أقلام حرة

مزهر جبر الساعدي: وسط وغرب افريقيا

استثمار غضب الشعب بانقلابات عسكرية

حدث انقلاب عسكري في النيجر، قاده قائد الحرس الرئاسي؛ تم فيه، حجز الرئيس المعزول في منزله، أو وضعه وعائلته تحت الإقامة الجبرية. وسمح له بالاتصال مع جميع مسؤولي الدول الأخرى التي اهتمت بالأوضاع والانقلاب العسكري في النيجر بمن فيهم المسؤولون الأمريكيون والفرنسيون والافارقة. المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا؛ هددت الانقلابيين منذ اللحظة الأولى للانقلاب؛ ودعت إلى إعادة الرئيس المعزول إلى سدة الحكم، وإعادة العمل بالدستور، وهددت أيضا ولم تزل بالتدخل العسكري في حالة عدم إعادة العمل بالدستور.

المسؤولون الأمريكيون رفضوا تسمية ما حدث في النيجر، انقلابا عسكريا، بل هو كما وصفوه؛ خلاف بين الرئيس وقائد حرسه، ما جعل المسؤولين في فرنسا يمتعضون من الموقف الأمريكي. قادة الانقلاب شكلوا حكومة انتقالية تمهد للانتخابات المقبلة، وطلبوا من السفير الفرنسي مغادرة أراضي النيجر، وألغوا الاتفاقات كافة مع فرنسا، وهذا يعني أن على فرنسا غلق قاعدتها العسكرية في البلد. فرنسا وعلى أعلى مستوى فيها؛ أكدت أن سفيرها سيظل في النيجر، على اعتبار أن حكومة الانقلاب الحالية في البلد غير شرعية؛ عليه لا يحق لها قطع العلاقة مع فرنسا، كما لا يحق لها قانونيا إلغاء الاتفاقات مع فرنسا، لكن حكومة الانقلاب تواصل عملها فقد شكلت حكومة انتقالية؛ لتهيئة البيئة السياسية للانتخابات المقبلة. من الجانب الثاني حشدت قواتها وبدعم شعبي كبير وواسع لها؛ لمواجهة أي تطور في المواقف التي قد تقود إلى التدخل العسكري، سواء من المجموعة الاقتصادية في غرب افريقيا، أو من فرنسا، أو من كلتيهما في وقت واحد. من وجهة نظري؛ أرى أن التدخل العسكري بات من الاحتمالات البعيدة، فالولايات المتحدة الأمريكية رفضت ضمنيا أي تدخل عسكري لحل الأزمة في البلد، أو إعادة العمل بالدستور وفضلت حتى الآن؛ العمل الدبلوماسي والسياسي.

كما حدث أيضا انقلاب عسكري في الغابون؛ واستولى العسكر على الحكم، وتمت مواجهة هذا الانقلاب ببرود تام من قبل الغرب وأمريكا. لأن هذا الانقلاب، ربما، حسب رؤية صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وفي مقدمتهم فرنسا؛ هو لتغيير طاقم الحكومة في الغابون، بطاقم آخر ربما هو الأكثر قوة وسيطرة، لصالح الوجود الغربي والفرنسي هناك. يبدو أو هذا هو الواقع؛ أن فرنسا في الطريق لأن تخسر جميع مستعمراتها في افريقيا؛ لذا يلاحظ المتابع أنها تتصرف بطريقة تكاد تكون هستيرية؛ في مقاومة هذا التحول، أو تأجيل حصوله؛ إلى أن تتغير قوة وسعة مراكز النفوذ والتأثير الدولي في افريقيا، وتتوضح حدود التصادم الإنابي بين المراكز الدولية، في دول القارة التي تعاني شعوبها من الفقر والجهل وضياع بوصلة الطريق إلى المستقبل بسبب حكوماتها، التي تتلقى الدعم من فرنسا، وربما من غيرها من الدول الغربية، إلا أن الظروف السياسية والاقتصادية تغيرت في افريقيا فقد دخل الميدان لاعبون جدد، الصين وروسيا على وجه التحديد الحصري.

إن أي انقلاب عسكري، وبأي أسلوب تم به تنفيذه؛ عندما يحظى بدعم شعبي واسع، كما حصل في انقلاب النيجر تحديدا، فهذا يعني من وجهة نظري الشخصية، عكس إرادة الشعب، والحقيقة التي تقود او تنتهي بأي فاحص أو متمعن حيادي، ليس الحيادية المجردة من البعد الإنساني، بل الحيادية المتفاعلة مع البعد الإنساني لفعل التغيير والتحرر والانعتاق من الهيمنة والاستغلال الاستعماري، سواء القديم، أو الاستعمار الجديد، الذي يستغل مفاهيم العولمة والديمقراطية والمحافظة على الدستور؛ ويستخدمها كغطاء لسلب الإرادة في القرار الاقتصادي والسياسي المستقل للدولة الموضوعة تحت مشرط الجراح الاستعماري؛ الذي ليس لديه رحمة، بل إنه ينخر في جسم الدولة ويعمل على تضعيف ركائز السيادة، من جيش ومؤسسات قانونية. إن الشعوب الافريقية أمامها اليوم فرصة تاريخية في التخلص من النفوذ والهيمنة الأجنبية وبالذات الهيمنة الفرنسية والغربية، وربما لاحقا الأمريكية التي تعمل على توسعة مواطئ أقدامها الموجودة أصلا في أكثر من دولة من دول القارة؛ في حلبة المنافسة على استغلال مواردها البكر بين مراكز التأثير والنفوذ الدوليين؛ أمريكا والصين وروسيا. إن هذه المنافسة تعطي أو تمنح هذه الشعوب، كما غيرها من شعوب العالم الثالث بما فيها، بل في مقدمتها؛ الشعوب العربية؛ مساحات واسعة للحركة والمناورة، من أجل التحرر من الهيمنة؛ بالبديل المتكافئ في التعامل بين الدول ومراكز القوة والتأثير الدوليين، إن هذا الاتجاه يحتاج إلى إرادة وطنية بالكامل؛ تعتمد على الكفاءات العلمية لكل اختصاص في ميدانه؛ وفي طريقة التعامل مع الدول العظمى؛ لحماية أمنها وحماية ثرواتها من النهب الذكي المبرمج اقتصاديا وتجاريا وماليا؛ ببرامج حداثوية تمنحها مع قوة مالها الاستثماري، المسنود بالوسائل الذكية، عبر القروض وغيرها من الوسائل الحديثة لسرقة ثروات هذه البلدان.

وبالعودة إلى الانقلاب في النيجر، فهو ليس مجرد انقلاب عسكري، بل هو انعكاس للغضب الشعبي من استغلال ثروات هذه الشعوب لعقود طويلة جدا، من قبل قوى الاستعمار القديم، الذي تواصل جديده في النهب المبرمج حتى الآن. لقد ملت وسأمت الشعوب الافريقية من هذه الاوضاع ومن سياسة حكوماتها، وإن جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، تلك الصناديق التي ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة، بسبب تأثير المال لأصحاب النفوذ الداخلي (الحكومات)، وعمليات التزوير والحيل المنهجيين، كما هو حادث في ديمقراطية دول المنطقة العربية؛ بل هي طريقة حديثة ومتجددة دوما، لتولية الموالين للسياسة الفرنسية في افريقيا، وحتى غير الفرنسية في القارة ذاتها، وفي أماكن أخرى من العالم؛ في إدارة دفة الحكم بالطريقة التي تنسجم تماما مع مصالح القوى الدولية الكبرى، أمريكا والصين وروسيا وبريطانيا، في بلدان هذه القارة، أو في أمكنة اخرى. إن الانقلاب الذي يقوده العسكر حتى إن جاء تلبية او استثمارا لغضب الجماهير من أوضاعهم المتردية، من فقر وانسداد آفاق المستقبل أمامهم؛ إذا لم تكن هناك خطة ونوايا في أصل الدوافع للانقلاب؛ وهو إقامة نظام ديمقراطي، ودولة مدنية؛ من خلال مرحلة انتقالية؛ تنتهي بتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة، انتخابا حقيقيا، وليس عبر الحيل الانتخابية، التي لا تربطها بالانتخابات الحقة أي صلة؛ سوف ينتهي الأمر بالشعب؛ إلى أن يجد نفسه في وضع أسوأ مما كان عليه. ومن دون النوايا والخطة الموضوعة طبقا لهذه النوايا؛ باتباع طريق آخر، أي طريق اللعب والحيل والغش والكذب؛ سوف ينقلب الوضع بالكامل، ويصبح على طرف نقيض مع إرادة الشعوب. ليقود حتما إلى تأسيس نظام ديكتاتوري شمولي يتسيد فيه قادة العسكر على رقاب الشعب، كما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين في دول المنطقة العربية.. السؤال المهم هنا؛ هل هناك في غرب ووسط افريقيا التي شهدت الانقلابات العسكرية، منذ سنوات، في بوركينا فاسو ومالي، وآخرها، الانقلاب في النيجر؛ مثيلا لما حدث في إحدى دول المنطقة العربية، في السودان؛ على يد عبدالرحمن سوار الذهب، الذي قاد الانقلاب العسكري على جعفر النميري حين كان الأول وزيرا للدفاع، في السادس من أبريل/نيسان في عام 1985. لكنه تخلى عن رئاسة الحكومة. ففي السادس من أبريل عام 1986، وبإشراف مباشر من عبدالرحمن سوار الذهب أُجريت الانتخابات التي استمرت على مدار 12 يوما، وعلى أثر نتائجها سلّمتُ مقاليد الحكم للحكومة المنتخبة الجديدة لرئيس وزرائها الصادق المهدي آنذاك. وتم حل المجلس العسكري الانتقالي والحكومة الانتقالية. وهذا دليل واضح على أن سوار الذهب كان زاهدا بالحكم..

***

مزهر جبر الساعدي

في المثقف اليوم