أقلام حرة

أقلام حرة

يأخذ مفهوم الردع المتبادل شكلا تقييمياً يتمحور حول معيار القيمة ومعيار الجدوى عند إحتدام الصراع.. هذان المعياران مهمان في وضع تفسير او تحليل لقيمة الفعل السياسي والعسكري والجدوى منه، طالما بات الردع متبادلا في التصعيد، ولكن إلى أين؟

التكافؤ في القوة أحد أهم المعايير، تسبقها عناصر القوة (المساحة وعمقها الجغرافي وتضاريسها ومكوناتها وثرواتها ومعادنها وحشدها المالي والبشري فضلا عن تحالفات القوى الداخلية والقوى الخارجية.

فالردع التقليدي يعتمد على القدرات التقليدية، أما الردع غير التقليدي (النووي والكيميائي والجرثومي) فأسلحته محرمة دولياً، طالما تعد من اسلحة الإبادة.

فإمتلاك القدرات النووية خطوة على طريق التطور السلمي.. وترتبط سلمية هذا التطور بسياسة الدولة ونهجها.. فإذا كان نهج الدولة السياسي غير عدواني ولا يرمي إلى التطلع بغائية عدوانية نحو الخارج وإن تاريخه السياسي لا يشير إلى العدوان والهيمنة، فإن إمتلاك القدرات النووية حق مشروع من اجل التطور، أما إذا كان تاريخ الدولة فيه ما يكفي للإدانة، فإن امتلاك القدرات النووية والكيميائية والجرثومية يعد خطرا يتوجب إحتوائه واحكام الطوق عليه وعزله نهائيا ومنعه عن بناء هذه القدرات في غفلة من الزمن.. فالحياة الاقليمية والدولية لا يجب أن تتحكم بها أهواء دولة إقليمية تعرض أمن المنطقة واستقرارها إلى الخطر

***

د. جودت العاني

 

دخلت ذات يوم في مكتبة عريقة للتراث (في جامع الملك عبد الله في عمان)، ورحت أتصفح ما تحتويه من أمهات الكتب والمجلدات، وأمضيت أسابيعَ متواصلة أغوص في كتبها، حتى وجدتني في حيرة ودهشة أمام العطاء المتنوع والشامل على مدى قرون من الحضارة، والتعمق الفكري والفلسفي والمعرفي الكوني الأبعاد والتطلعات.

وكنت قبلها أحسبني قد عرفت وأستطيع أن أقول وأبدي رأيا وأناقش حالة أو موقفا، كأي عربي يتكلم اللغة وينسب إلى نفسه فهم الدين ووعي مفرداته، لكنني وأنا في المكتبة أدركت ضآلة القدرات الفردية وعجزها مهما حاولت أن ترتقي إلى إستيعاب هذه الغزارة الإبداعية الفياضة، المتناوِلة لكل ما يخطر على بال من مفردات الحياة والموت والكون.

وأدركت بأن العطاء الإبداعي للأمة لا يستطيع أن يحيط به عقل فرد واحد بكفاءة وتمكّن مهما حاول، ولو أفنى عمره في الدراسة والبحث والفهم.

فهذا التراث المنير الخلاق بحاجة إلى جمهرة عقول ذكية، يدرس كل منها شأنا وعليها أن تتفاعل بروح علمية وإنسانية راقية، لكي تقرر أمورا معينة في زمن الثورة المعلوماتية الهائلة.

إن العلوم المعرفية الفكرية والإنسانية والدينية من الغزارة والعمق والدقة والشمول ما لم يحصل في تأريخ البشرية من قبل.

هذا الفيض المعلوماتي النابع من الثقافة القرآنية والأحاديث النبوية ومسيرة الصحابة والأولياء والصالحين وإجتهادات مفكري أبناء الأمة على مر القرون، يطرح سؤالا على أبناء الجيل الحاضر والأجيال القادمة عنوانه: كيف يتم الإلمام العلمي والواقعي الصحيح بهذا الجهد الفكري الفياض؟

وكيف يتم التعبير عنه في أزمنة متجددة وتطورات بشرية حاصلة؟

إن النظرة الفردية للموضوع لا أظنها ستكون عادلة وموفية بالأغراض العلمية والشرعية والفقهية، بل أنها ستحقق أضرارا وإنحرافات، لأن الفرد عليه أن يستوعب العلوم الإلهية وجوهر مكنونات العلوم الكونية ويكتسب درجة معرفية عالية، ويحيط بالعلوم المعاصرة المتجددة، وهذا لا يتحقق بسهولة في أيامنا المتدفقة بثوراتها العلمية والمعرفية.

 إن أبواب الإجتهاد والإبداع الفكري مفتوحة ومطلقة، على أن تكون ذات إسنادات فكرية ومعرفية واضحة شأنها شأن أي بحث علمي.

والذي ننساه هو أن المفكرين في مسيرة الأمة، وعبر مراحلها  ومنذ بداية تدوينهم لأفكارهم، قد إنتهجوا نهجا بحثيا وعلميا لا يختلف كثيرا عن مناهج البحث العلمي التي نتبعها اليوم.

فيكون الإجتهاد عبارة عن إستنتاج بحثي رصين يمتلك الأهلية للحياة في مكانه وزمانه.

وعليه فالأمة بحاجة لجمهرة عقول عاملة تتفاعل فيما بينها، ومن خلال وعيها ومعرفتها في حقل إختصاصها وتفكيرها تستطيع أن تعطي ما ينفعها .

فالعقل الفردي لا يمكنه ومهما إدّعى درجة العلمية والدراية أن يكون صحيحا ومنصفا، إن لم يتفاعل مع عقول مماثلة له، لكي يتحقق الوصول إلى إستنتاج معقول، وفيه درجة متوازنة من الصحة والصواب.

لأن الفرد لو أمضى عمره كله في التبحر بالعلوم المتراكمة لا يمكنه أن يلم بها، لأنها نتاج أجيال متعاقبة من العلماء والمفكرين، فالفرد دون ذلك الوعي والإدراك بكثير، لأنه لا يمكنه أن يرى إلا جزءا صغيرا ووفقا لما إستوعبه وتمثله في عقله ورؤاه وإستحضرته له زاوية نظره.

ولهذا يكون من المفيد أن يبحث فريق عمل من جيل متعلم ومتفقه في جوانب الدين المختلفة للإحاطة المعقولة والوعي المنصف.

إن الحياة المعاصرة تتطلب من أبناء الأمة برؤاهم وتصوراتهم أن يجلسوا مع بعضهم في مجلس شورى، لكي يكونوا بمستوى رسالة الدين وعظيم شأنه وعمق إدراكه ورؤيته للحياة والوجود البشري.

إن مشكلة الأمة في هذه الغزارة الإبداعية والعطاء الكثير، الذي يجعل أبناءها يتحولون إلى فرق وجماعات كل حسب ما أدرك ووعى، وما وعى إلا القليل القليل، وبقي الكثير الكثير، الذي هو بحاجة إلى وعي وإدراك حكيم وعاقل.

والمصيبة الكبرى في غزارة الجهل والأمية، أمام هذه الغزارة المعرفية الواسعة.

وكأنها تعيد للأذهان صرخة جبريل عليه السلام بمحمد (ص) "إقرأ..إقرأ" فهل نحن نقرأ أو نتوهم القراءة والمعرفة ونتصورها؟!!

كما أن إبداع الأمة يتناول كل كبيرة وصغيرة، ويمضي إلى أعماق المجهول، ويستند على حقائق وإفتراضات حكيمة، لكن التمسك بالفروع والإبتعاد عن الأصول يحوّل البحار إلى أنهار،  والأنهار إلى سواقي، والسواقي إلى ترع يتنازع عليها من يدّعي أنها ذات شأن يعنيه.

وهكذا فإن الفرد لا يمكنه بسهولة الإحاطة بفضاءات المعرفة الشاملة.

وفي الزمن الذي نعيشه تفرض عليه الحياة ما تفرض من متطلبات وقيود وحدود، وهذا قد يدفعه إلى القول بما لا يعرف ظنا منه أنه يعرف.

كما أن من الضروري الإطلاع على الديانات البشرية الأخرى، لكي يدرك المسلم قيمة دينه ودوره السامي في الحياة، بدلا من الإنخراط في رؤى وتوجهات سلبية لا تنفعه وتضر بدينه.

أدعو الله أن يفقه المسلمين في دينهم، ويلهمهم سواء السبيل، ويوحد كلمتهم ويرفع راياتهم، ويعلي كلمة أمتهم، بكل مدارسها ومذاهبها، ويسعى الجميع للحفاظ على هذه الخيمة الإلهية المباركة التي تستظل بها الأجيال.

فالإسلام خيمة كبيرة أعمدتها وأوتادها المدارس والمذاهب والفرق، التي تولدت بسبب غزارة العطاء الفكري، وتعاظم البحث والإجتهاد على مر العصور،  وهي مصادر قوة وإثراء للدين، وليست ضعفا كما يتوهم البعض، بل أنها من ضرورات التفاعل الصحيح ما بين الدين والحياة.

والحقيقة الجوهرية أن الكتاب واحد، والتأويل والتفسير يتنوع، وهو من باب الإجتهاد والرأي المطلوب للتواصل مع الزمان والتفاعل مع المكان، فلنختلف فيما نرى ونجتهد ونؤول ونفسر، وعلينا أن لا ننسى أن ربنا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد.

"إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون"

"وقل ربي زدني علما"

"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"

***

د. صادق السامرائي

بعد الحرب العالمية الأولى توجب محق مفهوم الأمة، وتأمين أسباب الفرقة والصراعات البينية والتفاعلات السلبية لدولها المغفلة المضللة بأنها لن تكون إلا بالوحدة، فطرحت شعاراتها السرابية للنيل منها وتمزيق كينوناتها الوطنية، وتعزيز عوامل التشظي والتنافر والتفتت الذي يوقده الطامعون بها.

دول الأمة تناست الإتحاد أو نأت عنه رغم أنها لم تغفله على لسان قادتها الأوائل، لكنها راحت تهرول وراء كلمة وحدة، وهي لا تستوعب شروطها وعناصر تحقيقها فحولتها إلى نكسات، ورمتها قي فضاءات الخيال البعيد.

الوحدة وفقا لمفاهيم العواطف الثورية بعيدة المنال، والإتحاد بمفهومه الواقعي العملي المنطقي ممكن التحقق والإنطلاق النافع لدول الأمة، ولأجيالها الوافدة إلى ميادين الحياة الحرة الكريمة.

ويبدو أن الطامعين بالأمة، يعملون وفقا لرؤيتهم القائلة بأن ما صنع الأمة يدمرها، ويقصدون بذلك الدين، ولهذا وُجدت الأحزاب الدينية اللازمة لتأمين وتكريس الفرقة والتناحر البيني، ومن ثم الأحزاب القومية اللازمة لتأجيج الصراع، فصارت مجتمعات الأمة بين صراعات دينية - دينية، وتحزبية – تحزبية، دينية – تحزبية، حتى وصلت إلى ما هي عليه من مراتب الضعف والتبعية والإمتهان.

ولن تستعيد دولها هيبتها ودورها وقيمتها، إن لم تترك مفاهيمها الفاسدة وتتحرر من قبضة كان وقال، وتتفاعل مع مفردات عصرها بعقل منفتح، وجرأة معرفية ذات قدرة على إحداث التغيير اللازم لصناعة الحياة الأفضل للأجيال.

وعليها أن تحترم دينها، لا أن تهينه بالتحزبيات والأوهام السياسية والسلطوية الغاشمة، التي زعزعت أركان الدين وحولته إلى ميادين لسفك الدماء والجور والظلم والمفاسد والإنحطاط القيمي والأخلاقي، فالدين دين والسياسة سياسة، والخلط بينهما جناية عليهما.

فهل وجدتم دينا لا يفرق؟

إسألوا الكنائس والمعابد والحركات المؤدينة بأنواعها، فعندهم الخبر اليقين!!

توحدنا خيالٌ لا يكونُ

فهل نجحت شعاراتٌ تصونُ

أكاذيبٌ بها الأجيال خابت

فكل حروبها فيها جنونُ

بنا عبثت وما جلبت مفيدا

إرادتنا بما وعدت تهونُ

إذا اتحدت رؤانا إستفقنا

ودامت في مناعتنا الحصونُ

***

د. صادق السامرائي

 

هل يمكننا تعريف السياسة بأنها مهارات تحقيق السعادة؟.. قد يبدو السؤال غريبا، لكنه يمتلك رصيدا معقولا من الواقعية ويستحق النظر والتفكير. فالمجتعات السعيدة عندها أنظمة سياسية مستقرة، وساسة مرموقون يجيدون فنون الإرتقاء بمجتمعاتهم إلى حالات متقدمة ومتواكبة مع زمنها، وربما متقدمة عليه.

والمجتمعات التعيسة، لا تمتلك أنظمة سياسية واضحة، ولا يوجد فيها ساسة محنكون قادرون على أخذها إلى آفاق التقدم والنماء.

فبعض المجتمعات برغم ما عندها من الثروات، تتميّز بالتعاسة والمآسي والويلات، وقلة الفرح وإنعدامه، وتستلطف الحزن واللطم على الأموات، والتغني المأساوي بما فات.

مجتمعات فيها كل ما تحتاجه لتحقيق السعادة، ولا تعرفها ولا تقترب منها، ومنشغلة بالصراعات الفتاكة، وبإستحضار أسباب ومولدات التعاسة والويلات.

وهذا يشير إلى أن أهم سبب في هذه المعادلة الدامية هو غياب المهارات السياسية، وفقدان البوصلة الوطنية الإجتماعية، وعدم وجود الحنكة السياسية، والنظريات التي يسترشد بها القادة في الحياة.

وعليه فأن الجهل السياسي يؤدي إلى التعاسة، والمعرفة السياسية والفهم المعاصر لمهاراتها ونظرياتها يساهم في بناء السعادة.

ولهذا فأن العديد من المجتمعات برغم محدودية ثرواتها ومصادرها، إستطاعت أن تبني سعادتها، بينما مجتمعات غنية بثرواتها وتأريخها وتراثها لكنها تتميز بتعاسة واضحة، ويعشعش القهر والحرمان والإستلاب في أركانها.

وهذا يشير إلى أن العيب الأساسي يكمن في المهارات السياسية، وليس بغيرها.

قد يقول قائل ما يقول، ويحلل ويستنتج ويأتي بنظريات وتفسيرات وما يشاء من الرؤى والتصورات، لكنه ينسى بأن المشكلة الحقيقية أصلها في غياب النظام السياسي الناضج الصحيح المناسب القادر على تحقيق السعادة الإجتماعية والوطنية، التي تبدو واضحة على قسمات وجوه أبناء المجتمعات المتقدمة.

بينما لا نرى هذه الملامح على وجوهنا، رغم الثراء الطبيعي والغني الفاحش قي بلداننا المحكومة بالنفط، والذي عجزنا عن إستثماره من أجل سعادتنا، وحققنا بواسطته أعلى درجات التعاسة الممكنة في حاضرنا ومستقبلنا.

ولا نملك أملا في بناء السعادة الوطنية، إلا بتسليم القيادة للشباب الوافد الذي نرجو أن يحررنا من تعاستنا، ويعلمنا كيف نبني آفاق السعادة الوطنية المنشودة.

فساستنا وأحزابنا وحركاتنا خبيرة في إرساء دعائم المشاريع المولدة لمزيد من التعاسة والعناء، ولا يوجد نظام حكم في بلداننا يتكلم بلغة الفرح والأمل، وإنما جميعها تتحدث بمفردات التهديد والوعيد والخراب التعذيب والحرمان والقتل والتغييب في المعتقلات والسجون.

وتسعى بجد ونشاط من أجل تعويق حركة الناس وأسرهم في أصفاد الحاجات المتفاقمة، وتسمي هذه الأساليب التعسفية سياسة وحكما، وهي إمتهان وتفريق وتبديد للطاقات ومحق للبشر الذي لا يمكنه أن يكون يوما سعيدا.

ويبدو أن من حقنا أن نقيّم أنظمة الحكم وفقا لمقياس السعادة والتعاسة، فإذا كانت السعادة سائدة في المجتمع فهي مقبولة وناجحة، وإذا كانت التعاسة متفوقة فعلينا أن نقول لها بوضوح: " الشعب يريد تغيير النظام".

يا كراسي يا ينابيع المآسي

أنتِ عنوان دمارٍ وافتراسِ

لا سعيدٌ في ديارٍ من وجيعٍ

وعذابٍ وامتهانٍ واندراس

وسعيدٌ سيّد الأيام فيها

يجعل الأوطان في بئر انتكاسِ

***

د. صادق السامرائي

 

الزراعة والصناعة مرتكزان أساسيان للقوة والإقتدار، فمن لا يزرع ولا يصنع عليه أن لا يتمنطق بالقوة، ويعرف قدر نفسه وسط مسيرة التفاعلات الأرضية المحتدمة، والساعية منذ الأزل نحو مصادر الطاقة بأنواعها ومقتضيات تطورها.

المتوهمون بأن القوة عسكرية بحتة، وتكنولوجية خالصة بعيدون عن واقع الحياة، فأساس القوة توفر المواد الغذائية وإزدهار الزراعة وتطورها، لتوفر الطعام للبشر لكي يعمل ويستثمر وقته بنشاطات إبداعية خلاقة.

والمعروف أن الحضارات بدأت في وادي الرافدين والنيل، لأنهما وفرا أسباب الأمن الغذائي، وأصبح للناس وقتا للتفكير والإبداع، فكانت مرتكزات الإنطلاق الكبرى.

تخيلوا لو أن الدول القوية عسكريا وتكنلوجيا، عانت من أزمات توفير الطعام، فهل ستبقى قوية؟

إن ما تغفله العديد من المجتمعات المضللة أن الزراعة أساس كل قدرة فردية أو جماعية، فعندما تمتلئ البطون تتفاعل العقول وتنتج مبتكرات، وتستحضر أفكارا ذات تأثير في مسيرة الحياة.

فهل وجدتم جائعا يبتكر ويصنع؟

إن من أهم أسباب تردي بعض المجتمعات هو آفة الجوع، التي تنخر وجودها وتحطم أخلاقها وقيمها وتدفعها إلى جحيمات التباغض والتصارع المبيد.

فحاربوا الجوع والفاقة لتصنعوا الحياة.

إذا تزرع بها تصنع جديدا

ولا تصنع إذا قتلت حصيدا

حرائق عزنا منا ذكاها

تجوّعنا وترهننا عبيدا

هي الأرض التي منها أتينا

ستأكلنا وتجعلنا قديدا

***

د. صادق السامرائي

 

ليس وهما أو هذيانا أو من وحي الخرافات والأساطير، إنها حقائق كونية وإرادات أرضية، فأمنا الدوّارة كائن حي وكل ما عليها حي، وفيه نبض الحركة والتفاعل مع عناصرها ومفردات ديمومتها الخلاقة المتجددة، المحكومة بطاقات الدوران.

والأنهار أوردة وشرايين الأرض، التي تضخها بقوة دفع قلبها الناري الدفاق.

والعلاقة بين الأنهار وما حولها، تبادلية تفاعلية ذات مردودات متباينة، وتأثيرات متنوعة، وهي تستجيب لما حولها وتعبر عما يحتويه من المشاعر والأفكار.

والبشر من أهم مفردات التفاعل مع الأنهار، وبعده الشجر والأطيار، وأي إضطراب في العلاقة بين البشر والنهر تتسبب بتداعيات وخيمة على البيئة.

وعندما نقارن بين الأنهار الجارية في الأرض، نجد منها السعيد والنكيد، فنهر السين مثلا، تشعر بسعادته وبهجته وقوة تدفقه، وتبختره كتعبير عن منبع الحياة وروعتها، فالفرنسيون يحترمونه ويعتنون بضفافة ويزيدونها جمالا وفتنة، فما أروع ضفاف نهر السين.

وفي المقابل تتأمل أنهارنا كالنيل ودجلة والفرات، فتجدها حزينة بائسة متثاقلة الجريان، وتتساءل عن السر في هذا التباين، وتكتشف أن البشر حولها لا يحترمها، ويهين ضفافها، وينكر عطاءها ولا يحرص على مياهها،  فينأى عن التفاعل الإيجابي معها.

هي الأنهار منطلق الحياةِ

إذا نضبت تواصت بالممات

ومن حسب المياه بلا قلوبٍ

سيشقى في معاينة النبات

فعش أملا لأنهار ارتقاءٍ

وعنوانا لراعية الفرات

كأنا من جهالتنا بخسرٍ

وأناتٍ بأقبية العُناةِ

***

د. صادق السامرائي

الكون الشاسع كالبحار والمحيطات فيه كواسر خطيرة تبتلع الأحياء من حولها، وفي الكون ثقوب سوداء تشفط المجاميع الشمسية كلما إقتربت منها، وتهضمها وتعيد تصنيعها بعد أن تتمثلها وتلدها من رحمها المتجدد المعطاء.

ولا يعرف كم عدد ما تبتلعه في وقت معين، فهي تبدو ذات نشاط دائب، ولا تشبع من أكل الأجرام السماوية ومجموعاتها الشمسية أو الكوكبية.

وهذا يعني أن مجموعتنا الشمسية ستكون ذات يوم قريبة من فم ثقب أسود فيلتقطها كلمح البصر، وينتهي كل شيئ بلا سابق إنذار، وهذا اللحظ الموعود قادم لا محالة، ولا يمكن معرفة وقته، وربما سيدرك ذلك أقوام القرون الآتيات.

سيأتي دور مجموعتنا الشمسية لا محالة، وسيسرطها ثقب أسود ويحيلها هباءً منثورا، وهذا يعني أنها القارعة التي ستخطف الأبصار والأرواح فورا.

وإذا البحار سجرت، فمياه الأرض بحاجة لقدحة لتتحول إلى سعير.

أعاصير تباغتنا بكيدِ

تدمرنا وترمينا لوغدِ

تسائلنا الليالي عن منانا

فتعتلج الهواجس حين صدِّ

مصائرنا لأفواهٍ تلاقت

تمزقنا وتهضمنا كفرد

***

د. صادق السامرائي

 

الصحافة والثقافة.. وجهان لعملة واحدة، لخدمة الشعب

الصحافة والثقافة وجهان لعملة واحدة، فالصحافة هي أداة لنشر الثقافة، والثقافة بدورها تشكل مادة أساسية للصحافة. الصحافة الثقافية تتطلب من الصحفيين معرفة واسعة بالثقافة، وقدرة على تحليل الأحداث الثقافية وتقديمها للجمهور بأسلوب شيق ومفهوم.، الصحافة تقوم بنقل المعرفة والأفكار والقيم الثقافية من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى آخر. تنشر الصحافة الأخبار والأحداث الثقافية، وتحلل وتشرح الظواهر الثقافية، وتساهم في تشكيل الرأي العام حول القضايا الثقافية.،، لصحافة الثقافية أداة تطوير للإبداع ورؤية المجتمع لحاضره ومستقبله-- توسعت التغطية الثقافية في وسائل الإعلام الإخبارية سواء المغربية أو العربية أو العالمية لتتجاوز أقسام الفنون والأدب أو الثقافة، إلى أقسام الأخبار والأعمال والتعليقات والرأي والسفر وأسلوب الحياة، ولو بتفاوت، لكن يبقى للصحافة الثقافية في العشرين عاما الأخيرة، مساهمة هامة في صناعة المعرفة والتنمية ودعم الفنون والإبداع ونقل القيم وتطوير فهمنا للثقافة ودورها في المجتمع، وذلك رغم ما تعانيه من مصاعب جمة.

ينصب الاهتمام الأساسي للصحافة الثقافية على الفنون والعمل الإبداعي بكل تفريعاتهما التي أصبحت تتسع لتشمل كل ما يتعلق بالأدب والفنون البصرية والموسيقى والأفلام والمسرح والرقص والتصوير والهندسة المعمارية والتصميم وألعاب كمبيوتر، ولا يخرج الأمر على الشركات والمؤسسات والسياسات التي أضحت تصنع وتؤثر في محتوى الإعلام الثقافي.

وقد أدت كل التطورات التي تعرفها مجالات الإنتاج الثقافي وما وراء الخطاب إلى ولادة نماذج محترفة من الصحافة الثقافية رغم ظروف العمل وتحديات دور وظيفة الصحافي الثقافي،

إذا كانت الصحافة الثقافية تشمل مجالا واسعا وغير متجانس من الموضوعات حيث لا يمكن فصلها في الوقت الحالي عن سياق الصناعات الثقافية والصناعات الإبداعية، وكذلك عن التقنيات الجديدة التي تتطلب إعادة تعريف وتوسيع الصحافة الثقافية ومهارات جديدة للصحافيين، بالتالي لا يمكن اعتبار هذا الجنس من الصحافة مجالًا صغيرًا ومحدّدًا نسبيًا للممارسة الصحافية، بل أضحت ركيزة في صناعة القصة الخبرية كونها تشتغل في التقاطع بين الإعلام السياسي وكل الأشكال الثقافية والصناعات الإبداعية بشكل عام، كما يدخل في نطاق اهتمام الإعلام الثقافي بكل أشكال التعبير الثقافي التقليدي والجديد مثل السينما وفن الفيديو والأدب وفن الشارع والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى، وما إلى ذلك، وتأثير التكنولوجيا

وإذا كانت الصحافة الثقافية تساعد على فهم الروابط بين الأحداث الثقافية والمجتمع والحاضر والماضي، فإن هذه العلاقة بين الصحافة والثقافة والمجتمع يمكن تصنيفها علاقة تكافلية، لهذا نجد الفلاسفة، يتفقون على أن الصحافة والثقافة تربطهما علاقة عضوية، وأن الصحافي الجيد لا يمكنه أن يتطور دون ثقافة جيدة تسنده، مشيدا بالأدوار التنويرية التي لعبتها الصحافة من خلال متابعتها للأحداث وتحليلها، والتي لم تسقط في التفسير الأسطوري عند تناولها لبعض الاحداث، بل كانت أميل إلى التفسيرات العقلانية لبعض الظواهر وعملت على إشاعتها والتبشير بها ضمنيا.

لم يعد متاحاً إيجاد فضاء إعلامي يلقي الضوء واسعاً على التعريف الوافي بالأدباء وسيرة الكتّاب، ويهتم بإبراز تجاربهم الإبداعية، ويتناول أعمالهم نشراً وتحليلاً ونقداً. ولم يعد ممكناً اتخاذ مقياس لفهم طبيعة تحولات المسألة الثقافية وتحديد اتجاهاتها الحديثة. ولم يعد مقبولاً أن يبقى الإعلام بعيداً عن التفاعل الإيجابي مع مشاريع الأنظمة السياسية وعن دعمها، وإلا تعرضت كل مؤسسة إعلامية تقدم دوراً ثقافياً للتهميش وللتوقف.

لقد ضاق مجال النشر الثقافي وهامش الإبداع الأدبي بعدما صار الفعل الثقافي مرتبطاً بالأيديولوجية السياسية وتحول إلى مروج لها، وطبيعي أن يكون مجاله الحيوي الجديد هو الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، وساعد في ترسيخ هذا الوضع حالة الفوضى بسبب غموض الخطاب السياسي وإصابة الخطاب الثقافي تبعاً لذلك بالضبابية، وكذلك تعرض مجال النشر للتعثر حيث سيطرت اعتبارات الولاء والانتماء على اعتبارات الإبداع الأدبي بعدما غاب الاحتكام إلى معايير الجودة، وبعدما نحت الصفحات الثقافية والفقرات التلفازية المتخصصة منحى الخبر الصحفي، بدلاً من نشر إبداعات المثقفين والدراسات النقدية والتحليلية. يرى البعض أن مجال الصحافة هو عالم مجاور للكتابة الأدبية، وأن للصحافة فضلاً كبيراً في تسليط الضوء على النصوص الأدبية وعلى الفعاليات الثقافية، والواقع أن للصحافة دوراً في جعل الكاتب نجماً جماهيرياً مضيئاً أو أن تتغاضى عنه فيقبع في ركن مظلم، وعليه يبدو الوضع قاتماً بعدما أصبحت الصحافة الثقافية تعيش أزماتها بسبب التصحر الثقافي وتراجع الحراك الفكري والثقافي، هذا برغم بزوغ بعض التجارب الجادة والحقيقية على استحياء في المشهدين الثقافي والإعلامي تعكس وجود محاولات محتشمة تريد أن تعمل بفعالية لذا تجد الصفحات الثقافية نفسها مكتفية بنشر المتاح في مناخ يفتقد إلى الزوايا النقدية البنّاءة، وإحجام الإصدارات عن اكتشاف المواهب المبدعة وتقديمها، والمتفق عليه هو أنه يجب انتظار صحافة ثقافية تلعب دوراً فكرياً وحقيقياً أكثر عمقاً

وسائل الإعلام اليوم الورقية منها والإلكترونية تعد من الأدوات الثقافية المهمة؛ لأنها تشكل وسيلة في الحصول على الثقافة والاطلاع على جميع أشكال الإبداع؛ لإثراء الزاد الثقافي لدى المواطنين وإكسابهم الخبرة الثقافية، ومن هنا تبرز مسؤولية وسائل الإعلام في توصيل ونشر الثقافة وفي التأثير في قرائها وعلى اهتمام المتتبعين لما تنشر بحكم سهولة اتصالها اليومي السريع بكل أطياف الشعب وعلى نطاق واسع، وكذلك بحكم اعتبارها وسيلة إعلامية مهمة بالنسبة للقارئ تتيح له فرصة قراءة الأخبار بتمعن وهدوء وتتبع أهم الأحداث من أي مكان وفي أي زمان، وهي بذلك تساهم في تشكيل الرأي العام سواء من خلال ما تقدمه من الأخبار أو تفيد به من المعلومات الثقافية -- يرى بعض المتشائمين أن تسييس المجتمع وانصراف شبابه عن مصادر المعرفة وتفضيله التوجه المحموم للارتماء في أحضان مصادر الثراء السريع قد حول المجتمع إلى وسط غير معرفي وغير منتج للأفكار؛ لذلك لم يكن من الممكن أن تحتل الثقافة الواجهة بل بقيت الصحافة الثقافية هي الأضعف، والمتفق عليه أن الفعل الثقافي لا يخلق الإعلام لكنه ينمو بالإعلام، فتأسيس فعالية ثقافية يمكن أن يكون حدثاً مهماً بصحافة ثقافية مهمة.لقد ترسخ لدى الكثير من العاملين بقطاع الإعلام أن الأدباء هم الأقدر على العمل في مجال الصحافة الثقافية لجعلها عملاً خلاقاً، وقد ظهر بناء على ذلك مصطلح (ثقافة الصحافة) كأيديولوجية مهنية مشتركة بين العاملين في مجال الأخبار، تعكس وجود توافق شامل بين الصحفيين تجاه فهم مشترك للهوية الثقافية للصحافة، ويتسع هذا المصطلح ليشمل التنوع الثقافي لأخلاقيات الصحافة والممارسة الإعلامية، لذلك قد يطلق كذلك تسمية الثقافة الصحفية أو ثقافات الصحف أو ثقافة إنتاج الأخبار، وهي تسميات يراد منها تبليغ رسالة تأكيد فضل الثقافة على الرسالة الإعلامية بجعل النشاط الصحفي من صفات الثقافة، أو بإضافة الثقافة إلى العمل الصحفي كنشاط أولي ورئيسي. كثيراً ما يخضع التناول الإعلامي للشأن الوطني ونشر الأخبار الوطنية للمراقبة وللمراجعة بالتغيير وبالإضافة والحذف وذلك لمراعاة بعض الحساسيات المذهبية والحسابات السياسية التي تحددها السلطة الحاكمة، في حين يزهو الأدباء بأن هموم الوطن وقضايا الوطن يكشفها الشعر والرواية والقصة بشكل مفصل ومؤثر.

***

نهاد الحديثي

في السنوات القليلة الماضية، لم يكن الإحساس العام بالحياة سوى ركامٍ من الخرسانة الباردة. كلمات كثيرة، تحاليل كثيرة، ضجيج أكاديمي وفكري يثرثر عن "هوة الأجيال"، وكأن المشكلة مجرد خلافٍ بين ذوقٍ قديم في الجينز وآخر جديد في تكنولوجيا "العمل عن بعد". ولكن خلف هذا الركام، تنام جثة مهجورة تُدعى الطموح، وخلفها شبحٌ يتسكع على أطراف المدن الكبرى، يُدعى الخيبة.

لقد اعتدنا، نحن الذين تنفسنا في السبعينيات والثمانيات وما قبلها بالتأكيد، أن نُجلد بالسياط في بداياتنا المهنية ونحن نردد كالبلهاء: "التضحية تثمر". أما اليوم، فقد أدرك شباب ما بعد 2008 – ولا سيما بعد جائحة 2020 – أن هذا القول لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به.

يقول ألبير كامو: "العمل الذي لا تراه يوصلك إلى شيء، هو نوعٌ من العبودية، ولو بدا حراً."

هؤلاء الشباب لا يرفضون الحياة، بل رفضوا الحياة التي لا تعترف بهم. فهم لم يقرروا يوماً أن يعيشوا في مساكن مؤجرة إلى سن الأربعين، ولا أن يعيدوا تسخين المعكرونة الصينية في أفران ميكروويف مستأجرة. لقد طُردوا من جنّة "الاحتمالات"، ووجدوا أنفسهم في جحيم "الواقعية".

فمنذ العام 2008، انقطع الحبل السري الذي كان يصل بين التضحية والترقي. لم تعد السنوات المديدة في الزمالة الأكاديمية أو الوظائف الهامشية تعني شيئاً سوى مزيد من الإجهاد العقلي والراتب الضئيل. لم يعد السعي إلى الكفاءة هو المعيار، بل القدرة على التحمل الصامت تحت وطأة منظومة لا تراك ولا تسمعك.

في زمنٍ كانت فيه الشركات تطلب كل شيء مقابل لا شيء، أصبح الطموح رفاهية لا يجرؤ عليها إلا من ولد وفي فمه ملعقة من تأمين صحي وسكن مملوك. أما الباقون، فكتب عليهم أن يُحبِطوا، وأن يحترقوا في صمت.

ومع ذلك، هناك من يسمّيهم "كسالى"، أو يصفهم بأنهم "مدلّلون". وهناك من يراهم نرجسيين لأنهم لا يضحون بما يكفي لأجل الشركة التي لا تقدم لهم شيئاً سوى "قيم المؤسسة" المطبوعة على كوب قهوة بلاستيكي.

أين ذهبت البرجوازية المتوسطة التي وُعدنا بها؟ أين ذهبت الشقق الصغيرة في المدن الكبيرة التي كانت تشبه بداية فيلم فرنسي عاطفي؟ لقد تحولت إلى أوهام مؤجلة، ثم إلى نكتة، ثم إلى غضب مكبوت في صدور شباب لا يثقون في أحد، حتى أنفسهم.

لا عجب أن يصبح "الطموح الهادئ" الصيغة الجديدة للحلم: حلمٌ لا يُسمع له صوت، ولا يصنع فرقاً. لكنه في جوهره، ليس سوى كذبة مغلّفة بأدب، محاولة لخداع الذات بأن الإنسان ما زال سيد مصيره. والحقيقة أن "المصير" نفسه صار مدير موارد بشرية في شركة قابضة لا يعرف حتى اسمك.

وفي ظل هذا الانهيار الجماعي للقيم والمردودية، لا يمكن أن نلوم الشباب على انكسارهم، بل يجب أن نلوم المنظومة التي باعتهم "رؤية" بلا مستقبل، ومكاتب بلا معنى. من يعيش ليأكل أرزاً سريع التحضير تحت مصباح فلوريسنت، لا يمكنه أن يكتب قصيدة، ولا أن يربي طفلاً، ولا حتى أن يحلم بحديقة.

الاستنتاج المرّ؟ أن هذا الجيل لم يفشل في تحقيق الطموحات، بل فهم متأخراً أن الطموحات نفسها صارت "منتجاً مزيفاً". لم تعد النية الطيبة والجد والاجتهاد تثمر شيئاً سوى الإنهاك المزمن وفتور الروح. والكارثة أن "العمل" الذي لطالما ادّعى أنه يمنح الإنسان معنى، صار أداة لتجريده من المعنى ذاته.

يقول دوستويفسكي: "الذين يعيشون بلا أملٍ في الخارج، لا يمكن أن تُطلب منهم فضائل في الداخل."

لذا، حين نرى جيل اليوم وهو ينكمش، ويتقوقع على نفسه، لا يجب أن نراه ضعيفاً. بل يجب أن نراه جريحاً... ومرهقاً من الكفاح ضد طواحين هواء لم يُمكن له أن ينتصر عليها.

لن يعيش هؤلاء على الهواء. ولن يواصلوا السير في طريقٍ سدّته خيانات العصر. وإذا أردنا مستقبلاً أفضل، فإن البداية لن تكون في مكاتب الموارد البشرية، بل في خطاب الاعتراف بالفشل البنيوي، والسعي الجماعي لإعادة تعريف العمل كفعل إنساني، لا كعقوبة اقتصادية.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

الجواهري في رسائل وشهادات.. ملحق (3)

هل كان الحصري والرصافي طائفيين مع الجواهري؟ كيف ذلك والرصافي يصف الجواهري بأنه "ربُّ الشعر"، والحصري عيَّن الشيعي مصطفى جواد في وظيفة الجواهري بعد فصله وساعده في الحصول على منحة لدراسة الدكتوراة في فرنسا؟

هل المواطنة درجات حسب الطائفة فعلا؟ أما القول إنَّ: "قانون الجنسية العراقية رقم42 لسنة 1924م عَدّ في فقراته ضمناً "أنَّ حامل شهادة التبعية العثمانية من أبناء السنة مواطن من الدرجة الأولى، وحامل شهادة التبعية الإيرانية الذين هم في الغالب من العرب الشيعة والأكراد الفيليين مواطن من الدرجة الثانية، على الرغم من كونهم مواطنين عراقيين عاشت أصولهم في العراق منذ مئات السنين"، كما يكتب د. نصير كريم كاظم، الباحث في المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف التابع للعتبة العباسية المقدسة، فهو قول فيه الكثير من الشطط والاعتساف. فإذا كان ثمة تفريق بين حملة شهادة التبعية العثمانية وذوي التبعية الإيرانية فهو تفريق إداري بحت بين حملة جنسية الدولة السابقة في العراق أي العثمانية بغض النظر عن طائفتهم وأصلهم القومي والذين سيحملون الجنسية العراقية تلقائيا وبين غيرهم ممن يحملون تبعية دول أخرى وليس بناء على التصنيف الطائفي. ولو افترضنا وجود عثمانيين من الشيعة فهم سيستحقون الجنسية الأساس تلقائيا بموجب القانون وهو قانون دولي وليس عراقي فقط. وهذا الكلام لا يعني قطعا انعدام حالات من التمييز وحتى الاضطهاد الطائفي الذي يمارسه موظفون أفراد هنا وهناك فمجتمع الملائكة لا وجود له على سطح الأرض!

وبناء على ما سبق فإن الأسرة الجواهرية يكون قد سرى عليها ما سرى على آلاف الأسر التي كانت تحسب نفسها على التبعية الإيرانية سواء كانت تحمل الجنسية الإيرانية أو لا تحملها والأرجح أنها كانت تحمل الجنسية الإيرانية بديل حيازة عدد من أفراد الأسرة لهذه الجنسية منهم شقيق الشاعر الجواهري الأكبر عبد العزيز الجواهري المولود في النجف والمتوفي في إيران سنة 1976، وما قاله الجواهري في مذكراته عن حصوله على الجنسية العراقية قبل تعيينه في وظيفته كما سيرد ذكره.

وفي هذا الصدد، تذكر بعض المصادر إنَّ هناك رسالة من الشاعر الجواهري إلى ساطع الحصري يعرض عليه فيها أو يخبره فيها بتخليه عن جنسيته الإيرانية والحصول على العراقية لضمان قبوله في وظيفة المعلم. ولكنني لم أتوصل الى نسخة من هذه الرسالة التي قيل إنها نشرت في تلك السنوات في مجلة "المعهد العلمي العراقي". ويمكن لهذه الرواية أن تحسم الجدل نهائيا حول موضوع حيازة الجواهري للجنسية الإيرانية من عدمها وبانتظار الحصول على هذا المصدر / الوثيقة سيبقى هذا القول مجرد استنتاجات مبنية على تحليلات ووقائع استعرضناها في الفقرات السالفة. وعموما فلدينا أدلة جديدة ومهمة من مذكرات الجواهري تفيد أنه تحصل فعلا على الجنسية العراقية قبيل تعينه معلما في الكاظمية وأمثلة أخرى تؤكد أنه افتخر بعروبته وعراقيته في أكثر من موضع في تلك المذكرات وسوف نتوقف عندها في موضع آخر من هذا النص.

شهادة أخرى مضادة من شاهد آخر:

ذكر د. رعد مقبل محمد حسن العبيدي في تعقيب له على مقالتي الأخيرة، بخصوص جنسية الجواهري والأزمة التي حدثت بينه وبين الحصري الآتي، وبحسب المعقب فقد وردت هذه المعلومات بصيغ متقاربة في عدد من مذكرات ذلك العهد ومنها مذكرات طه الهاشمي وجعفر العسكري وغيرهما: "إن الجواهري لم يكن يحمل الجنسية العراقية وإنما الإيرانية. وطلب ساطع الحصري من الجواهري ان يتجنس بالجنسية العراقية ليتمكن من تعيينه معلماً، لأن ساطع الحصري كان مدير المعارف العام. وبعد مجادلة بين الجواهري والحصري وافق الجواهري على طلب الجنسية العراقية وبعد حصوله عليها بتدخل والحاح وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي عينه الحصري معلماً ولم يمض اسبوع واحد على تعيينه واذا به ينشر في جريدة الفيحاء بالحلة قصيدة شعوبية واضحة فاحتج مفتش المعارف نوري ثابت (حبزبوز) واشتكى عند الحصري فسأل الحصري الشاعر معروف الرصافي فأكد انها قصيدة شعوبية وتمجد الفرس فطلب الحصري من الجواهري ترك التعليم والانتقال الى وظيفة أخرى فرفض الجواهري مستندا الى دعم وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي ونشأت ازمة بين الحصري ووالمنتفكي وانتهت بتدخل الوزير رشيد عالي الكيلاني الذي طلب من الحصري اعادة الجواهري الى الوظيفة على ان يقدم استقالة وبعد تدخل شخصيات دينية شيعية وتوسطها لدى الملك فيصل الذي وعد الجواهري بإعادة تعيينه في البلاط الملكي وهذا ما حدث، وانتهت المشكلة وكانت في سنة 1924.

وفي ستينيات القرن الماضي نشر ساطع الحصري كتابه (مذكراتي في العراق) وجاء على ذكر واقعة تجنس الجواهري وسبب فصله من التعليم فجن جنون الجواهري ونشر قصيدة سب فيها وشتم الحصري واتهمه بانه طائفي ولم يرد عليه الحصري وانما الذي رد عليه (الدكتور مصطفى جواد وكذب رواية الجواهري جملة وتفصيلا وقال الحصري كان علمانيا وما كان طائفيا ابدا بدليل انه عَينني (انا الشيعي) مكان الجواهري ولم يكتف بذلك بل هو الذي رشحني لمنحة دكتوراه في الادب العربي في فرنسا ولولا الحصري لما حصلت على المنحة ولما درست في فرنسا وكل ما ذكره الحصري عن واقعة تجنس الجواهري صحيح موثق في جلسات مجلس الوزراء سنة 1924 وقد اعاد ذكر تفاصيل ذلك اكثر من وزير في مذكراتهم منهم الهاشمي والعسكري) وكل ما ذكره د . مصطفى جواد جاء على لسانه في برنامج تلفزيوني كان يظهر فيه د. مصطفى جواد اسبوعياً".

إن هذه الشهادة للعبيدي تؤكد ما ذكرناه حول حصول الجواهري على الجنسية العراقية ولكننا لم نحصل بعد على دليل أو شهادة مؤكدة تؤكد أنه كان يحوز الجنسية الإيرانية وإنه تخلى عنها، وقد يفهم أن التخلي قد تم فعلا في سياق الحصول على الجنسية العراقية، وهذا محتمل جدا ولكني لا أجزم به دون دليل. ويخلص العبيدي في تعليقه المنشور على صفحتي إلى القول: "هذه الشهادة تفند اتهامات الجواهري للحصري جملة وتفصيلا وتنسف أقوال من اتهم وما زال يتهم ساطع الحصري بالطائفية ومحاربة الجواهري ولو لم تكن شهادة د. مصطفى صحيحة لرد الجواهري على د. مصطفى جواد ولكنه آثر السكوت ولم ينبس ببنت شفه فلماذا هذه الاتهامات الباطلة للحصري يعاد اجترارها من وقت لآخر"؟ انتهى الاقتباس.

 حين سألت الدكتور العبيدي عن توثيق ما قاله نقلاً عن مصطفى جواد أجابني: "كان دكتور مصطفى جواد وفؤاد عباس ودكتور حسين أمين يظهرون في برنامج تلفزيوني أسبوعي وفيه يقدمون موضوعا ويردون على أسئلة المشاهدين ولم يكن التلفزيون يصل إلا الى مناطق قريبة من بغداد وكنتُ في الثانوية وكنا نذهب مجموعة اصدقاء الى بغداد لمشاهدة برنامج د. مصطفى وفي يوم آخر نذهب لمشاهدة برنامج د. علي الوردي. وفي البرنامج سألنا هم على الزوبعة التي أثارها الجواهري بقصيدة السبِّ والشتم لساطع الحصري وكان رد مصطفى جواد ما ذكرته لك".

وتبقى هذه الشهادة معلقة لعدم تمكني من الوصول إلى توثيق ملموس لها كسابقتها في الوقت الحاضر، ولهذا سأضعها جانبا بشكل مؤقت بموجب منهجيتي البحثية. ولكن تبقى تحفظات مصطفى جواد التي نقلها د. العبيدي على اتهام الحصري بالطائفية، وهي الاتهامات التي وجهها له أيضا رفيقي الراحل هادي العلوي، تبقى هذه التحفظات ذات قيمة نقدية بينة وأهمية واضحة لناحية صحتها الفعلية أي الوقائعية في التاريخ؛ فمصطفى جواد نفسه هو فعلا عراقي شيعي "تركماني"، وإنه عين في التعليم في عهد الحصري وإنه أرسل لمنحة دكتوراة في الأدب العربي في فرنسا، وهذا ما يمنح هذا الجزء من شهادته صحة واضحة في الواقع التأريخي المعاش.

 ومثلها وصلتني شهادة أخرى من شخص قانوني عراقي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب تخصه وأتفهمها وأخبرني أنه تدخل قبل سنوات في نزاع بين أسرة الجواهري وأسرة نجفية أخرى على عقار في مدينة النجف. وخلال متابعته للموضوع واطلاعه على الوثائق الرسمية الخاصة بالملف وجد أن أسرة الجواهري تحمل الجنسية الإيرانية فعلا، ومثلها كانت أسر نجفية أخرى منها أسرة الحكيم تحمل هذه الجنسية، ولكن هذه الأسر النجفية الإيرانية الجنسية تبقى أقل كثيرا من الأسر المثيلة الكربلائية بسبب كثافة الوجود العشائري العربي في النجف. وللأسف، هذه الشهادة لا يمكنني أن آخذها على محمل البحث المنهجي الدقيق لافتقارها للدليل الملموس أولا، ولأن الشاهد رفض إعلان شهادته على الرأي العام ثانيا. ولكني أوردتها على سبيل العلم بها والرد عليها مع الاحترام والتقدير لمن قدمها. في الجزء القادم نستعرض "عروبيات الجواهري" في شعره، وما ذكره هو عن أصله العربي في نثره في مذكراته وهل كان الحصري فعلا قوميا على الطريقة النازية أم تلك كانت افتراءات وشنشنة هجائية أنتجها غضب الجواهري ومحبيه.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

فى التاسع عشر من شهريونيو، رحل، عن دنيانا الفانية العالم الثبت النحرير بروفيسور عبدالله الطيب، بعد أن ملأ صرير قلمه مسامع الزمان، وسار صيتة فى كل صقع وواد، رحل مبدع اللغة العربية، والمهيمن على تراثها الثمين، وبموته فقد السودان والعالم العربي والإسلامي، أديبا يعتبر بلا جدال، امتداداً لذلك النفر، الذى حمل لواء اللغة فى العهود الغابرة من العرب الأقحاح، الذين كانت قصائدهم لا تبارى فى صدق العاطفة، وخصوبة الخيال، وجودة السبك، وطلاوة .الأسلوب، وعذوبة المعاني

أمضى صاحب "المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها'، حياته الحافلة موغلاً فى البحث، ممعناً فى التنقيب، حريصاً على الاحاطة بأصول وفروع اللغة، حتى صار من أقطابها الذين يشار لهم بالبنان، وصارت مؤلفاته غاية ليس وراءها مذهب لطالب، ولا ُمراغُ لمستفيد، ولا ُمردٌ لباحث.

كان لقريع دهره، جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، لسعة علمه، ولنبل فطرته، ولأنه أفاض الله عليه سجال رحمته، متجاف عن مقاعد الكبر، متحلياً بمكارم الاخلاق، مبتعداً عن ضجيج السياسة وصخبها،

كما كان يؤنس جلاسه بوجهه المتهلل ،واذكر أني كنت غاية فى الحرص لمتابعة الحلقات التى يبثها التلفزيون القومى منذ صغرى، رغم أن الكثير من عباراته ومفرداته التي يهضب بها، كنت اجهل الكثير منها، وكانت تحتاج إلى بوارق من الضياء بالنسبة لي، وأنا في طراءة تلك المرحلة، نعم أيها السادة، لقد ترك الغطريف عبدالله الطيب "قبساً من نار المجاذيب" فى صدري، وكان له صدى عظيماً فى حياتي، شأنى فى ذلك، شأن كل سوداني، يسعى أن تعانق نفسه الثريا، إذ ينتمي هو وصاحب اللسان البليل، والخاطر الحافل، لبلد واحد ،لذا تراني شغوفا بأدبه ،هائما بسيرته ،مترسماً خطاه، حتى أنال ما ناله من مآثر يبقى ذكرها فى الأعقاب.

***

د. الطيب النقر

 

عن أسباب التخلّف وجراح الأوطان

في ليالينا الطويلة، حين نجلسُ بصمتٍ نتأملُ حالنا وحال أوطاننا، يطرقُ بابَ الروحِ سؤالٌ مرير: لماذا وصلنا إلى ما نحنُ فيه؟ لماذا تعثرت خُطانا، وتأخرنا عن ركب الحضارة والنور، بينما انطلق الآخرون؟ إنه سؤالٌ موجع، كالجرحِ المفتوحِ في خاصرةِ الوجود، نبحثُ لهُ عن جوابٍ يريحُ القلب، أو بلسمٍ يهدئُ من لوعته.

وفي رحلة البحث عن هذا الجواب، نجدُ أنفسنا أمام طريقين. طريقٌ سهلٌ، قديم، ومُريحٌ للوهلة الأولى، يقولُ لنا إن سبب تخلفنا هو ابتعادنا عن الدين، وكثرةُ ذنوبنا، وتقصيرنا في اتباعِ ما قالهُ الأجداد. إنه جوابٌ يُلقي باللومِ على ضمائرنا الفردية، ويشعرنا بالذنب، لكنه في الوقت ذاته يُعفينا من عناء البحثِ عن الأسباب الحقيقية، الأعمق والأكثر تعقيداً.

أما الطريقُ الثاني، فهو طريقُ الشجعان، طريقُ من يجرؤ على النظرِ في وجه الحقيقة، مهما كانت قاسية. هذا هو الطريق الذي يدعونا إليه المفكر عبد الجبار الرفاعي ببصيرةٍ ثاقبةٍ وشجاعةٍ نادرة، حين يضعُ يدهُ على أصل الداء في كتابه "مقدمة في علم الكلام الجديد"، قائلاً:

"أدواتُ النظر ومناهج الفهم القديمة للدين ونصوصه تفضي إلى ربط كلّ واقعةٍ في حياة الناس بالدين... وينتهي هذا الفهم إلى تعطيل الأسباب الطبيعية والبشرية المتنوّعة. فمثلاً يخضع تفسير تخلّف المجتمعات الإسلامية، لدى أكثر كتاب الجماعات الدينية والخطباء والوعاظ، إلى عدم تمسكها بما قاله السلف... مع أن تقدم وتخلّف المجتمعات بالمعنى الاقتصادي والثقافي والسياسي يعود لأسباب دنيوية مختلفة... سوء أحوال الناس المعيشية في الدنيا، أفراداً ومجتمعات، لا يعود لكثرة الذنوب بالمعنى الديني، ولا يعود لأسباب غيبية، بل ينشأ من الجهل، والفقر، والمرض، والاستبداد، والظلم." (الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص ١٠٨ - ١٠٩).

كم هي دقيقةٌ وموجعةٌ هذه الكلمات! إنها دعوةٌ لأن نكفَّ عن تعليقِ فشلنا في هذه الدنيا على شماعةِ السماء، وأن نبحثَ عن العللِ الحقيقيةِ هنا، على هذه الأرض التي نعيشُ فوقها. إنها دعوةٌ لنعترفَ بأن المجتمعاتِ لا تتقدمُ أو تتأخرُ بنسبةِ تدين أهلها أو ابتعادهم عنه، فكم من مجتمعٍ متقدمٍ لا يكترثُ كثيراً للدين، وكم من مجتمعٍ غارقٍ في الطقوس الدينية لكنه يرسفُ في أغلالِ التخلف!

إن سوء فهم معنى الدين ومعنى الطاعة والمعصية، كما يقول الرفاعي، هو الذي يقودُنا إلى هذا التشخيص الخاطئ. فنعتقدُ أن فقرنا هو عقوبةٌ إلهيةٌ على ذنوبنا، بينما هو في حقيقتهِ نتاجُ سياساتٍ اقتصاديةٍ فاشلة، وفسادٍ ينهشُ في جسدِ الوطن. ونعتقدُ أن انتشار المرض بيننا هو ابتلاءٌ من السماء، بينما هو في حقيقتهِ نتيجةُ إهمالٍ للنظامِ الصحي، ونقصٍ في الوعي. ونعتقدُ أن تخلفنا العلمي هو قضاءٌ وقدر، بينما هو ثمرةُ نظامٍ تعليميٍّ مترهلٍ يُعلّمُ التلقين ويقتلُ الإبداع.

والأدهى من كلِّ هذا، أننا نرى بأعيننا كيف تجتمعُ علينا أمراضٌ خمسة، وصفها الرفاعي بدقة، وهي التي تهدمُ صرح أي أمة: الجهل الذي يُطفئُ نور العقول ويجعلنا فريسةً سهلةً لكل خرافةٍ ولكلِّ فكرٍ مُضلل. الفقر الذي يكسرُ ظهر الكرامة ويجعلُ الإنسانَ مشغولاً بلقمةِ عيشهِ عن بناءِ مستقبله. المرض الذي ينهكُ الأجساد ويُضعفُ من قوةِ المجتمع وعافيته. الاستبداد الذي يكممُ الأفواه، ويُحطّمُ الأقلام، ويخنقُ كلَّ صوتٍ حرٍّ يطالبُ بالإصلاح. الظلم: الذي يقتلُ الشعورَ بالانتماء، ويغرسُ بذور الحقدِ واليأس في القلوب.

هذه هي أمراضنا الحقيقية، وهذه هي "ذنوبنا" الدنيوية التي يجبُ أن نتوبَ منها، لا بالاستغفارِ فقط، بل بالعملِ الدؤوبِ على علاجها.

فهل من الإنصافِ أن نتركَ هذه الأسبابَ الحقيقية، ونتهمَ علاقتنا بالله؟ أليسَ الأجدرُ بنا، إن كنا مؤمنين حقاً، أن نرى في محاربةِ هذه العللِ أسمى أشكالِ العبادة؟ إن بناءَ مدرسةٍ لمحوِ أميةِ جاهل، هو صلاةٌ في محرابِ العلم. وإن إيجادَ فرصةِ عملٍ لفقير، هو صدقةٌ لا تعدلُها كنوزُ الأرض. وإن إقامةَ العدلِ بين الناس ورفعَ الظلمِ عن المظلوم، هو أقدسُ أشكالِ التقربِ إلى الله.

إن هذه الكلمات ليست دعوةً لتركِ الدين، بل هي دعوةٌ لفهمهِ فهماً أعمق وأكثرَ نضجاً. دعوةٌ لنؤمنَ بأن الله قد منحنا العقلَ لنُعمّرَ بهِ الأرض، لا لنُعطلهُ وننتظرَ الحلولَ من السماء. إنها دعوةٌ لنحولَ إيماننا من حالةِ السكونِ والاتكال، إلى طاقةٍ جبارةٍ من العملِ والبناءِ والإصلاح. فالإيمانُ الحقيقيُّ ليس في أن ندعو الله ليُغيّرَ حالنا، بل في أن نعملَ نحنُ بالأسبابِ التي وضعها لتغييرِ حالنا، واثقينَ من أن رعايتهُ ستكونُ حليفةَ الساعينَ والمُصلحين.

***

مرتضى السلامي

لقد ظل الفكر الإصلاحي الذي هو نقيض الفساد وهو محرك لتغییر الحال الراهن نحو الازدهار والرقي وهو غیر الثورة رغم وجود عدة مغالطات و خلط في مفهومه وهناك فوارق جوهرية بين محركاته ومناهج عمله و الذي ' يدعو إلى إصلاح أي نظام او مؤسسة قائمة بشكل جزئي  او العودة الى الاصل بدلاً من تغييرها جذريًا عندها يعتبر اصلاحاً عند أصحابه' والفكرة الإصلاحي نشأ كميل سياسي وفرضية اجتماعية من معارضة للاشتراكية الثورية والتي أسست على فكرة  الثورة التي هي 'علم تغییر المجتمع تغییرا جذریا و شاملا أو الانتقال من مرحلة تطویریة معینة الى أخرى أكثر تقدما مما یتیح للقوى الاجتماعیة المتقدمة في هذا المجتمع أن تأخذ بیدها مقالید الأمور فتصوغ الأكثر ملائمة و تمكنها من سعادة ورفاهية الانسان' والتغيير الشامل للنظم و الاضطرابات الثورية شرط مسبق وضروري للتغييرات الهيكلية اللازمة لتحويل النظام  الرأسمالي إلى نظام اقتصادي اشتراكي مختلف نوعيا على سبيل المثالً'

الإصلاح يعتبر منهجًا سياسيًا واجتماعيًا يقاوم الثورة والتغيير الشامل، ويؤمن بأن التغيير يمكن أن يحدث تدريجيًا من خلال الإصلاحات التدريجية دون حسابات الوقت والظرف. مفتقرًا إلى مخططات عملية وواقعية تراعي خصوصيات الحاضر وتستهدف المستقبل، دون ان يكادون يعرفون الشيء الكثير عن مجهودات بعضهم البعض مع ما يستلزمه ذلك من الصبر الطويل وعدم استعجال النتائج، ولم يجد واضعوها أنفسهم ملزمين بالإشراف والعمل على تنزيل ما نظَّروه من أفكار ونظريات ورُؤى، فكانت محاولاتهم نوعًا من الترف الفكري الذي يأتيه المصلِح باعتباره صاحبَ فكْرٍ عالِم تتحدَّد وظيفته في مجرد التنظير والتفكير، وعلى الآخرين تلقّي هذا الفكر والتعلَّق به والعمل على تنزيله، وقد صنع هذا الإحساس موانع بين المفكِّر وعموم أفراد المجتمع ممن لا ينتمون إلى الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها المفكر نفسه، بل يمكن القول إن مشاريع الإصلاح في العالم والعالم الثالث كانت مشاريع تُقدِّم نفسها على أنها هي البلسم الذي يشفي كل الأمراض، وتخيَّلت النتائج نظريًّا وحبرًا على ورق، بل بَنَت الحضارةَ وسيطرت على العالم وهي لم تبرح بعد مهدها الورقي، ويمكن القول بأنها ظلّت مجرد مغامرة أدبية يَصنع أبطالها المستحيل، وعلَّة ذلك هو عدم استحضار الشروط الواقعية التي يتحكَّم فيها السياسي والتاريخي والتحوُّلات الاجتماعية والثقافية وصراع المصالح، وغيرها.

إن الله  سبحانه وتعالى خلق الكون بما فيه في نظام مُحكمٍ دقيق، متكاملٍ صالح للإعمار، وجعله بما فيه مسخَّرا للإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه، وأمره بالإصلاح في الأرض، وحذَّره من الإفساد فيها، وصدِّ الناس عن دين الله، وحثَّهم على التأمل في مصير الظالمين المفسدين، الذين تجاوزوا قوانين الله في كونه، ونهاه عن سلوك طريق الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، حتى صبَّ عليهم ربهم سوط عذاب، حيث كان لهم بالمرصاد، فقال سبحانه وتعالى : وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)  الاعراف.

***

عبد الخالق الفلاح – كاتب واعلامي

الخبال: إختلال العقل

الخيال: إحدى قوى العقل التي يتخيل بها الأشياء.

الجنون فنون، وربما الإبداع جنون، والعقول التي إخترعت عبرت عن خبلها، وتواصلت مع أفكارها وحررتها من كونها المتصور وألقت بها متحركة فوق التراب، ومسيّرةً للبشر عبر الأجيال.

لو قال الأخوان رايت بأنهما سيطيران بالدراجة الهوائية، لأجزم المستمع إليهما بأنهما مجنونان.

ولو واجهنا أصحاب المخترعات العولمية عند بداياتهم، لرأينا أن ما يذهبون إليه نوع من الخبال، لكنهم تفاعلوا مع أفكارهم، وأصبحت الناس رهينة لمبتكراتهم.

ذات يوم جاءتني إمرأة مع إبنها الشاب مدعية بأنه مجنون، وتقول: هذا المجنون يخترع أشياء لا تخطر على بال.

وعندما سألته عما يفعله، تبين بأنه لديه قدرات فائقة على معرفة أي خلل يصيب المكائن في المعامل والمصانع، ويبتكر قطع غيار لتصليحها.

ولديه مشاريع لتصنيع مكائن وآلات متنوعة الأغراض.

إحترت في أمره وما تدّعيه أمه!!

لو كان في مجتمع آخر لأعطى للحياة ما يعجز عن وصفه الخيال، لكنه في مجتمعنا من المجانين.

وفي مدينتنا كان أحدهم من المخترعين الأفذاذ، ويصفونه بالمجنون، وهو مبدع خلاق ومبتكر متميز، وتم نسيانه ومنعه من العطاء.

وعند الإطلاع على تراث الأمة العلمي، تظهر قدرات أبنائها وما إبتكروه وتوصلوا إليه من المخترعات الأصيلة، التي أذهلت الناس في زمانها، ولعدم توفر قدرات الإنتاج الوفير بالجملة، كانت بالمفرد النادر، وضاعت مع توالي النواكب والخطوب والزمن الغضوب.

فالأجيال تحمل موروثات الإبداع الفائق الأثيل، وتحتاج إلى بيئة صالحة لتنطلق براعمها الواعدة.

فهل لنا أن نؤمن بقدراتنا ونتواصل مع أجدادنا؟!!

أفكارنا تسحقنا، أيامنا تلعننا، ما عندنا يرهقنا، حياتنا في جهلنا، نطيعها أوهامنا، وندّعي بأننا، نوابغٌ في عصرنا، وإننا نمشي على رؤوسنا، صولاتنا تحجرنا، وبعضنا يأكلنا، جديدنا جنوننا!!

***

د. صادق السامرائي

كيف ولدت المواطنة في عراق ما بعد العثمانيين، وما العلاقة بين التبعية العثمانية والأخرى الإيرانية وبين التبعية وحيازة الجنسية؟

استدراك من الجصاني: أبدأ هذا الجزء باستدراك مهم ورد في الرسالة الرابعة التي وردتني من الصديق العزيز رواء الجصاني عملا بحق الرد والتعقيب والاستدراك وكان قد نشرها كتعقيب أيضاً على الجزء السابق من هذا الملحق وليس لدي تعقيب عليه: "جاء في إحدى خلاصاتي وملاحظاتي التي نقلها الصديق اللامي بنصها وهي "ان الجواهري كان يترفع عن الاشارة الى "أصله" العربي، باعتبار ذلك تحصيل حاصل، كما احسب". وقد استدركت لاحقا بإضافة جملة "جهد ما استطاع". وأضيف هنا ولكن يبدو أن الامر احتاج الى استدراك أو اضافة أخرى أكثر وسعا، وخلاصتها أهمية ما جاء في "ذكرياتي" للجواهري / الجزء الاول / دمشق 1988 الذي يحرص الاستاذ اللامي، كما احرص، على التوثيق له، والاستنتاج بشأنه للحقيقة والتاريخ..".

التبعية والمواطنة والجنسية: أهدف من خلال هذا المداخلة التخليلية التاريخية إلى محاولة توضيح وإثبات أن التبعية العثمانية أو الإيرانية في عراق العشرينات لا تعني دائما وبالضرورة أي تبعية قومية أو مواطنة لحائزها في دولة أجنبية أخرى نظرا لغياب الكيانية الجغراسياسية العراقية باسم العراق، هذا أولا. وثانيا، فأن التبعية الإيرانية شيء قد يكون رمزيا وغير مسجل إداريا أحيانا أما حمل الجنسية الإيرانية فشيء آخر ويعني المواطنة لدولة أخرى بغض النظر عن الأصل القومي لحاملها. وإذا كانت هناك أسر وقبائل عربية شيعية كثيرة في العراق ذات تابعية للدولة الإيرانية القاجارية فهذا لا يعني أنها إيرانية أو فارسية بل هي تتمتع ببعض الحماية ومعفاة من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني. وإذا كانت قبائل عربية سنية أخرى ذات تابعية عثمانية فهذا لا يعني بالضرورة إنها تركية قوميا بل عثمانية انتقلت إلى المواطنة والجنسية العراقية بزوال السلطنة العثمانية وقيام الدولة العراقية تلقائيا لكونها لم تكن لها تبعية لدولة أخرى.

كان العراق في العهد العثماني مقسماً إداريا إلى ثلاث ولايات هي الموصل وبغداد والبصرة. وكانت بغداد بمثابة العاصمة لإقليم العراق القديم وغير المتشكل في وحدة إدارية موحدة كإقليم واحد ضمن الدولة العثمانية اللامركزية واقعاً كسائر البلدان العربية!

وقد بدلت بغداد التي لم تكن في الأوان العثماني أكثر من ثكنة "قشلة" لقواتهم العسكرية الجاهزة دائما للقيام بغزوات وحملات موسمية أو مفاجئة ضد القبائل العربية العراقية في الوسط والجنوب شبه المستقلَين عمليا، أقول لقد بدلت بغداد محتليها عدة مرات فتارة يسيطر عليها الصفويون القادمون من بلاد فارس وأخرى يغزوها العثمانيون الترك القادمون من هضبة الأناضول لتعود المدينة إلى السلطنة العثمانية. وبعد سقوط هذه السلطنة وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني. ثم جاءت الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 التي أطلقت شرارتها وقادتها قيادات دينية وقبائلية عربية شيعية ومعها بعض الزعامات السنية ممثلة بالشيخ ضاري المحمود الزوبعي فاضطرت بريطانيا إلى إيجاد شكل من أشكال الاحتلال غير المباشر وأقامت دولة ملكية في العراق سنة 1921 واستجلبت لها الملك الهارب من مملكته قصيرة العمر في سوريا فيصل بن الشريف حسين.

وحين قامت الدولة العراقية، كانت المهمة الأولى للقائمين عليها حل مشكلة المواطنية في الدولة الجديدة ومنحهم جنسيتها التي تسمى في القانون العام "الجنسية الأساس" في دولة جديدة: ومن الطبيعي أن تكون المواطنة في آخر كيان سياسي في العراق أي الدولة العثمانية هي الأساس. وعلى هذا "نصت المادة (3)  من قانون الجنسية العراقي رقم 42 لسنة 1924 الملغي على انه " كل من كان في اليوم السادس من اب 1924 من الجنسية العثمانية وساكنا عادة في العراق تزول عنه الجنسية العثمانية و يعد حائزا على الجنسية العراقية ابتداءً من التاريخ المذكور " ولذلك تعد هذه المادة الاساس القانوني لأحكام الجنسية العراقية، وأكد هذا المبدأَ قانونُ الجنسية رقم 43 لسنة 1963 الملغي في المادة الثانية منه، و اشار لذلك و فق المادة الثانية قانون الجنسية العراقي النافذ رقم 26 لسنة 2006، و عليه من خلال الاحكام أعلاه فأن جنسية التأسيس تفرض على أساس توافر الشرطين التاليين : أولا، ان يكون الشخص عثماني الجنسية في 6 / اب / 1924و هو تاريخ بدء سريان معاهدة لوزان على العراق التي خولت الدولة وفقا للمادة 30 منها بتحديد "مواطنيها" ضمن حدودها الإقليمية.

والشرط الثاني، أن يكون الشخص العثماني ساكنا في العراق عادة، حيث اشارت المادة ( 2/ 5 ) من قانون الجنسية العراقية رقم 42 لسنة 1924 على "كل من كان محل اقامته في العراق منذ يوم 23 / اب / 1921 و لغاية 6 / اب / 1924 و العثماني الذي غادر العراق قبل هذه المدة لا يستفيد من هذه المادة ".

ابتكار شهادة الجنسية: هنا بالضبط، برزت مشكلة العراقيين العرب وغير العرب الذين كانوا يحسبون أنفسهم على التبعية الإيرانية، مع إنهم ليسوا إيرانيين ولا جذور لهم فيها غالباً. علماً، أن بعض هؤلاء وخصوصا من الميسورين وذوي الأصل الإيراني فعلا كانوا يحملون الجنسية الإيرانية وبعضهم الآخر لا يحملونها، وكان بعضهم فرساً ولم يكن البعض الآخر كذلك، وإلى هذا النوع من حملة الجنسية الإيرانية رجحنا انتماء الشاعر الجواهري وأسرته.

ولحل هذا الإشكال وإشكالات أخرى مرادفة لتطبيقات قانون الجنسية للدولة الفتية رقم 42 لسنة 1924، ابتكرت الإدارة العراقية الملكية وثيقة تسمى "شهادة الجنسية"، التي تؤكد عراقية المواطن. ولم تكن هذه الوثيقة تُمنح بسهولة لجميع الناس. ولكني ومن خلال تجربتي الشخصية والعائلية لاحظت أن العرب من قبائل الجنوب والفرات الأوسط كانوا يحصلون عليها بسهولة نسبية أسوة بمواطنيهم من عرب المنطقة الغربية والشمال. وربما يكون ثمة تمييز طائفي في هذا الصدد ولكنه يرتبط على الأغلب بحالات فردية ولم يكن ممنهجاً ومدفوعاً بالخوف من مزاحمة العرب الشيعة للعرب السنة على حكم العراق أو على الوظائف والمناصب كما يقول البعض. إذْ أن خوفاً من هذا القبيل لا أساس له فالعرب الشيعة كانوا يقاطعون الدولة العراقية الجديدة أصلا على اعتبار أنها غير مستقلة وتابعة لبريطانيا ما يعني أن تضحياتهم في ثورة العشرين ذهبت سدى، وهو اعتبار صحيح تماماً من ناحية جيوسياسية وتاريخية.

وإذا أردنا أن نضع هذه المخاوف والهواجس في سياقها التأريخي الصحيح، لكي نفهمها فهماً يقربنا من حقيقة ما حدث فعلينا التذكر بأن استقلال الدولة العراقية كان هشا ومهددا في السنوات والعقود الأولى. وكانت إيران وتركيا الجمهورية قد وقفتا ضد استقلال العراق عن بريطانيا. وادعت كلتاهما الحق في إلحاقه بهما. وماتزال للدولتين أطماع معلنة في أراضي ومياه العراق حتى الآن. وكمثال على هذه العنعنات في تلك السنوات نذكر أن رجل دين من حملة الجنسية الإيرانية كان يعيش في العراق يدعى الشيخ حسين يزدي وقف صراحةً ضد استقلال العراق ودعا علنا في بيان نشر في الصحف العراقية سنة 1925، وقال فيه إنَّ العراق "يجب أن ترعاه مربيته القديمة تركيا وأمه فارس إلى أن تظفر باستقلالها. ص186 من كتاب "شيعة العراق - إسحق نقاش". في حين وقف رجال دين إيرانيون آخرون مقيمون في إيران ذاتها موقفاً مؤيداً لاستقلال العراق ومنهم آيات الله محمد حسين النائيني أحد قادة الثورة الدستورية "الحركة المشروطة" سنة 1905، والأصفهاني والخُراساني.

ومثلما لا يمكن تفسير تاريخ العراق الحديث بالتمييز الطائفي الذي كان هامشياً "وشبه فولكلوري" آنذاك، فلا يمكن تفسير عدم وجود تمثيل شيعي عراقي مناسب لحجمهم السكاني في الدولة العراقية الملكية الجديدة بالتمييز الطائفي السني ضدهم، بل لأن هناك عدة عوامل لعل أبرزها وأقواها مقاطعة القيادات المجتمعية القبائلية والدينية الشيعية للدولة العراقية التي اختلقها البريطانيون للالتفاف على ثورة العشرين الاستقلالية. ومع ذلك فقد خُرقت هذه المقاطعة جزئيا وعدم وجود كوادر من العرب الشيعة في الدولة العثمانية ينتقلون تلقائيا منها الى الدولة الجديدة كما حدث من أقرانهم العرب والكرد السُّنة. ومع ذلك فقد سارع بعض السياسيين من الشيعة إلى خدمة الكيان الوليد الذي قرر قادة ثورة العشرين مقاطعته. وكان الوجيه والتاجر الشيعي عبد الحسين الجلبي أول من خرق المقاطعة، وأصبح وزيراً فيه، وقد هجاه الشاعر الشعبي الساخر مُلا عبود الكرخي بقصيدته الشهيرة "وعدتنا من الوزارة تستقيل.. وعدلت عنها لماذا يا محيل؟ ".

الوزير المذكور، سليل عائلة الجلبي المغرقة في الولاء والتبعية للبريطانيين " وكانت هذه العائلة تمثل حالة نموذجية أخرى، إذْ كانت واحدة من العائلات الشيعية القليلة التي حافظت على علاقات ممتازة مع الحكومة العثمانية. وكان سلفهم علي الجلبي جابياً لضرائب الكاظمية وكان غاية في القسوة، وعنده حرس شخصيون من العبيد المسلحين وسجن خاص بتصرفه. وعندما مات تنفس أهل الكاظمية- وهم من الشيعة- الصعداء. أما ابنه عبد الحسين، الذي أصبح رئيساً لمجلس إدارة شركة ترام الكاظمية / بغداد، فقد كانت له، منذ العشرينيات، حقيبة في كل وزارة تقريباً لأنه كان (قابلاً للاعتماد عليه ولين العريكة..)  كما جاء على لسان السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني " جيرترود بيل" والمعروفة اختصارا لدى العراقيين بـ " مس بيل / أم سبيل ". وأما حفيده عبد الهادي فقد حظي في العام 1938 بعطف عبد الإله الذي سيصبح وصياً على العرش لأنه ساعده بالقروض"، كما كتب حنا بطاطو، العراق- الكتاب الأول، ص352. وهذا نموذج على الصعيد الأسري مع وجود استثناءات لشخصيات وطنية حتى ضمن هذه الأسرة تجعل التعميم غير وارد. ولكن هل فعلا يقسم هذا القانون العراقيين إلى درجة أولى وثانية على أساس طائفي؟ فهذا ما سنتوقف عنده وعند شهادات أخرى ترفض اتهام الحصري بالطائفية وتقدم دليلا قويا على نفيها، وأخرى تبرئ الرصافي مما نسب إليه من أقوال ومواقف ضد الجواهري وقصيدته "بريد الغربة" في الجزء القادم من هذا الملحق.

***

علاء اللامي

 

لو كان التوتر رجلا لقتلته، فضحاياه اليوم يزيد عددهم عن قتلى هيروشيما أو بركان فيزوف. إن أصابع الاتهام لا تكف عن الإشارة إليه كسبب رئيسي في وفاة ثمانية ملايين شخص كل عام. لا فرق في ذلك بين مالك أسهم في البورصات الدولية، وبين من لايملك قوت يومه.

كان الإنسان حتى وقت قريب يؤَمّن احتياجاته من الطعام، ثم يعود إلى بيته مساء لينسج حكايات عن الأمير وابنة الحطاب، والأميرة والراعي، والصياد الذي عثر في بطن سمكة على عقد من اللؤلؤ. كانوا يجدون في الحكايات لذة تحقيق الأمنيات البعيدة، فلم يعانوا من ضغوط نفسية رهيبة، كالتي يئن تحت وطأتها إنسان الوفرة والاستهلاك، ومخترع الطائرة والثلاجة والحواسيب. هذا المخلوق الذي تخلص من الجاذبية ليصعد إلى القمر، لكنه لم يتخلص من الوحش الذي بداخله لينعم بالسعادة.

يُولّد الإيقاع اللاهث للحياة المعاصرة جملة من التحديات والظروف الصعبة التي تُلزم الإنسان بالتكيف معها. ونتيجة لذلك يتراكم بداخله ما يسميه علماء النفس " التوتر الكامن"، أو ما نعبر عنه في حياتنا اليومية بالمزاج السيء، وفقدان حس الدعابة، والعجز عن مواجهة الأخطاء والمشكلات.

لعل إحدى أكثر مسببات التوتر شيوعا اليوم هي الرغبة الجارفة في التفوق، وتأكيد الذات، وتحقيق الإنجاز العالي. فالنماذج المجتمعية التي يروج لها الإعلام بشكل مفرط، يتم تقديمها على أساس أنها مرتفعة الأداء؛ مما يستحث دوافع الأفراد ويُحفزهم لإيجاد موقع في دائرة الضوء. وهو بالتأكيد شيء طيب، لولا أنه يتجاهل المعايير المرتبطة بالثقافة الأسرية، والبيئة الاجتماعية.

ويرجع السبب الثاني إلى السعي المتواصل لتحقيق السعادة خارج الذات، بينما تؤكد التجارب والوقائع اليومية أنها شعور داخلي، يتحقق من خلال مجموعة من الفضائل التي تتجاوز الزمان والمكان، والتي صار بالإمكان قياسها من منظور تحليلي علمي لإثراء القوى الإنسانية. وماذا يملك إنسان الميديا الذي تداهمه آلاف الرسائل الإعلامية والإعلانية لإقناعه بأن السعادة لا تتحقق سوى خارجه، وأن حياته هي رحلة بحث مضن عن الشيء أو الشخص الذي يملك المفتاح؟ تجيب لويس ليفي مؤلفة كتاب (اِخلع رداء التوتر):" إذا قررت أنا أن الأمر يتطلب شخصا آخر ليجعلني سعيدة، فإنني إذن وضعت سعادتي في يد هذا الشخص الآخر. فهل حقا أتوقع أن يفعل شخص آخر ما أود أن يفعله بالضبط حتى أصبح سعيدة؟".

سبب آخر يستدعي التوتر، وهو المتعلق بهوس التملك وتكديس الأشياء، وما يستلزمه ذلك من حاجة مستمرة للمال، حتى أن أحدهم عبّر ساخرا بأن السعادة اليوم ليست في المال بل في الأموال. وما يضاعف النشوة المفرطة للاقتناء أنها أصبحت رمزا للمكانة، ومدخلا لتأكيد الذات والقوة والسلطة؛ بل وهيمنت مشاعر الملكية حتى على العلاقة مع الآخر، من خلال عبارات متكررة في التداول اليومي من قبيل " طبيبي، محامي، جمهوري..".

إن للتملك جذوره المتأصلة في الطبيعة البشرية، إذ لابد للإنسان أن يملك بعض الأشياء للبقاء على قيد الحياة؛ أما ما يسميه آيريش فروم ب "لتملك التطبعي" فهو سلوك مصطنع، يغذي إحساسا زائفا بالهوية والمكانة والصحة العقلية. يقول فروم في كتابه (الإنسان بين الجوهر والمظهر):" في نمط التملك لا توجد علاقة حية بيني وبين ما أملك. فأنا وما أملك أصبحنا جميعا أشياء.. إن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي علاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء، والعلاقة بينهما علاقة موات وليست علاقة حياة".

وتضيف لويس ليفي سببا رابعا للتوتر المتزايد، وللضغوط التي باتت تهدد حياتنا النفسية والجسدية، وهو المتعلق بالحضور المتسلط للآلات، ومحاولاتنا المتكررة للتلاؤم مع سرعتها. فنحن ابتكرنا التكنولوجيا، لكن أجسادنا ليست مهيأة لمواكبتها. لقد اعتدنا قديما أن نستجيب للتوتر في المواقف المثيرة من خلال ضخ الأدرينالين اللازم للهروب أو القتال؟ أما اليوم فلا يمكننا فعل نفس الشيء ونحن نتعامل مع عطل في السيارة، أو أمام الصراف الآلي. وهذا الضغط الذي تمارسه الآلات بشكل يومي لا يمكن لأجسادنا أن تتحمله.

ما الحل إذن؟

وكيف نتخلص من هذا الثقب الهائل الذي يمتص راحتنا وسعادتنا، وآمالنا في عيش أفضل؟

تلقي دور النشر في الآونة الأخيرة بعدد كبير من الإصدارات التي تندرج تحت ما يسمى بالتطوير الذاتي. ومن خلال العناوين يظهر شبه إجماع على أن التوتر هو سمة العصر، والعابث الأول بأعصابنا. تلك الموصلات التي ترزح اليوم تحت ظلمات الهم والقلق والأرق.

تدور أغلب العناوين حول ضرورة تبسيط حياتنا. وتتنوع المسميات بين فن العيش، وفن الغفران، وفن الحياة البسيطة، بل حتى فن اللامبالاة. أما الحلول والبدائل فأغلبها مستقاة من النصوص الدينية القديمة، ومن معطيات علم النفس والبيولوجيا وفسيولوجيا الأعصاب. وهي في مجملها دعوة للضحك الذي يجلب الأوكسجين، ويخفف الشد الموجود في عضلاتنا، ولإجراء تمارين الاسترخاء والتنفس، والعودة إلى الطبيعة التي تُذكرّنا برحم الأم، حيث بدأنا الحياة في سائل محاط بموجات دافئة ومغذية.

 يحرمنا التوتر بهجة الحياة فيفقد الإنسان الاهتمام بصحته وجماله، وتعتريه شيخوخة مبكرة. ولو تأمل في الأسباب كما يقول ماركوس أوريليوس، لوجد أن الألم والضغوط ليست نتيجة لتلك العوامل نفسها، بل لتقييمه لها؛ وهو الأمر الذي يمكنه إيقافه في أية لحظة. وبعبارة تولستوي الرشيقة:

" إذا أردت أن تكون سعيدا، فكن سعيدا! "

***

حميد بن خيبش

أبو المظفر يوسف بن المقتفي (518 - 566) هجرية، تولى الخلافة (555 - 566)، ولمدة (11) سنة، وفي عمر (37)، وصار وليا للعهد في عمر (29)، وتوفى في عمر (48). وكان متسما بالعدل والرفق وشديدا على الفاسدين. ويقول إبن الجوزي: "كان المستنجد موصوفا بالفهم الثاقب، والرأي الصائب والذكاء الغالب، والفضل الباهر، له نطم بديع ونثر بليع، ومعرفة بعمل آلات الفلك والإسطرلاب".

من شعره:

"عيرتني بالشيب وهو وقار

ليتها عيرت بما هو عار

*

إن تكن شابت الذوائب مني

فالليالي تزينها الأقمار"

ومضت الدولة في الإضطرابات والنزاعات بين الملوك والسلاطين، والخليفة ينأى بنفسه عنها، ولهذا بقي في الخلافة حتى وفاته، ولم يتعرض للإذلال كغيره.

وفي زمانه كان لصلاح الدين الأيوبي ونور الدين وأسد الدين صولاتهم في مصر وما جاورها ومواجهاتهم مع الغازين.

ويُقال أن محظية أبيه أم علي قد تآمرت عليه، يوم تشييع جنازة أبيه، وكانت تريد قتله وتولية إبنها علي، لكن المؤامرة كشفها أحد غلمانه، فتقلد سيفه وأحبطها، فسجن أخاه وأمه، وأغرق الجواري المشتركات في محاولة الإغتيال.

ويذكر أن وزيره وحاجبه وطبيبه ربما تآمروا عليه فأدخلوه الحمام ثم أغلقوا الباب عليه فمات خنقا.

كن قويا سوف تحيا عادلا

وبها الإنصاف يبقى ماثلا

لا تكن سهلا مطيعا تابعا

أو جهولا في حماها غافلا

هذه الدنيا كغابٍ صاخبٍ

وأسود الغاب تهوى العاجلا

***

د. صادق السامرائي

 

من يصنع التأريخ لا يكتبه، لأن وقته مستثمَر في تلك الصناعة، والذين يكتبون التأريخ يدوّنون أحداثه، فتختلط مواقفهم منها ووجهات نظرهم عنها بما يدونون، فتكون المدونات التأريخية مؤشرات أو دالات على أن الحدث قد حصل، أما تفاصيله وآلياته وتفاعلاته فتكون في قبضة الرؤى والتصورات والمواقف للكاتب.

وكلما تمادت القوة في صناعة التأريخ، قلت فرصة تدوين ما أنجزته، وهذا ينطبق على الدولة الأموية التي كانت كالإعصار المتوثب، الذي إنطلق مدويا في رحاب الأرض، فتحققت الفتوحات وبلغت ذروتها.

وعندما جاء العباسيون بقيادة أبو مسلم الخراساني، وتسنم أبو العباس السفاح الخلافة، كاد أن يقضي على الدولة الشاسعة ويمزقها، لإنشغاله في إبادة الأمويين، ولولا تدخل الأقدار وموته المبكر، وتولي أبو جعفر المنصور الخلافة، الذي إستطاع أن يحافظ على معظم أرجاء الدولة ويزيد في إحكام السيطرة والإنطلاق بها إلى مديات جديدة، فهو المؤسس الحقيقي لها.

وفي عصره بدأت الجهود الحثيثة للتنوير الفكري من الترجمة والتدوين إلى إنبثاق العلوم الأخرى وتطورها وسيادتها على الوجود الإنساني.

وكانت الدولة الأموية تعتبر غير العربي من الموالي، أما الدولة العباسية فللموالي دورهم القيادي المؤثر في مسيرتها، وهم الذين دوّنوا ما إستطاعوه من الماضي والمعاصر في زمانهم ، ولهم ربما يعود الفضل في الثورة المعرفية المشرقة التي قادتها بغداد والبصرة والكوفة.

فالعباسيون نقلوا الشفاهي المتداول إلى الورق. ومضت الحالة في تصاعدها حتى إنتقال العاصمة العباسية من بغداد إلى سامراء سنة (222) هجرية، فإنكمشت النشاطات المعرفية، خصوصا عند مداهمة الفوضى للحياة بعد مقتل المتوكل سنة (248) هجرية، وحتى إنتقال العاصمة إلى بغداد سنة (279) هجرية، وهذا يفسر قلة المدونات عن النشاطات العلمية والثقافية التي جرت في سامراء، أثناء دورها كعاصمة للدولة العباسية، كما أن الأتراك هيمنوا على مقاليد الأمور، وإنهمكوا في صراعات داخلية وحروب خارجية أبعدتهم عن التدوين والعلم، وكانوا يكتبون بالسيف والدم، ويجيدون صناعة المحن والأحزان، وهم الذين أسهموا في تخريب قصورها الفيحاء!!

فصانع الأمجاد لا يدونها، وذووا الأقلام لا يشاركونها، فيكتبون عما تصوروه عنها، فتكون المسافة شاسعة بين المدون والمنجز.

دماءٌ في مداد الخط تسعى... بما نظروا إليها سوف تُدعى، إذا صنعوا الملاحم جاوزوها... وأغرابٌ بها جادوا كصرعى، مدوّنة بأيامٍ خطاها... فمَن أدرى بمن فيها سيُنعى!!

***

د. صادق السامرائي

كنت قد وعدت القراء بنشر أية تعقيبات موثقة ورصينة يتكرمون بها، ورحبت خاصة بتلك التي قد تأتي من أقارب الشاعر الراحل الجواهري. وكان الصديق الأستاذ رواء الجصاني ابن أخت الشاعر الراحل والقيم والوصي الرسمي على تراثه ومؤسس مركز الجواهري وهو أيضا صحافي وناشر يدير دار نشر بابليون في العاصمة التشيكية براغ. قد كتب لي الصديق الجصاني بعد نشر الحلقة الثانية من مقالتي مرحبا بما نشرت ومبديا رأيه في بعض التفاصيل واعدا بأنه سيكتب لي بعد اكتمال نشر المقالة.

وقد برَّ الأستاذ الجصاني بوعده وكتب لي رسالة أخرى وأرسل معها بعض الوثائق والصفحات ذات العلاقة من مذكرات الشاعر الراحل. وقبل أن اقتبس ما أراه مهما ومفيدا من رسائل الجصاني سأكرر هنا وعذرا خلاصة مركزة لرأيي في موضوع قومية الشاعر الجواهري والتي كنت قد طرحها في مقالتي المنشورة. وسأنشر روابط تحميل بعض كتب المذكرات ذات الصلة ومنها مذكرات الجواهري بجزأين، والجزء الثاني من مذكرات ساطع الحصري وأرجو ممن لديه رابط لتحميل الجزء الأول، وهو الأهم، أن ينشره في التعقيبات أو يرسله لي على الخاص ومذكرات:

تذكير بخلاصة بحثي: الجواهري شاعر عراقي عظيم، بل هو أكبر شاعر معاصر من شعراء العربية في الشعر العمودي "القريض" في القرن العشرين ولعدة قرون خلت وصولا إلى قرن صفي الدين الحلي في القرن الثالث عشر وهو أحد شوامخ السردية الشعرية العربية العراقية الكلاسيكية، ولكني لا أرجح أن الجواهري عربي، وأما أمر جذوره الإيرانية فمحسوم بماضي أسرته طوال خمسة قرون في إيران قبل مقدمهم إلى العراق، وقد تكون أصوله القومية فارسية وقد لا تكون، وقد تكون أصول العائلة الجواهرية عربية قبل مقدمها إلى إيران من جبل عامل في لبنان وقد لا تكون، فهذان أمران لا سبيل لإثباتهما إلا على سبيل الترجيح والظن في الوقت الحاضر. فإذن، مسألة عراقية الشاعر الجواهري ليست موضع تشكيك أو قدح، فهي صفة أكيدة وأصيلة له وفيه، أما الأصل القومي له أو لغيره سواء كان فارسيا أو عربيا أو غير ذلك، فهو مسألة شخصية بحتة، شأنها شأن المذهب والدين، ولا ينبغي أن تهم أحدا سوى حاملها والمؤرخين والنقاد الذين يتصدون لكتابة سيرته أو أبحاث عنه. وصاحب الشأن هو مَن يمكنه ويحق له أن يؤكدها أو ينفيها كمعلومة، ومن حقنا نحن أن نبحثها نقدياً في محاولة لمقاربة الحقيقة بغض النظر عما يقوله هو وفي ضوء المنهج البحثي العلمي وما يتوفر من وثائق صحيحة.

رسائل وريث الجواهري رواء الجصاني:

بالعودة إلى رسالتيِّ السيد رواء الجصاني، الأولى والثانية، نجده يعرض وجهة نظره بوضوح. وخلاصتها حرفيا أنه يرى أن محمد مهدي الجواهري شاعر عراقي من أصل عربي ولكن الجواهري "كان يترفع عن الاشارة الى "أصله" العربي، باعتبار ذلك تحصيل حاصل، كما أحسب.. غير أن العشرات من أبيات شعره الثري تؤرخ لما كتبه بهذا الشأن". ثم يورد الجصاني عددا من الأبيات سوف أناقشها في موقع آخر من هذا النص.

وتعليقا على ذلك أقول: من وجهة نظر بحثية منهجية فإنَّ ما يقوله الجصاني يدخل في باب الشهادات ووجهات النظر والاعتقادات الظنية بدلالة عبارته "كما أحسب"، هذا أولا، وثانيا فهي شهادة ليست مدعومة بوثيقة أو دليل ملموس آخر، ولكنها تبقى وجهة نظر وشهادة لها قيمتها المعلوماتية الترجيحية لأنها تأتي من قريب عائليا ورسميا من الجواهري وقد عاش جزءا مهما من حياته برفقته.

وفي رسالة الثالثة الجوابية ردا على بعض استفساراتي أوضح الأخ الجصاني الآتي:

بخصوص حيازة الجواهري "الجنسية الايرانية": على ما تابعت فإنه لم تكن هناك شهادة جنسية عراقية لمن سكن العراق وعاش فيه، عهد ذاك، فالكل عثمانيون.. إلا من سجل "تبعية لإيران" كقادمين منها، أو من الرعية المسؤولة إيران عنها.

* ويضيف الجصاني: "ومما يروى عن مصادر بعض أسرة ال الجواهري، القدامى، ان الزعيم الاجتماعي للأسرة، الشيخ جواد (وهو حفيد الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، إمام عصره عند الشيعة، وزعيم الحوزة في النجف) قد سجل الاسرة كــ "تبعيـة" لإيران، للخلاص من شمول ابنائها بالجندرمة والعسكرية العثمانية، عشية وخلال خلال الحرب العالمية الثانية. وفي ضوء ذلك، ونسبة اليه، ومع إقرار قانون الجنسية العراقي بعد الحكم الوطني، ووفق المعروف/ انه كان يُرمز لأبناء وبنات آل الجواهري، بـكلمة "تبعيـة" عندما منحت / تمنح الجنسية العراقية لهم بـ" التبعيــة" وليسوا اصلاء (!!) ... مع استثناءات.   وعلى حد علمي - وأنت أعرف- أن هناك أيضا الكثير من العوائل والأسر النجفية "تبعية" ومنها "الرضي" أسرة الشهيد سلام عادل "حسين الرضي"، وآل الخليلي.

ويضيف الجصاني: "وحتى اليوم هناك أبناء عمومة وخؤولة من آل الجواهري في طهران وغيرها يحملون الجنسية الايرانية، وهم مقيمون هناك منذ أمد طويل، يقرب من القرن، على الأقل. منهم خالي الآخر، عبد العزيز صاحب الجواهر (أي الجواهري) وهو "الشقيق" الأكبر من محمد مهدي، هاجر من النجف الى إيران في مطلع عشرينات القرن الماضي، وحمل الجنسية الايرانية، وتوفي هناك في السبعينات الفائتة، وهو فقيه وشاعر ومترجم بارع، واستاذ لغوي زائر في جامعة طهران".

يختم الأستاذ الجصاني رسالته بهذه المعلومة: " وللمعلومات أيضا، تم تهجير جمع من أبناء وبنات من الأسرة الجواهرية، أوائل الثمانينات الماضية الى الحدود مع إيران، ومنهم السيد صادق بن الشيخ ابراهيم، الجواهري، وأطفاله الاربع، كما اعتقل في النجف وأخفي (أعدم) الشيخ محمد تقي ابن الشيخ "اية الله" عبد الرسول، وهو خال الجواهري، في الثمانينات الأخيرة لتابعيته الى السيد الصدر الاول ودوره في زعامات حزب الدعوة الاولى.  والشيخ حسن ابنه الان (ابن محمد تقي) بدرجة "اية الله" يقيم في النجف حاليا بعد ان هُجر او هاجر الى قم وبقي هناك أكثر من ثلاثة عقود، وعاد بعد عام 2003. وهو الزعيم الديني حاليا للأسرة الجواهرية ".

  نستخلص من كلام الأستاذ الجصاني في رسالته الأخيرة الخلاصات التالية والتي يمكن أخذها بنظر الاعتبار كشهادة من قريب للشاعر الراحل وقيم ووصي على تراثه رسميا:

* إن العائلة الجواهرية كانت تحسب فعلاً على التبعية الإيرانية. ولكن وجود عدد من أفراد الأسرة ومنهم عبد العزيز صاحب الجواهر (أي الجواهري) الشقيق الأكبر لشاعر الجواهري في إيران وعيشهم فيها حتى وفاة بعضهم يؤكد أن الأمر يتعلق بما هو أكثر من التبعية الإيرانية، وقد يصل إلى حيازة الجنسية الإيرانية وهو أمر أكدته شهادات أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا. والتبعية لا تعني فقط حاملي الجنسية بل غيرهم أيضا فقد كانت تشمل أسرا وغالبية العشائر والقبائل العربية العراقية لأنها شيعية واختارت التبعية لإيران القاجارية حتى لا يُشمل أبناؤها بالخدمة العسكرية العثمانية بموجب اتفاق إيراني عثماني بين الدولتين المتحاربتين آنذاك.

هنا، ثمة خلط تقليدي بين أمرين؛ الأول التبعية لإيران والثاني حمل جنسيتها من قبل ذوي الأصول الإيرانية من الفرس وغير الفرس. ولأن موضوع التبعيتين طويل ومعقد فسأتطرق له باختصار شديد على أمل العودة إليه في مناسبة أخرى بإسهاب أكثر.. يتبع قريبا.

***

علاء اللامي

أحمد أبو العباس أحمد بن المستضيئ بأمر الله (553 - 622 ) هجرية، عاش (69) سنة، وإستمر بالخلافة (47) سنة، (575 - 622) هجرية، وتولاها في عمر (22). ولم يل الخلافة أحد أطول منه. ويبدو أنه قد تميز بذكاء فطري عن سابقيه ولاحقيه فتمكن من البقاء بالخلافة ما يقرب من نصف قرن دون أن يتعرض لهوان أو إذلال، بل كان مهابا مطاعا، وصاحب حيل ومراوغات معقدة تنم عن ذكاء فائق.

وتميزت سياسته بالقضاء على التعصب المذهبي الذي كان يستثمر فيه الملوك والسلاطين للنيل من الخليفة، وقرّب العرب وأبعد الأغراب عن الحكم، فتآلفت القلوب وتفاعلت بإيجابية، وقلت الفتن والإضطرابات، وكانت علاقته بصلاح الدين الأيوبي وطيدة.

وتمكن من القضاء على السلاجقة وإزالة آثارهم في بغداد، وإهتم بعمارة المدينة وتحصين أسوارها.

قال إبن النجار: "دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعته من كان من المخالفين، وذللت له العتاة والطغاة، وإنقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له في ببلاد الأندلس والصين".

وقال إبن واصل: " كان الناصر شهما، شجاعا، ذا فكرة صائبة، وعقل رصين، ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور"

وقال الذهبي: ".....وكانت له حيل لطيفة ومكائد غامضة وخدع لا يفطن لها أحد، يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون"

وقال إبن جبير الأندلسي: "وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة، ويؤثر التحبب لهم، وهو مأمون النقيبة عندهم،  قد إستسعدوا بأيامه رخاءً وعدلاً وطيب عيش، فالكبير والصغير منهم داعٍ له"

والبعض يرى أنه كان رديء السيرة في الرعية، مائلا للظلم والتعسف، وكان يفعل أفعالا مضادة.

مؤلفاته: كتاب روح العارفين في الحديث النبوي الشريف.

وأطروحة العلامة مصطفى جواد لنيل الدكتوراه كانت عنه في جامعة السوربون.

ويمكن القول بأن الناصر لدين الله هو الخليفة الوحيد الذي أعاد للخلافة هيبتها وللدولة قوتها، بعد أن فقدتها منذ مقتل المتوكل على الله، فقد تمتع بدهاء سياسي وذكاء فاعل في تدبير شؤون الدولة، لم يتمكن أحد من بني العباس القيام به قبله.

وبسببه إستعادت الخلافة عزتها وكرامتها وتذلل لها الملوك والسلاطين، وأعلنوا الخطب بإسمها في كافة الأرجاء.

وهو يقدم مثلا على أن الأمة يمكنها أن تنجب منقذيها مهما طالت فترت إمتهانها والعبث بمقدراتها، فهو الخليفة الذي جاء بعد (328) سنة من  مقتل المتوكل، فأحيا الخلافة وأعاد لها روحها وجوهرها.

مما يعني أن الأمة لا تنمحق ولا بد لليلها الطويل أن ينجلي.

أمة تحيا وتبقى مشعلا

ودليلا ساطعا أو منهلا

إنها عاشت سموّا خالدا

وأجادت بحياةٍ أجملا

نصرها يهفو إلى أرجائها

بزمان بسُراةٍ إبتلى

***

د. صادق السامرائي

20\2\2021

لم تكنْ تلكَ الجملةُ، التي قالها ابنٌ في خلوتِهِ — أو تسرّبتْ من خاطرِهِ في ساعةِ مللٍ — سوى صدىً عميقٍ لانهيارِ مبدأٍ، وتهاوي صرحٍ من صروحِ الأخلاقِ.

"متى تموتُ يا أبي؟" ليستْ سؤالًا مباشرًا، بل فاجعةٌ أخلاقيةٌ تهزُّ أساسَ الأسرةِ، وتمتحنُ جوهرَ الروحِ.

كيف يمكنُ أن يبلغَ الإنسانُ تلكَ اللحظةَ التي يتمنى فيها أفولَ من أنجبهُ وربّاهُ؟

هلْ لأنَّ الأبَ أصبحَ عبئًا؟

أم لأنَّ الجيلَ الجديدَ باتَ يرى في الشيخوخةِ قبحًا، وفي الحكمةِ عبثًا، وفي المحبةِ عبوديةً؟

الأبُ ليسَ مجردَ جسدٍ يشيخُ، ولا معاشًا يُسحبُ، ولا اسمًا يُوقَّعُ به على صكوكِ الوراثةِ.

الأبُ، في الفهمِ الوجوديِّ، هو التاريخُ الحيُّ، هو خزانُ الوجعِ، والمعلّمُ الصامتُ، والجدارُ الذي احتميتَ خلفَهُ حينَ كنتَ تخافُ من الظلامِ، وتصرخُ ليلًا بلا معنىً.

هو من دفنَ أحلامَهُ لينمو حلمُكَ.

هو من آثرَ الصمتَ حينَ ثرثرتَ أنتَ بالخطأِ، وانتظركَ حتى تفهمَ.

هو من تظاهرَ بالقسوةِ كي لا تكبرَ ضعيفًا، ثم بكى ليلًا كي لا تراهُ ينهارُ.

هو من اقتطعَ من صحتِهِ ليُوفّرَ لكَ دفءَ الشتاءِ، ووهبكَ قميصَهُ دونَ أن يسألَكَ عن المقاسِ.

هو من صمتَ حينَ آلمتهُ كلماتُكَ، كي لا تُحرجَ من نفسِكَ، وادّعى أنَّهُ لم يسمعْ شيئًا.

هو من ظلّ واقفًا خلفَ بابِكَ كلما تأخرتَ، لا لينهرَكَ، بل ليطمئنَّ أن قلبَهُ عادَ حيًّا برجوعِكَ.

هو من تلاشتْ أحلامُهُ بين جدرانِكَ، لكنهُ لم يندمْ، بل رأى فيها امتدادًا لحلمِهِ القديمِ فيكَ.

هو من خبّأَ وجعَهُ بين السجائرِ أو الشايِ المُرِّ، وابتسمَ كي لا تفهمَ أنَّهُ يتألّمُ.

هو من باعَ زمنَهُ ليشتريَ لكَ ساعةً واحدةً من الراحةِ، ثم عادَ لحياتِهِ المعلّقةِ بلا صوتٍ.

هو من قرأكَ في صمتِكَ، وفهمكَ في غضبِكَ، ولم يطلبْ مقابلًا لفهمِهِ.

هو من تحمّلَ تقلّباتِكَ، وإهمالَكَ، وانشغالَكَ، ثم دعا لكَ دونَ أن ينتظرَ شكرًا أو زيارةً.

هو من عانقكَ دونَ أن يعانقَ، وأحبكَ أكثرَ مما عرفتَ الحبَّ في عمرِكَ كلِّهِ.

هو من اختصرَ الحياةَ في أمنيتينِ: أن تنجحَ، وأن لا تبكيَ بعدهُ.

ينقلبُ الابنُ حينَ ينهارُ المعنى، حينَ يُستبدَلُ الوفاءُ بالمصلحةِ، وتُقدَّمُ الراحةُ على التضحيةِ.

حينَ يظنُّ أنَّ الأبَ لم يعدْ صالحًا للعصرِ، وأنَّ الهاتفَ الذكيَّ أذكى من حكمةِ الشيبِ.

حينَ ينشأُ جيلٌ تعلّمَ أنْ يُحبَّ ذاتَه فقطْ، دونَ أنْ يفهمَ أنَّ الذاتَ لا تكتملُ إلّا حينَ تحبَّ الآخرينَ.

حينَ تصبحُ الثقافةُ معلبةً، والرحمةُ افتراضيةً، والعلاقاتُ مرتبطةٌ بمقدارِ النفعِ.

ينقلبُ الابنُ حينَ تنطفئُ فيهِ جذوةُ الحياءِ، ويغيبُ عنهُ سؤالٌ: "ماذا لو كنتُ أنا مكانَه بعدَ عشرينَ عامًا؟"

حينَ يتعاملُ مع أبيهِ كموظفٍ متقاعدٍ من العاطفةِ، لا كرجلٍ حملَ البيتَ على كتفيهِ وهوَ ينزفُ صبرًا.

حينَ لا يرى في تجاعيدِ والدِهِ قصةً، بل يراها عبئًا على صورتِهِ المثاليةِ أمامَ الناسِ.

حينَ يختزلُ الأبَ في قائمةِ طلباتٍ: خذْ، اجلسْ، اسكتْ، ارتحْ، ولا يدري أنَّ الأبَ لا يحتاجُ راحةً بقدرِ ما يحتاجُ حضورًا.

حينَ ينسى أنَّ هذا الشيخَ الذي يهتزُّ جسدُه، كانَ يومًا سورًا منيعًا أمامَ الجوعِ والخوفِ والذلِّ.

حينَ يصبحُ التقديرُ مشروطًا بالعطاءِ، لا بالانتماءِ، ويتحولُ البرُّ إلى مناسبةٍ موسميةٍ تُنشرُ على وسائلِ التواصلِ.

حينَ يبتعدُ الابنُ ليبني حياتَه، لكنهُ يهدمُ بعدَه أعمدةَ حياةِ أبيهِ، دونَ أنْ يشعرَ.

وحينَ يُقارنُ الأبَ برجلٍ في مسلسلٍ، أو شخصيةٍ افتراضيةٍ على الشاشةِ، دونَ أنْ يُدركَ أنَّ الأبَ ليسَ أسطورةً خياليةً، بل ملحمةً حقيقيةً صامتةً.

ينقلبُ الابنُ حينَ يموتُ في داخلِهِ الطفلُ الذي كانَ يركضُ نحوَ حضنِ أبيهِ خائفًا، ويولدُ مكانَه إنسانٌ بلا ذاكرةٍ.

موتُ الأبِ ليسَ موتَ الجسدِ، الأبُ يموتُ حينَ يسقطُ من قلبِ ابنِهِ.

حينَ يُختصرُ في سؤالٍ إداريٍّ: "هل أخذتَ دواءكَ؟"

حينَ تُلقى عليه الأوامرُ لا الكلماتُ الحنونةُ: "اجلسْ هنا… لا تتحركْ… لا تتكلمْ كثيرًا"

حينَ تُنتزعُ منهُ سلطتُه، وتُسحبُ منهُ كرامتُه على سريرِ المرضِ، أو في زاويةِ النسيانِ.

يموتُ الأبُ حينَ يُنظرُ إليه كجثةٍ مؤجلةٍ، لا ككائنٍ حيٍّ يستحقُّ أنْ يُكرَّمَ حيًّا قبلَ أنْ يُدفنَ ميتًا.

الفلسفةُ والبِرُّ: ما وراءَ السلوكِ

البرُّ بالأبِ ليسَ فعلًا اجتماعيًا نفعلهُ خوفًا من اللومِ، أو طلبًا للبركةِ، أو طمعًا بالجنةِ.

البرُّ موقفٌ فلسفيٌّ عميقٌ من الحياةِ، لأنَّهُ اعترافٌ بفضلِ من سبقكَ، وقبولٌ بفكرةِ أنَّكَ لستَ أصلَ الخليقةِ، بل فرعًا منها.

الابنُ العاقلُ لا يبرُّ أباَه لأنَّهُ مثاليٌّ، بل لأنَّهُ أبٌ.

لأنَّهُ الإنسانُ الوحيدُ الذي لو اجتمعتْ الأرضُ كلُّها ضدَّه، سيبقى يحميكَ — وإنْ بصمتٍ، وإنْ بضعفٍ، وإنْ من تحتِ الترابِ.

متى تموتُ يا أبي؟

سؤالٌ لا يجرؤُ على النطقِ بهِ سوى من ماتَ قلبُه قبلَ أبيهِ.

لأنَّ الأبَ لا يموتُ حتى وهوَ ميتٌ… فصوتُه باقٍ في كلماتِنا، وظلُّه يرافقُنا حينَ نخافُ،

وملامحُه تطلُّ من ملامحِنا دونَ أنْ نشعرَ.

فكيفَ تتمنى موتَكَ أنتَ، حينَ تتمنى موتَ أبيكَ؟

أليسَ هو امتدادَكَ؟

أليسَ من الغباءِ أنْ تُقطعَ الجذورُ وتطلبَ من الأغصانِ أنْ تبقى خضراءَ؟

إلى الأبِ الذي يشيخُ:

أيها الأبُ، إنْ قالها ابنُكَ أو فكّرَ بها، فلا تحزنْ…

ربما لم يقرأْ فيكَ جيدًا، أو لم تُعلّمهُ الحياةُ كيفَ يراكَ.

ربما لم يكنْ قلبُه ناضجًا ليفهمَ أنَّكَ لم تكنْ عالةً، بل عِبرةً.

ربما ستأتي لحظةٌ يركعُ فيها أمامَ قبرِكَ، ويبكي كما لم يبكِ طفلٌ من قبلُ، ويهمسُ:

"اغفرْ لي يا أبي… لقد كنتَ كلَّ شيءٍ، ولم أركَ."

***

د. علي الطائي

4-6-2025

سلام على جاعلين الحتوف جسرا الى الموكب العابر... الجواهري

الدكتور فرج فوده (1945-1992) مفكر وكاتب تنويري مصري وهو كذلك ناشط حقوقي معروف بآرائه الجريئة في مصر والوطن العربي والعالم. التحق في ستينات القرن الماضي بكلية الزراعة وحصل على شهادة البكلوريوس في الاقتصاد الزراعي عام 1967 من جامعة عين شمس ثم حصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي من الجامعة نفسها. من الناحية السياسية كان عضوا في حزب الوفد الجديد الا انه استقال منه عام 1984 لتحالف هذا الحزب مع منظمة متطرفة حيث قدم استقالته بعد ذلك من حزب الوفد. وكان يكتب مقالاته في بعض الصحف المصرية مثل صحيفة (اكتوبر). وكانت مقالاته تصف بالسخرية من الاوضاع السياسية في مصر وكان يخاطب عامة الشعب باسلوب ادبي الامر الذي جعل افكاره تدخل الى كل بيت مصري.

نشاطه الثقافي واغتياله

كان لفرج فودة مناظرات شهرية تقام في القاهرة اقيمت المناظرة الأولى عام 1992 تحت عنوان مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية شارك فيها الألف من المصريين والثانية حضرها الالف ايضا كان فرج فودة يقف مع اقامة دولة مدنية ويدافع عن رأيه هذا بكل اخلاص وحماس وبعد انتهاء هذه المناظرات صدرت فتوى بتفكيره واعتباره مرتدا يجب قتله في 1992/6/8 كان شخصان ينتظرانه عند باب منزله على دراجة نارية وعند خروجه من المنزل اطلقا عليه النار فاصيب اصابة قاتله نقل على اثرها الى المستشفى وقبل ان يجود انفاسه الأخيرة قال (يعلم الله انني ما فعلت شيء الا من اجل وطني) وعندما سئل قاتله من أي كتب فرج عرفت انه مرتد قال (انا لا اعرف القراءة والكتابة...). حل  هكذا توقف قلب كان ينبض بالمحبة والسلام والتاخي، هكذا انطفئ مشعل من مشاعل النور، لقد كان فرج جنديا باسلا من جنود السلام لم يعرف قلبه الطائفية والعنصرية باحثا عن الحقيقة اينما وجدت لم يكن رحيل فرج فودة خسارة لمصر وحدها بل كانت خسارة لكل مثقفي العرب والعالم.

لقد عرفت مصر في تلك الفترة العديد من جرائم الاعتداء والقتل ضد المفكرين والكتاب والأدباء مثل ما حدث للروائي نجيب محفوظ عندما كتب روايته الشهيرة) اولاد حارتنا.. حيث جرت عام 1994 محاولة لاغتياله عندما اندفع اليه احد المتطرفين وقام بغرس السكين في رقبة نجيب لكنه لم يمت وكان هذا المتطرف رجلا اميا يبيع السمك لكنه كان مدفوعا من جماعة متطرفة.

مؤلفات فرج فودة

ترك الشهيد عددا من الكتب في مختلف القضايا السياسية والاجتماعية تلقى على أثرها عددا من خطابات التهديد حتى انه علق يوما قائلا (اليوم الذي لا يصلني فيه تهديدا عمر ضايع يحسبوه الناس علي)  دليل على عدم اكتراثه وقال ايضا (ان اسمي كان ترتيبه الثالث في قوائم الاغتيال وقد ابديت اسفي وحزني لان ترتيبي تأخر الى المركز الثالث). واردف قائلا (فالموت اهون والاستشهاد افضل). (والموت اهنا من العيش في ضل فكرهم الغبي).

أما اهم كتبه فهي : الوفد والمستقبل الذي قال عنه انه وضعني امام فوه المدفع – قبل السقوط الحقيقة الغائبة - حوار حول العلمانية - الطائفية الى اين ـ الارهاب – نكون او لا نكون - الطريق الى الهاوية - زواج المتعة - شاهد على العصر ــ وغيرها.

***

غريب دوحي

في مناقشة لي وزملائي مع الدكتور محمد راضي -أستاذ الحقوق والديمقراطية في جامعة بغداد- لبحث سوسيوثقافي يتناول عقبات الحكم الديمقراطي عند الفرد العربي، تناولت في مقدمة البحث السبب الأول لاحتجاب الرؤية السليمة في الحكم الديمقراطي لدى الفرد العربي -على وجه الخصوص- وهو الخوف بكل أشكاله سواءً كان حقيقيّا أو تخيّليّا أو مستقبليًّا أو حاضرًا.

و على أيّة حال قد خصصت الخوف من المتخيلات -التي تأتت نتيجة اكتظاظ الذات بأدلجة العقائد والأعراف والدين- سببا في محاربة الديمقراطية.

لكنّي حينما بتّ أعدّ أوجه المسببات (حقيقية، تخيلية، مستقبلية ....) قال لي الدكتور محمد بصورة تساؤلية ممزوجة بالتهكّم: وماذا عن الماضي؟ ألا نخاف منه؟

فأجبته جوابًا عابرًا ممزوجًا بشكل من أشكال الهروب: نعم، قد نخاف منه لكنّ هذا الخوف لفترة محدودة!

و أكملنا النقاش أنا والزملاء وخرجنا من القاعة، وتحاورنا قليلًا عن البحث ثم مضى كلّ لمشاغله.

و بقي هذا السؤال منذ ذلك الحين معلّقًا في ذهني ... ظللت أسائل نفسي كلّ حين: لماذا لم أذكر الخوف من الماضي؟، هل لأنّي أخاف منه؟، وكيف فكّر الأستاذ بهذا السؤال؟ كيف نقلني بصورة خاطفة من توجّه سياسيّ - ثقافي إلى توجّه نفسي فلسفي ؟ ما تلك البداهة والحذاقة التي جعلتني سارحًا في سؤاله حتّى تخبطت عليّ الأفكار واختلطت الأوراق!

أين الفلسفة وعلم النفس اللذان درستهما؟ ما إن أسأل سؤالا عابرًا صُيِّرتُ أسيرًا بين طيّات الزمان، واحتجت أيّامًا لأستوعب سؤالا يُجاب بإجابات وافرة!

بدأت أدرك أن المشكلة ليست في السؤال نفسه، فالإجابات موجودة، فكما أجبته جوابًا واهنًا، يمكن أن أجيبه جوابًا سامقًا.

لكن هذا لا يعني أنّ السؤال اكتفى بطرح نفسه!

حتّى تيقنت أنني عالق في الماضي فعلًا ...

و لم أذكر الخوف من الماضي لأنني خائف منه. وكيف يذمّ الخائف مخيفه!

بلى، نمضي مع الآخرين لكن أي مضيّ هذا .. نمضي بيولوجيا، أي ليس بإرادتنا وذلك لا يعني أنّ النفس تمضي مع الجسد .. فالنفس لا تعترف بالزمن، قد تختار تاريخًا معيّنًا تتوقف عنده، ويكمل الجسد دونها ... تتغير أشكال الزمان وتغير اشكالنا لكن هل تغير أنفسنا!

هل تخلّص النفس من أحداث وشخوص الماضي، هل تفكّ أسر النفس الضامرة ..

في الواقع لا يوجد نسيان، إنما تناسٍ ينسينا لفترة ويوهمنا بأنّ النفس ما عادت حبيسة الماضي.

ما يقابل التراكمات العاطفية والنفسية هي الأحداث المستقبلية، وقد تعمل على إبعادنا عن الماضي، لكنّها تحمل تلميحات تتمثل بحبال سميكة لا تنفكّ عن أيّ حدث مضى.

حتّى التفاصيل الصغيرة، يرسمها لنا الحاضر بأشكال مشابهة، تعود بنا للبّ الحدث، وبهذا لا ننفكّ من الماضي إلى أن نموت.

و نظنّ أن الزمان بمضيه يفكّ أسر النفس من الماضي فيأتي ذلك العقل المتهافت ليعيدنا لنقطة البداية.

وعليه أذكر قول المتنبي:

وحالاتُ الزّمان عليك شتًّى

وحالُكَ واحدٌ فِي كلِّ حالِ

***

عباس القسّام

 

يُشاع في ثقافة المجتمع والذهن العربي والإسلامي أن المرأة نصف المجتمع والنصف الآخر هو الرجل أو الزوج وهذا المقياس في رأي المتواضع ووجهة نظر البعض أعتبرها قاصرة للبعد الحقيقي للواقع وفي أطار الحداثة وفهم المجتمع الجديد ونواته الأسرة فأن الزوجة أو المرأة هي من أهم الأساسيات والمادة الخام في بناء الأسرة وكل واحد منهما له دوره الأساسي في القيادة وله شخصيته الخاصة  إذا توافرت فيها الشروط الصحيحة لهذا البناء ضمن الثالوث الأسري (الزوج والزوجة والأبناء) وأن إيجاد القاعدة الأخلاقية والقيم لهذا الركن المهم في الأسرة نستطيع في الشروع إلى أقامة فضاء واسع من المعرفة والقيم والمبادئ تشيده الأطراف الباقية متضافرة في الأسرة فأن صلاح الزوجة أو المرأة تكون عملية البناء سهلة ومعبدة الطريق للحصول على عائلة يسودها الحب والوئام والقيم والأخلاق والسلوكيات الصحيحة لبناء المجتمعات الراقية.أن المسئولية الملقاة على المجتمعات هي إعداد جيل مواكب للعصر الحضاري وبهذه التغيرات المسرعة في مكوناتها تُحصن بالقيم والأخلاق السامية من قبل نوافذ حكومية أو اجتماعية متعددة أن البذرة الأولى تُزرع في حديقة المجتمع هو التعليم والتربية من خلال السعي الحثيث في تطويره وتوجهاته نحو الأفضل بالاعتماد على التعليم الكفوء المثالي الموضوعي المثقف الواعي والمفكر لما يدور من حوله في العالم من تطور متزن وملبي لمتطلبات الحياة الأسرية الراقية الثابتة أمام هجمات الأعداء الشرسة من بعض القوى والمؤسسات المشبوهة التي تروم في هدم المجتمعات.أن التأكيد على القيم الأخلاقية والسلوكيات الواعية البناءة حين نزرعها ونطورها في ذهنية الطالب أو الطالبة في المراحل الأولية من عمره الدراسي والجامعات والتي تؤدي في رفع حملا كبيرا عن كاهل الأسرة أن الدول المتقدمة التي تحترم شعوبها أصبحت لها بصمة واضحة في الرقي الأخلاقي والعملي لشخصية الفرد فقد قدمت الأخلاق والقيم والضمير والتعامل الخلاق في المجتمع وداخل الأسرة وخارجها حيث أوجدت حيزا كبيرا للعقل والمعرفة والتفكير الحر والعمل الخالص فجعلته من أوليات بناء المجتمع ونواته الأسرة أن تفضيل التربية على التعليم له الدور الفاعل والمثمر منذ بداية حياة الفرد للارتقاء به وبالمجتمع وهذا العمل يتطلب منا جهدا واسعا حكوميا في جميع مؤسساتها ومفاصلها وكذلك عملا مرادفا لها من قبل المنظمات المجتمعية والإعلامية المقرؤة والمسموعة لإعداد جيل جديد مثقف صالح من الأمهات والآباء والزوجات القادرات على تحمل المسئولية الصعبة لبناء الأسرة وهناك عدة إجراءات يمكن اتخاذها من قبل الحكومة أو المؤسسات الغير حكومية وفعالياتها منها على سبيل المثال.

1-  الاهتمام الكبير بالدروس التربوية بالإضافة إلى التعليمية مع التشديد على التربية الصحيحة في التعامل في بيئة المدرسة والشارع مع المناهج الأخلاقية وتعليم السلوك الصحيح في البيت والمجتمع.

2- العمل على أقامة دورات تثقيفية نسوية في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها الحكومية وغير الحكومية من خلال مناهج دراسية تربوية وأخلاقية لتدريب المرأة وورش عمل لتعليم المبادئ والقيم ورفع قدراتها في القيادة للأسرة وخصوصا للأعمار القريبة من سن الزواج أو قبله لتكون جزءا فاعلا ومهما في أدارة المجتمع والأسرة.

3-  القيام برفع الضغط الديني الغير مبرر له من عليهن من قبل الفكر السلفي القديم الذي ما عاد أن يتقبله المجتمع الجديد وعقليته التي فشلت في احتضان المجتمع.

4-  إيجاد معاهد حكومية حصرا للنساء لتعليمها فن أدارة الأعمال البيتية والأسرة وكيفية التعامل للمستجدات التربية والتعليم والحياة الزوجية الصحيحة وتشجيع هذه الشريحة المهمة في الانخراط فيه من خلال مغريات مادية ومعنوية شتى لإعداد المرأة لتكون ربة بيت مؤهلة.

5-  أعطاء دورا مهما للمؤتمرات النسوية السنوية والنصف سنوية ومتابعة أعمالها من قبل الدولة والاهتمام بمقرراتها وآرائها ومخرجاتها التي تصب في مصلحة تمكين المرأة ورفع مستواها الثقافي والفكري والسلوكي الذي يساهم في بناء الأسرة وتطوير قدراتها المهنية وأبعادها عن مغريات الحياة الجديدة الغير منضبطة والسلبية في أسلوب العيش داخل الأسرة والمجتمع.

6-  زيادة الرقعة الإعلامية وإعطاء المساحة الكافية في أعداد البرامج التربوية والثقافية من قبل أساتذة اختصاص أكفاء من علم النفس والاجتماع لقيادة برامج اجتماعية لرفع كفاءة الزوج والزوجة وتوجيهها بالشكل وتوضيح مدى أهميتها في تربية البيت والتعامل مع المجتمع بأسلوب حضاري ديني أخلاقي يواكب العصر الحاضر.

***

ضياء محسن الاسدي

أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله (574 - 623) هجرية، تولى الحكم في عمر (52) لمدة (9) أشهر وأياما.

فقيل له: ألا تتفسح"، قال: لقد يبس الزرع، فقيل: يبارك الله في عمرك، قال: من فتح دكانا بعد العصر إيش يكسب.

قال إبن الأثير في الكامل: "لما ولي الظاهر الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العُمَريْن"

كان يائسا ولا يظن بأنه سيبقى في الخلافة طويلا وكثيرا ما كان يردد" فتحت دكانا بعد العصر"، فكان يفرق الأموال، ويرد المظالم، ويعمل على إرضاء الناس وتخفيف مصاعبهم، وتقليل الضرائب عليهم، فأعطى الكثير وما أبقى في خزائن المال إلا القليل.

ويبدو أن الأمور كانت مستقرة كما كانت في خلافة أبيه، وبرغم الضرائب العالية التي كانت تفرض في عهد أبيه، فأنه جعل الأمور أكثر إستقرارا بتقليل الضرائب وإعانة المحتاجين من الناس.

لاتوجد حوادث كبيرة في خلافته التي أمضاها في عمل الخيرات والشعور بأن حياته قصيرة وعليه أن يستعد لموته الذي كان يرافقه، ويبدو أنه كان يعاني من مرض ما، لكن كتب التأريخ لا تشير لذلك، فموته بعد تسعة أشهر يشير إلى أنه كان مريضا، كما أنه لم يكن مستبشرا وفرحا بالخلافة، ويرى أنه في مرحلة الغروب فلا فائدة من خلافته.

وبقيت للخليفة قيمته ومكانته في زمانه كما كانت في عهد أبيه.

وجاء إبنه من بعده وكان هميما عزوما، ذو هيبة وقدرة على ضبط أمور الدولة، والمضي بسؤددها وعزتها وكرامتها والذود عن حياضها.

وكأنما قام الإبن بالتعويض عن دور أبيه، الذي ربما منعه المرض من القيام به، وقد أبدع وتألق في العمران والقوة والسلطان، والعدل والأمان.

وأثناء أيامه وأيام أبيه وإبنه عاشت الدولة العباسية الإحساس بقيمة الخليفة ودوره ونفوذه وأهميته في ضبط أمور الدولة، وتأمين ثغورها والحفاظ على وحدتها وإستقرارها، ومن بعدهما تآكلت ووصلت إلى نهايتها المروعة الدامية على يد التتار، لضعف حفيده وفقدانه للقدرات القيادية والمهارات السياسية التي تميز بها الخلفاء الثلاثة من قبله.

ولكل ذكي كبوة ولكن ليست كأي كبوة!!

إذا الأجيال غابت عن رؤانا

فلا تعتب على أحدٍ سوانا

نسير على صراطٍ إبن نفسٍ

وتحدونا المساوئ في أنانا

لماذا أغفلوا أخطار قومٍ

أرادوا من توحشهم حمانا

***

د. صادق السامرائي

 

في هذا الزمان الذي نعيشهُ، يقفُ العقلُ حائراً، كغريبٍ ضلَّ طريقهُ، ينظرُ حولهُ فلا يرى إلا ضباباً كثيفاً يحجبُ عنه نور الحقيقة. يتوقُ هذا العقلُ إلى أن يُحلّق، أن يكتشفَ دروباً جديدة للمعرفة، لكنهُ يشعرُ بثقلِ الأغلالِ حول أجنحته. إنها رحلةُ الفكرِ الشاقة في أيامنا هذه، رحلةٌ تتطلبُ من صاحبها قلباً لا يعرفُ الخوف، وروحاً لا تستسلمُ لليأس، فطريقهُ ليس سهلاً هيناً، بل هو أشبهُ بالسيرِ فوق جمرٍ مُلتهب، كل خطوةٍ فيه قد تكونُ جرحاً جديداً.

وهذه المعاناةُ العميقة للفكر، يصفها الفيلسوفُ فتحي المسكيني بكلماتٍ تنبضُ بالصدق، في مقدمتهِ لكتاب "موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة". هناك، يرسمُ لنا صورةً مؤلمةً للعقلِ وهو يُصارعُ من أجلِ أن يتنفس، فيقولُ متسائلاً بمرارةٍ تكادُ تعتصرُ القلب: "إلى أي حد يمكن لهذا العقل الراهن أن يفكر وهو يعلم أنه يتحرك على رمل التكفير المتحرك، وأنه عرضة سهلة لعنف الجموع التي تعودت على صناعة عدم التفكير منذ مدة طويلة، تلك التي استغلها الاستعمار حين كان يتبجح بالتقدم، ورسختها دول الاستقلال بدفع النخب إلى فتوحات تراثية، لا فرق فيها بين غربي وعربي، إلا بخدمة المرحلة خدمة ترضي الحاكم العربي أو تغضبه" (المسكيني، مقدمة موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة، ص ١٩).

كم تحملُ هذه الكلماتُ من ألمٍ وكم تكشفُ من جراح! "رمل التكفير المتحرك"... يا لهُ من تعبيرٍ يُصوّرُ بدقةٍ تلك الحالةَ من الخوفِ الدائم، حيثُ كلُّ كلمةٍ صادقة، وكلُّ فكرةٍ حرة، قد تُصبحُ تهمةً تُلقي بصاحبها في غياهبِ النبذِ والاتهام. كأن العقلَ مُجبرٌ على أن يطأ أرضاً مزروعةً بالألغام، لا يدري متى تنفجرُ فيه.

ثم يصفُ لنا "عنف الجموع التي تعودت على صناعة عدم التفكير". جموعٌ أُغلِقت أمامها نوافذ النور، وأُطفئت في دروبها قناديل المعرفة، حتى أصبحت ترى في كلِّ صوتٍ مُختلفٍ نشازاً، وفي كلِّ تساؤلٍ بريءٍ خطراً. هذه "الصناعة" المؤلمة لتقييد العقول، التي بدأها مُستغلٌ خارجيٌّ في الماضي، أكملتها للأسف أيادٍ من الداخل، فوجهت العقولَ الشابةَ إلى الانشغالِ بماضٍ، قد يكونُ عظيماً، لكنه لا ينبغي أن يكونَ سجناً نُحبسُ فيه عن رؤيةِ المستقبل، أو أداةً تُرضي هذا الطرف أو ذاك على حسابِ الحقيقة.

أمامَ هذا الواقعِ المرير الذي صوّرهُ المسكيني، ماذا عسى العقلُ أن يفعل؟ كيف لهُ أن يُزهرَ في أرضٍ قاحلة، وأن يُغرّدَ في سماءٍ مُلبدةٍ بالغيوم؟ هل يستسلمُ لليأس، ويُطفئُ الشمعةَ الوحيدةَ التي بين يديه؟ إن كلماتِ المسكيني هي جرسُ إنذارٍ لنا جميعاً، هي دعوةٌ لأن نشعرَ بالمسؤولية تجاهَ عقولنا، وتجاهَ حقِّها في أن تُفكرَ بحريةٍ وأمان.

صحيحٌ أنَّ الدربَ شاقٌّ، وأنَّ التحدياتِ كبيرة، لكنَّ بصيصَ الأملِ لا يموتُ في القلوبِ المؤمنة. هناك دوماً أرواحٌ طاهرةٌ تُؤمنُ بأنَّ التفكيرَ نور، وأنَّ السؤالَ بدايةُ الطريقِ إلى الخلاص. أرواحٌ تسيرُ بحذرٍ فوقَ هذا الجمرِ المُتوهج، لكنها لا تتوقف، تحملُ في صدرها حلماً بمستقبلٍ أفضل، تُحاولُ أن تُضيءَ، ولو شمعةً واحدة، في هذا الظلامِ الحالِك. إنها مسيرةٌ مُضنية، لكنها ضروريةٌ جداً، بل أصبحت، كما يختمُ المسكيني حديثهُ بصرخةٍ تكادُ تشقُّ صمتَ الكون: "إن مهام الفكر في أفق العرب المعاصرين قد صارت أوكد من أي وقت مضى. فهل من مغامر؟" (المسكيني، مقدمة موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة، ص ١٩).

"فهل من مغامر؟"... سؤالٌ يترددُ صداهُ في أعماقِ كلِّ قلبٍ يتألمُ لهذا الواقع، ويبحثُ عن نافذةِ ضوء. سؤالٌ ينتظرُ جواباً من أولئك الشجعان، أصحابِ القلوبِ الكبيرةِ والأرواحِ التوّاقة للحرية، الذين لا يخشونَ أن يحملوا مشعلَ الفكرِ عالياً، وأن يزرعوا بذورَ الأملِ في أرضٍ عَطِشَت طويلاً للحق والجمال. ففي شجاعةِ هؤلاء "المغامرين"، وفي تضحياتهم النبيلة، يكمنُ سرُّ نهوضِ هذه الأمةِ من كبوتها، وفي إصرارهم، رغمَ كلِّ الجراحِ الدامية، تشرقُ شمسُ الحقيقةِ من جديد، لتبددَ ظلاماً طالَ أمده، ولتُعلنَ عن فجرٍ تستحقهُ هذه الأرضُ الطيبة، وتستحقهُ الأجيالُ القادمة التي تحلمُ بغدٍ أكثرَ عدلاً ونوراً.

***

مرتضى السلامي

لم يُبال الامبراطور يوليوس قيصر بالتحذيرات التي نُقلت إليه حول مؤامرة تستهدف حياته. لذا انطلق صوب مجلس الشيوخ، منتشيا بالاستقبال الذي خصّه به أهل روما حتى أبواب المجلس. وهناك انهالت عليه ضربات المتآمرين وطعناتهم التي قيل أنها بلغت ثلاثا وعشرين طعنة، فلم تُرده قتيلا إلا حين لمح صديقه المقرب بروتوس يقترب منه ويغرز خنجره في أحشائه، فنطق بعبارته الشهيرة التي صارت عنوانا للخيانة في ذاكرة التاريخ: "حتى أنت يا بروتوس!". وسواء قالها يوليوس أو وضعها شكسبير على لسانه في إحدى مسرحياته، تبقى طعنة المقربين أشد إيلاما من الموت نفسه.

جرت العادة أن نتخذ من النمل والنحل أمثلة مشرقة في عالم الطبيعة، تعكس قيم الولاء، وخدمة الجماعة، وتغليب الصالح العام على النوازع الشخصية. لكن هذه المخلوقات لم تُجرّب التعاليم الدينية، والفلسفات والكشوفات العلمية، لذا فحياتها نمطية ثابتة، لا تشهد انقلابا أو تدهورا مفاجئا، باستثناء ما يُلحقه بها العاقل الوحيد في هذا الكون.

أما الإنسان فإن قيمة الولاء عنده معرضة دوما للاهتزاز والتأرجح. فهي تتشكل ضمن مثله العليا حين يخلص للقضية، ويستلهم فكره وحركته من الغذاء الروحي للأمة، فيُمد القضايا بمقومات الحياة، ويحقق لها الخلود حتى وإن تعرضت للخسارة في لحظة تاريخية معينة. لكنها سرعان ما تختفي من سلم القيم الأخلاقية كلما أصيب بضيق الأفق، والسعي خلف نجاح مادي سريع.

قيل قديما: "كل كلام يكرهه سامعه، لا يتشجع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المَقول". وهذه العبارة في حقيقتها تمييز بين الولاء الخالص والزائف. ذلك أن الولاء الخالص لا ينفك عن قول الحقيقة، وتقديم النصح، وتحرير المسافة بين القضية وأتباعها، أو بين الحاكم وشعبه، أو بين المدير وفريق العمل من كل العوائق والحُجب. وحين رأى العباس بن عبد المطلب أن ابنه عبد الله بن عباس مُقدّم عند الخليفة عمر بن الخطاب على أكابر الصحابة، نبهه إلى معاني الولاء في أربع كلمات:

" لاتُفشينّ له سرا..

ولا يُجرّبن عليك كذبا..

ولا تطوِ عنه نصيحة..

ولا تغتابنّ عنده أحدا."

لكن حين تتراجع تلك الشروط والمعايير، تبدأ طبقة عازلة بالتشكل، معتمدة على مواهبها في التزلف، والتملق، وتقديم أنصاف الحلول. وينشأ في العادة صراع محتدم بين من يخدم البلد ومن يخدم قيصر، فتكون المغبة واحدة هي المرارة والخيبة، وتعطيل المسيرة.

والمتملق كائن رمادي، يحيا في الهامش بين الخيط الأبيض والخيط الأسود، ويستثمر في قيم المجتمع ومنظومته الأخلاقية. هو أكثر من الهَم على القلب. منتشر كالبق الفرنسي في بلاط الحكم، ودواليب الإدارة، ومدرجات الجامعة. ومع تزايد أعداد منتسبيه، يتحول السلوك إلى مظهر اجتماعي عادي، يُسهم ليس فقط في اختلال القيم، وإنما في تردي أوضاع المجتمع ككل.

في بحث حول سلوك التملق لدى طلبة الجامعة، ترصد الباحثة العراقية ابتسام النوري انعكاسات ظاهرة التملق على النسيج المجتمعي بعد أحداث 2003. ومن خلال عينة تضم مئتي طالب وطالبة في كلية للتربية، تشير النتائج إلى اتصافهم بمستوى عال من التملق، وتشكيلهم قناعات مستلهمة من البيئة العراقية المستجدة. وكيف لا يتذمر الطالب العراقي وهو يشاهد بروز فئة من النظام السابق تتلون وتتكيف لتستفيد من تغير الأحوال والحكومات؟

ولأننا في الهم شرق، فإن المخاطر التي حصرتها الباحثة في سبعة، تكاد تكون قاسما مشتركا بين البلدان التي تحول فيها التملق إلى ظاهرة، أو مهارة اجتماعية كما يحلو لخبراء التطوير الذاتي أن ينعتوها:

أولا: تعميق الشعور بالظلم والإحباط.

ثانيا: تغييب الأنظمة والقوانين.

ثالثا: تكوين مصالح فئوية بعيدا عن الكفاءة والمؤهلات العلمية والإنتاجية.

رابعا: بروز جماعات ضغط ومراكز قوى تهدد الاستقرار الاجتماعي.

خامسا: تهديد الثروات الوطنية.

سادسا: محاربة الخطط الوطنية للتنمية والإصلاح.

سابعا: استغلال العدو الخارجي لهذه الفئة، وتجنيدها لصالحه.

من الأفضل أن يكون أمامك أسد مفترس على أن يكون وراءك كلب خائن. وهذا المثل الذي بدأ إيرلنديا، ينطوي على قيمة كونية بها تكتمل مقومات الوجود البشري وهي قيمة الولاء. ومادامت أجراس العودة إلى القيم تُقرع بين الفينة والأخرى، فإن الحياة الأخلاقية لا تكتمل بغير تلك الثمرة. وما أحوجنا اليوم إلى فرد له ولاء لقضية، دون أن يعني ذلك خضوعا أعمى أو تعارضا مع حريته وفرديته.

في المحاضرة السادسة من كتابه (فلسفة الولاء)، يعرض جوزيا روس، واحد من أبرز الفلاسفة الأمريكيين، نموذجا للتدريب على الولاء منذ الطفولة الأولى. وهو يرى أن اكتساب هذه الصفة الأخلاقية يتدرج عبر مراحل، تبدأ باستثمار العالم الخيالي للطفل، وميله المستمر لتمثل الأبطال والمغامرين كتمهيد لفهم القضايا الاجتماعية، ثم تدريبه على الحسم واتخاذ القرار، والقدرة على الوفاء والالتزام به.

تشكل الطفولة برأيه مجرد إعداد للحياة الأخلاقية في المستقبل، أما التطور السريع فيحدث في فترة المراهقة، حيث تظهر صور الولاء بشكل تلقائي، وعلى قدر عال من التعقيد. لذا ينبغي أن ينسجم التدريب مع الأنماط الطبيعية للولاء، والتي يُعبر عنها الشاب في الأنشطة الرياضية والتجمعات الطلابية والاحتفالات الوطنية.

حين يكتمل الولاء في سن الرشد يحتاج الفرد إلى شيئين اثنين: وجود قيادة تتصف بالحماس والجرأة والقدرة على الإقناع، ووجود قضية يمكن تحويلها إلى مثل أعلى، وإلى قوة روحية مجاوزة لذاته، حتى وإن تعرضت لهزيمة ظاهرية. فالولاء للقضايا الميئوس منها، يقول روس، يكون مصحوبا بالحزن والخيال، إلا أنه يكون فعالا ونشيطا، فلا يخبو بسبب هذه الانفعالات الشديدة.

بدون ولاء تتحول الشعوب إلى جموع غفيرة، تعيش لنفسها ولمصالحها الخاصة؛ فتفقد الحياة الاجتماعية معناها، ويستسلم الناس لملذاتهم ورغباتهم. لذا كانت بعض أنفاس الشعراء سياطا تلهب جلود النائمين لتبعث فيها حرارة الإباء، وصنع أمجاد تحفظ في صحف التاريخ ذكرهم.

وكم كان المتنبي مستشرفا لهذا المقصد في قوله:

ولا تحسبنّ المجد زقا وقينة

فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتركك في الدنيا دويّا كأنما

تداولَ سمعَ المرءِ أنمله العشر.

***

حميد بن خيبش

دائماً ما يحسدني بعض الاصدقاء على ما يعرض من مشاهد كوميدية على مسرح السياسة العراقية، ويقولون: ان السياسة في العراق مادة دسمة للكتابة، وما دام هناك مجلس نواب "محنط"، ومجالس محافظات "كارتونية" فان "شغلك ماشي" . ولكن ياسادة ياكرام، اسمحوا لي أن اقول أن هناك فارق كبيراً في الحجم بين ما نكتبه، وبين سخرية السادة النواب من الديمقراطية العراقية حيث لا يزال الكثير منهم يخرجون علينا صبيحة كل يوم وهم يصرخون ان لا بديل عنهم، وان محاولة البعض للاحتجاج على هذه الديمقراطية "الباسلة" هو نوع من انواع التخريب، ويجب ان يحاسب كل من تسول له نفسه الاقتراب من قلعة السادة المسؤولين، فقد اوجد لنا السيد النائب عبد الهادي الحسناوي حلاً لمشكلة الديمقراطية بأن قرر ان يقص "أذان" الذين يتظاهرون من اجل توفير الخدمات. ولم يكتف النائب بذلك، بل استنهض عشيرته واقاربه ليقدموا لنا عرضاً بالرصاص الحي، ردا على الذين انتقدوا نظريته في قص الأذن، ولأننا نعيش في حارة "كل مين إيدو إلو!"، اكمل نجل النائب الحسناوي، المشهد الكوميدي بان اعلن ان كل من يقترب من والده النائب "راح يزين شاربه"، اما لماذا اصدر ولي العهد هذا القرار؟، لان والده حسب قوله نائب وشيخ في نفس الوقت.

أعرف ان البعض سيقول يارجل تترك مشاكل البلاد وتتحدث عن ظاهرة بسيطة اراد من خلالها احد النواب ان يرفه عن نفسه.. نعم ياسادة نحن نعيش عصر الديمقراطية الترفيهية التي تسمح لعضو في مجلس محافظة بغداد ان تعلن ان "مجلس المحافظة قرر اعتماد "العباءة " زياً رسمياً للنساء.. حيث خرجت علينا رئيسة لجنة البيئة هدى جليل العبودة لتبشرنا بان بغداد على قائمة افضل العواصم في مجال البيئة والنظافة والخدمات، ما دام المجلس اصدر قراره التاريخي في تحديد ازياء النساء.. وربما لم تقرأ صاحبة قرار العباءة ان بغداد على رأس قائمة المدن التي تعاني من التلوث البيئي، وان التقارير العالمية وضعت بغداد في مرتبة منخفضة جدا من حيث الاداء البيئي وايضا من حيث الخدمات .

لا يزال مسؤولونا "الأفاضل" مصرّين على أن يتعلموا فنّ الخديعة من المرحوم مكيافيللي، سيضحك البعض مني ويقول يا رجل إنهم لا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون، لكنهم ياسادة شطّار جداً في اللعب على مشاعر البسطاء.

في كل يوم يسيء ساستنا إلى الديمقراطية، عندما يعتقدون أنها تعني بناء دولة القبائل والأحزاب المتصارعة والطوائف المتقاتلة.

أتمنى ألّا أكون في خانة الذين ستقطع أذانهم، رغم انني مصرٌّ على أن أواصل العيش في حارة "كل مين إيدو إلو!" مع الاعتذار للقدير دريد لحام.

***

علي حسين

 

أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله (588 - 640) هجرية، تولى الخلافة في عمر (35)، ولمدة (17) سنة، (623 - 640) هجرية.

قال إبن النجار: " نشر العدل في الرعايا، وبذل الإنصاف في القضايا، وقرب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والرُّبط (مرابط الخيل)، والمدارس والمارستانات (المستشفيات)، وأقام منار الدين، وقمع المتمردة، ونشر السنن، وكف الفتن، وحمل الناس على أقوم السنن، وقام بأمر الجهاد أحسن قيام، وجمع الجيوش لنصرة الإسلام، وحفظ الثغور، وافتتح الحصون".

وقال المنذري: "كان المستنصر راغبا في فعل الخير، مجتهدا في تكثير البر، وله في ذلك آثار جميلة، وأنشأ المدرسة المستنصرية، ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم".

وقال إبن واصل: "..واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه ولا جده، وكان ذا همة عالية، وشجاعة، وإقدام عظيم، وقصدت التتار البلد، فلقيهم عسكره، فهوموا التتار هزيمة عظيمة، وكان له أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة، زكان يقول: لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيجون، وأخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم، فلما مات المستنصر لم ير الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفا منه، وأقاما إبنه أبا أحمد للينه وضعف رأيه ليكون لهم الأمر..."

وهو الذي ينى المدرسة المستنصرية وإستغرق بناؤها ستة سنوات (625 - 631) هجرية، وكانت أشبه بالجامعة التي تضم تخصصات متنوعة، وفيها كادر تدريسي كبير، ومجهزة بكافة لوازم النشاطات المعرفية المعاصرة وأسباب الراحة والتمويل والسكن.

المستنصر بالله من الخلفاء العباسيين الأقوياء الأذكياء المُهابين الذي هيمنت قواته على ربوع الدنيا، وكانت القوة الكبرى التي يرتعب منها التتار، وألحقت بهم هزائم مروعة في معارك متعددة.

والخطأ الكبير الذي إرتكبه أنه لم يولِ من بعده أحد، ومضت عاهة التوريث التي أدت إلى هزيمة الدولة العباسية بسقوط بغداد.

فكان من المفروض أن يولي أخاه الخفاجي من بعده، لأنه قائد عسكري محنك والدولة تتعرض لمخاطر هجمات التتار، كما فعل المأمون عندما رأى أن الدولة بحاجة إلى عسكري قوي فولى من بعده المعتصم، وقدمه على إبنه لأنه لم يكن جديرا بالحفاظ على الدولة، ولو فاز بالولاية لأنتهت الدولة العباسية من بعده.

هذه الخطيئة التي إرتكبها المستنصر بالله فتحت شهية المتآمرين وأعداء الدولة، بعد أن وجدوا في إبنه الوسيلة المثلى لتمرير تطلعاتهم، والتي إنتهت بتفاعلات مريبة بين قادته ووزرائه والتتار، الذي محق بغداد وقتل أكثر من ألف ألف إنسان فيها، إضافة إلى الحرائق والدمارات المروعة.

ومن الواضح أن خطيئة المستنصر بالله القوي الحازم المهاب، هي التي أطاحت بالدولة العباسية، لأنه لم يحسن إختيار مَن يدير أمورها من بعده، وتركها للقادة (الدويدار والشرابي) الذين أعمتهم مطامعهم وقصور رؤيتهم، ونفوسهم الأمارة بالمساوئ والأنانية والغرور، فكان إختيارهم لإبنه الخاضع المطيع ليكون آخر الخلفاء العباسيين في بغداد!!

حريصٌ لا يواجهها بجهلِ

ويسعى في مرابعها بكُلِّ

نصير العزّ منطلقٌ لشأوٍ

يواصلها بمدٍ دون كَلِّ

لماذا بعده جاءت خبيثا

فأوردها التهاونُ دارَ ذُلِّ

سراةُ الناس مبتدأ التداعي

بهم سَمقتْ، بهم سًحِقتْ بويلِ

***

د. صادق السامرائي

 

أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله (609 - 659) هجرية، تولى الخلافة في عمر (31)، ولمدة (19) سنة، (640 - 659) هجرية.

قال الشيخ قطب الدين: " كان متدينا، متمسكا بالسنة كأبيه وجده، ولكنه لم يكن مهتما في اليقظة والحزم وعلو الهمة...".

وقال الذهبي: " وكان أبوه المستنصر قد إستكثر من الجند جدا، وكان مع ذلك يصانع التتار ويهادنهم ويرضيهم، ولما إستخلف المستعصم كان خليا من الرأي والتدبير، فاشار عليه الوزير بقطع أكثر الجند، وإن مصانعة التتار وإكرامهم يحصل به المقصود، ففعل ذلك"

هذا ما ذكر عنه، ومن الواضح أن أباه كان يتفاعل مع التتار من موقع قوة وهيبة، وهو ذهب التفاعل معهم من موثع ضعف وخنوع، وكأنه كالدمية بيد وزرائه وقادته، ولم يستشر عمه الخفاجي في الأمر العسكري المصيري.

ويبدو أنه خلال فترة خلافته قد عمل على إضعاف الدولة شيئا فشيئا، حتى صارت سهلة على المعتدين، ولضعفه وفقدان هيبته وحزمه، تفاعل وزراؤه وقادته على هواهم وبما يحقق مصالحهم الدونية، حتى اصيبوا جميعهم بمقتل شديد.

وكان على المستعصم أن يحافظ على قوة جنده ويزيد منهم ويكون حذرا من التتار ويقف لهم بالمرصاد ويذود عن حياض الأمة بقوة وعزة وكبرياء، لكنه كان يفتقد للقدرات القيادية والمهارات السياسية، فتسبب بفجيعة حضارية كبرى.

والأسئلة التي يجب أن تُطرح، لماذا لم يتواصل في مجابهة التتار ومطاردتهم كما فعل أبوه؟

لماذا أقصي عمه الخفاجي القائد العسكري المحنك؟

لماذا تواصل بتقليص عدد الجند؟

إن ما حصل عملية معقدة إستمرت لعدة سنين، فإضعاف دولة بحجم الدولة العباسية وإسقاطها يحتاج إلى مدة زمنية، ويبدو خلال أقل من عقدين تم نحرها بشتى الوسائل، والخليفة بلا رؤية ولا دراية وكأنه يتميز بمحدودية ذكاء وضعف في التفكير، لأن ما وافق عليه وقام به يتقاطع وبديهيات الأمور، ولا يمكن لصبي أن يقبله.

فالمتهم الحقيقي الخليفة نفسه لتمتعه بنسبة عالية من الغفلة وضعف تقدير المواقف!!

سراة القوم منهجهم خطيرُ

إذا ساء المقرّب والخبيرُ

لغفلتهم حياة الناس تطوى

بصولات يدبّرها الصغيرٌ

إذا نالت نفوس السوء حكما

فأن فسادها فيها الأميرُ

***

د. صادق السامرائي

هل كانت الدولة العراقية اشتراكية؟

بعض السادة الكتاب يتحدثون عن نظام اشتراكي كان يحكم العراق قبل العام ٢٠٠٣. وأن هدف الاحتلال الامريكي للعراق كان الاطاحة بالنظام الاشتراكي وتأسيس نظام رأسمالي امبريالي...

لكنهم لايعرفون ان ذلك الوضع لم يكن اشتراكياً بل كان نظام رأسمالية الدولة حيث تمتلك الدولة كل شيء وتهيمن على الحياة الاقتصادية وتحد من نشاط القطاع الخاص وتتهمه، دون حق، بالخيانة والاستعداد لخيانة المجتمع والبحث عن مصالحه قبل كل شيء. لقد كان نظاماً رعوياً يستخدم ريع النفط لكي يبدو راعياً للمجتمع لكنه يحكم قبضته على كل جوانب الحياة.

كانت المؤسسات الحكومية تعمل بلا كفاءة وكانت تعتمد على دعم الدولة التي تقدمه لتلك المؤسسات باستخدام مورد النفط الريعي. كانت الوظائف تمنح للناس بدون ضرورة وبدون إنتاجية وبرواتب محدودة...

وعندما وقع الحصار وتوقف بيع النفط ظهرت حقيقة النظام الاقتصادي في العراق، حيث انهار كل شيء وتوقف الانتاج في المؤسسات الحكومية التي كانت تعتمد على استيراد كل شيء باستخدام دولارات النفط...

النظام الصحي انهار وبدأت جنازات الاطفال تدور في الشوارع وانهار النظام التربوي ولم يتبقَ منه سوى اطلاق الرصاص يوم الخميس امام الاطفال لتدريبهم على البطولة مع انهم كانوا ينهارون من الرعب..

الفكر الاشتراكي من الناحية الفلسفية، فكر انساني واخلاقي عظيم، لكنه لم يجد طريقه الى التطبيق لا في الاتحاد السوفيتي ولا في الدول الاشتراكية ضمن المنظومة السوفيتية ولا في الصين ولا في اي دولة رفعت شعار الاشتراكية.

***

د. صلاح حزام

في مرات كثيرة لا أعرف ماذا أفعل حين اسمع ما يقوله اصحاب " الحل والربط " في بلاد الرافدين، هل أضحك من العبث والكوميديا السوداء، أم أصمت من شدة الكآبة والحزن، من أبرز المضحكات والمبكيات التي حاصرتني خلال الايام الماضية الخطب التي يلقيها الشيخ جلال الدين الصغير، وكان آخرها الهجوم الكاسح الذي شنه " سيادته " على الذين انتقدوا خطبته الاخيرة حول غزواته لبلدان الخليج، وبدلا من ان يخبرنا الشيخ أين هي الاسلحة التي استخدمها في انتصاراته، راح يشتم كل من يقترب من قلعته الحصينة واصفا اياهم بـ " أبناء السفارات " وانهم لن يعودوا للسلطة ابداً . ولانني من ضمن المشمولين بصولة الشيخ الصغير، فان محاولاتي للسيطرة على الحكم ستفشل حتماً.

لا أريد أن ألوم الشيخ جلال الدين الصغير على هذه الكوميديا، فقبلها قرأنا ما هو أكثر، حين اتهم شباب تشرين بأنهم ينفذون اجندة امبريالية.

ينسى البعض أن من العبث أن تبذل مجهودًا كي تحاول إقناع سياسي تضخمت ثروته واملاكه، بأن المواطن العراقي يحتاج الى العدالة الاجتماعية والرفاهية والكهرباء والصحة والتعليم بدلا من الخطب ونظريات المؤامرة.

بعد 22 عاما على التغيير أعتقد أن العراقيين مستعدون أن يسامحوا السياسيين على الكوارث التي مرت بهم خلال السنوات الماضية، إذا كانوا قد شعروا بأن هناك بصيصًا من الأمل تحمله اليهم الأيام القادمة، بدلا من ان تسلم البلاد لاحزاب سياسية تجاوز عددها احزاب القارة الافريقية باكملها . المواطن المسكين يريد أشياء ملموسة، هذا المواطن لن تسد الديمقراطية المزيفة حاجته أطفاله، هذا المواطن لن توفر له خطب الصغير عن المؤامرات، سكنًا لائقًا ولا علاجًا صحيًا في مستشفيات متطورة.. هذا المواطن لا يمكن الضحك عليه بشعار "القضاء على الفساد" وهو يرى أن الكهرباء وحدها نهبت من أمواله أكثر من 100 مليار دولار .

مضحكة الديمقراطية العراقية، فلسنوات نكتب ونؤشر عن الخراب، والأحزاب لا ترى.. ولا تسمع.. ولا يهمها صراخ الناس، بل إنها قامت، وبشطارة، بتفريخ أحزاب جديدة . احزاب "كاريكاتورية "، لا تهتم بمستقبل الملايين من الناس الذين يجدون كل يوم ان الخراب يخيم على مؤسسات الدولة.

صحيح أننا، نعيش منذ سنوات عصر الترفيه، الذي ابتدأ بإطلالة " عاليه نصيف، إلا أن وجود أكثر من 300 حزباً يفرق كثيراً، لأن هذه الأحزاب مصرّة على أن تتسلّى على المواطن المسكين.

ولأن ولادة احزاب جديدة جاء مضحكاً وخفيفاً، بما يجعلك تضرب كفّاً بكفّ، وأنت تقرأ ان الفتى المدلل نور يريد دخول الانتخابات باسم النزاهة والحفاظ على المال العام.

***

علي حسين

سألَ صحفي ياباني بارز أحد المضاربين قائلا: يا فلان حين نستمع لك وأنت تتحدث في وسائل الإعلام عن الاقتصاد، وحركة المال والأعمال، وبمنطق النزيه والعفيف المؤتمن! نرى فيك شخصًا مغايرًا لهذا الذي نعرفه في البورصة، وكلّ همه الحصول على أكثر ما يمكن اقتناصه من المال وبكلّ الوسائل حتى غير المشروعة منها!

 فرد عليه المضارب الياباني بما مضمونه: أنا في بورصة (طوكيو) أمثّل نفسي فقط لكنني في التلفزيون العام مثلا أمثّل أمتي العظيمة...

هذا مثال واضح على قضية الفصل بين ما هو شخصي ذاتي يدور في فلك المصلحة الخاصة، وما هو عام يولد من رحم الإحساس بالمصلحة العامّة...

 على المستوى الشخصي سنحت لي ذات فرصة مناقشة أطروحة دكتوراه في اللغة العربية، وكان الطالب المُناقَش أحد أقدم أصدقائي في مدينتي الحالية كربلاء، وحين رأيت أنّ الباحث وقع في محاذير أكاديمية لم أتردد قط في (مفاتشته) بها، وعندما لمحت في وجهه الحبيب الاستغراب والامتعاض قلتُ له على الفور، يا فلان تعلم، ويعلم بعض الحاضرين منزلتك في قلبي، ولكن هذا أمر، وأن أكون عضوا في لجنة علمية أنت طرف فيها هو أمر مختلف يا عزيزي.

لقد بدا هذا القول منّي ثقيلا عليه في بدايته، لكنّه قدّر موقفي في ما بعد، وأثنى على موقفي ذاك بعبارات ملؤها المحبة والتقدير زادت من تمسكي به أخًا وصديقًا وباحثًا ....

أعلم أن ما سيلي من سطور سيثير غضب كثير من صديقاتي وأصدقائي ممن أكن لهم عاطفة إنسانية خالصة ، مع هذا سأقول من دون تردد لو أن الآف رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه كُتِبت في شعر النثر لما تزلزل إيماني قيد شعرة في أنها نوع أدبي -على جماله وجلاله- لكنّه أبعد ما يكون عن ما نعرفه من الشعر (العربي) العظيم لغةً واصطلاحًا، وأتصور أن كلّ من قرأ معلقات (الجاهليين)، وأشعار الأندلس، ودواوين أبي نؤاس، وبشّار، والمتنبي، والشريف وأبي فراس، والمعري، وعشرات آخرين مشهورين ومغمورين -بصرف النظر عن ترتيبهم التاريخي والفني- وكذا أعمال العشرات من (نظائر) هذه الدرر النفيسة ممن جاء بعدهم سيشاركني فكرة أن الشعر العربي عماده العمود سواء الكلاسيكي منه أو الحديث، أمّا سائر الأشكال المحدثة فهي من حيث التجنيس الأدبي تنتمي إلى دوائر إبداعية أخرى...

ما أثار سخطي في هذه المسألة، وحملني إلى تدبيج مقال (جديد) عن هذا الموضوع أن بعض المعارضين الأشداء -سابقا- لمحلّ قصيدة النثر من إعراب الشعر صاروا – ويا للغرابة- من دعاة قصيدة النثر، وحماتها في تنصّل عجيب عن " كامل" أرشيفهم النقدي الذي لم يزل غضا طريا !

ويا ليت أن القضية هنا تتعلق بتغيير القناعات، فهذه حالة صحيّة تماما لا يجادل فيها أي شخص زاول مهمة التفكير، ومهمة إعادة التفكير لكن الأمر للأسف أبعد ما يكون عن تلك المقاربة الفلسفية الرائعة .

إنّها – ببساطة- المصالح الخاصة هي التي جعلت من هؤلاء المتلونين يستديرون فجأة بهذه الزاوية الحادّة ...

ما يزيد من كآباتي وأنا أقرأ في بعض نصوص الأصدقاء من ذوي الميول " النثرشعرية" هو إزراؤهم عمليًا بأعظم ما في "ديوان العرب" ألا وهي اللغة الجزلة، وسمة الغنائية الرخيمة، وسائر ما يدخل في أبواب البديع والبيان والمعاني، هذا، فضلا عن خلو "منجزهم" كلًّا أو بعضًا من عواطف الإنسان الخالدة التي هي بطبيعتها مشتركٌ شعري جامع لكلّ الثقافات البشرية، وليت هؤلاء وهم سادرون في هدم المزايا العظيمة لتراثنا الشعري تاريخا وحاضرا جاؤوا لنا بمعادل موضوعي لما هم بصدد نسفه لوقدروا ولن يقدروا...

ختامًا (أُوَكِّد) ثانيةً ما نوهتُ به آنفًا فأقول: إن كثيرين سيغتاظون من كلماتي هذه لكنْ لا ضير، ولا غضاضة؛ فالدفاع عن الحق أو الحقيقة حتى لو كانت عبارة عن وجهة نظر شخصية يستحق كل أنواع التضحيات...

أيّتها السيّدات أيّها السادة: إنّ الغنائية والموسيقى أعظم ما في الشعر العربي بل العالمي بحدود ما اطلعت عليه من آداب الأمم القريبة منّا والبعيدة عنّا كما أنّ الشعر لاسيما نسخته العربية الفذّة مشتقٌ من الشعور، وأيُّ نصٍ يفتقر لهذا الجذر لا شعر فيه ولو كان كاتبه طرفة بن العبد، أو عنترة، أو المتنبي نفسه، أو طاغور، أو جلال الدين الرومي...الخ!

وكلمة أخرى هب أنّك مقتنع بقصيدة النثر، وأردت أن تقارن بين قصيدة سين، وقصيدة صاد فكيف تصل لهذه الغاية وليس في قصيدة الشعر أي مقاييس تحدد مناط الجودة والرداءة؟

***

د. لطيف القصاب

.......................

* أشعار السنونو تعبير مقتبس من مشهد لفلم كوميدي من بطولة نجم السينما العربية الفنان الكبير عادل إمام

الفِراسة: المهارة في تعرف بواطن الأمور من ظواهرها، والرأي المبني على التفرّس

المأمون الخليفة العباسي السابع، إبن هارون الرشيد من جارية فارسية إسمها مراجل، توفت بحمى النفاس، وعاش يتيم الأم منذ مولده، وتعهد برعايته وتربيته آل برمك، وبهذا نجى من زبيدة وبني هاشم الذين ربما لو تمكنوا لقتلوه وهو طفل.

المأمون - رغم مثالبه - من أعلام الإنسانية الذين غيّروا مسيرتها، وأناروا وجودها، ووضعوها على مسارات الرقاء وإعمال العقل وإطلاق طاقاته الإبداعية، وكان يتميز بخاصية عجيبة أغفلها المؤرخون.

 إذ كان صاحب فراسة لا تضاهى، فهو الذي إختار العديد من رموز المعارف والعلوم الذين عملوا في بيت الحكمة ببغداد، فكأنه كان يقابلهم ويقيمهم ويقرر صلاحيتهم للإبداع الذي يطمح إليه.

ومن عجائب فراسته إختياره لشاكر الذي كان من قطاع الطرق، ولا يُعرف كيف توسم فيه قدرات علمية وإبداعية، وكيف قرأ ذلك في أولاده الثلاثة وهم أطفال بعد أن توفى أبوهم، فتعهدهم بالرعاية وكان ظنه بهم في محله، إذ أبدعوا بأصالة وقدموا خدمات علمية للدولة والإنسانية.

وهناك أمثلة أخرى كثيرة عن قدرة المأمون في إلتقاط العقول المقتدرة على الإبداع والعطاء الأصيل.

ويُقال هو الذي قرّب الشاعر أبو تمام ولا يزال دون العشرين من العمر.

هذا الخليفة الموهوب المؤمن بدور العقل وضرورة تفاعله مع التحديات الدنيوية، هو القائد الحقيقي للثورة العلمية الفلسقية والفكرية التي توهجت في عصره (198 - 218) هجرية  في بغداد، وإمتدت بعد ذلك وإنتشرت بأرجاء الدولة العباسية، وفي دول تولدت منها أو جاءت بعدها وأخذت عنها.

فثورته العلمية تجددت في الأندلس ومصر وبلاد المغرب العربي والهند وأوربا فيما بعد.

فالمأمون هو القائد الذي جاهد لتأمين التغيير والنظر بعيون العقل.

فكان له ما أراد، ونشطت في زمنه المعتزلة، لكن رموزها إشتطت وجنت على وجودها، لأنها حولتها إلى حركة سياسية، وصارت تهيمن على الخلفاء، وتوجههم بموجب رؤاها للقضاء على من يخالفها، وأطلقت مصيبة محنة خلق القرآن، التي أذاقت العديد من علماء الأمة سوء العذاب!!

وللفراسة دور كبير في القيادة، فالقائد صاحب الفراسة الثاقبة يكون مقتدرا ومتميزا في قيادته وبناء دولته.

ومن قرارات فراسته – رغم ما يُقال- إختياره لأخيه المعتصم وليا للعهد بدلا من إبنه.

وفي الزمن المعاصر هناك عدد من القادة الموهوبين الذين إختاروا بفراستهم مَن يخلفهم أو يكون في موقع قيادي مهم، وفي عالمنا العربي نفتقد للقادة أصحاب الفراسة النابهة، فقادتنا لم يكونوا أصحاب فراسة ثاقبة، ولهذا إنتهت منطلقاتهم بوفاتهم، فلو كانت لديهم فراسة ونباهة لما وصلت أحوال الأمة إلى ما هي عليه.

فالفراسة ركن مهم من أركان القيادة وبغيابها لا يكون الشخص المناسب في المكان المناسب.

والقيادة والفراسة موهبتان متلازمتان لصناعة القائد الناجح!!

و"إحذروا فراسة المؤمن فأنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله"

"ألا أن عين المرء عنوان قلبه...تخبر عن أسراره شاء أم أبى"

***

د. صادق السامرائي

الحج لغة يعني القصد واصطلاحا قصد مكة بقصد النسك على ملة إبراهيم وعلى سنة محمد لأداء الفرض الخامس ويقول الدكتور جواد علي في كتابة (المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام)جزء 5ص 223 (ان كلمة (الحج) ماخوذه اصلا من (حك) وانة كان هناك طقس لدى الجاهليين تؤديه النساء في الحجر وهو مسح الحجر الأسود بدماء الحيض (وفرج المراة وقد كان دم الحيض هو سر الميلاد عند الوثنيين: من المراة الدم ومن الرجل المني ومن الاله الروح لكل شعوب الأرض مقدسات زمانية ومقدسات مكانية: الأيام الشهور الفصول والمعابد الاهرامات المسلات القبور واضرحة الاولياء

الحج في العصور القديمة

1ـ في بلاد الرافدين: بنى العراقيون المعابد المدرجة (الزقورات) وسموها بيوت الآلهة.

أي بمثابة استراحة عند نزوله من السماء الى الأرض حيث يعتقد قدماء العراقين ان الاله ينزل من السماء الى الأرض ويتجول في المدن ويستمع الى شكاوى الناس ويحل مشاكلهم ثم تحولت هذه البيوت الى أماكن يحج اليها الناس الأغراض العباده والصلاة وقراءه التراتيل الدينية في الأعياد مثل عيد راس السنة البابلية (الاكيتو)

2ـ في مصر الفرعونية يتمثل الحج عندهم بزيارة أماكن تواجد الاله في المعابد مثل هيكل (ايزيس) و(امون) وايام الحج عندهم من اسعد ايام التي يتقربون منها بالدعوات وتقديم القرابين ويقدمون النذور الاله وفي موسم الحج تقوم التجارة ضخمة عند المناسبة وكانوا يعتقدون ان من يولد في الأيام الحج سيكون من اسعد الناس ويكون له مستقبل زاهر

3ـ في بلاد اليونان: يحج اليونانيون الى المعبد (دلفي) الذي يقع في وسط اليونان وهو عباره عن معبد الاله (ابولو) اله النبوة ويوجد في المعبد (الكاهنة العذراء) التي تتنبا عن مستقبل الناس حيث يطرحون عليها الاسئله فقد زاره سقراط قالت له الكاهنة (انت الأعظم في أثينا) كما زاره الاسكندر المقدوني وقالت له الكاهنة (انك ستحقق انتصارات في الشرق والغرب الانة سخر منها)

الحج عند العرب قبل الاسلام

جاء في تراث العرب ان البيت المعمور هو كعبة الملائكة في السماء وكعبة مكة هي البيت الذي بناه الملائكه على الأرض على مثال كعبتهم السماويه جاء في كتاب (اخبار مكة) اللازرقي (ان الله بعث الملائكة فقال لهم ابنوا لي بيتنا في الأرض بمثاله وقدرة اي بمثاله وقدرة أي يمثال بيت السماء وامر الله من في الأرض من خلقه ان يطوفوا بهذا البيت كما يطوف اهل أسماويا بالبيت المعمور اما الحجر الأسود فأعتبر حجرا سماويا او بقايا الجنة على الأرض وقد كان ناصح البياض ولكن الله غيره بمعصية العاصين

وتذكر الروايات ان العرب كانو يطوفون حول الكعبة وهم عراة وهم يقولون لانعبد الله في ثياب اذنبنا بها أي انهم يتعرون من الثياب لكي يتعروا من الذنوب وكذلك النساء حتى ان النبي قبل البعثة قد شاهد طواف امراة تدعى (ضباعه بنت عمر) وهي تنزع ملابسها وتنشد

اليوم يبدو بعضه او كله

وما ـبدا منه فلا احله

ويقول ابن عباس (كانت المراة اذا طافت بالبيت تخرج صدرها) وعندما يتوجه الحاج الى مكة يطلب منه ان يحلق شعر راسه ولحيته وان يلبس ملابس دينيه خاصة مكونة من قطعتين قماش ابيض تلبس واحدة منها حول خصره والثانيه على الاكتاف

يقول ابن الكلبي (ان قريشا كانت تطوف بالكعبة مردده: واللات والعزى ومناة الثالثه الأخرى تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى ولابد من الإشارة الى النشاط التجاري في موسم الحج حيث يبدأ بالأسواق اولا لان رزق العرب كان من التجارة في الحج يبدأ أولا بسوق عكاظ ثم سوق (ذي المجاز) ويقفون بعرفات اهم الشعائر قبل الإسلام ثم الى مزدلفة يرمون الحجارة في منى ينحرون الذبائح ويحلقون رؤوسهم ويعتبر السعي بين الصفا والمروة عادة وثنيه قديمة ثم احتفاليه التلبية

الحج فـي الاســلام

كانت مكة مركزا لعبادة الاصنام والاوثان بالإضافة الى كونها مركزا لمعارضة الدعوة الاسلاميه تقول المصادر التاريخية انه كان في مكة 360 صنما وقد قرر النبي محمد إزالة الوثنيه فجهز جيشا عدده عشرة الاف رجل فحاصر مكة ثم دخلها في رمضان عام 8هجرية وازيلت الاصنام وبذلك توحدت جزيرة العرب سياسيا ودينيا وتعززت السلطة المركزية للاسلام في عام 9 هجرية فرض الحج على المسلمين واصبح الركن الخامس من اركان الإسلام حيث جاء في القران (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا) ال عمران 97 وينسب الى النبي محمد قوله (ياايها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا) وقد حج النبي محمد مرة واحدة هي حجة الوداع عام 10 هجرية ولايزال المسلمين يهرعون من كل البلدان الإسلامية لأداء فريضة الحج وباعداد كبيرة.

***

غريب دوحي

 

تطفو على السطح بين الحين والآخر معارك فكرية تبدو للوهلة الأولى وكأنها صراع بين رؤى وتيارات، لكنها في العمق تكشف عن أزمة بنيوية في علاقة المثقف بالتاريخ وبالواقع وبالذات.

 حوار يوسف زيدان وفاروق جويدة عبر شاشة عمرو أديب لم يكن مجرد مناظرة بين مثقفين، بل كان عرضاً لمرض أعمق: أزمة المثقف العربي في زمن الانهيارات الكبرى. لنحاول تفكيك هذه الأزمة عبر منهج تحليلي نقدي يستند إلى الجدل الناعم الذي يلامس العمق دون عنف، ويفكك الخطاب دون تشويه.

هوس التفرد وصناعة الأوهام

ليلة أمس، وبلا أي مناسبة، استضاف الإعلامي عمرو أديب الشاعر فاروق جويدة، وسبح اللقاء (المباشر) بينهما في بحر من الأوهام والخزعبلات - بهذه الكلمات بدأ يوسف زيدان هجومه على جويدة وأديب، متهمًا إياهم بنشر دعوى عجيبة هي أن "مصر لم يعد فيها مثقفون". لكن المفارقة تكمن في أن زيدان نفسه، عبر سلسلة من المواقف والتصريحات، كان يساهم في تفريغ الثقافة المصرية من مضمونها عبر خطاب يقوم على ثلاثة أركان:

 الأول: الادعاء بالتفرد المعرفي قائلا: "عدد صفحات كتبي تجاوز 40 ألف صفحة، وتجاوز عدد الرسائل الجامعية حول أعمالي في العالم 50 رسالة علمية بين ماجستير ودكتوراه". هذا الخطاب الذي يعتمد على الكم بدل الكيف، وعلى الإحصاءات بدل القيمة الفعلية، يحول المثقف إلى بائع سلع في سوق الثقافة الاستهلاكية.

الركن الثاني: استغلال التاريخ لخدمة الأنا في هجومه على صلاح الدين الأيوبي، لم يقدم زيدان قراءة نقدية جديدة بقدر ما قدم "نقيض الأسطورة" كأسطورة بديلة: "صلاح الدين كان أعرج في الحقيقة، بينما جسّده أحمد مظهر في الفيلم كضابط من سلاح الفرسان، وكان وجهه مشوّهًا". إنها نفس النزعة الأسطورية لكن بعلامة معكوسة.

الركن الثالث والأخير فيقوم علي اختزال الثقافة في الصراع الشخصي حيث يتحول النقاش حول التاريخ والهوية إلى معارك شخصية بين زيدان وهذا أو ذاك، كما حدث في اتهامه لجويدة وأديب بالهجوم عليه شخصيًا بسبب "تصحيحي لخرافة الناصر أحمد مظهر". الثقافة هنا لم تعد حوارًا بين أفكار بل أصبحت ساحة لتصفية الحسابات.

على الجانب الآخر، كان الشاعر فاروق جويدة يعبر عن أزمة جيل بأكمله قائلا: "كنت أذهب في شبابي إلى صحيفة الأهرام وأقابل كبار الأدباء مثل توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، أما اليوم فأشعر بالوحدة وأعيش في غربة حقيقية". إنها صرخة جيل وجد نفسه فجأة خارج الزمن، أمام واقع ثقافي لم يعد يعرف كيف يتعامل معه.

لكن فاروق جويدة نفسه وقع في فخ الماضي كأسطورة ذهبية، فبدل أن يحلل أزمة الثقافة المصرية تحليلاً بنيويًا، اختزل كل شيء في "انقسام المبدعين على أنفسهم"، وفي الهجوم على من يشككون في شخصيات تاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي أو خالد بن الوليد. إنه نفس المنطق الذي يتبناه زيدان لكن من الجهة المقابلة: اختزال الثقافة في حماية الرموز بدل تفكيكها ونقدها.

الثقافة المصرية بين التضليل والجمود

في قلب هذه المعركة، تبرز أزمة الثقافة المصرية التي أصبحت ساحة لصراع خطابات متضادة: أولا: خطاب التضليل الذي يمثله زيدان بادعاء كسر التابوهات بينما هو في الحقيقة يقدم تابوهات معكوسة. عندما يقول إن "صلاح الدين لم يحرر القدس"، وأن "قلاوون وأولاده هم من أعادوا فتحها لاحقًا"، فهو لا يقدم قراءة تاريخية جديدة بقدر ما يستبدل أسطورة بأخرى.

أما خطاب الجمود والذي يمثله جويدة عندما يحول التاريخ إلى مقدسات لا تمس، والنقد إلى "خزعبلات" كما وصفها عمرو أديب. هذا الخطاب يحول الثقافة إلى متحف للتحنيط بدل أن تكون حقلًا حيويًا للنقاش.

الخطاب الإعلامي: الذي يحول كل شيء إلى عرض، كما حدث في برنامج عمرو أديب حيث تحول النقاش الثقافي إلى "بحر من الأوهام والخزعبلات" بحسب تعبير زيدان نفسه. الثقافة هنا لم تعد سوى مادة للتسلية والصراع الدرامي.

نحو ثقافة نقدية حقيقية:

في خضم هذه العواصف، تبرز الحاجة إلى ثقافة نقدية حقيقية تتجاوز الثنائيات الزائفة: النقد لا يعني التضليل: يمكن نقد صلاح الدين الأيوبي دون اللجوء إلى التهويل أو التشويه، كما يمكن الدفاع عنه دون تقديس. التاريخ ليس مجموعة ثوابت مقدسة ولا هو ساحة لتفريغ الأحقاد.

عندما تتحول الثقافة إلى صراع بين زيدان وجويدة أو غيرهما، نفقد القدرة على رؤية الأزمة البنيوية التي تعاني منها المؤسسات الثقافية والتعليمية في مصر.

المثقف الحقيقي ليس ذلك الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا الذي يختزل المعرفة في الإثارة والإبهار. المثقف هو ذلك القادر على النقد الذاتي قبل نقد الآخرين.

في النهاية، المعركة ليست بين زيدان وجويدة، بل بين ثقافة تقوم على النقد والمراجعة والمساءلة، وأخرى تقوم على التضليل أو الجمود. مصر لم تفقد مثقفيها، لكنها ربما فقدت -لحظة- القدرة على تمييز الثقافة الحقيقية من زيفها. والسؤال الأهم: كيف نعيد للثقافة مكانتها كحقل للمعرفة لا ساحة للصراع، وكأداة لفهم العالم لا لخلق الأوهام؟

***

د. عبد السلام فاروق

لعل تدهور الخطاب العلمي والأدبي والثقافي عموما في الإعلام الحديث من الأمور التي لا تحتاج إلى كثير جدال. وما حدث مؤخرا مع الآثاري المصري زاهي حواس في لقائه بالإعلامي "البودكاستر" الأميركي جو روغان والذي يتابع برنامجه الحواري 20 مليون متابع، وبعدد مشاهدات تجاوز أربعمائة مليون مشاهدة، ليس أمرا جديدا إلا في حدود معينة.

نقطة الضوء الباعثة على الأمل هي أن غالبية أفعال الجمهور المصري على مواصل التواصل الاجتماعي جاءت هذه المرة وعلى غير المتوقع موضوعية وبعيدة عن منطق "وما أنا من غزية إن غوت..." وانتقدت سلوك الشخص المذكور بحدة شديدة حرصا على سمعة بلادها وتراثها وكان هناك من دافع عنه في مواجهة عنجهية الإعلامي الأميركي.

إن غالبية المتحدثين في برامج حوارية كهذه في العالم العربي ومنه العراق لا يختلفون كثيرا عن السيد حواس، ربما نستثني بعض صناع المحتوى "البودكاسترات" اللبنانيين لرصانتهم واحترامهم لعقول جمهورهم.

أما عراقيا، فأنت لا تعدم أن تجد آثاريا عراقيا يكرر بعض المعلومات الخاطئة أو التي لا دليل عليها من قبيل وجود بيت النبي إبراهيم في مدينة أور الآثارية رغم أن أهم الآثاريين العراقيين المعروفين بعلميتهم فندوا تلك الخرافة ذات المصدر التوراتي، أو "باحثا" آخر يزج نفسه في حكايات طائفية لا يعتد بها بل هي أقرب إلى الخرافات المتكرسة بفعل التكرار فتجده يشرح لك بجدية معجزة إخراج الصخرة التي اتكأت عليها مريم أم عيسى النبي من بئر تراثي قديم في جامع بضواحي بغداد وباحث آخر لا غبار على رصانته في أبحاث عديدة يكرر مناكفات القوميين والبعثيين حول الأصل الهندي والسندي للعراقيين الجنوبيين وفق نظرية "ابن القاسم الثقفي".

وكذلك الحال مع السيد حواس، أشهر آثاري مصري في الإعلام ووزير الدولة لشئون الآثار المصرية السابق، ومدير آثار الجيزة، حين سأله روجان عن كيفية بناء الأهرامات وصخورها وهي بهذا الثقل والضخامة، في سياق اقتناع روغان بأن بناة الأهرام جاءوا من الفضاء الخارجي أو من القارة المفقودة أطلنطس - وهي نظرية مبتذلة وغير علمية ولكن الرد عليها كان ينبغي أن يكون بطريقة رصينة مسنودة بالأدلة العلمية، ولكن حواس أجابه بأنها بُنيت بواسطة السحر الفرعوني - والعهدة على ما نقل محتوى اللقاء لأنني لم أحصل عليه كاملا بلغته الأصلية  وربما كان الرجل يتهكم رغم أنه في موضع آخر من الحوار تكلم عن قيام أحد الفراعنة بذبح معزى ثم أعادتها الى الحياة ليصل إلى الحكمة...إلخ -! وحين يسأله محاوره عن المصدر الذي أخذ منه هذه المعلومة أو تلك يقول له: من كتابي. فيسأله المحاور: وأين هو كتابك؟ فيقول حواس في حاسوبي "لابتوبي" الشخصي. فيسأله وأين هو هذا اللابتوب فيقول: ليس معي الآن بل تركته في لاس فيغاس!

في العراق والعالم العربي، فإن واحدة من كوارث الثقافة السياسية والعلمية والأدبية هي الارتجال والتعالي والنرجسية الشديدة وعدم التوثيق وطغيان البلاغة الإنشائية على اللغة المعلوماتية والمنطقية الغنية بالأرقام والتواريخ والمعطيات والخرائط والصور...إلخ. ويزداد الأمر سوءا، خصوصا في البرامج الحوارية، فغالبا ما يكون مقدم البرنامج مفتقدا للكفاءة في إدارة الحوار، وجاهلا أو ضعيف الإحاطة بالموضوع، ذا شخصية هشة لا يستطيع قيادة الحوار بسلاسة ومهنية فينسى أحد الضيوف مثلا. وغالبا ما يكون الإعلامي صاحب لغة تعبيرية مأزومة وكسولة يكتفي صاحبها بتكرار عبارات فارغة لا تقول شيئا من قبيل: الكرة الآن في ملعب مَن؟ أو "كيف نلملم الموضوع؟ بماذا تعلق على كلام فلان؟ أو على العكس من ذلك يكون مهذارا يطرح أسئلة طويلة ولا مضمون فيها ولا تعرف تحديدا عما تسأل، وهذه مصيبة غالبية البرامج الحوارية السياسية على الشاشات العراقية حيث المقدم جاهل تم تعينه بالرشوة أو بالواسطة أساسا وقام المخرج أو صاحب القناة بحشو ذاكرته بمعلومات خاطئة أو مضلِّلة أو منحازة لطرف ما ضد طرف آخر.

وفي حالة فقدان القدرة على التحكم بالحوار وعدم سريانه بهدوء ورصانة وتهذيب فتتحول الجلسة الى نوع من سوق الهرج حيث الجميع يتكلم ولا أحد يستمع. أما في البرامج الثقافية والأدبية على قلتها فالوضع أدهى وأمر مع إضافة سلبيات أخرى من قبيل الحذلقة والتشدق بالمصطلحات الميتة والمهجورة واستعراض العضلات الثقافية الهزيلة وطرح أسئلة طويلة ومركبة لا يعرف سائلها عمَّ يسأل والتطرق لموضوعات شاخت وباتت خارج المشهد الثقافي العالمي المعاصر ولم يعد أحد يهتم بها كالسابق مثل البنيوية والتفكيكية والوجودية...إلخ.

أما الضيوف فغالبا ما يأتون إلى البرنامج الحواري كمن يأتي إلى سوق المربد أو عكاظ للمفاخرة والمباهاة. فلا تحضير ولا إعداد ولا وثائق ساندة للأسف دون ان ننتقص من حماستهم ووطنيتهم ولكن هذه هي الحقيقة المؤلمة والتي تجعل جهودهم تذهب سدى.

إن الإعلاميين في العالم الحديث، وخصوصا في دول المتروبول الغربي الاستعماري لم يولدوا إعلاميين ممتازين بما يحقق أهداف الماكنة الإعلامية الظالمة الغربية بل هم راكموا خبرات كبرى واعتمدوا أساليب علمية في عملهم حيث الدقة والثراء المعلوماتي وفنون دس السم بالعسل واللغة الحذرة البعيدة عن القطع والجزم والنأي عن التفاخر البليد بالنفس وحيث يخرج القارئ أو المشاهد بالكثير من المعلومات التي تم دسها بطريقة ذكية سواء كانت معلومات موضوعية إيجابية لدى الإعلاميين المحايدين أو لدى المبرمجين ولهم الغلبة لتخدم السائد الطبقي والسياسي والإمبريالي.

المؤسف أنك تجد - كما حدث مع السيد زاهي حواس- البعض من إعلاميين من صنف النجوم كالإعلامي عمرو أديب من يصفق حتى تحمر ويزعق حتى يخرِّب أوتاره الصوتية من الإعلاميين الرسميين بهذا "الأداء المبهر والرائع" و"الثقافة العميقة" للسيد حواس أو تجد مستشاره هذا الأخير السيد علي أبو دشيش يعرف بأمجاده فيقول (حواس هو ذلك الرجل الذي أُدرج اسمه على قرص مدمج حملته بعثة استكشاف المريخ عام 2003) وبالمقابل تجد من ينظرون إلى الى مقدم البرنامج الأميركي جو روغان وكأنه نبي معصوم لا يأتيه الباطل من خلفة أو من بين يديه لماذا؟ لأنه أميركي ربما، أو لأنه صاحب أشهر وأوسع برنامج حواري بودكاست ولا شيء آخر، قافزين بدورهم على الأسئلة الضحلة والخاطئة التي طرحها أو على العنجهية والتعالي الذي تكلم به مستغلا طريقة حواس المتعنتة والاستبدادية والقاطعة وحتى المضحكة أحيانا في الإجابة!

***

علاء اللامي

.........................

* تجد أدناه مجموعة روابط حول حادثة لقاء روغان وحواس.

* فيديو مع السيدة دعاء حسن تعلق على الحادثة:

https://www.youtube.com/watch?v=apgNfWNnpgI&ab_channel=%D9%82%D9%86%D8%A7%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82

*فيديو مع صانعة محتوى هي السيدة مروة أحمد:

https://www.facebook.com/rassdstories1/videos/1775588200056980

ما أقسى أن تحاصرك المرايا من كل جانب! مرآة تريك عظمة شاخصة تحدق في الزمن.. وأخرى تحولك إلى ظل يتلمس وجوده بين طيات البردي.. وبينهما تقف مصر الحائرة بين يقين الحجر، ووساوس الطين!

لقد صار "العبيد والفضائيون" صنعة فكرية رائجة في سوق التشكيك الحضاري. تغلف بالسينما، وتقدم في بودكاستات، كأنما التاريخ سيناريو يعاد كتابته بممحاة المنتصر.

تسألني: لماذا كل هذا الهوس بنفي العظمة المصرية؟ فأجيبك: لأن الأهرامات شاهد قتل على زيف أسطورة التفوق العرقي! بينما كان "بناة الأهرام" يوقعون أسماءهم على الجرانيت كـ "عمال أحرار" يأخذون الأجر والراحة.. كان العالم القديم يلهث وراءهم. ففي قرية "عمال الجيزة" وجدت عظام تثبت أنهم تلقوا علاجًا متقدمًا للكسور، بينما كان "مفكرو العبودية" اللاحقون يصلبون البشر على تلال آشور!

 لكن اللعبة الخفية.. هي تحويل المجد المصري إلى ساحة صراع هويات: مثل "الأفروسينتريك" الذين يريدون سرقة الضوء . وآخرون يبحثون عن فضائيين لأن عقولهم الصغيرة لا تحتمل حقيقة أن "الفلاح المصري" صانع المعجزات! وسط هذا الزحام المفتعل.. ننسى جوهر أن الحضارة وطن لا يورث بالدم، بل بالإرادة!

أما قصة زاهي حواس.. فهي فصل واحد من تراجيديا أكبر، فهو رجل واحد يدافع عن حجر شهد على حرية أجداده.. فيحاكم لأنه لم يقل: "بناة الأهرام عبيد!" وكأنما كلمة "حرية" في تاريخنا أصبح جريمة! والأمر الأعجب أن بعض بني جلدته انبروا يشهرون "سكاكين التشفي" كأن الهوية المصرية غنيمة يقتسمها المتحاربون!

في العمق.. نحن أمام محنتين: الأولى: أن أعداء الخارج يريدون هدم الأهرام معنوياً ليهزموا مصر الحاضرة. والثانية أن بعض أبناء الداخل صاروا "مقاولي هدم" مجاناً!

وليس غريباً أن تثير عظمة الأهرامات خيال البشر، لكن الغريب حقاً هو ذلك الإصرار على نزع الصفة الإنسانية عنها. فهل يعقل أن نصدق أن كائنات قادرة على عبور المجرات، جاءت إلى الأرض لتبني بالطرق البدائية نفسها التي كان يستخدمها المصريون؟

لنتأمل معاً تلك المطارق الحجرية التي عثر عليها في محاجر طرة، والتي لا تختلف كثيراً عن أدوات العصر الحجري. مقابر العمال في الجيزة، بما تحويه من بقايا بشرية تحمل علامات الإجهاد البدني، شاهدة على جهد بشري خالص. بردية مرمر التي تسجل بالتفصيل عملية نقل الحجارة، بتواضع السجلات الإدارية لا بزهو التقنيات الخارقة. أليست هذه الشواهد كافية لندرك أننا أمام إنجاز بشري بحت؟

الحضارة المصرية.. جسر بين القارات

أما أولئك الذين يحاولون اختطاف الحضارة المصرية ليجعلوها حكراً على إقليم أو عرق معين، فهم يغفلون حقيقة أساسية: لقد كانت مصر -وستبقى- ملتقى الحضارات. فالنقوش والتماثيل التي تركها المصريون لأنفسهم تظهرهم بملامح واضحة، لا هي أفريقية سوداء خالصة ولا آسيوية صرفة. كما أن الدراسات الحديثة تؤكد أن المصريين القدماء كانوا أقرب إلى شعوب الشرق الأدنى، مع ذلك التمازج الطبيعي الذي فرضه الموقع الجغرافي الفريد.

 شهادات من الماضي

لنستمع إلى ما يقوله لنا التاريخ بعيداً عن الضجيج: فهذه بردية تورين التي تسجل أسماء مائتي ملك قبل عصر الأسرات، تثبت أن المصريين كانوا يسجلون تاريخهم بدقة. وتلك هي مراكب الشمس المجمعة ببراعة من الأخشاب، تظهر مهارة صناعها في التعامل مع المواد المتاحة لهم. بينما المنحدرات الطينية في مدينة المنيا، التي تكشف عن هندسة عملية لا تحتاج إلى تفسيرات خارقة.

 دعوة للتأمل

ليس الهدف من هذا الحديث إنكار الإبداع الأفريقي أو التقليل من شأنه، ولا رفض حق الإنسان في التخيل العلمي. لكن الحضارة المصرية أكبر من أن تكون مجرد حلقة في صراع عرقي، أو مادة لقصص الخيال العلمي.

إنها إرث إنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، صنعته أيادي بشرية عاشت على ضفاف هذا النيل العظيم، ورسمت بحبر الواقع لا بخرافة الأساطير. فبدلاً من محاولة اختطاف هذا المجد أو تفسيره تفسيرات واهية، أليس من الأجدى أن نقف أمامه باحترام، نتعلم من دروسه، ونستلهم قيمته الإنسانية الخالدة؟

لكن.. ما الجديد؟

ها هو عالم المصريات الأشهر ( زاهي حواس نفسه!) يجرؤ على قول كلمة الحق: "الأهرامات مصرية.. بناها أحرار".. فيحاصر بفخ "يوتيوبر" مدجج بجهل لامع.. وكأنه محاكمة لـ "جريرة" دفاعه عن هوية بلده!

وهنا المفارقة العجيبة: حتى خصومه المصريين.. انقضوا عليه كأنما انتظروا هذه الفرصة بفارغ الصبر! وكأن الهوية المصرية "كعكة" يقتسم لحمها عند أول سقطة!

يا أبناء مصر: إذا كنتم ستشهرون سكاكينكم في ظهر رجل – مهما اختلفتم معه – لأنه تجرأ وقال: إن الحضارة حضارتنا نحن .. فاعلموا أنكم تبيعون أرواحكم بثمن بخس في سوق "التفتيش عن العبيد"!

***

د. عبد السلام فاروق

 

الفكرة غريبة بل مجنونة، مفادها أن البشر الأرضي سيصنع بشرا يمكنه العيش في المريخ، وهذا الأمر ليس ببعيد، فأنابيب الإختبار تحولت إلى أرحام، والهندسة الجينية بلغت ذروتها، فالتصنيع البايولوجي يوازي التصنيع المادي التكنولوجي.

فالمخلوق يتبارى في ميادين الخلق والتصنيع المذهل الغريب!!

التصنيع البايولوجي في تقدم مضطرد، ويقدم لنا منتوجات ما كنا نتوقعها، أو تخطر على بال، فهل سمعتم بالرز المصنع واللحوم المصنعة بايولوجيا وغيرها؟

العالم يتغير بتسارع مضطرد، والتطور قفزات ووثبات شاسعة إلى الأمام، والنظر للوراء إستنزاف للوقت والطاقات.

صنعوا المواشي واستنسخوا البشر، وأظنهم سيتلاعبون بالحوامض الأمينية للإتيان بمخلوقات قادرة على إستعمار المريخ والكواكب الأخرى، بعد دراسة أحوالها البيئية وما فيها من عناصر تتفاعل معها مخلوقات مؤهلة بايولوجيا للتكيف مع ظروفها.

إنه عصر الحقائق أغرب من أي خيال!!

فهل كنتم تتصورون في القرن الماضي ما نحن عليه في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين؟!!

الدنيا في بعض الأماكن ناعور، وفي غيرها نهر متدفق الجريان، تياره عارم الأمواج.

أيامنا كالأمواج التي تطاردها أمواج، اليوم لا يشبه البارحة، ويأتينا بغدٍ جديد.

فهل ستتحول أجرام مجموعتنا الشمسية إلى مستعمرات أرضية؟!!

إن القرن الحادي والعشرين يختلف عن سالف القرون، وفيه ولادات لا سابق لها ولا مثيل.

وهل أن أفكار الفضاء تتجسد في دنيا البشر؟!!

صواريخٌ من الأفكار طارتْ

إلى حجب بآفاق توارتْ

مدارتٌ بها الأحلام تحيا

مجسدةً بأحياءٍ تبارتْ

أفِقْ ذهبت رؤانا نحو خلق

ومن نبعٍ إلى سُبلٍ تهادتْ

***

د. صادق السامرائي

لا شيء يضاهي سحر البدايات في ظن من يظنون أن الوصول إليها نهاية تطوى فيها الأسئلة، وتحل فيها الألغاز. فالحياة المعرفية أشبه ما تكون برحلة عبر محطات لا تنتهي، كل محطة فيها تشبه جواز سفر مفتوحا على عوالم جديدة، تطلب من صاحبه تأشيرات دخول خاصة، وامتحانات وجودية لا تشبه امتحانات الأمس. وهكذا، فإن الحلم بالدكتوراه ليس سوى البوابة الأولى التي تعلن انتهاء مرحلة الطفولة الفكرية، وبدء مرحلة أخرى من الأسئلة الأكثر عمقا، والأجوبة الأكثر تعقيدا. 

التدريس ليس مهنة تختزل في نقل المعلومات من كتاب إلى أذهان، بل هو فن تحويل الجمل إلى نبضات حية، والمعادلات إلى قصص تلامس الوعي. إنه جواز سفر مؤقت، يجدد صلاحيته كلما أثبت صاحبه أنه قادر على خلق حوار بين الموروث والمعاصر، بين الثابت والمتحول. فليس كل من حمل شهادة الدكتوراه قادرا على أن يكون جسرا بين العقل والقلب، أو أن يحول قاعة المحاضرات إلى فضاء للتساؤل لا التلقين. هنا، يصير التجديد شرطا للاستمرار: فكل جيل جديد من الطلبة هو تأشيرة جديدة، تفرض على الأستاذ أن يعيد اكتشاف لغته، وأن ينقيها من غبار التكرار. 

ممالك الإبداع 

أما التأليف، فهو جواز سفر بلون مختلف. لا يمنح إلا لمن تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الخلق، حين يصير العقل مختبرا لتوليد الأفكار، لا مجرد مستودع لتكديسها. هنا، لا مكان للخوف من النقد أو الخوف من السؤال. فالكلمات التي نخطها ليست حروفا على ورق، بل هي أشبه ببصمات روح تواجه العالم بجرأة. إنها رحلة إلى مملكة "المعرفة الحمراء"، حيث لا يدخلها إلا من امتلك الشجاعة ليكون مالكا لخطابه، لا تابعا لخطابات الآخرين. لكن هذا الجواز الأحمر لا يعفيك من تذكرة العودة: فكل كتاب جديد هو مغامرة وجودية تعيدك إلى نقطة الصفر، كأنك تولد من جديد. 

ثم تأتي الدولة الأكبر: إدارة شئون الفكر والعمل. هنا، لا تكفي الشهادات ولا الكتب، بل يبدأ امتحان القدرة على تحويل النظرية إلى ممارسة، والفكرة إلى مشروع. هذه دولة "الرؤية" التي لا يحكمها إلا من جمع بين حكمة العالم ودهاء القائد. إنها فن المزاوجة بين العلم والواقع، حيث تصاغ الأفكار بلغة التنفيذ، ويمسي البحث النظري وقودا لحركة المجتمع. لكن هذا الجواز هو الأصعب تجديدا، ففيه تختبر قدرتك على أن تكون جسرا بين برج العاج وواقع التراب. 

رحلة لا تنتهي 

لكن، ليس الهدف من الرحلة المعرفية أن تصل إلى قمة ما، بل أن تكتشف أن كل قمة تجاورها أودية لم تطأها قدم بعد. فالدكتوراه ليست نهاية المطاف، بل إعلان عن استعدادك لخوض غمار الأسئلة الأكبر. قد تتوقف عند محطة ما، فتنطفئ شعلتك، أو قد تواصل السير، فإدراك أن جوازات السفر لا قيمة لها إلا إذا حولتها إلى سفن تبحر بك نحو عوالم لم تخلق بعد. فهل أنت مستعد لأن تكون مسافرا لا حدود لرحلته؟ 

لا تكتمل الرحلة المعرفية إلا حين تتحول الأسئلة إلى بوابات جديدة، والتحديات إلى وقود يعيد تشكيل الخريطة الداخلية للمسافر. فما يظنه البعض نهاية ليس سوى استراحة قصيرة تسبق مراجعة جوازات السفر، وفحص تأشيرات الدخول إلى عوالم أكثر التباسا. فالعقل الذي يتوقف عند شهادة الدكتوراه كغاية قصوى، يشبه من يقرأ رواية ثم يغلقها قبل الفصل الأخير، متوهما أنه أدرك كل الأسرار. لكن الحقيقة أن المعرفة لا تعطيك مفاتيحها إلا إذا وافقت على أن تكون ضيفا دائما في بلادها، لا مالكا لأراضيها. 

لا يكفي أن تحمل جواز الدكتوراه لتدخل مملكة التخصص، فالتعمق في مجال ما هو إعلان عن رغبتك في حفر بئر حتى تصل إلى المياه الجوفية. لكن المفارقة هنا أنه كلما تعمقت أكثر، اكتشفت أن التخصص ليس سورا يمنعك من رؤية الحقول المجاورة، بل نافذة تطل على بحور أخرى تنتظر من يسبح فيها. هنا، تتحول التأشيرة من "تخصص ضيق" إلى "تخصص مرن"، حيث تبدأ في نسج خيوط بين اختصاصك واختصاصات تبدو بعيدة، فتدرك أن العوالم المعرفية تشبه الجزر المترابطة تحت سطح البحر، حتى لو بدت منفصلة لأول الناظرين. 

أوثان فكرية 

أقسى التأشيرات تلك التي تفرضها الأوثان التي صنعناها بأنفسنا: مصطلحات مقدسة، نظريات مغلقة، أسماء كبرى يتحول إنجازها إلى سجن لخيال من يتبعها. النقد هنا ليس ترفا فكريا، بل شرط أساسي لاستمرار صلاحية جواز السفر. لكن نقد الآخرين سهل مقارنة بنقد الذات، فالأخير يشبه عملية تفكيك ساعة وأنت ترتديها. قد تكتشف أن بعض ما تعتقده يقينا ليس سوى صدى لأصوات من سبقوك، أو أن إجاباتك الجاهزة صارت أسئلة معلقة في ظل تحولات العصر. 

ما لا يتحدث عنه أحد بوضوح هو أن جوازات السفر المعرفية لا تمنح إلا لمن دفع ثمن تأشيرة الفشل. فالفشل في البحث، أو في إقناع المجتمع العلمي بأفكارك، أو حتى في إدارة مشروع أكاديمي، ليس عيبا يخفي صاحبه، بل شهادة تثبت أنك تجرأت على السير في طرق غير مطروقة. الفشل هنا ليس نقيض النجاح، بل هو الوجه الآخر له، كالليل والنهار في قطبي الأرض. والسؤال الأهم: هل تمتلك الشجاعة لتضع تأشيرة الفشل في جواز سفرك، وتعتبرها دليلا على أنك ما زلت حيا في رحلة البحث؟ 

تأشيرة عودة 

أعقد المراحل ليست تلك التي تغادر فيها ميناء المعرفة الأول، بل التي تعود إليها بعد سنوات من الإبحار، حاملا معك أسئلة لم تكن في حقيبتك حين بدأت. العودة إلى النصوص التأسيسية، أو إلى نظريات الماضي، ليست نكوصا، بل محاولة لقراءتها بلغة الحاضر، وكأنك تعيد اكتشاف طفولتك بعيون الرجولة. هنا، تكتشف أن ما تعلمته لم يكن خطأ، لكن الطريقة التي فهمته بها تحتاج إلى مراجعة. كأن المعرفة تشبه النهر الذي يعبر المدينة ذاتها كل عام، لكن ماءه ليس هو الماء نفسه. 

في النهاية، المؤسسات الأكاديمية ليست هي الجهة الوحيدة التي تجدد صلاحية جواز سفرك المعرفي، بل أنت المسئول الأول عن تحديد وجهتك القادمة. قد تمنحك الجامعة لقب "أستاذ متمرس"، أو ترفع كتبك اسمك عاليا، لكن البقاء في الرحلة يتطلب شيئا من عصيان التوقعات، وشيئا من الولاء للأسئلة التي لا تريد أن تجيب. فهل نستحق أن نسمى "حملة جوازات السفر" إذا كنا نسير على خطى من سبقونا، دون أن نترك أثرا يضيء للقادمين؟ أم أن الجواز الحقيقي هو الذي نكتبه بأخطائنا، قبل صوابنا، كي لا ننسى أننا لسنا أوصياء على المعرفة، بل مجرد مسافرين في قطارها اللامتناهي؟

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم