع متعددة، يُظهر الشاعر نقدًا لاذعًا للأنظمة الحاكمة من خلال صور رمزية مثل:

-    "ليس من نبيٍّ جديدٍ يخيط جرحي"،

-    "مرحاض في الجنة" مقابل "قصور الدنيا"،

-    "قوس النار الملتفّ حول رقبتي"،

-    "جواز السفر المزوَّر" و"بعض تراب الوطن العالق بالحذاء".

كلها صور تكشف عن واقع شعب مسحوق بين وعد الخلاص الكاذب وواقع الإقصاء، بين الخطاب الديني المفرغ من محتواه، وبين غياب العدالة الاجتماعية والسياسية.

في "هذيان"، لا ينفصل الألم الفردي عن الوجع الجماعي، بل يعكس أزمة وطنٍ تتجسد في ذات الشاعر، فيتمدد "الجرح" من نخيل البصرة حتى "سفوح بيره مكرون"، دلالة على امتداد المعاناة بين مكونات الشعب العراقي. هذه الرمزية تُبرز أن الظلم واحد، والخذلان مشترك، والحرية ما زالت حلمًا بعيدًا، مما يجعل من القصيدة صرخة سياسية واجتماعية تدعو إلى مقاومة القهر وإعادة صياغة الهوية الوطنية.

رابعًا: الأسلوب الفني والبناء التعبيري

يعتمد الشاعر في قصيدته على لغة رمزية معاصرة تجمع بين عبارات كلاسيكية وأخرى حديثة، مما يجعل النص يتفاعل بعمق مع واقع الوجدان الانساني، فيلامس آلامه وآماله. يتسم النص بافتتاحيات قوية تقسم المساحات الإدراكية بين السماء والأرض، ويستخدم تراكيب فنية مثل التشبيه والاستعارة لتوضيح الانفصال بين الحلم والواقع، مما يخلق حالة من التوتر الشعري بين الداخل والخارج.

تتميز اللغة بثرائها المجازي وتكثيف الصورة الشعرية، حيث يختار الشاعر عبارات نارية وصادمة تُظهر بوضوح الجراح الاجتماعية والسياسية، مما يعزز من أثر النص على المتلقي عبر خلق حالة من الموافقة الشعورية على قسوة الواقع. وفي ذات السياق، تُستخدم السخرية السوداء لكشف زيف الواقع والسلطة، مما يضفي فاعلية نقدية على الرسالة.

من خلال الرمزية والمفارقات، يخلق الشاعر عالمًا شعريًا متعدد الطبقات، يظهر فيه تناقض واضح بين ما يُشاع من وعود رنانة وبين الواقع المُر الذي يعيشه المواطن. تُبرز رموز مثل "بيره مكرون" الاضطهاد الشامل الذي يشمل كافة مكونات الشعب، مؤكدًا على وحدة المعاناة في مواجهة نظام يمارس الظلم ويخدع المواطنين بوعود زائفة. كما أن هذه الرموز تتحول إلى دعوة لإعادة صياغة الهوية الوطنية على أساس مقاومة مشتركة للألم والظلم، تتجاوز الانقسامات وتوحّد القوى في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية.

خاتمة: الهذيان كفعل مقاومة

قصيدة "هذيان" ليست مجرد خطاب شعري عن الاغتراب، بل هي وثيقة روحية وسياسية توثق معاناة شعب يُخدَع ويُقصى، ومع ذلك يظل متشبثًا بكرامته ووعيه. من خلال العنوان وما يحمله من أبعاد، ينجح الشاعر في تحويل الهذيان من حالة مرضية إلى أداة فكرية وجمالية تُقاوم التسلط؛ فتُعيد للذات المنفية صوتها، وللأرض المهملة ظلها.

تشكل القصيدة لوحة فنية تحمل بداخلها صراعات داخلية ومجتمعية متشابكة، إذ يستعرض الشاعر حالة ذهنية غامرة تتمازج فيها عوامل الإصرار على البقاء مع مرارة الانتماء لمجتمع مضطرب. إن العنوان "هذيان" لا يُعبر فقط عن اضطراب عقلي، بل يعكس تشويش الواقع الذي يحول الحلم إلى جحيم يومي، وتسخر الأبيات من فساد السلطات واستغلال الثروات، فيتحول ألم الفرد إلى نقد حاد لهذا النظام.

علاوة على ذلك، يدعو النص إلى التفكير الجماعي حول كيفية تحويل حالة الألم إلى قوة محفزة للتغيير الاجتماعي والسياسي، إذ تستلهم القصيدة من واقع الاضطهاد صرخة تحدٍ تطالب بإعادة صياغة الهوية الوطنية وبناء جسور المقاومة في وجه الفوضى والظلم. وفي النهاية، تبقى رسالة "هذيان" صرخة أمل ومسالة تدعو إلى صمود الذات، حتى وإن كان ذلك بالصمت والابتسامة المتمردة في مواجهة قوس النار الذي يحيط بها.

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد عراقي

 

وقراءة في سردية “عزازيل” ليوسف زيدان

توطئة: ليست هذه القراءة دعوة إلى تأويل يقيني، ولا محاولة لاقتناص مفتاح سردي يُغلق الرواية بإحكام. بل هي انزلاقٌ حرّ في الهوامش التي تركها يوسف زيدان مفتوحة عمدًا، كأنّه يعرف أن الحكاية ليست في ما كُتب، بل فيما لم يُكتب، في ما خُبّئ خلف سطور الراهب، وفيما ارتجف بين الجسد والمغفرة دون أن يُقال.

“عزازيل” ليست رواية تُقرأ كأنها وثيقة، بل كأنها مرآة: من نظر فيها طلب الحقيقة، ومن تَأملها خاف من الوجه الذي رآه فيها.

مقدمة:

في لحظة مفارقة، حين يختلط اللاهوت بالنزيف، والمقدّس بالحسّي، يولد النص الذي لا يريد أن يشرح شيئًا، بل أن يحرّض على التورط. سردية “عزازيل” لا تُحاكم عقيدة ولا تؤرّخ لانشقاق، بل تُقيم في المنطقة الرمادية بين الله والإنسان، بين الرغبة والتوبة، بين الحبر واللحم.

هنا لا يتكلّم يوسف زيدان بوصفه مؤرّخًا ولا هيبا بوصفه شاهدًا، بل يتناوبان معًا على الحفر في قاع الإنسان: ذلك الكائن الذي عُلِّم كيف يخاف جسده، ويُقدّس صمته، ويتوسّل الغفران لأجل قبلةٍ لم يستطع أن ينساها.

في هذه الدراسة، لا نبحث عن حكم، بل عن تأمل، لا عن خلاصٍ جاهز، بل عن سردية مكسورة تُطل من وراء الكلمات، لعلّها تجد فينا قارئًا لا يطلب إدانة الراهب، بل يفهم ارتباكه، ويعترف، سرًا، أنه يشبهه.

ثمة أشياء لا تُكتب لكي تُفهَم، بل لكي تُلامَس. ليست الرواية هنا إلّا جلدًا قديمًا تركه التاريخ على حبل الغفران، ليرتديه من يشاء، لا ليحتمي من البرد، بل ليعرف كيف يرتعش.

عزازيل، في دلالته الأولى، ليس اسمًا لشيطان كما درجت التفاسير، بل هو التسمية التي تُطلق على المجهول فينا، ذاك الصوت المُهمَل، المُبعد، الذي كلّما أنكرناه، ازداد حضورًا. في الرواية، لا يظهر عزازيل كشخصية بل كاهتزاز داخلي، كظل لا وجه له، كصوتٍ يخرج من أعمق نقطة في الذات حين تهتز الأرض تحت يقينها. هو مرآة لا تعكس، بل تُكسر.

هيبا، ذلك الراهب الذي يُمسك القلم ليكتب سيرته، لا يفعل ذلك لأنه يريد أن يروي، بل لأنه لا يعرف كيف يصمت. لم ينجُ من الحرب، ولم ينجُ من اللاهوت، ولم ينجُ من ذاته. الرجل الذي جاء من جنوب الصعيد ليحتمي بالكنيسة، كان يركض، في الحقيقة، من شيء أعمق من الاضطهاد: من جسده، من صوته، من تلك الرعشة التي لم يستطع أن يسميها حبًا، ولم يجرؤ أن يعترف بها كفهم.

ومارثا؟ ليست امرأة. بل اختبارٌ مكتمل. اختبارٌ للجسد حين يتورّط في الحنان، وللطهر حين يفقد تعريفه القديم. مارثا ليست غواية، بل مفردة جديدة في قاموسٍ لم يكن يعرف سوى مفردتين: الطاعة والعقاب. مارثا هي اللحظة التي يُحسّ فيها الراهب بأن الله لا يسكن فقط في المذابح ولا في الجدران المذهبة، بل في جلد إنسانٍ يرتعش، في عينين تسألان بصمت: هل الحب خطيئة؟ وهل المغفرة فعلٌ فردي؟ أم أنها امتياز تحتكره المؤسسة؟

الرواية تُسلّط الضوء لا على صراع العقائد كما يبدو، بل على التمزق الذي يحدث حين يصبح الإيمان سكينًا موجهًا ضد الجسد. يوسف زيدان لا يُدين الراهب، ولا يُبرّئه، بل يتركه في منتصف الطريق، عارياً من الحُكم، محاطاً بأسئلته، لا لكي يصل، بل لكي يتأمّل الحافة.

حين يقول هيبا عن علاقته بمارثا: “لم تكن خطيئة كما ظننت، بل كانت لحظة صدق نادرة”، ينفتح الجرح. لا جرح الفعل، بل جرح التأويل. كأن الطهر، في جوهره، لا يعني الامتناع بل الصدق. كأن الجسد، إن كُتب بصدق، يكون صلاة. وهذه الجملة وحدها كافية لتقوّض مئات الصفحات من التراتيل التي صاغتها السلطة لتجعل من الإنسان تابعًا لرغبتها في تعريف النجاة.

من خلف ذلك، يتردّد صدى أصواتٍ بعيدة، أصواتٍ لم تكن لتصمت لو أتيح لها الكلام. صوت إرنست بلوخ حين كتب عن الرجاء بوصفه بوصلة الإنسان نحو “ما لم يُولد بعد”، صوت سيمون فايل وهي تكتب أن “العقيدة التي لا تعبر عن الجرح، ليست أكثر من سلطة متنكّرة”. في هذا الإطار، تُصبح الكتابة نفسها – عند هيبا – نوعًا من الاعتراف الذي لا يبحث عن عفو، بل عن إعادة ترتيب المعنى. وكأن السردية ليست توثيقًا لما جرى، بل لما كان ينبغي أن يُقال ولم يُقل.

الرواية لا تُنهي هيبا، بل تُبقيه بيننا، بوصفه احتمالًا لكل من ظنّ أن التديّن يعني قمع الرغبة، أو أن الله لا يُرى إلّا من خلف حجابٍ من جلد. “عزازيل” تفتح الباب لتأويل الطهر نفسه، لا بوصفه قيدًا بل بوصفه ساحة صراع. الطهر، في هذه الرواية، ليس نقيض الجسد، بل طريقه الآخر. والراهب الذي ظنّ أنه يهرب من الخطيئة، كان – دون أن يدري – يهرب من سؤال لم يعرف كيف يواجهه: ما معنى أن تحب، دون أن تُحاسَب على شعورك؟

يوسف زيدان، دون أن يصرّح، ينسف جوهر العلاقة بين اللاهوت والجنس، بين المقدّس والغريزي، ليعيد الاعتبار للإنسان بوصفه كائنًا هشًّا، لا كاملًا، كائنًا يرى الله من زاوية منخفضة، لا من برجٍ عقائدي. والمغفرة التي يتوسلها الجسد، ليست مطلبًا من السماء، بل رجاءٌ بأن يسمح له الزمن بأن يُكتب من جديد، بعيدًا عن الجُدران التي علّمتنا أن نكره أنفسنا لأننا نشعر.

ولذلك، لا تنتهي الرواية كما تنتهي الحكايات، بل تبدأ عند النقطة التي يكتب فيها هيبا دون وجل، أن الجسد – حين لا يُخاف – يُصبح أصدق من العقيدة، وأعمق من النبوة، وأشدّ صلةً بالله، إن كُتب بدمٍ لا يستأذن الكهنة.

***

إبراهيم برسي – باحث وناقد سودني

 

تأخذنا قصيدة هل تسمعني؟" إلى تعدّد فكرة الغياب التي تتناوب بين سطوة الغياب: حضورٌ لا يُرى.. وحين يتكلم الغياب. والغياب كقوة خفية. والحضور الغائب. والغياب.. حين يصبح أبلغ من الحضور وحين يُملي الغياب معناه.

لذا فإنّنا نلج إلى الغياب بوصفه حضورًا مضاداً.

تبتدئ القصيدة بسؤالٍ بسيط ظاهرياً، عميق وجودياً: "هل تسمعني؟" — سؤال يضمر شكًّا في التلقي، ولكنه أيضاً يؤسّس لتيمة الغياب بوصفه مركزاً للرؤية، حيث يصبح الغائبُ أكثر تأثيراً من الحاضر، واللاوجود شرطاً للرؤية المطلقة. ينقلنا الشاعر فارس مطر من المألوف إلى ما وراءه، من الصورة المحذوفة إلى الغيمة المتحوّلة، في انتقالٍ من الماديّ إلى المجازيّ، ومن الواقعيّ إلى الكونيّ. يأخذنا من خلال أتباع منهج البنية الأسلوبية المادية إلى تفكيك الظاهر لإعادة بناء اللامرئي.

قصيدة "هل تسمعني؟" للشاعر فارس مطر تنتمي إلى قصيدة النثر، حيث تتحرر من القافية والإيقاع التقليدي، لكنها تحافظ على إيقاع داخلي ناتج عن التكرار، قارعاً جرسه الموسيقي الخاص، متحرراً من التركيب الموازي، والمجاز المحكم. نلحظ تكراراً هادئاً لأنماط لغوية كـ: "كـ.."، "قد.."،"عندما.."، ما يمنح النص نسقًا تأملياً متصاعداً.

الصور في قصيدة "هل تسمعني؟" لا تُقال لتصف، بل لتُفسِّر. الشاعر مطر، يستخدم الصور لا كتجميل بل كأداة فلسفية: "كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"، "كقارئ ترك الكتاب"، "كغيمة بدّلت الرياح شكلها". هذه التشبيهات تمثل لحظات خفوت الوجود، لا اختفاؤه. ساحباً لإدراكنا نحو أفقه الفلسفي من خلال الشعر بوصفه كينونةً بديلة.

القصيدة ليست فقط تأملاً في الموت أو الغياب، بل محاولة شعرية لتأثيث عالمٍ غير مرئي، يمنح الإنسان خفةً وانسيابيةً: "ستكونُ حُرًّا خفيفًا ويكونُ الهواءُ عادلاً" . هنا يتكشّف الشاعر فارس مطر عن رؤية طوباوية، تتجاوز ثنائية الحياة والموت. فأن تغيب، لا يعني أن تفنى، بل أن تتحول. الغائب يتماهى مع الكون، يتحوّل إلى: "تغريدة"، "قصيدة"، "نبض في الأغصان". إنها عودة كونية تتخذ شكلاً شعريًا خالصًا.

متساوقاً مع المجاز بوصفه نظامًا معرفيًا. حيث تبدو القصيدة مكتظة بالمجازات، لكنها ليست زينةً بل رؤية. نقرأ مثلاً: "ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير"، هنا يقرن الشاعر مطر بين الفكرة والأناقة، الغياب والسوريالية. إنه يفكّك الصورة النمطية للموت، ويُعيد تركيبه بوصفه حالة انفتاح على الكون، لا نقطة نهاية. من هنا كان ما بعد الحضور – الإنسان كقصيدة كونية، وهي نقطة الذروة في القصيدة حيث تجلت في الاتحاد بالطبيعة – حتى يصبح الإنسان ماءً، طيراً، شجرة، أغنية.

يقول: "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ". يذوب الشاعر مطر في الكائنات الأخرى، لا يزعم تميزاً، بل اتحاداً كليّاً. في هذا الفضاء الواسع، لا توجد حدود بين الشاعر والعالم، بل تناغمٌ مطلق يُختم بنداء: "أيها التناغمُ الكبير، هل تسمعني؟" "هل تسمع، قلبَ الشجرة؟"، هنا تتحول القصيدة من خطاب غيابي إلى صلاة وجودية، إلى نشيد كوني مفتوح. وهنا يأخذنا ببراعته من الذات إلى الكلّ.

قصيدة "هل تسمعني؟" ليست رثاءً ولا تأملاً فرديّاً في الغياب، بل هي بناءٌ شعريٌّ لبديلٍ وجوديّ، يتجاوز الموت، ويتخيّل الإنسان روحًا حرّة منسابة في تفاصيل الطبيعة. لذا وجدنا الشاعر فارس مطر لا يكتب عن الموت، بل عن التحوُّل، عن إمكانية النجاة من الثبات عبر الذوبان، وعن الكتابة كحياة أخرى. إنها قصيدة لا تُقرأ بعين واحدة، بل تتطلب الإصغاء كما تُشير نهايتها، وكأنّ الشاعر يريد من القصيدة أن تكون صوتاً في شجرة، أو همسة في كونٍ مزدحمٍ بالحضور الصامت.

رائع، لنغص إذن في تحليل رمزي دقيق لبعض المقاطع، لنكشف الطبقات العميقة التي تنطوي عليها رموز النص:

تحليل رمزي لمقاطع مختارة من القصيدة

1. "كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"

الرمز: الصورة المحذوفة

الدلالة: هذا المشهد اليومي المألوف يتحوّل عند الشاعر مطر إلى استعارة كبرى عن الغياب الرقمي/الوجودي. إنّ حذف الصورة لا يعني أنّ الشخص لم يكن، بل أنّ أثره صار لا مرئياً. استخدام الهاتف – رمز الذاكرة العصرية – يشير إلى أننا في زمن يُمحى فيه الوجود بسهولة.

المعنى الأعمق: الغياب هنا لا يتصل بالموت فحسب، بل بالتلاشي التدريجي من ذاكرة الآخرين، ومن الوجود المعنوي.

2. "كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً"

الرمز: الغيمة المتبدّلة

الدلالة: الغيمة ترمز في الأدب الصوفي والشعري إلى الروح، إلى الكائن المتحوّل، الخفيف، العابر. تغيّر شكلها، يُشير إلى قدرة الكائن على التقمّص والتحوّل وعدم الثبات.

المعنى الأعمق: يؤكّد الشاعر على أنّ الغياب ليس نقطة نهاية، بل حالة ديناميكية، حضور بصيغة أخرى، تتغيّر وفق الرياح (القدر/المصير).

3. "الغيابُ رهينةُ الحضور / ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت"

الرمز: الوتر والريشة

الدلالة: الوتر يحمل طاقة صوتية كامنة، لكنه لا يُصدر صوتاً إلا إذا حرّكته الريشة. هذا رمز عميق لوجود كامن، غائب، لكنه قابل لأن يُستحضر في أي لحظة.

المعنى الأعمق: الغائب ليس منفصلاً عن العالم، بل هو جزء من نسيجه، ينتظر فقط "اللمسة" ليعود إلى الاهتزاز – أي إلى الحياة أو الذكرى أو الإلهام.

4. "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ"

الرمز: الساقية/الماء

الدلالة: الماء هو جوهر التحوّل في الرمزية الكونية. الذوبان في الساقية يعني الاتحاد بالعناصر، التخلي عن الفردانية، والتحول إلى جزء من المنظومة الحيوية الكبرى: الطبيعة.

المعنى الأعمق: دعوة للاندماج، للذوبان في الكلّ. الشاعر فارس مطر لا يريد أن يُذكر كاسم، بل كأثر حسي في الوجود – كماءٍ يسري في كائنات الأرض.

5. "هل تسمع، قلبَ الشجرة؟"

الرمز: قلب الشجرة

الدلالة: قلب الشجرة قد يكون استعارة عن الحياة الداخلية لكل كائن حيّ، أو عن وعي الطبيعة ذاته. إنه السؤال النهائي: هل للطبيعة وعي؟ هل يمكنها الإصغاء؟ وهل نصير نحن جزءًا من ذاك الوعي بعد الغياب؟

المعنى الأعمق: الشاعر يطرح هنا سؤالاً وجودياً ميتافيزيقياً: هل هناك صدى للروح في العالم بعد أن تغيب؟ هل يمكن للأثر أن يُسمع حتى لو لم يُنطق؟من هنا يمكننا القول انّ قصيدة "هل تسمعني؟" تمثّل نصاً شعرياً مكثفاً من حيث بنيته الفكرية وجمالياته التعبيرية، حيث يتقاطع فيه الحضور والغياب، ويتحوّل الكائن الإنساني إلى طيف كوني يتناثر في الطبيعة والعالم. إنها قصيدة ذات طابع تأمليّ عميق، تنتمي إلى ما يمكن وصفه بـ"الشعر الوجودي الحديث"، حيث تتداخل الأسئلة الكبرى مع الشفافية الشعرية.

البنية الفنية للنص: كان تأكيدنا على الشكل الشعري كون قصيدة

"هل تسمعني؟" تنتمي إلى شعر النثر، إذ تخلو من القافية التقليدية لكنها تحافظ على إيقاع داخلي مستند إلى التكرار، والتنويع الصرفي، وتعدّد الأنماط التركيبية. فالجملة الشعرية في القصيدة طويلة نسبياً، متدفقة، أقرب إلى المونولوج الداخلي، وتتحرك عبر تدرّج شعوري نحو الذروة التأملية في نهاية النص.

كون الشاعر مطر اتبع مسار التكرار والنسق الإيقاعي مستخدماً أدوات التشبيه مثل "كـ..."، والمقاطع الشرطية "عندما.."، وهذا ما يخلق نسقاً من التوازي البنائي، ويُفضي إلى حالة من التماوج الصوتي الذي يُشبه "خفقان الغياب". هذا البناء الفني يُعزز الأثر النفسي للنص، ويؤكد حالة الانسياب التي تتماهى مع رمزية الماء والهواء في المضمون.

لغة قصيدة "هل تسمعني؟" مكتظة بالصور الشعرية حيث جاءت اللغة في القصيدة تُزاوج بين اليومي والمجرد، بين التقني (الهاتف الخلوي) والفلسفي (الغياب الفيزيائي). هذا التداخل يعكس قدرة الشاعر على تحويل المفرد العابر إلى كوني، والمألوف إلى رمزي.

أما الصورة الشعرية هنا فإنها لا تؤدي وظيفة التجميل، بل تؤسس للرؤية. نلحظ مثلاً:

"كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"، "كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً". هذان التشبيهان يُحيلان إلى الغياب كفعلٍ لا يُدرَك بالحواس، بل بالأثر. الصورة في هذا النص لا تُجسّد، بل تُفسّر وتؤول. من خلال رؤيته الفلسفية للنص كما أسلفنا معتبراً الغياب كحالة وجودية:

كون القصيدة تتمحور حول فكرة الغياب، لكن الغياب هنا ليس نفياً للوجود، بل تحولاً في شكله. فالشاعر فارس مطر يقول هنا:

"يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً"

المفارقة في هذا السياق أنّ الغياب يتطلب وجوداً سابقاً، بل ويعيد تشكيله. هكذا يتقاطع الشعري بالعلمي، ليؤسس رؤية وجودية للغياب كتحوّل، لا كفقد. ساحباً المتلقي من الكائن إلى الكونية:ففي المقطع الأخير، تبلغ القصيدة ذروتها الفلسفية والجمالية، حين يتحوّل الكائن إلى مكوّن كوني يقول الشاعر فارس مطر: "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ"، هذا الذوبان ليس مجرد اندماج بالطبيعة، بل هو تخلٍّ تام عن الفردانية لصالح الوجود الجمعي. الإنسان لا يعود فقط جزءًا من العالم، بل يصبح العالم نفسه.

ولو عدنا إلى البنية التأويلية والرمزية فنجد هناك رمزاً مركزياً في القصيدة: (الغياب) حيث الغياب هو الثيمة المركزية، ويأخذ التأويل الهيرمينوطيقي في القصيدة وجوهاً متعدّدة: الصورة المحذوفة، القطار الذي فات، الغيمة المتغيرة. كلها تدل على وجود سابق يتحول إلى لا مرئي.كما يتحوّل من الذات إلى الطبيعة: كون الشاعر مطر سعى لإنهاء قصيدة "هل تسمعني؟" إلى صوت في الطبيعة حين قال: "وستغدو حفيفاً في النسمةِ، قصيدةً في الخميلةِ نبضاً في الأغصانِ"

هذا الانصهار هو أسمى درجات الوجود في القصيدة. الغياب لا يُنظر إليه كموت، بل كتحقّق أعلى للكينونة عبر الفن والطبيعة.

فالقصيدة برمّتها بياناً شعرياً ضمنيّاً تعبّر تمام التعبير عن قدرة اللغة على منح الخلود، وعن الشعر كوسيط بين الحضور والعدم. فحتى في الغياب، تظل الكلمة قادرة على البقاء، على الإنشاد، على أن تكون "ريشة تُحرّك الوتر".

إن عبارة "هل تسمع، قلب الشجرة؟" لا تخاطب كائنًا بعينه، بل تُحيل إلى وعي كوني، تنتقل فيه الذات من ضمير المتكلم إلى ذرات العالم.

خاتمة

قصيدة "هل تسمعني؟" نص شعري فريد في معالجته لفكرة الغياب، حيث يمزج بين الحس الفلسفي والنبض الشعري، ويجعل من الفناء مدخلاً للحياة الكونية. إنها قصيدة لا تُنشد الحزن، بل تحتفي بالتحوّل، وتكتب الذات من جديد في جسد الطبيعة، بأثرٍ يظل قائماً ما دام في الشجرة قلبٌ يسمع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

................

هل تسمعني؟

.. وعندما تختفي كشيءٍ كان هنا قبل قليل

أو كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي

كقارئٍ تركَ الكتابَ على المنضدة

كخُلُوِ الرصيفِ منكَ تماماً

عندما تركبُ القطارَ قبل لحظات

أو كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً

يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً

ومع استبعادِ أن تكونَ قد لمستَ شيئاً قاتلاً

أو.. مَسَّكَ شيءٌ قاتلٌ

فقد خرجتَ من المسرح

-تأويلاً- يعني هذا أنكَ صرتَ مُشاهداً يرى غيابهُ

ولعلهم يذكرونكَ في مناسبة

ويقولونَ: روحهُ الآن تُطِلُّ علينا

ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير

-مجازاً- الغائبُ رهينةُ الحضور

ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت

في النتيجةِ أنت غائبٌ وصامتٌ

ولا تستطيعُ الكتابةَ

لكن، مع افتراضِ وجودك اللّامرئيِّ

ستكونُ حُراً خفيفاً

ويكونُ الهواءُ عادلاً

ولن تكونَ لك وِجهةٌ أخيرةٌ

مُقبلٌ من كل الجهات

قابلٌ لكل شيءٍ

منهمرٌ

مضيءٌ

حالمٌ

‏ممتلئٌ مالئٌ كالأثير

إن اتَّحَدْتَ بشيء صِرتَهُ

آمِلٌ

متأملٌ

وقد تختارُ أن تكون سلاماً..

ورغيفاً..

وكماناً يُهَذِّبُ الكوكبَ من جديد

‏وعلى سبيل البساطة

تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ

فتصبحُ تغريدةً، أغنيةً

وستغدو حفيفاً في النسمةِ

قصيدةً في الخميلةِ

نبضاً في الأغصانِ

أيها التناغمُ الكبير

هل تسمعني؟

هل تسمعُ، قلبَ الشجرة؟

***

فارس مطر

شاعر عراقي يقيم في العاصمة الألمانية برلين

 

أمَّا العينان فهما الشعر والتصوف. ولكن ما هو هذا الهوى الذي أَلتَاثُ من أجله، وأَرومُ توحيدَه من خلال سفحِ دمي حروفًا تنظرُ إلى المطلق، وإلى الوجود وكوائنه بعيني الشعر والتصوف ؟.

إنه الهوى المحضُ الخالي من نوازع الذات ونوازغها، ومن اُنظومات المخلوقات وشرائطها، الصاعدُ عبوديةً صوب كُلِّي الجمال. فأَنْ تعشق معناه أن يكون عشقكَ عاريًا من الأغراض والأهداف، ومن المُتعِ الحسِّيةِ الراكضةِ على افراس الغرائز، مرادًا لوجه المحبوب دون سواه.

ومنذ التهب هذا العشقُ في دواخلي أصبح الشعر والتصوف عَينينِ لكياني، بهما أسمعُ وأرَى، وبهما أُحلِّق في الملكوت، فتنفذ إلي منه الإشارات والرموز والاستعارات والحدوس والسماديرُ ( = الرؤى)، وتتنافذُ تنافذ الضوء في الماء، والعِطر في الهواء. مما يُفضي بهاتين العينين إلى أن تُخضعَ كل واحدة منهما أختها إلى تجربتها ابتغاء مَرضاةِ المطلقِ، وتوحيدِ العشقِ فيه، ووسيلتُهما إلى ذلك الخيالُ؛ الذي هو حضرة الحضرات، وبرزخُ البرازخِ الفاصلُ بين المعلوم والمجهول، وبين المحسوسِ والمعقول. وهذا التموقُع للخيال هو الذي يؤهله إلى التقاط الحقائق بعيدا عن الفصل وبعيدًا عن ضيق الثنائيات.

فبالخيال أكشفُ عن قصور العقل المجرَّد ومحدوديته، وبه أجمع بين الضدين، وأرى الجسمَ في مكانين، والنورَ في سُويداء الحنادس، وأُمسكُ الأشياءَ في تبدُّلاتها وتقلباتها، وأُصغي إلى لغاتها المتدفقة فيَّ ببهاءِ لا أبينَ منه ولا أسنى.

إن الخيال هو الركن المركزي في مَشهدي الصوفي والشعري، ومرآتي التي أشاهد فيها الماديَّ متضمِّنًا روحًا، والمعنويَّ متضمنا مادةً، قبل أن تخبرني بذلك الفيزياء الحديثة، ومن ثمة فإنني لا أخجلُ من الاعتذار إلى حجرٍ مثلاً إذا عثرتُ فيه، لكونه كائنا مُسبِّحا بحَمْدِ مُكوِّنه.

فالشعر عين تُشوِّقك إلى المحبوب، والتصوف عينٌ تَحمِلُك إلى بابه، حتى ولو طُردَت منه. وهاتان العينان تصُبُّ كل واحدة منهما في الأخرى، وتتجادل معها لغةً وتخييلاً وتصورًا. وأنا – عن طريق لغتهما المكثفة الخاصة- أسعى إلى ربطِ الإنسان بالحقيقة دفعةً واحدة، بُغية الوصول به إلى ما تمناه الشاعر أبو الحسن علي بن محمد البديهي الشهرزوري حين قال:

أُتمنَّى على الزمانُ مُحالاً

   أن تَرَى مقلتايَ طلعة حُرٍّ

والحرُّ هو من أحبَّه المطْلق وكاشفَه بسر الأسرار، ومَنَحَهُ ياقوتةَ الحقائق المتحقِّقة، وأطلعَ شمسَه في ليل الانكسارات والانجراحات والإحباطات، لكي يُبصرَ فيها مَنْ لم يُبصرْ كيف يَجمعُ السماءَ والأرضَ في جُبَّة واحدة، وكيف يَبتُر أنانيتَه العمياءَ التي هي أسُّ الداء في الوجود.

وكَمْ أنا متشوق إلى أن أكون هذا الحر، غير أن أهوائي كثيرا ما تُصَفدني كلما انغمرتُ في التجربة وأوغلتُ فيها رياضة ومجاهدة،وليس هذا عيبًا مادمت كائنا بشريا فالبشر ما هُمْ إلا مجموعة أهواء ورغبات مشتعلة تلهث خلق الارتواء بطرائق قِدَدٍ. وأنجحُهم في التجربة هو من امتلك القدرة على إلجامِ شهواتِه الجامحةَ وتطلعاته السفلَى. فالحرية تجربة في اللانهائي، منبعثة من وجدان صادق، ولا يكون الوجدان صادقا إلا إذا كان له حنين دائم إلى أصله الأول في عالم الذرِّ، وتوقٌ إلى مراودةِ العَصيِّ، وكشفِ الغامض، واقتحام المجهول. وكل من لديه هذا الوجدان هو بالطبع مُتصوف في محراب الحياة، ينفصل عن ظاهرها، ليُؤكد اتصاله بباطنها.

وقد منحني الشعر والتصوف – حين نظرتُ بعينيهما إلى الكون ومُكونِه – هذا الوجدان الشفاف الذي لا ذرة فيه لكُرهِ أيٍّ كان، فهو يسَعُ العوالمَ كلها، ويكتُبها محَبَّةً كما كتبَها مُوجِدُها في البدءِ

الشعر والتصوف يَنْبُعانِ من ذاتي مُلَوَّنين بألوان سِتَّةٍ مجتمعةٍ ومتضافرةٍ، متواجشةٍ ومتناغمةٍ، في كل واحد منهما، هي:

1- انبثاقُهما من تجربة فردية باطنية صادقة.

2- إحساسُهما بألم المعاناة والمكابدة الوجوديى

3- تجوالُهما في المناطِقِ القصية الممتنعِ التجولُ فيها.

4- اكتشافُهما المجهول برؤى غائصةٍ في الأعماقِ، نزَّاعةٍ إلى المطلق.

5- تجاوزُهما حدودَ المكان والزمان والمستحيل

6- انصهارُهما في نار الشوق إلى المطلق؛ التي تُمِدُّهُمَا بلغة مفارقةٍ نائيةٍ عن اللغة المتداولة، خالصة من شوائب التزييف...لغةٍ تُشيرُ إلى قُدْسِيَّة المحبوب إشارة قصدٍ شَطْحِي. ومعنى القصدُ الشطحي أَنْ يَكُونَ الجَسَدُ النصي مسكونًا بروح الكلمات، ومدلولاتها الجديدة، النائية عن المدلولات القديمة. وذلك لأن الحروف فيها هي بمثابة أمةٍ من الأمم، مخاطَبةٍ ومكلفَةٍ، لا أفصحَ لسانًا، ولا أوضحَ بيانًا منها.

بهذه الخصائص كتبتُ وأكتب من أجل توحيد العشق، مبتعدًا عن التصريح، لأن التصريح إذا دخل الشعر والتصوف أفسدَهما، وجعل نضارتهما وطلاوتهما قُبحًا ومَذلةً. ولَكمْ تفتنني فيهما هاتيك الغرابةُ التي تُحوِّل المصطلح الواحدَ في كل مقام من المقامات إلى مولودٍ جديد، فاتنٍ ومُدهشٍ. هل هذا راجع إلى كون تجاربهما متباينةُ ُ ومتنوعةُ ُ مَظْهرًا ومتسقة ومتوحِّدةُ ُ مَخبَرًا؟ أم لكونهما ينطلقان من تصورات في العشق غير معلومة للآخرين، وينشُدان الحقيقة الأسمى فيما وراء الحقيقة البشرية؟.

يحق لي هنا أن أقول: إن الشعر والتصوف منذوران لما هو خفي، والخفي دائما يأسَرنا، وُيدخلنا في أواوينه، ويُشوِّقنا إلى بُعده واحتجابه، خصوصًا إذا ما تم ربطه بخفي آخر، وهو المحتجِب البعيدُ الأبعدُ اللانهائي. واهتمامُهما هذا بالخفي الممْعِن في الخفاء هو الذي جعلهما يساهمان في إنتاج معرفةٍ جديدة بالوجود وبالإنسان، وبالمطلق كذلك. وهو الذي دفعهما إلى التحرك في مدار الصيرورة والتجدد والتجديد بحيث أنه يكون من الصعب عليهما أن يعيشا مغامرة روحية دون أن يكون للجمال نصيب في قلبيهما الظامئين، ونفسيهما المتعطشتين، وروحيهما اللتين تطربان للمعاني الجزئية والكلانية في الكون، وتريان أنَّ كل ما فيه جميلٌ بالأصالة، وأن القبحَ فيه ليس إلا عارضًا مآلُه الارتفاعُ والامِّحاءُ.

إن حاجة عين الشعر إلى التصوف كحاجة عين التصوف إلى الشعر، فالأولى تحتاج إلى تحقيق اللحظة الصوفية التي تدمجُها في الزمن الروحي غير المقيَّد بالدقائق والساعات، والثانية تحتاج إلى الشعر لإبراز المكاشفات والتجليات والفيوضات الفائضة عليها من لدن المحبوب.

وتحت ضغط هاتين العينين أَجدُني في موضع الانسحاق، وموضِع الإبلاس، وأجدُ لغتي في موضع العجز عن احتواء المعاني الكبيرة. فألتحفُ التكثيف أحيانًا، وأحيانا أخرى أُوثر الصمت، وأُفسح المجال للبياض لكي يختزن فيوضات المعاني، وانهمارات الرؤى عَلَّني أصلُ إلى ما وصل إليه مولانا جلال الدين الرومي في قوله:

قَالَ لِي وَاٌلرُّوحُ ثَمْلَى بِاٌلْمُنى:

مَنْ بِبَابي؟ قُلْتُ: بِالبَابِ أَنَا

*

قالَ لِي: أَنْكَرْتَ تَوْحِيدَ اٌلْهَوَى

عِنْدَمَا فَرَّقْتَ فِيهِ بَيْنَنا

*

وَمَضَى عَامٌ، فَلَمَّا جِئْتُهُ

أَفْتَحُ اٌلْبَابَ عَلَيْهِ مَوْهِنَا

*

قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: اٌنْظُرْ فَمَا

ثَمَّ إِلاَّ أَنْتَ بَاٌلْبَابَ هنَا

*

قَالَ لِي: أَدْرَكْتَ تَوْحيدَ اٌلْهَوَى

وَعَرَفْتَ اٌلْحُبَّ، فَاٌدْخُلْ يَا أَنَا

وإني لأرى من خلال تجربتي الشعرية والصوفية أن هاته التجربة الشعرية والصوفية هي المُؤهَّلة جماليا وشهودًأ بصائريًّا لجمع السماء والأرض في ثوب واحد، هو ثوب العشق الخلاق الذي لا يُرحِّل الحقيقة لا عُلْويًّا ولا سُفليا، وإنما يجعلها ناطقة في القلوب بأسمى معاني الكون وتجليات كُلِّي الجمال فيه. والوصولُ إلى كلي الجمال مشروط بحَجْبِ السِّوَى، وتوحيد الهوى، وتوحيدِ الهوى لا يتحقق إلا إذا كان حالُكَ يقول:

أَنَا لَكَ... لاَ لِي

فَخُذنِي مِنِّي

ومِن السّوَى إِلَيْكْ

ولاَ تَأْخُذْنِي منكَ إِلَيّْ

ولا شك أنك إذا وَحَّدْتَ الهوى ستَصِلُ، وإذا وصلتَ فإنك لن ترى فيما سواه إلا نَفَسًا من أنفاس مَحَبَته.

***

الدكتور أحمد بلحاج آية وارهام

تعريف الغَزَل كما ورد في القواميس اللغوية هو فنّ من فنون الشِّعر، يتغنَّى فيه الشَّاعر باِمرأة ويُحمِّله مشاعره

ومن تعريفاته أيضا ـ هوالشِّعْرُ الَّذِي يُقَالُ فِي النِّسَاءِ وَوَصْفِهِنَّ وَالتَّشَبُّبِ بِهِنَّ.

يُقال للظّبي غزال وللظبية غزالة والغزالة في اللغة أيضا هي الشّمس عند الضّحى

وقد شبّه الشعراء القدامى حبيباتهم بالشّمس تعبيرًا عن وضاءتها وحسنها مثل عنترة في قوله:

أَشارَت إِلَيها الشَّمسُ عِندَ غُروبِها 

تَقولُ إِذا اسوَدّ الدُّجَى فَاطلِعِي بَعدي

والغزل هو فتل الصّوف خيوطا وقد ورد في القرآن قوله في سورة النحل ـ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ـ

وقد جمع المعرّي بين الغزْل والغزَل في أحد أبياته قائلا:

سُقيا لِشَوْهاءَ ما هَمّتْ بفاحشَةٍ 

غدتْ على الغزلِ، ليستْ تعرِفُ الغزَلا

هذه مناسبة إذن للوقوف على العلاقة بين الغزَل والغزْل والغزالة فيبدو لي إذن أن غزل الصوف حول المغزل هو مثل غزل الكلام حول المرأة التي تشبه الغزالة في حسنها وفي كثير من طباعها فغزْل الصوف يتطلب اللطف والحذق والمداومة حول المغزل وشعر الغزل يتطلب كذلك المهارة اللغوية ولطف المقاربة كما قيل في قواميس اللغة هو محادثة النساء بِلُطْفٍ وَرِقَّةٍ وَكَلاَمٍ عَذْبٍ وَتَوَدَّدَ إِلَيْهِنَّ وأما التشبيه بين الحبيبة والغزالة فأمر شائع في مدوّنات الغزل كقول قيس بن الملوّج مخاطبا ظبية:

أَيا شِبهَ لَيلى لا تُراعي فَإِنَّني 

 لَكِ اليَومَ مِن بَينِ الوُحوشِ صَديقُ

*

فَعَيناكِ عَيناها وَجيدُكِ جيدُها 

سِوى أَنَّ عَظمَ السّاقِ مِنكِ دَقيقُ

وهذا الشاعر المنخّل اليشكري هو أيضا يجد شبها وتوافقا آخر ولكنه مع البعير والناقة ليعبّر عن تمام الانسجام وكماله بينه وبين حبيبته حيق قال:

وأحبُّها وتحبّني 

ويُحبّ ناقتها بعيري

قيس بن الملوّح  يستحضر هو أيضا زمن طفولته مع حبيبته ليلى وهما يرعيان صغار الغنم فيقول:

تعلّقتُ ليلى وهي غرّ صغيرة

ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ

*

صغيرين نرعى البُهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهمُ

 تمثّل الطفولة الصّفاء والنّقاوة والبياض الذي لم تَشُبه شائبة والعاطفة فيه صادقة تنأى عن هواجس الغرائز وحسابات المصالح وقد صوّر الشابي الطفولة فاِعتبرها حلما لذيذا مرفرفا وذلك في أسلوب صيغة التعجّب الذي يرشح بمعاني المحبّة والاِشتياق المَشُوبة بشيء من الحسرة على اِنقضاء عهدها حيث يقول:

للّه ما أحلى الطفولة إنّها حلم الحياة

عـهد كمعسول الرّؤى ما بين أجنحة السُّبات

وعذوبة الطفولة لدى الشّابي جعلته يفتتح بها ـ معلّقته ـ صلوات في هيكل الحب ـ إذ يستهلّها قائلا:

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللّحن كالصّباح الجديد

أمّا الشّاعر التونسي ـ حاتم حمّادي ـ وهو من آخر حبّات العنقود في مدوّنة الشعر التونسي فقد نشر أخيرا قصيدا جديدا عاد فيه هو أيضا إلى ألعاب الطفولة خاصّة منها لعبة الغمّيضة لينال قبلة من حبيبته جائزة له بعد عناء البحث والفوز بالرّهان فهذه اللعبة البريئة والمسليّة تُعتبر أكثر صدقا وأبلغ حميميّة من طقوس الحبّ الرّسمية الخاضعة للبروتكولات

قصيدة ـ الغُمَّيْضَةُ ـ للشاعر ـ حاتم حمّادي ـ تونس

إنْ أَقْرُبْكِ

أَغْمِضِي عَيْنَيَّ بِمنديلٍ صغيرٍ

أو وِشَاحٍ

ثُمَّ

تَوَارَيْ قَلِيلاً…قَلِيلاً

وتَسَلَّلِي

ثم تَخَفَّيْ بِتُؤَدَةٍ

وراءَ جدارٍ

أو

وراء ستارٍ

كطفلةٍ تَتَسَلَّى بِي

تحت…

جُنْحِ الظَّلاَمِ

وَإِذَا…

بعْد جَمِيلِ تَعَثُّرٍ

وبعدَ بحثٍ حليمٍ

وَكَدٍّ خفيفٍ ومُزَاحٍ

وَجَدْتُكِ دون عناءٍ

لِيَكُنْ حَظِّي مِنَ الرِّهَانِ

قُبلة برقيّة خاطفة

بِالكَادِ تمسح مسحا خفيفا

على الخدَّيْنِ

مثلما

يفعل جميع الأطفالِ،

سأراها مخاطرة

ومجازفة كبرى

وجزاء

وسترينها مُخَالَفَة

وأحلى عقاب

صَرَاحَةً…صراحةً

أريدُ أن ألْعبَ معكِ

مثلَما يلعب جميع الصِّغارِ

إنّي…

مَلَلْتُ الحُبَّ الرّسْمِيَّ

والقُبُلاَتِ مِنْ نَارٍ!

قصيدة الغمّيضة للشاعر حاتم حمّادي عودة إلى ينابيع الشّعر العُذري واِستلهام لرموز الرّومنطقية وهي من ناحية أخرى مواصلة في تفاصيلها وصورها وأبعادها لمسيرة الشّعر الجديد بتونس .

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

قراءة نقدية في قصيدة "لأنك أنت" للشاعرة رشا السيد احمد – ألمانيا – سوريا.

***

لأنك أنت

و كتبت لأنك نبي الحب الذي حل في قلبي وأقرأني السلام من لدن قلب عاشق

و فتح لي كتب نور خفية صفحة تلو صفحة وأقرأني آيات بينات

كنت ذاك الملاك الذي حملني معه لسموات علا بعيدا عن هرطقة الرصاص وجنون اشتعل في الأوطان

بينما كان علي أن أزرع في دربك كل الحكايات الجميلة وأمسح عن قلبك التعب لأن قلبي صار ينابض قلبك بجنون

منذ الأزل كل ما كنت أحتاجه هو أنت وحينما سكنت قلبي عرفت ينبوع الأغاني فصرت أسقي الورود منه فنبتَ في كل زاوية من قلبي أغنية وقصيدة تنزلت من السماء

قُبلتك المطولة حين ألتقينا هذا الفجر أخذتني بدوار عذب وكانت بنكهة الرؤى المسافرة في أكوان تمنحك السعادة بقوة في لحظتها أدركت أنك ذاك الذي كان يحضرني من عهود مضت قبيل كل فجر فأصحو بألف سبب للفرح والطمأنينة ويصير  العالم أنا وأنت ولا غير

ففي سفرنا على جنح السمر كان يتجلى الكون عذبا شفيفا حينها كنت تحدثني عن الله الذي لا يخلف وعده وكنت أحدثه عنك مطولا بحنو وأزرع من نجوم عينيك في سمائي عرسا للشغب فأنا المملوءة بك حد التماهي بكل نبض يؤثث الروح شغفا واشتعال فأذوب بك أكثر

وأنسى الكون كله ووحدك تبقى في الروح .

سيدة المعبد

***

القراءة النقدية:

القصيدة "لأنك أنت" للشاعرة رشا السيد أحمد هي قطعة شعرية تمتزج فيها الرومانسية بالروحانية، وتعبر عن حب عميق ومتجدد يتجاوز الحدود المادية والتجسيد الجسدي. ومن خلال هذه القصيدة، نجد أن الشاعرة تستخدم مجموعة من الرموز الأدبية والتصاوير البلاغية التي تُمثل حبًا كونياً، وتوحُّدًا روحانيًا بين الشاعر والمحبوب.

المعنى العميق والتوظيف الروحي:

تبدأ الشاعرة النص بعبارة "لأنك أنت" التي تعتبر بمثابة مفتاح لفهم النص، حيث تُمثل المحبوب أو الحبيب كجوهر هذا الوجود، وتوحي بأن وجود المحبوب هو السبب الذي من أجله تحيا الشاعرة. هذه البداية تأخذنا إلى فكرة الحب الكوني، حيث يُنظر إلى المحبوب ليس كإنسان فقط، بل كرمز للطاقة الإيجابية التي تملأ الروح.

من خلال استخدامها لعبارة "نبي الحب الذي حل في قلبي"، تخلق الشاعرة صورة دينية تُحيل إلى قدسية هذا الحب، حيث يصبح المحبوب معلمًا ومصدرًا للطاقة الروحية والإلهية. هذا التوظيف يعكس تسليم الشاعرة الكامل للمحبوب، وجعل العلاقة بينهما أكثر من مجرد علاقة دنيوية؛ إنها علاقة روحية متكاملة.

الصور البلاغية والرمزية:

تستمر الشاعرة في استخدام صور بلاغية عالية، مثل "فتح لي كتب نور خفية"، و"كنت ذاك الملاك الذي حملني معه لسموات علا". هذه الصور تتجاوز الواقع الحسي لتعكس عوالم غيبية متخيلة، في صورة الملاك الذي ينقل الشاعرة إلى عوالم أعلى من خلال الحب. هذه الصورة تُبنى على المجاز، حيث يُنظر إلى الحب كأداة للوصول إلى النقاء الروحي والسمو.

وفي تعبيرها عن الحب الذي يتجاوز الواقع العنيف، يبرز تصويرها للمحبوب الذي "حملني معه لسموات علا بعيدا عن هرطقة الرصاص وجنون اشتعل في الأوطان". هذا لا يقتصر على تصوير الحبيب كملاذ روحي فقط، بل يشير أيضًا إلى الهروب من ضغوط الحياة والعنف الذي يهدد الإنسان في الواقع.

الحب كمصدر إلهام وإبداع:

في النص، تتحدث الشاعرة عن اكتشاف "ينبوع الأغاني"، الذي يمثل الإلهام الذي ينبع من الحب. الشاعرة تُصوّر الحب كمصدر للإبداع الفني؛ حيث يصبح القلب مليئًا بالأغاني والقصائد التي تنزل من السماء. هذه الصورة تعكس كيف يُمكن للحب أن يكون محركًا إبداعيًا، يملأ الروح بكل ما هو جميل ويُعيد ترتيب العواطف والتجارب بشكل يُنتج إبداعات فنية تلامس الروح.

القبلة كرمزية روحية:

تُصور الشاعرة القبلة على أنها أكثر من مجرد لمسة جسدية، بل تجربة روحية تحمل في طياتها تحولًا عاطفيًا وذهنيًا. حيث تقول "قُبلتك المطولة حين ألتقينا هذا الفجر أخذتني بدوار عذب"، وهو تعبير قوي عن التأثير العاطفي الكبير لهذا اللقاء. القبلة هنا تمثل أيضًا لحظة من الاتحاد الروحي بين الشاعر والمحبوب، الذي يتم تصويره على أنه لحظة تجسيد حقيقي للحب الأبدي.

الاندماج الكوني والتماهي مع المحبوب:

النص يتحدث عن التماهي بين الشاعرة والمحبوب بشكل مكثف: "أنا المملوءة بك حد التماهي". هذه الجملة تُشير إلى وحدة وجودية بين المحبين، حيث يتناغم الوجود الروحي لكل منهما ليصبحوا كيانًا واحدًا. هذه الفكرة تعكس التوحد الروحي، وهو أحد المواضيع المركزية في الأدب الصوفي، حيث يكون الحب هو وسيلة للوصول إلى الكمال والنقاء.

التصوير الديني والفلسفي:

كما أن الشاعرة تذكر في جزء من القصيدة: "كنت تحدثني عن الله الذي لا يخلف وعده وكنت أحدثه عنك مطولا بحنو"، هذه الصورة تشير إلى أن العلاقة مع المحبوب تتعدى حدود الشخص الواحد لتصل إلى علاقة مع الذات الإلهية. وهذا يُعطي النص بعدًا دينيًا، حيث يتم الربط بين الحب الإلهي وحب المحبوب، ما يعزز من فكرة أن الحب ليس مجرد مشاعر بشرية، بل هو اتصال مع الكون بأسره ومع المبدأ الأسمى.

الخلاصة:

القصيدة، في مجملها، تعد إعلانًا عن حب روحي متجدد يعكس الترابط الكوني بين الشاعر والمحبوب. هي قصيدة تتجاوز الحدود العاطفية لتدخل في مجالات روحانية وفلسفية عميقة، حيث الحب ليس مجرد ارتباط بين شخصين، بل هو مظهر من مظاهر الاتحاد مع الكون ومع الذات الإلهية.

من خلال استخدام الرمزية الدينية والبلاغة الرفيعة، تقدم الشاعرة قصيدتها كوسيلة لتمجيد الحب الذي يتجاوز الفناء والزمان، ليبقى راسخًا في الوجود الأبدي.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

"ماقالت الريح لليل".. لغة مكثفة وصور حسية ورمزية طاغية في مشهد شعري متداخل

- داخلت بين الرموز التاريخية والروحية لتُظهر صورة نصية جميلة من روح الخطاب "القرآني"

- تناولت نصوصها بقالب وجداني تأملي كرست فيه تجربة إنسانية مليئة بالايحاء والرمزية

***

ليس عبثاً أن تَهبُ الرياح لتربك سكون الليل باحثةً عمن ينصت لنشيجها، لمن يستجلي ما فيها ويفهم مغزى ما جاءت به، وما حملت في طياتها، الاستفهام والتأكيد الذي جاءت به لهيب عبد الخالق في عنوان ديوانها تحاول أن تبين من خلاله الحوار الخفي الذي يدور بين الإنسان والطبيعة، وأن تنقل حالة عدم الاستقرار التي عليها الريح وما يكتمه الليل من أسرار لا تقبل البوح. "ما قالت الريح لليل" يفتح أفقاً من التأويل والدهشة، وما يلامس الروح من شغف لمعرفة خفايا ذلك المجهول في قولها لليل.

قصائد عديدة ضمها ديوان "ما قالت الريح لليل" اشتغلت عليها لهيب عبد الخالق بالتأمل وإلتقاط اللحظات الهاربة وما تتضمنه بعض الذكريات من غموض ومشاعر لا تتوافق مع ما يعيشه العالم اليوم من صخب وفوضى. أحتوى ديوانها الحنين الناعم، رافقته أسئلة لم يُحرر لها جواب، وفيه من الحب ما لا شبيه له فيما سمعنا من الروايات، هو كالريح فعلا تمر وتغير وتترك آثراً على مساراتها التي لا بوح فيها لما تقول لليل.

الاستفهام الذي تضمنه العنوان يأخذ القارئ نحو تشظيات الروح التي تلامس وجعها وجمالها، حاولت لهيب أن تعبر عما يجول في خاطر المتلقي من سؤال حول القوة التي تكمن في ذلك البوح الذي اسرت الريح به الليل فحولت بكلماتها ضبابية التصور إلى قوة الموقف التي تنم عن معرفة (ما قالت الريح لليل) رغم ما لف الجملة من إبهام، فهل من سامع لما قالت الريح، أم أن قولها ذهب مع عتمة الليل وإنبلاج الصباح، ذلك ما أخفته لهيب عنا وعن القراء كي نواصل معرفة ما جرى من خلال نصوصها أنقينا بعض من نصوص الديوان وخضنا في تفاصيلها.

العنوان جاء بصيغة الإيحاء الرمزي أرادت منه لهيب عبد الخالق الإشارة فيه إلى حديث أو بعض من أسرار لتضفي بعض من غموض أو لإثارة الفضول، أو أن تضع القارئ على عتبة التأمل في طابع الحوار الذي دار بين الريح والليل وما تهمس به النفس في خلجات ذلك الليل وسكونه، نشعر به لكننا لانعرف فحواه، نلمسه عبر حركة الريح، ونألفه من سكون الليل الذي يدفع صيغة الحوار التي طغت على النص إلى أن تضفي عليه بعداً فلسفياً في هذا التلاقي، فالليل ساكن، والريح حركة، فكيف جمعت لهيب الحركة بالسكون في تكوين جميل وصاغت منه عنوان ديوانها.

وفي الإهداء جاءت لهيب بأبيات مقتضبة صورت من خلالها الخطاب التاريخي بشكل متداخل مع الرموز المكانية والزمانية، بأعتبار أن ما جاءت به من ذكر للمكان يؤرخ لحقب زمنية عرفت باسماء تلك الأماكن، موحية من خلالها باستيفاء المعنى من الخطاب الديني الذي مثل قصص تلك الأمكنة التي وردت في القرآن الكريم، ومن نصوص صريحة جاء ذكرها نصا بالاسم في النص القرآني. (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) الفجر (7)، (1).

إرم..

أعمدةُ رخامٍ، أم دخان..

في الإشارة التي جاءت بها لهيب (إرم) المدينة التي عرفت باسم أولئك القوم، أرادت منها التحديد كدلالة نصية على المقصود (إرم) دون غيرها، لكنها في الخطاب الضمني موجهة وتحمل خطاباً توجيهياً فيه من الرجاء، الخوف، التخفيف، التوبة، الأمل بالنجاة، العودة من الموت، والهرب من بين أنياب الحرب التي تستعر وتخلف ما تخلف من دمار مثلته لهيب بالدخان.

استحضرت لهيب (إرم) الأسطورية لتصف من خلالها مشهداً للدمار بعد الكوارث (الحروب وغيرها)، كما وصفت التحول والتغيير الذي قد يطال الأشياء والمواقف، فها هي أعمدة الرخام التي تمثل جمال المنظر، تتحول إلى دخان يتطاير وربما يخنق الجميع، أي التحول من الجمال إلى الزوال.

لا تنظري للوراء،

لا تنظري إلى بحار الخطايا،

لتنسلّي مثلَ فجرٍ رصاصيّ من بحرِ القذائف،

وعلى أعمدةِ الدخانِ ارفعي رجاءكِ،

الخطاب الذي بدئته لهيب بالنداء (لاتنظري للوراء)، وكأن لهيب تصر على أن يكون نص الإهداء مدعم بالتأثير الروحي الذي تطغى عليه سطوة التأثير الروحي أو الحسي للدين، فالهالة التي ترسمها (القصص القرآني) تستحوذ على مساحة التفكير في محيطنا أو مجتمعاتنا الشرقية، وما أن تعمل على الربط بما يحمل خطاب التقديس فذلك مدعاة لتقبل الطرح والميل نحو مضمونه أكثر من أي خطاب أخر، توجه دقيق نجحت لهيب من خلاله لنشر مساحة التقبل لخطاب الإهداء أكثر مما لوكان ذلك الخطاب يقتصر ربما على صورة مغايرة لصورة الخطاب الروحي.

مزجت لهيب عبد الخالق بين الرمزية الدلالية وقوة الصورة الشعرية، فخطابها الذي بدء بالنداء كان قوي التأثير يحمل طابعاً تأملياً لكنه قاتم، عكست من خلاله تجربة حياتية قد توصف بالمريرة بعمق تأثيراتها التي خلفتها الحروب وما تحمله من آثار الدمار.

قد لا يسـتمعُ أحدٌ..

قد يخنقنا ​ الدخانُ..

لكنهُ الوحيدُ الخارجُ من لجُّةِ الحربِ سليماً، كما هو... دُخانْ.....

وعلى حصَاها المجمرِ، عليكِ قطعَ الأميالِ..

كرست لهيب في إهدائها حقيقة أوردتها ب(قد) وهي كما نعرف (حرف إمتناع لوجود)، (قد لا يسـتمعُ أحدٌ.. قد يخنقنا الدخانُ..)، وهي تحتمل العكس أيضا، فقد لايسمعنا أحد، وقد لانختق، لكن الثابت أن الدخان هو الناجي الوحيد من هول الحرب، والذي خرج منها كما هو...دخان.

تلك الأبيات لاتخلوا من نصيحة، أي أن لهيب تدعو من خلال أبياتها للمضي دون الاكتراث بما جرى من هول تلك الاحداث، والسعي لبدء صفحة جديدة من صفحات الحياة على الرغم مما كان، فالحياة لاتتوقف، وتلك دعوة للأمل بان القادم ربما يكون أفضل رغم السوداوية التي ضمنتها وصف حالة المعاناة والمستقبل المجهول.

أرادت لهيب أن توصل للقارئ حقيقة فعلية مفادها أن الحرب دمار مهما كانت نتائجها، وجسدت تلك الصورة عبر ما جاءت به من رموز وصور مثلتها ب (الدخان والحرب)، ثم الرحيل في دعواها لترك الماضي والابتعاد رغم الألم، إلا أنها كرست حقيقة ثابتة أيضا أن لا مدينة فاضلة نركن إليها، وأن لا أمل بالجنة الموعودة وسط ما نعيشه من لاجدوى ومعاناة، وأن الصفة الثابتة التي نعرفها ونلمسها بين أيدينا تتمثل في أن الدخان يرمز للحقيقة وسط مشاهد الدمار الذي نعيشه، صورة تعبر عن إنكسار نفسي تام لم تسعف الرموز التي تضمنها نص لهيب من أن تجعل تلك من الليل مكاناً آمناً نلجأ إليه لنستريح من تعب الأيام.

ففي بواكير ديوانها الذي بدأته ب"همسُ الظلال" تقول لهيب عبد الخالق:

ﹶوحين ﹸيغمرني

المساء بثلجه

ﹸأتدفأ بأغنيات

الحقول ﹸوأرسم على

اﹺلضباب ​ﹰزورقا

الواضح من هذا النص أن هناك طابعاً تأملياً يضفي بابعاده على القصيدة بشكل كامل، أرادت منه لهيب المزج بين الطبيعة والوجدان، أرادت أن تجسد لحظة دفء في النفوس بمواجهة البرودة التي توصف بها أجواء المساء، وهو تاويل وظفته لهيب للدلالة على الوحدة أو الحزن التي تدفع الشاعرة للتعويض عنهما باستحضار صور الماضي المألوفة.

ﹸوأرصف على ​

رف موقدي

ﹰزهرة ﹸخبأتها بين

ﹼدف ﹶتي كتاب..

على تضمين نصها بعنصر آخر يبعث على الدفء الروحي مثلته بالذكريات الجميلة (أغنيات الحقول)، وجاءت بالحلم على صيغة صورة من الخيال لتمثل لها مهرباً من الواقع الذي تشير إليه " أرسم على الضباب زورقاً"، وهذه دلالة أيضا أرادت منها لهيب أن تبقي على الأمل معقوداً على الحدث الذي أرادته مستمراً لتبقى تفاصيله محفوظة بعناية تشكل دفء داخلي، صورة وجدانية رمزية رائعة وجميلة رسمتها لهببعبد الخالق لتدفع بنصها إلى الإرتقاء بما ضمنته من أغراض وجدانية ودلالات مؤكدة "زهرة خبأتها بين دفتَي كتاب"، نص شكلت فيه الذكريات هاجساً لمقاومة برودة الحياة عبر استحضار الذكريات وصور الأيام الجميلة في الخيال.

ثم في "ماقالت الريح لليل" تلك البارزة الناهدة التي أطلقتها على الديوان كله اسماً وعنواناً عرفت لهيب ديوانها بتلك القصيدة، وأضفت من جمال صورها وتشكيلها وموسيقاها على الديوان كله، فحين تصادف ديوان لهيب عبد الخالق هذا يدفعك إلى تساؤل كبير، حتى قبل تصفحه أو قراءته يفيد... (ماذا قالت الريح لليل).

ما قالتِ الريحُ لليل....

(ميلودراما)

لا تمض

ﹸكن ﹶمثل ​السماء

كلوحة ​ﹶسوداء

أْجري كالسفين على

ﹶمداها، أنشر ​

الأنغام ﹶبين غمامها

وأ راقص الأشجار

أعصف في

صواريك التياعي ثم

أغمض ﹶشوق ﹶتلك الأرض

قالت عنها (مليودراما) وهذه توظف في النص الشعري للتعبير عن المبالغة فيما يتناوله الشاعر من مشاعر وبخاصة الحزن، ما يجعل النص مؤثراً جداً لما يحتويه من عاطفة طاغية، أي أن الشاعر يأتي بالانفعالات القوية والمشاهد المؤثرة لإثارة تعاطف القارئ، وقد تكون تلك الانفاعالات صادقة أو مفتعلة إلا أنها لابد وأن تكون مشحونة عاطفياً.

خطاب الذات أو خطاب الآخر واضح في هذا النص (لا تمضي) هناك مخاطب، وهناك طلب بعدم الرحيل، وفيه ايضا توصيف وتشبيه ذهبت منهما لهيب لترسم لوحة شعرية وليس صورة، فهي تقول (كن مثل السماء) أي تمثيل بحركة السماء وسعتهان وهذا تعبير عن الحياة واستمرارها، وفي الأرة تقول (أجري كالسفين على مداها) وهي دعوة للحرية والانفلات من قيود الحياة وتعقيداتها، وهذه فيها إيحاءات كثيرة، ما يعني أن لهيب قصدت أن تكتب بالايحاء لتزيد من غموض النص الذي وفرت للقارئ فيه مساحة من الأمل ينشر جميل أثره مثل الموسيقى التي يستمع إليها الإنسان في كلتا حالاته (المبهجة ونقيضها)، وهنا جاءت على توضيح ما أعترى المخاطب من هموم فقالت (أعصف في صواريك التياعي) وهذه صورة تعبر عن الاحساس بالهزيمة الننفسية التي تمزق الروح وتترك احساساً باللوعة.

أتركه على خد ​

الوسادة دمعة ﹼحرى

وأنفاسا ﹸتح ﹼل ﹸق

مثل ذاك ​الحزن

في ﹶع ﹶب ﹺق السواقي،

عاشقان أنا ﹶوأنت

ﹶنلف ﹰبعضا

مثلما ﹶتلتف ﹸ أغصان الغروب

على ﹶشواطئ ﹶأسر​

ﹾفتفي قهرها أو ﹶهﹶاجﹾرت مثل

الطيور إلى ﹶأقاصي ﹾالذاكرة

وبصورة حسية تمتزج بالعاطفة جسدت صورة لهيب صورة رومانسية يغلب عليها الطابع التأملي الذي جهدت فيه لتصوير الحزن والحب كشعور متداخل يعبر عن حالة وجدانية مركبة لتصوير لحظة تأمل شاعرية جسدتها دمعة على الوسادة تعقبها أنفاس مقطعة، وهي تعبير دقيق عن حزن عميق فينتاب النفس حتى يصل إلى هذا (النشيج) (الوسادة دمعة حرى، وأنفاساً تحلق)، تعبير قد يكون مثالي حقيقي حين وظفته لهيب في تلك الجزئية الدلالية، ونجحت فعلاً في ايصال مفهوم ما قصدت عبر ما أنتقته من مفردات(تصوير طبيعي للحدث) والصورة التي تعتمد على الطبيعة في التعبير عن المشاعر تضفي مزيداً من التفاعل والتأمل على شكل النص ومضمونه.

هذه التأملية التفاعلية التي صبغت بها لهيب عبد الخالق هذا الجزء من النص، اظهرت من خلاله حالة عاطفية راقية تلغي ال(أنا) وتنصهر الذات العاشقة وتندمج المشاعر فيها (مثلما تلتف أغصان الغروب)، ابرزت الخيال كعنصر حقيقي في النص قادر على شحن النص بالعاطفة المطلوبة، ومن جهة أخرى الإرتقاء بمستوى التفاعل مع القارئ عبر إنتقاء الكلمة ومرادفها بدقة وحذر، وهو أسلوب حرفي متقن أجادته لهيب وتمكنت من تحقيق ما أرادت من تشكيل انعكست أبعاده على النص.

ﹶنُّنسل من ​ﹺطين الخليقة

ﹶمثل جرح ﹴنافر

أو ﹶنهدﹺين ﹸتغشيان ​

ﹶبريق ذاك الوجد

ﹶتنطويان في عرق النخيل

ﹸترقر ﹶق​ان

الشوق ﹰأغنية ﹶكلفح ​

الهاجرة.

غلب على النص التأمل الوجودي نوتلك مساحة ربما يعدها البعض من النقاد أو يحسبها على الصيغ الفلسفية في الشعرنوهي قريبة أو في خضم ذاك التفسير، لكن الشعر الفلسفي الوجودي مضامين لاتنطبق على ما جاءت به لهيب في نصها، قد يحمل نصها لمحة من تلك التوصيفات، لكن لايطلق عليه نصاً فلسفياً أو وجودياً بمعنى (المدرسة الوجودية)*، تناول النص مسالة الوجود من باب النشأة من الطين، وهي حتمية فكل الوجود الإنساني من الطين أي أن الموضوع محسوم وبنصوص قرآنية لاجدال فيها، وهنا أنتفت صفة (النص الفلسفي الوجودي) عن نص لهيب عبد الخالق فهي قد نقلت ولن تنشأ الفرضية.

هي أرادت أن يكون المدخل بصورة الحدث الفلسفي، وكان لها وجميل ما أتت به فقد جردت الصورة الشعرية التي رسمتها من التزويق والبهرجة اللغوية والزيادات الفلسفية، ونقتها بما مزجتها معها من الحب والشوق والرغبة والألم والإثارة(نهدين تغشيان بريق الوجد)، (عرق النخيل" و"أغنية كلفح الهاجرة) وفيها تعبير عن المشاعر القاسية والملتهبة التي تترك تأثيراتها على المحبين، تلك المشاعر والتقلبات وأشكال العشق والرغبات تؤسس لمشهد الحدث في النص، لذلك ظهرت صورتها بكل جرأة تحمل من الإحساس ما يضفي الدهشة على المشهد الشعري بكامل تأثيره على النص.

ظلّ النرجس

ﹸيترنح ﹸسمت

ﹺالضوء ﹶوي​

ﹸكبش ما أبقى ​

ﹸأيلول على ﹸشر

ﹶفت نا،

أتذك ﹸر حين تمر ﹶبي

الأﹸشباح، ﹰسياجا يملؤه ​

ﹸالآس ﹸوأعراق

حملت لهيب النص نبرة من الحزن وكعهدنا بقصائد الديوان الأخرى، أو الطابع الغالب على ديوانها (ماقالت الريح لليل) يحمل طابع الحنين والتأمل، بزت الأحداث فيه اعتماداً على الذاكرة الحسية نوالأحداث التي داخلتها لهيب لتنشأ منها دراما الحدث، أو الحبكة الدرامية للنص، ومنها أرادت ان تجسد اللحظة الحسية الدافئة وتفاصيلها التي أراتدت لها أن تغلب على التفاصيل اليومية التي داخلتها مع المكان والزمان وحتى الحدث.

الشحن العاطفي واضح في ثنايا النص، استعادة الأحداث من الماضي، استذكار اللحظات، (الشاي، النعناع، شمس العصر) كل تلك الرموز مشحونة بالعاطفة لما فيها من دلالية حسية تترجم ما حدث حينها لتنسج منها مشهداً يضج بالحنين يعود بالقارئ للجذور وما ينتمي إليه لكن بشوق يطغى حتى اللحظة ويعبر مداها.

"الشحن العاطفي المتصارع بين الروح والجسد سبب أصيل في تجاذب وتدافع وتنافر قواميس اللغة ودلالاتها وتشعّبها في هذا الديوان، حيث تشكل القصيدة مرآة شاعرها"(2).

الجوري ﹸوزاوية ​ﹺالنعناع ​

ﹺالأخضر ﹸحيث ﹸأﹸهيء ﹶشاي

أبي، ﹸوالشمس تجر

ذيول العصر هناك ​ﹶكبوت

ﹶكم هر في ﹸحضن ​

ﹺالطين،

باسلوب تاملي هادئ كما العادة في ديوانها أستطاعت لهيب عبد الخالق أن تسوق الاحباط ليكون مقبولاً في مضامين نصوصها، وبلغة شعرية راقية ورقيقة ومشاهد بصرية جميلة لترسم لنا مشهداً من الحنين للماضي، الصور التي جاءت بها لهيب حسية حركية متقنة في ابعادها وألوانها، صور مفعمة بذاكرة طبيعية شكلت ربما جزء من ذاكرة النص، أو الذات الشاعرة، استطاعت من خلالها لهيب أن تشكل بعداً أخر أمتاز باحتواءه للزمن، وأن يكون مؤثر نفسياً حتى في تناقضات الصورة التي جاءت بها لهيب وتمثلت بالدفء والغياب.

نص حالم يضج بالحنين لصورة الأب ومشهد الشاي عند شمس العصر، رسمته لهيب بصورة جمالية غاية بالروعة عكست كل تلك المشاعر ونجحت بتوظيف الصورة الشعرية المدعمة بتأثير الزمان وجمالية المكان وبدلالة المشاعر باسلوب تأملي يمزج بين الحزن والجمال.

"ما قالت الريح لليل" حمل صوراً حسية جريئة كرست من خلالها الشاعرة الإثارة والرغبة، وربطت بين المشاعر بإختلاف سماتها واشكالها، نقلت طبيعة الفقد القاسية، كما سجلت ما مشاعر الحنين للماضي بتداخل رائع بين الزمان والمكان، والتي عبرت عنهما بدلالة حسية ورمزية معبرة ودقيقة، ونجحت بإثارة القارئ واستمالته نحو أبعاد قد لايقرأها عند شعراء آخرين بلغة مكثفة مالت فيها إلى الرمزية التي تتوافق والايقاع الموسيقي التشكيلي الذي يرافق الأداء الشعري.

نص متفاوت التصور ما بين سمتي الخلق والرغبة، غني بالدلالات الوجودية، قدم حقائق قائمة حول خلق الإنسان من طين واصفاً إياه بأنه كائن يوصف بالوجد واللهفة، وعكس تجربة عاطفية عميقة، بلغة تصويرية شاعرية، تستحضر مشاعر الحب والحزن معًا في مشهد تأملي داخلي، يحمل دعوة للتعبير والانطلاق رغم الألم، والثبات رغم التقلّبات، والانغماس في الحياة كفعلٍ شعري جميل، إلأ انه يحمل طابعًا رمزيًا وتأمليًا، ويدعو إلى الثبات والتحرر في آنٍ واحد.

***

سعد الدغمان – أديب وناقد عراقي

...........................

* لهيب عبد الخالق شاعرة من جيل الثمانينات وكاتبة ومؤسسة وعضوة هيئة إدارية لمنتدى الأدباء الشباب، عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، عضو نقابة الصحفيين العراقيين بدرجة سكرتير تحرير، تكتب بالنقد والبحوث الأدبية ومترجمة للشعر الإنكليزي صدر لها:

− انكسارات لطفولة غصن − مجموعة شعرية، منشورات آمال الزهاوي شركة عشتار للطباعة والنشر والتوزيع بغداد عام 1987.

− وطن وخبز وجسد، مجموعة شعرية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1999.

− بين انهيارين− الاستراتيجية الأمريكية الجديدة (كتاب سياسي)، صدر عن الدار الأهلية – الأردن عام 2004.

− ترانيم سومرية، مجموعة شعرية، صدرت عن الدار الأهلية

−الأردن عام 2014.

− سوسيولوجيا الدم – مجموعة مقالات ودراسات صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر− بيروت عام 2015.

− مسافة جرح، مجموعة شعرية، صدرت عن الدار الأهلية− الأردن عام 2019.

* كاتبة سياسية ولها دراسات سياسية وإعلامية باحثة في مجال الإعلام، لها نحو 300 بحثا في ﹼكل مجالات الإعلام والسياسة والثقافة، نشرت في صحف عربية وعدة مراكز دراسات.

هوامش

1- قرآن كريم، سورة الفجر، الآية (7).

2- الدكتور ناصر حسين النزر، الشعر بين الرويَّة والبديهة و الروح والجسد، قراءة في ديوان (قبل التيه برقصة) للشاعر والناقد هاني الحسن، موقع المطيرفي، 2023/05/29.

* المدرسة الوجودية هي اتجاه فلسفي وفكري ثم تحول إلى تيار أدبي وفني، يركّز على الوجود الإنساني الفردي، والحرية، والاختيار، والقلق، والعبثية، ويُعلي من قيمة التجربة الشخصية على أي نظام خارجي أو عقلاني.

في المثقف اليوم