ترجمات أدبية

القَنْدَلَفْت

تامي الشيخ عليويليام سومَرْسِتْ موم

ترجمة: تامي الشيخ علي


كان ثمة تعميدٌ في ذلك الأصيل في كنيسة القديس بطرس في ساحة نيفيل، وكان ألبرت إدوارد فورمان لا يزال يلبس رداء القندلفت الخاص به. كان قد احتفظ بردائه الجديد، وطيّاته كاملة ومتيبّسة وكأنه لم يكن مصنوعاً من صوف حيوان "الألْبَكَة" (2) بل من البرونز الخالد، لارتدائه في الجنازات والأعراس (كانت كنيسة القديس بطرس تحظى باستحسانِ ودعمِ مَنْ يحرصون على اتباع الزيّ الحديث في هذه المناسبات)، فيما كان يرتدي الآن أفضل ثاني رداءٍ لديه فحسب. كان يرتديه وهو راضٍ إذ إنه كان رمزَ وظيفته الجليلَ، ومن دونه (حين كان ينضوه عنه للذهاب إلى البيت) كان يساورهُ شعورٌ محبط بأنه، إلى حدٍّ ما، لم يكن حسن الهندام بما فيه الكفاية. كان يبذل جهداً عظيماً للاعتناء به، إذ كان يضغطه ويكويه بنفسه. وخلال الستة عشر عاماً التي أمضاها قنْدَلَفْتاً في هذه الكنيسة تلقّى سلسلةً متواليةً من هذه الأردية، بَيْدَ أنه لم يكن في وسعه قَطّ التخلّصُ منها عندما امتدّتْ إليها يدُ البِلى، والسلسلة بِرِمَّتِها تقبعُ، مُغَلَّفَةً بورقٍ بنِّيٍّ على نحوٍ أنيقٍ ومُرَتَّبٍ ، في أدراجِ خزانة ثيابه السُّفْلِيَّةِ في حُجْرَةِ نومِه.

شَغَلَ القنْدَلَفْتُ نفسَهُ بهدوء، مُعيداً وضعَ الغطاء الخشبي المطليِّ على جُرْن المعموديّةِ الرخاميِّ، ومُرْجِعاً كرسيّاً كان قد جيء به من أجل سيدةٍ مُسِنَّةٍ أصابَ الوهنُ بَدَنَها، وانتظر أن يفرغ القِسِّيسُ مما كان يفعله في غرفة ملابس القساوسة والاجتماعات الكَنَسِيَّةِ لكي يتسنّى له ترتيبها والذهاب إلى البيت. أبصره في الوقت الراهن يمشي عَبْرَ المذبح وينحني تعبُّداً واحتراماً أمام الهيكل العالي، وينزل إلى الممشى، بَيْدَ أنه كان لا يزال يرتدي غفّارَتَه (3). قال القَنْدَلَفْتُ في دخيلة نفسه:

" لِمَ يتسكَّعُ؟ ألا يعلم أنني أرغب في تناول شايي؟".

لم يكن القِسِّيسُ قد عُيِّنَ إلا حديثاً، وكان رجلاً نشيطاً أحمرَ الوجهِ في بداية أربعيناتِه، ولا يزالُ ألبرت إدوارد يتأسَّفُ على سَلَفِهِ، الذي كان رَجُلَ دينٍ من المدرسة القديمة يلقي مواعظه بتؤدةٍ وبصوت ٍ فضّيٍّ، ولَشَدَّ ما كان يتناول العشاء في الخارج مع أكثر رعايا كنيسته أرستقراطيّةً. كان يحبّ أن تكون الأمورُ في الكنيسة على ذلك النحو فحسب، بيد أنه لم يكنْ قَطّ يهتمّ أكثر مما ينبغي بالتفاصيل الصغيرة، ولم يكن على شاكلةِ هذا الرجل الجديد الذي كان يودُّ أن يكونَ له ضِلْعٌ في كلِّ مسألة. بَيْدَ أن ألبرت إدوارد كان متسامحاً. كانت كنيسة القدّيس بطرس في جوارٍ حسنٍ للغاية، وكان رعاياها ينتمون إلى طبقة حسنة للغاية.

كان القِسِّيسُ الجديدُ قد أتى من الطَّرَف الشرقي، ولم يكن من المتوقع أن يتأقلم بين ليلة وضحاها مع الطرق المتحفظة التي ينتهجُها رعايا كنيسته الحريصون على اتّباع الحداثة. قال ألبرت إدوارد في دخيلة نفسه: "فيمَ كلّ هذه الجلَبَة! ولكنْ، أتِحْ له الوقت وسوف يتعلّم".

وحين كان القِسِّيسُ قد خطا في ممشى الكنيسة مسافةً تتيح له أن يخاطب القندَلَفْتَ دون أن يرفع صوته أعلى مما يليق في مكان للعبادة، توقف وقال:

- فورمان: هلاّ تفضَّلْتَ بالمجيء إلى غرفة الاجتماعات لمدة دقيقة. لديَّ ما أقوله لك.

- حسن ٌ جدّاً يا سيّدي.

انتظر القِسِّيسُ صعودَهُ إليه وسارا معاً صُعُداً إلى الكنيسة. قال ألبرت إدوارد:

- كان تعميداً حسناً للغاية على ما أعتقد يا سيّدي. وكان أمراً غريباً كيف توقَّفَ الرضيعُ عن البكاء لحظةَ حَمْلِكَ إيّاه.

قال القِسِّيسُ وقد رانت على شفتيه ابتسامة صغيرة:

- لقد لاحظتُ أنهم غالباً  ما يفعلون ذلك. ومع ذلك، إنني أتحلّى بمقدار جيّدٍ من الخبرة معهم.

كان مصدرَ زهوٍ  مكبوتٍ بالنسبة إليه أن يكون في مقدوره دائماً، على وجه التقريب، أن يهدِّىءَ من رَوْعِ رضيعٍ في حالة نشيج، بالطريقة التي كان يحمله فيها، ولم يكن غافلاً عن الإعجاب المشوب بالتسلية الذي كانت الأمهاتُ والممرّضاتُ يراقِبْنَهُ به وهو يثبِّتُ الرضيعَ في ثَنْيَةِ ذراعه المتَّشِحَةِ بردائه الكهنوتيِّ الأبيض.

وعرف القَنْدَلَفْتُ أن من دواعي سرور القِسِّيسِ إطراءَهُ على موهبته.

تقدَّمَ القِسِّيسُ أمام ألبرت إدوارد إلى غرفة الاجتماعات. ودُهِشَ ألبرت على نحوٍ طفيفٍ حين أبصر وكيلَي الكنيسة هناك، إذ لم يكن قد شاهدهما يدخلانها. أومأ الاثنان له مُرَحِّبَيْنِ بدماثة. وقال لهما واحداً إثر الآخر:

- مساء الخير يا مولاي. مساء الخير يا سيدي.

كان الاثنان كَهْلَيْن، وكانا يعملان وكيلَي كنيسة مُذْ كان ألبرت إدوارد قَنْدَلَفْتاً على وجه التقريب.

كانا يجلسان الآن إلى مُتَطاوِلَةٍ (4) ضخمة كان القِسِّيسُ القديمُ قد أحضرها من إيطاليا قبل سنوات طويلة، وجلس القِسِّيسُ في الكرسي الشاغر الكائن بينهما. واجههم ألبرت إدوارد، والطاولة بينه وبينهم، وتساءل في قرارة نفسه في توجُّسٍ طفيف عن الأمر. كان لا يزال يتذكّر المناسبةَ التي وقع فيها عازفُ الأرغن في مشكلة، والاهتياجَ الذي انتابهم جميعاً لطمس الأمور والحؤول دون انتشارها. ففي كنيسة ككنيسة القديس بطرس، في ساحة نيفيل، كان تحَمُّلُ وِزْر فضيحةٍ فوق طاقتهم.

ارتسمت على وجه القِسِّيسِ الأحمرِ سيماءُ مَنْ وَطَّنَ النَّفْسَ على دماثة الخُلُقِ، بَيْدَ أن التعبيرَ الذي رانَ على الآخَرَيْن كان مُتَّشِحاً باضطرابٍ طفيف. قال القَنْدَلَفْتُ في قرارة نفسه:" لقد كان يتمادى في اللَّجِّ عليهما. وكان يلجُّ في الاحتيال عليهما لدفعهما إلى القيام بما لم يكونا يرغبان فيه. هذا كلُّ ما في الأمر، وتذكَّرْ ما أقول".

بيْدَ أن أفكار ألبرت إدوارد لم تظهر على قسمات وجهه حسنَةِ الشكل والمُمَيَّزَة. وقف في احترامٍ وليس في خُنوع. كان قد مارس الخدمةَ قبل أن يتمَّ تعيينُهُ في وظيفته الكنَسِيَّةِ، غير أن ذلك كان في منازلَ راقيةٍ، وكان سلوكُهُ فوق مستوى الشُّبُهات. بدأ حياتَهُ المهنيَّةَ أجيراً في أسرة أميرٍ  يعملُ في التجارة، وارتقى بدرجات وافية من منصب خادمٍ من الدرجة الرابعة إلى خادمٍ من الدرجة الأولى. ولمدّةِ عامٍ كان خادماً منفرداً لدى أرملةٍ تحمل لقبَ النبالةِ، وإلى أن سنحتِ الوظيفةُ الشاغرةُ في كنيسة القديس بطرس، كان كبيرَالخدَمِ ويعملُ خادمان تحت إمْرَتِهِ في منزل سفيرٍ متقاعد. كان طويلَ القامةِ، نحيلَ الجسمِ، وقوراً وجليلاً. وكان يبدو، إن لم نَقُلْ دوقاً، فعلى الأقلّ مُمَثِّلاً من المدرسة القديمة تخصَّصَ في تأدية أدوار الأدواق. وكان يتحلّى باللباقةِ والثَّباتِ والثقةِ بالنفس. وكانت شخصيّته في منأى عن الشَّكِّ والاتهام. بدأ القِسِّيسُ حديثه على جناح السرعة:

- فورمان: لدينا ما نقوله لك وهو أمرٌ منغّصٌ إلى حدّ ما. لقد أمْضَيْتَ سنواتٍ طوالاً في هذا المكان، وأعتقد أن سيادتَهُ والجنرالَ يوافقانني الرأيَ على أنك أدّيْتَ واجبات منصبكَ على أكمل وجهٍ وبما يروقُ لكلِّ شخصٍ معنيّ.

وأومأ وكيلا الكنيسة برأسيهما مُوافِقَيْن.

- ولكنْ، تناهى إلى عِلْمي منذ بضعة أيام أغربُ ظرفٍ استثنائيٍّ، وأحسَسْتُ أن واجبي يُملي عليِّ أن أنقلَهُ إلى وكيلَي الكنيسة. اكتشَفْتُ مشدوهاً أنك لا تعرف القراءة ولا الكتابة.

ولم تَبْدُ على وجه القندَلَفْتِ أيَّةُ سِمَةٍ تنمُّ عن الارتباك. وأجاب:

- القِسِّيسُ الأخيرُ كان على عِلْمٍ بذلك يا سيّدي. وقال إن ذلك لم يشكِّلْ أيَّ اختلاف. وكان دائماً يقولُ إن هنالك قدراً كبيراً للغاية من الثقافة في العالَم أمام ذائقتِه.

فصاح الجنرالُ قائلاً:

- هذا أغربُ ما سمعتُ في حياتي. هل تقصدُ القولَ إنك كنتَ قَنْدَلَفْتاً في هذه الكنيسة لمدة

ستة عشرَ عاماً ولم تتعلّمْ قَطّ القراءة أو الكتابة؟

- لقد انخرطتُ في الخدمةِ عندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري يا سيدي. في الوهلة الأولى حاول الطاهي تعليمي مرّةً، بَيْدَ أنني لم أكن أمتلك المقدرة على ذلك  فيما يبدو. ثم، جزئيّاً لهذا السبب أو ذاك، لم يَبْدُ قَطّ أن الوقت سنح لي من أجل ذلك. وفي الواقع لم أجدْ قَطّ حاجة لذلك. وأعتقد أن الكثيرين من الشباب يضيّعون قدراً نادراً من الوقت في القراءة، بينما في مقدورهم أن يقوموا بما هو مُجْدٍ.

قال وكيلُ الكنيسة الآخرُ:

- ولكن، ألا تريد أن تعرفَ الأنباء؟ ألا تودّ أبداً أن تكتب رسالة؟

- كلاّ يا مولاي. يبدو أنني أُفْلِحُ في إدارة أموري دونما حاجةٍ إلى ذلك. وفي السنوات الأخيرة طفقوا يملؤون الصُّحُفَ بكل هذه الصور، بحيث في مقدوري أن أعرفَ ما يحدث تماماً. تماماً. وزوجتي متعلّمة تماماً، ولو أردْتُ كتابةَ رسالةٍ فسوف تكتُبُها نيابةً عنّي. وليس الأمرُ كما لو كنتُ مُراهِناً.

رمق وكيلا الكنيسة القِسِّيسَ بنظرة ِ ضيقٍ، ثم خفضا بصريهما إلى الطاولة.

- حسناً يا فورمان. لقد ناقشتُ الأمرَ مع هذين السيّدَيْن، وهما يوافقانني الرأيَ تماماً على أن الوضعَ لا يُطاق. في كنيسة مثل كنيسة القديس بطرس، في ساحة نيفيل، ليس في مقدورنا قبولُ قَنْدَلَفْتٍ لا يعرف القراءةَ ولا الكتابة.

احمرَّ وجهُ ألبرت إدوارد النحيل والشاحب وتحرّكَ على نحوٍ متقلقلٍ، بَيْدَ أنه لم يَحِرْ جواباً.

- افهمني يا فورمان. ليست لديَّ شكوى أسجِّلُها ضدّك. فأنت تؤدي عملك على نحوٍ مُرْضٍ تماماً، ولديَّ أسمى رأي عن شخصيّتك وقدرتك، غير أنه لا يحقُّ لنا أن نجازف بحصول حادثة قد تنجمُ عن جهلكَ المؤسف. إنه أمر احترازيٌّ بالإضافة إلى كَوْنِهِ أمراً مبدئيّاً.

وسأله الجنرال:

- ولكن، أليس في وسعكَ أن تتعلم يا فورمان؟

- كلا يا سيدي. أخشى أنه لم يعد في وسعي القيام بذلك. ليس الآن. فكما ترى، لم أعُدْ أتحلّى بالشباب كما كنتُ، وإذا لم يكن في وسعي أن  أحفظ هذه الحروف عن ظَهْرِ قلبٍ في رأسي حين كنتُ طفلاً، فلا أعتقد أن هنالك فرصة طيبة للقيام بذلك الآن.

قال القِسِّيسُ:

- لا نريد أن نكون قُساةَ القلوبِ معك يا فورمان. بَيْدَ أنَّ وكيلي الكنيسة وأنا قد اتخذنا قرارَنا فعلاً. سوف نمنحكَ ثلاثة أشهر، وإذا لم يكن في مقدوركَ القراءة والكتابة في نهاية ذلك الوقت، فأخشى أنه سيكون لِزاماً عليك أن تمضي إلى حالِ سبيلِك.

لم يُحبّ ألبرت إدوارد القِسِّيسَ الجديدَ قَطّ. وكان قد قال منذ البداية إنهم ارتكبوا خطأ عندما أعطوه كنيسة القديس بطرس. لم يكن من ذلك الصنف الذي كانوا يرغبون فيه مع وجود رعايا كنيسة رفيعي الطراز كهؤلاء. والآن، عدَّلَ نفسَه قليلاً.

كان يعرف قَدْرَهُ حقَّ المعرفة، ولم يكن في مجال السماح لنفسه بالخضوع للاستغلال. قال:

- أنا في غاية الأسف يا سيّدي. أخشى أنه لا جدوى من ذلك. إنني أشْبَهُ ما أكونُ بكلبٍ هَرِمَ إلى حدٍّ لم يعُدْ في وسعِهِ معَهُ تعلُّمُ حِيَلٍ جديدة. لقد عشتُ سنواتٍ طويلةً دون معرفة القراءة والكتابة. ودون نِيَّةٍ منّي في مَدْحِ نفسي، إذ مَدْحُ الذات ليس فضيلةً، لا أجدُ بأساً في القول إنني أدّيتُ واجبي في ذلك المنصب في الحياة، الذي سرَّ عنايةً إلهيَّةً رحيمةً أن تضعني فيه، ولو كان في مقدوري أن أتعلّم الآن فإنني لا أعرف ما إذا كنتُ أودّ ذلك.

- في تلك الحالة يا فورمان أخشى أنه يتحتّمُ عليك المضيُّ إلى حال سبيلك.

- أجل يا سيّدي. أفهمُ ذلك حقَّ الفهم. وسيكون من دواعي سروري أن أقدِّمَ لكم استقالتي حالَ عثوركم على شخصٍ يحلُّ مَحَلّي.

ولكنْ، عندما أغلق ألبرت إدوارد، وبتهذيبه المعهودِ، البابَ خلف القِسِّيسِ ووكيلي الكنيسة، لم يكن في مقدوره أن يتحمّلَ سيماء الكرامةِ الهادئة ِ التي تلقّى بها الضربَةَ التي سُدِّدَتْ إليه، وارتعشتْ شفتاهُ كثيراً.

مشى عائداً ببطء إلى غرفة الاجتماعات وتغيير الملابس وعلَّقَ رداءهُ على مِشْجَبِهِ المناسب. وتنهَّدَ إذ فكَّرَ بجميع الجنازات المهيبة والأعراس الضخمة التي شَهِدَها هذا الرداء. قام بترتيب كلِّ شيء، وارتدى معطفه، وسار نازلاً الممشى وقبّعتُهُ في يده. أقفل باب الكنيسة خَلْفَهُ وسار الهُوَيْنى عابراً الساحة، بيْدَ أنه ولفرط  انغماسه في أفكاره الحزينة لم يسلكِ الشارعَ الذي يفضي به إلى بيته، حيث كان في انتظاره فنجانُ شايٍ قويٍّ ولذيذٍ، بل اتخذ المنعطف الخطأ.

وسار الهُوَيْنى إلى الأمام. كان قلبُهُ مُثقلاً بالحزن. ولم يكن يعرف ما ينبغي عليه أن يفعله مع نفسه. لم ترُقْ له فكرةُ العودة إلى الخدمة المنزلية، بعد أن كان سيّدَ نفسه لسنوات كثيرة، إذ كان، وفي وسع القِسِّيسِ ووكيلي الكنيسة أن يقولوا ما حلا لهم، هو الذي يدير كنيسة القديس بطرس في ساحة نيفيل، ولم يكن يقوى ولو بِشَقِّ النَّفْسِ على الحطِّ من قَدْرِ نَفْسِهِ بقبول وضْعٍ ما. كان قد ادَّخَرَ مبلغاً ضخماً من المال بَيْدَ أنه لم يكن كافياً لَيُقيمَ أوْدَهُ بمفرده دون القيام بعمل آخر، وكانت تكاليف الحياة تتطلّبُ المزيدَ كلَّ سنة. لم يخطُرْ لهُ يوماً قَطّ أنه سيعاني من قضايا كهذه.

فَقَنادِلُ (5) كنيسة القديس بطرس، شأنهم في ذلك شأن بابوات روما، كانوا هناك مدى الحياة. وغالباً ما كان يسرح به الخيال مفكِّراً بالإشارة المُبْهِجَةِ، التي سيذكرها القِسِّيسُ في موعظته في صلاة المساء في أوّلِ أحدٍ بعد وفاته، مشيداً بخدمةِ قنْدَلَفْتِهِم الراحل ألبرت إدوارد فورمان الطويلة والمخلصة وشخصِيَّتِهِ التي يُقْتدَى بها. وتنهَّدَ من أعماق قلبه.

كان ألبرت إدوارد غَيْرَ مُدَخِّنٍ، ولا يُعاقرُ الخمْرَ بتاتاً، ولكن ضِمْنَ مدىً مُعَيَّنٍ حيث يمكن القول إنه كان يطيبُ له ارتشافُ كأس من البيرة مع عشائه، وحين ينال منه الإعياءُ كان يحلو له الاستمتاع بلفافة تبغ.

وخَطَرَ له الآنَ أن لفافةَ تبغ ستُسَرّي عنه، وبما أنه لم يكن يحملها جال ببصره حوله بحثاً عن متجرٍ يستطيع أن يشتري منه علبة لفائف تبغ ماركة "غولد فليك". ولم يتمكن للوهلة الأولى من رؤية واحدٍ على الفور فسار قليلاً. كان شارعاً طويلاً وفيه كلُّ أصناف المتاجر، ولكنْ لم يكن هنالك متجرٌ واحدٌ منها تستطيع أن تشتري لفائف تبغ منه. قال ألبرت إدوارد: "إنه لأمرٌ غريب". ولكي يتأكّدَ من ذلك، سار صاعداً الشارع مرة أخرى.

كلا. لم يكن ثمة ريبٌ في هذا الصدد. فتوقف وراح ينظر بإمعانٍ نحو الأعلى ونحو الأسفل. قال: " لا يمكن أن أكون الرجلَ الوحيدَ الذي يسير على طول هذا الشارع ويودّ تدخين لفافة تبغ. لا ينبغي أن أتعجّب ماذا يمكن لرجل أن يُحسنَ صُنْعاً بمتجر صغيرٍ هنا. تبغ وحلويات، كما تعلم." وأردف قائلاً على نحو مفاجىء: "تلك فكرة. غريبٌ كيف تأتيك الأمور وأنت أبعد ما تكون عن التفكير فيها". واستدار وقفل عائداً إلى البيت وتناولَ شايَه.

قالت زوجته مُلاحِظَةً:

- أنتَ  صامتٌ للغاية هذا الأصيل يا ألبرت.

فقال:

- إنني أفكّر.

قلَّبَ التفكيرَ في الأمر من جميع وجهات النظر، وفي اليوم التالي سار على طول الشارع وأسعفه الحظُّ في العثور على متجر صغير معروضٍ للإيجار وبدا وكأنه سيناسبه تماماً. وبعد أربع وعشرين ساعةً من ذلك كان قد أخذه، وبعد شهر من ذلك، حين ترك كنيسة القديس بطرس في ساحة نيفيل إلى الأبد، بدأ ألبرت إدوارد فورمان عمله كصاحب متجر لبيع التبغ والصحف والمجلات.

قالت زوجته إنه ترَدٍّ شنيعٌ بعد أن كان قَنْدَلَفْتاً في كنيسة القديس بطرس، بَيْدَ أنه أجاب بأنّ عليكِ التحرُّكَ وفقاً للأحوال السائدةِ في الوقت الحاضر، وبأن الكنيسة لم تعُدْ كما كانت، ومن الآن فصاعداً سوف يعطي ما لقيصر لقيصر. وأبلى ألبرت بلاءً حسناً. وبلغَ من نجاحِهِ أنه في غضون سنةٍ أو ما يُقاربُ ذلك عَنَّ لهُ أنَّ في وسعه أنْ يأخذ متجراً ثانياً ويوظف مديراً فيه. وراح يبحث عن شارع طويل لا يوجد فيه بائعُ تبغ وعندما عثر عليه وعلى متجر للإيجار أخذه وقام بتجهيزه.

وكان النجاحُ حليفَه أيضاً. ثم خطرَ له أنه إن كان في وسعه أن يديرَ متْجَرَيْنِ ففي مقدوره أن يُديرَ نِصْفَ دزّينةٍ من المتاجر، وهكذا طفق يجوبُ لندن وكلّما عثر على شارع طويلٍ لا أثر فيه لبائع تبغ وعلى متجرٍ معروضٍ للإيجار فيه أخذه. وفي غضون عشر سنوات، اكتسب ما لا يقلّ عن عشرة متاجر وكان يجني منها مالاً وفيراً. وكان يطوف عليها جميعاً بنفسه كلّ يوم إثنين فيجمع الإيرادات ويأخذها إلى المصرف.

وذات صباحٍ، وفيما كان هنالك لإيداع حزمةٍ من الأوراق النقدية وحقيبةٍ مثقلةٍ من العملة الفضّيّةِ، أخبره أمين الصندوق أن المدير يودّ أن يقابله. وأُدْخِلَ إلى مكتبٍ وصافحه المدير قائلاً:

- أردتُ أن أتحدّثَ معكَ يا سيّد فورمان حول الأموال التي تحتفظ بها وديعةً لدينا. هل تعرف مقدارها بالضبط؟

- ليس بدقّةٍ  متناهية يا سيدي، بَيْدَ أن لديَّ فكرة تقريبية حسنة.

- بمعزلٍ عمّا دفعْتَهُ هذا الصباح فإن المبلغ يربو على ثلاثين ألف جنيه. وذلك مبلغٌ ضخمٌ للغاية للإيداع، وأعتقد أنه يَحْسُنُ بكَ أن تستثمره.

- لا أريد أن أقوم بأية مجازفةٍ يا سيدي. وأنا أعرف أنه في مأمن في المصرف.

- لستَ في حاجةٍ لأن ينتابَكَ أدنى إحساسٍ بالقلق. سوف نُعِدُّ لكَ لائحةً بالسندات المالية الممتازة مئة في المئة. وسوف تُغِلُّ عليكَ فائدةً بنسبةٍ أفضل بكثير ممّا نقوى على منحكَ إياه ربما.

استقرَّتْ نظرةٌ قلِقَةٌ على مُحيّا السيد فورمان المتميّز. وقال:

- لم يسبق لي قطّ أن تعاملْتُ مع أي شيء يتعلّق بالأسهم والأوراق المالية، وعليَّ أن أترك الأمرَ برمَّتِهِ بين أيديكم.

فابتسم المديرُ قائلاً:

- سوف نقوم بكلِّ شيء، وكلُّ ما يتحتَّمُ عليكَ القيام به في المرّة القادمة التي تأتي فيها هو التوقيع بإمضائكَ على التحويلات.

قال ألبرت على نحو غير واثق:

- في مقدوري القيام بذلك على ما يُرام. ولكن، كيف لي أن أعرف على ماذا أُوقِّع؟

قال المدير بحدّةٍ طفيفة:

- أعتقد أنّ في وسعك أن تقرأ.

مَنَحَهُ السيد فورمان ابتسامة تزيل الارتياب. وقال:

- حسناً يا سيّدي. هذا هو الواقع بالضبط. أعرف أن الأمر قد يبدو غريباً، ولكنْ هذا هو الحال، ليس في وسعي القراءة أو الكتابة باستثناء اسمي وقد تعلّمْتُ القيام بذلك فقط حين دخلْتُ ميدانَ العمل.

وبلغتْ  دهشةُ المدير حدّاً جعله يقفز عن كرسيِّهِ قائلاً:

- هذا أغربُ شيءٍ سمعتُهُ في حياتي قَطّ.

- كما ترى يا سيّدي، الأمرُ شبيه بذلك. لم تسنح لي الفرصة إلى أن أصبح الوقتُ

متأخّراً، وحينئذٍ وبطريقةٍ أو أخرى لم أرغب في القيام بذلك. واستبدَّ بي العناد.

حدّقَ المديرُ إليه وكأنه وحشٌ من وحوش ما قبل التاريخ، وقال:

- وهل تقصدُ أن تقولَ إنك أنشأتَ هذا العملَ الهامَّ، وكدَّسْتَ ثروةً  بلغتْ ثلاثين ألفَ جنيهٍ،

دون أن تكون قادراً على القراءة أو الكتابة؟ يا إلهي، أيها الرجل، ماذا كنتَ ستصبحُ الآن

لو كنتَ قادراً على ذلك؟

قال السيد فورمان وقد ارتسمتْ ابتسامة صغيرة على قسمات وجهه الأرستقراطية الهادئة:

- أستطيع أن أخبركَ بذلك يا سيدي. كنتُ سأصبحُ قنْدَلَفْتاً في كنيسة القديس بطرس في ساحة

نيفيل.

***

 

......................

(1). القَنْدَلَفْت: خادم الكنيسة والكلمة يونانية الأصل. (المنجد في اللغة والأعلام).

(2). الأَلْبَكَة: حيوان ثدييٌّ جنوب أمريكي شبيهٌ بالخروف، طويلُ الصّوفِ ناعِمُهُ. (المورد).

(3). الغفّارة: رداء القِسِّيسِ في الكنيسة (المورد).

(4).المُتَطاوِلَة: مائدة طويلة ضيّقة ثقيلة القوائم (المورد).

(5). قنادل: جمع قَنْدَلَفْت. (المترجمة).

.............................

ويليام سومرست موم، (1874- 1965)، كاتب مسرحي وقاصّ وروائي وشاعر، ولد في باريس لأبوَيْن إنكليزيين، وكان والده مستشاراً قضائيّاً في السفارة البريطانية فيها. في عام 1882، توفيت أمه بداء السلّ. وبعدها بعامَيْنِ توفي أبوه جرّاء إصابته بالسرطان.

بعد ذلك تحتّم إرسالُ ويليام إلى المملكة المتحدة ليكون تحت رعاية عمّه، ويدعى هنري ماكدونالد موم، الذي كان قِسِّيساً في كنيسة بلدة ويتستابيل، التي تقع على ساحل مقاطعة "كِنْت" الشمالي. كانت تلك تجربة عصيبة لويليام الذي كان في العاشرة من عمره آنذاك، فقد كان عمه فاتر المشاعر تجاهه وقاسياً.

درس ويليام في مدرسة "كينغس سكوول" في كانتربري، حيث مرّ بفترة عسيرة إذ كان عرضة لمضايقات زملائه بسبب لغته الإنكليزية السيئة (فقد كانت الفرنسية لغته الأولى)، وقامته القصيرة، بالإضافة إلى تلعْثُمِهِ في الكلام والذي صاحَبَهُ بقية حياته.

في السادسة عشرة من عمره رفض مواصلة الدراسة في المدرسة المذكورة، فسمح له عمّه بالسفر إلى ألمانيا حيث درس الأدب والفلسفة واللغة الألمانية في جامعة هايدلبيرغ. بعد عودته إلى بريطانيا وجد له عمُّهُ عملاً في مكتب محاسبة، بَيْدَ أنه لم يستمر فيه أكثر من شهر، عاد بعده إلى بلدة ويتستابيل. حاول عمُّهُ أن يجد له مهنة أخرى. كان والد ويليام وثلاثة من إخوته مُحامين متميّزين، غير أنه رفض أن يكون محامياً، وحالَ تلَعْثُمُهُ دون عمله في الكنيسة. ثم درس الطب لمدة خمس سنوات في المدرسة الطبية التابعة لمستشفى "سينت توماس" في "لامبيث" في جنوب لندن. غير أنه، رغم تخرُّجِهِ طبيباً، لم يزاول مهنة الطب، واتجه صوبَ الأدب.

قرأ عشراتُ الملايين أعمالَ ويليام سومَرْسِتْ موم وقُدِّرَتْ ثروته بعشرات الملايين. كان واحداً من أكثر الكُتّابِ شعبيةً في حقبته، ومن أكثرهم تقاضياً للمال عن إنتاجه في ثلاثينيات القرن العشرين.

في عام 1928 انتقل إلى العيش في الريفييرا الفرنسية، وعاش هناك حتى وفاته في نيس في 16 ديسمبر/كانون الأول عام 1965.

من أعماله: "ليزا فتاة حي لامبيث" (رواية 1897)، "السيدة كرادوك" (رواية 1902)،

"الساحر" (رواية 1908)، "القمر وستة بنسات" (رواية 1919)،"آنذاك والآن" (رواية 1946)، "ارتعاشة ورقة شجر" (مجموعة قصصية 1921)، "ست قصص مكتوبة بصيغة الشخص الأول المفرَد" (1931)، "الليدي فريدريك" (مسرحية 1912)، "بينيلوبي" (مسرحية 1912)، "الدائرة" (مسرحية 1921)، "الزوجة الوفيّة" (مسرحية 1927)، "جزاء خدماتهم" (مسرحية 1932).

 

في نصوص اليوم