آراء

آراء

لماذا تعتبر بعض الدول غنية وأخرى فقيرة؟ هذا السؤال، المليء بفضول الطفولة، هو الأكثر أهمية في الاقتصاد. هناك العديد من التفسيرات التي طرحت من البيولوجيا الى الوضع الجغرافي والظروف المناخية حتى الجينولوجيا. غير ان  مستوى معيشة الشخص يتحدد في الغالب ليس من خلال الموهبة أو العمل الجاد، بل من خلال متى وأين وُلد. تاريخيًا، كانت نماذج النمو الاقتصادي تركز على تراكم عوامل الإنتاج، مثل العمالة ورأس المال، ومؤخراً، التكنولوجيا أو الأفكار. كلما كان رأس المال المتوفر لكل عامل أكبر، واستخدامه أكثر إنتاجية، كانت الدولة أغنى.

ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة. لماذا نجحت بعض الدول في تراكم المزيد من هذه العوامل مقارنةً بأخرى؟ الحائزون بجائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام يعزون ذلك على جودة الحكومة والمؤسسات القائمة. في عام 2001، نشر الثلاثة  - دارون اسيموغلو وسيمون جونسون، كلاهما من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون من جامعة شيكاغو - ما أصبح أحد أوراق البحث الأكثر اقتباسًا في الاقتصاد، بعنوان "الأصول الاستعمارية للتطور المقارن: دراسة تجريبية". في الورقة، طوروا مخططًا للمؤسسات، مقسمين إياها إلى "شاملة" (تلك التي تشارك الازدهار) و"استغلالية" (تلك التي استغل فيها مجموعة صغيرة بقية السكان). تشجع المؤسسات الشاملة الاستثمار في رأس المال البشري والفيزيائي، في حين أن المؤسسات الاستغلالية تعيقه.

لم تكن فكرة أن المؤسسات تشكل عنصراً أساسياً في النمو الاقتصادي جديدة. فقد كان هذا هو رأي دوغلاس نورث، الذي فاز بجائزة نوبل في عام 1993، إلى جانب روبرت فوجل، المؤرخ. وكانت المشكلة التي بحثها الحائزون على الجائزة هذا العام تتلخص في ما إذا كانت التنمية تشجع الليبرالية، وليس العكس. فالمجتمعات الأكثر ثراءً قد تؤدي، على سبيل المثال، إلى إصلاحات ديمقراطية.

ولكن كيف يمكننا أن نعرف أن السببية تنبع من وجود المؤسسات وتؤدي إلى الرخاء الاقتصادي وليس العكس؟ فضلاً عن ذلك، كيف يمكننا أن نتأكد من وجود سببية على الإطلاق؟ فضلاً عن ذلك فإن البلدان الغنية تختلف عن البلدان الفقيرة في كثير من النواحي ـ وليس فقط في نوع المؤسسات التي تمتلكها ـ ومن الممكن أن تؤثر هذه الاختلافات بدورها على مؤسساتها فضلاً عن نموها الاقتصادي.

لقد استخدم السادة أسيموجلو وجونسون وروبنسون "نهج المتغيرات الآلية" لحل اللغز. وقد استغل هذا النهج الاختلافات في معدل الوفيات بين المستوطنين لتحديد المستعمرات الأوروبية التي طورت مؤسسات شاملة وتلك التي طورت مؤسسات استخراجية. وفي المستعمرات التي كانت معدلات الوفيات فيها مرتفعة، بسبب الأمراض الاستوائية على سبيل المثال، استغلت القوى الاستعمارية العمالة المحلية. وقد يكون هذا في شكل نظام الإنكوميندا في أميركا الجنوبية، الذي استعبد السكان المحليين، أو مزارع المطاط في الكونغو البلجيكية. وفي الوقت نفسه، اجتذبت معدلات الوفيات المنخفضة في الفروع الناطقة باللغة الإنجليزية ــ أميركا وأستراليا وكندا ــ المستوطنين الأوروبيين من خلال منحهم فرصة المشاركة في الثروة التي أنتجوها من خلال الملكية الخاصة والأسواق الحرة.

وعلى هذا النحو، كان هناك "انعكاس في الحظوظ" بين المستعمرات. فالأثرياء في عام 1500، وفقًا لقياس التحضر، أصبحوا الأفقر في العصر الحديث. وافترض السادة أسيموجلو وجونسون وروبنسون أن هذا يرجع إلى أن الثروة الأكبر للمستعمرات الغنية ذات يوم شجعت على تطوير أساليب الاستخراج، في حين وفرت أعداد السكان الأعلى قوة عاملة يمكن إكراهها على العمل في المناجم والمزارع.

لقد افترض السيدان أسيموجلو وروبنسون أن الدول قد تتعثر في ظل مؤسسات فقيرة. ففي مجتمع شديد التفاوت قد يهدد الفقراء بالثورة. وأي التزام من جانب النخب بإعادة توزيع الثروة استجابة لذلك لم تكن لها أي مصداقية؛ فقد كان بوسعها دوماً أن تغير رأيها عندما يختفي التهديد. ونتيجة لهذا، كانت الدول غير المتساوية عُرضة لعدم الاستقرار. وكانت الضوابط والتوازنات تمثل استجابة لمشكلة الالتزام هذه: فإذا تم تقييد النخب فإن وعودها بإعادة التوزيع سوف تؤخذ على محمل الجد، وسوف يتم إحباط أي تهديد ثوري. وهذا هو السبب، كما اقترح المؤلفان، وراء قيام الدول الأوروبية بتوسيع حق الانتخاب الديمقراطي في أوائل القرن التاسع عشر.

ولقد شكك المؤرخون  في التقسيم الدقيق للمؤسسات الاستخراجية والمؤسسات الشاملة. فقد تطورت كوريا الجنوبية في ظل دكتاتورية عسكرية. وسمحت الثورة المجيدة في إنجلترا عام 1688، والتي حددها السيدان أكيموغلو وروبنسون باعتبارها النقطة التي بدأ عندها صعود البلاد، للبرلمان بطرد الفلاحين فضلاً عن تقييد الملك. أما تطور أميركا فقد جمع بين الحقوق الفردية والديمقراطية للرجال البيض والعبودية والحرمان من حق التصويت لأقرانهم السود.

كما شكك الكثير من الاقتصاديين عن مدى تطابق هذه الاستنتاجات مع التطور الذي حصل في البلدان الأكثر نموا مؤخرا، وهم الصين والهند، حيث ان الصين في الثلاثة عقود الماضية كانت الأكثر نموا مع غياب تام للمؤسسات ذات البعد الشمولي او الليبرالي حسب تعريفهم. كما ان الهند اخذت تنمو بوتيرة اسرع في ظل حكومة مودي المتشددة، ان ذلك ينطبق أيضا على كل من سنغافورة وفيتنام الى حد ما. كما ان السادة الفائزون بالجائزة تجاهلوا الهيمنة الامبريالية وبالذات دور الشركات المتعددة الجنسيات  ومؤسسات التمويل العالمية في عملية إعاقة نمو مستدام للدول النامية.

وعلى الرغم من كل المناقشات الدائرة حول الأساليب، فقد أثبتت أبحاث الفائزين بالجائزة بلا شك أهمية الخصوصية التاريخية، وإبعاد اقتصاديات التنمية عن نماذج النمو المجردة. وكان عملهم بمثابة انفصال عن النظريات التي تفترض مساراً حتمياً نحو التحديث استناداً إلى التجارب غير العادية التي شهدتها أوروبا الغربية. ورغم أن السادة أسيموجلو وجونسون وروبنسون ربما لم يتمكنوا من تقديم وصف كامل للأسباب التي تجعل بعض البلدان غنية وأخرى فقيرة، فإن الأجيال الجديدة من خبراء الاقتصاد لديها أساس متين يمكنهم البناء عليه.

***

علي حمدان

....................

* نشر بالتزامن مع جريدة الرؤية العمانية.

 

نقصد بساسة الشّيعة مَن تحزب باسم الطّائفة، أبناء الإسلام السّياسيّ، وهؤلاء قاعدتهم شيّعيَّة، تيمناً بـ«الإخوان المسلمين» قاعدتهم سُنيّة، فالمنهل واحد «الحاكميَّة»، وإن اختلفت التسمية، لا يعترفون بالأوطان، مَن تفرع إلى «قواعد» و«دواعش»، ومَن نَمى إلى عصائب وكتائب. قطعاً لا نقصد صاحب العِمامة السَّوداء رئيس الوزراء محمَّد الصَّدر (1882- 1956)، عضو مجلس الأعيان، من افتتاحه (1925) حتَّى وفاته، وصار رئيساً له، كان رجلُ حلِّ الأزمات لا خلقها، بنوازع حزبيَّة صبيانيَّة. قال رئيس الوزراء توفيق السُّويديّ (ت: 1968): «الصَّدر مِن العناصر الرَّزينة المعتدلة في التَّفكير والعمل، وقد قام في مختلف أدواره السّياسيَّة بما يؤكد هذه الصِّفات الممتازة فيه، فعرف بكونه رجلاً عطوفاً يحب الخير ويعمله، ويسعى إلى التّفاهم، حتى من العناصر المفرطة التّفكير السّياسيّ والاجتماعيّ...» (بصري، أعلام السّياسة).

لا نقصد جعفر أبوالتّمن (ت: 1945)، شريك مولود مخلص (ت: 1951) في الحزب الوطني، في زمن لم يعرف أبوالتمن مخلص بالنّاصبيّ، ولا وجيه تكريت أشار إليه بالرَّافضي، كان حزبهما عراقياً وكفى. لا نقصد ابن الكاظميَّة وزير المال عبد الكريم الأُزري (1908- 2010)، كانت وزارته تشغله عن منافع طائفية، لا مثلما يحدث اليوم، فهو يعلم أنَّ أي إنجاز للعراق إنجازٌ لطائفته، استفادوا مثل غيرهم مِن مُجز وزارته، قانون تقاعد المستخدمين، فأغناهم عن إنشاء معاهد لتغييب العقل. لا نقصد الوزير عبد الغني الدَّلي (1913-2010) ابن سوق الشّيوخ، ما كان يبرمجه في الرّي والزراعة، الآتي بالنَّفع على العراق، من أعلاه إلى أدناه، وطائفته أول المستفيدين، بلا عنوان يتحول إلى غليان في الصّدور، حدثني عن آخر أمانيه فتح مكتبة بمدينته، لا مجالس اجتاحتها المنابر المدمرة لشباب الطّائفة. لا نقصد وزير الدَّاخلية ورئيس الوزراء صالح جبر (ت: 1957)، ولا ابن الكاظمية رئيس الوزراء ووزير الخارجية فاضل الجماليّ (ت: 1997)، ولا سعد صالح (ت: 1949) ابن النّجف، وزير الدَّاخلية الذي ارتبط به قانون الحريات (1946).

لا نقصد آل مرجان، وآل الحبوبيّ، وغيرهم، كان الجميع شركاء في مجلس إعمار العراق (1951) لا خرابه. مَن ذكرنا، ولم نذكر، كانوا سياسيين شيعة، ذابوا في العِراق لا عنوان آخر، لهم أخطاؤهم، لكنَّ الأخطاء التي تُتدارك، لا كوارث اليوم، فقد سمعنا عن درجات الخطأ: ما يمكن تفاديه وما يستحيل، بالتشبيه: خطأ القائل: واحد زائد واحد يساوي أربعة، ليس كخطأ القائل يساوي تفاحة، فالأخير لا صلة له بالمعادلة مِن الأساس، والمثال مِن الواضحات. يتجه ساسة الشّيعة اليوم بالشّيعة إلى ما يتعاكس ومصالحهم في وطنهم، جعلتموهم يهرعون وراء بيرق تحطيم الدَّولة، فكلّ ميليشيا تهتف هتاف ولاتها مِن خارج الحدود، فلا أمر للدولة بحرب وسلم.

خطورة ما تقودون إليه الشّيعة إلى الضَّياع، وراء بيارق غاية أصحابها تحطيم الدّولة، حتَّى صارت «الطّقوس» المشوهة أعظم الأماني، وتقديمها بمشاهد لا يرتضيها العدو لعدوه، يكون ذلك عندما يتحول البرلمان إلى ساحة «ردح» بـ «منصورة يا شيعة حيدر»، عند التصويت على مناسبة تُشتت لا تجمع، وهذا ما احتج ضده شيعة، معممون وأفنديّة، مِن غير الأحزاب، لدرء فتنة لا تبقي ولا تذر.

على مَن انتصرتم، أعلى أبناء وطنكم؟! فهل عبّدتم الطّرقات بانتصاركم، ورفعتم مستوى التّعليم، وحسنتم الطِبابة؟ هل حُصرتم السّلاح العابث بيد الدّولة، هل دخل الفاسدون إلى أقفاص الاتهام، وأعيدت المليارات؟! عَبَّر محمَّد صالح بحر العلوم (ت: 1992) عن الحال (1934)، «أنا لا أُريد لأمتي حريَّةً/ في ما تُدين به وهي رعناءُ» (الخاقاني، شعراء الغري). أقول: رفقاً بوطن وقد سمنت النُّحور مِن خيره، وها أنتم تسحقونه سحقاً، والقول لصاحبه، رفعه قتلى ساحات «تشرين» (2019) بشعارهم وندائهم الهادِر: «نريد وطناً»: «وبأنْ يروحَ وراءَ ظهريَ موطنٌ/ أسمنتُ نحراً عندهَ وترائبا».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في العصر الحديث ثمة شاهد صارخ على تدني الادراكية العقلية البشرية بازاء الظاهرة المجتمعية، تضاف لتلك التاريخيه الكبرى  كما ظلت تتمثل في العجز القصوري عن اماطة اللثام عن الازدواجية المجتمعية البدئية، وبالذات عن "اللاارضوية"، وقد تكون للمسالتين صلة ببعضهما نوعا، لكن الفارق بينهما على مستوى الادراكية مختلف، فنحن اليوم في غمرة الادعائية " العلموية" العقلانيه الغربية، وفي ظل مايعتبر"علم الاجتماع" اخر العلوم، ومع هذا يعجز العقل عن ملاحظة بروز مجتمعية لاعلاقة لها بالمجتمعية بما هي تلك التي ظهرت متبلورة قبل حوالي العشرة الاف سنه، والتي  استمرت الى اليوم تتفاعل يدويا انتاجويا حاجاتيا، بينما شبه المجتمع القاري الجديد الامريكي، لم يعرف هذا التاريخ، ولاوجد ضمن آلياته وتفاعليته اطلاقا، بما يجعل هذا الموضع "المكتشف" اليوم، ابعد مايكون عن  الاكتشاف الجغرافي المتاخر كما هو شائع، لانه بالاحرى خاصية وجودية مجتمعية  غير مكتشفه قصوريا عقليا بعد، بما يضعنا امام حالة مستجده آلية حصرا، وخارج مفاعيل الرحم التاريخي كليا من جهه، مثلما يجعلنا بمواجهة ظاهرة اساسية مغفلة، خارج القدرة الادراكية ذاتيا في الموضع المقصود، كما على المستوى الادراكي البشري، مثلما ظلت المجتمعية الازدواجية الاولى الارضوية اللاارضوية مابين النهرينيه.

وليست القارة الامريكيه بلا تاريخ يدوي سابق كمجتمعية، فهي مجتمعية لادولة "الهندي الاحمر" الاحادية كما تشكلت عبر تاريخ المكان، الالة جائت  اليوم لتلغيه وتفني من يمثلونه من اهل المكان، مختارة الانتماء العمومي لمن انحدرت منهم "مهاجرة"،  لتظل من دون ادراكيه، لالما قد اجهزت عليه وسحقته من اهل المكان، ولا لما قد ترسمت خطاه كما تعتقد، مع انها وجدت وسط هذا  القطع مع الماضي واتباع الحاضر المستعار الجاهز،  مرتكزة لقوة مفعول الالة، الوسيلة الاساس للوجود، مقرونه بالمنظور الكوني اللاارضوي الابراهيمي(4)،  اي المنظور السماوي الرسالي كحالة مجتمعية هي الاكثر  انغماسا بما لايقاس في  التعبيرية  اللاارضوية ومنظورها الرسالي الايهامي، مايجعل منها كيانيه ( آلة + فكرة لاارضوية غير موعاة) والعنصران مستعاران بظل  الخرس الاعقالي الذاتي وتعذر الادراكية بما يخص الهوية.

وهنا في هذا الموضع شبه المجتمعي الالي تتجلى التدرجية الالية في خطةتها الاولى، فامريكا ليست اوربا، وهي لكي تصبح حاضرة وتكتمل وجودا فعالا،  لاتاخذ الالة او تخصع لها ولاحكامها كما هي وكما تمثلت ابتداء اوربيا كالة "مصنعية"، محكومة لفعل اشتراطات الموروث المجتمعي اليدوي الطبقي الاوربي،  بل تذهب الى تحوير العنصر الفعال المستجد والحديث، ناقلة اياه من "المصنعية" الى "التكنولوجيا الانتاجوية"، ذاهبة في الوقت ذاته بالانتاجية الالية من "الكيانيه المحلوية الوطنيه" الى الامبراطورية المعولمه، التي تحول فعل الالة الى نفي للدولة وسيادتها، الى ان تفقد اوربا المتباهية ب ( الدولة / الامه) والنظم الليبرالية الديمقراطية سيادتها،  متحولة لمجالات مستباحة للشركات متعددة الجنسية و"سادة العالم الجدد"، الامر الذي يلغي القاعدة الاساس، تلك التي اقيمت في غمرتها اسرائيل اوربيا ابان صعود النموذجية المصنعية التوهمية، في حين تتداخل ازمة الكيان الصهيوني الراهنه ملحقة بالتازم العولمي الامبراطوري الامريكي، مع بلوغ العتبة العولميه واحتداميتها لحظة التفارقية مع الاله،  وتدرجيتها المستمرة  وقد صار طورها النهائي  مابعد التكنولوجي الانتاجوي ضرورة متزايدة الحاحا، ماخوذة بتسارع غير مسبوق.

تتكاثر التوقعات بخصوص"الامبراطورية" الامريكية وقرب نهايتها(5) من قبيل التحسس وبلا ادراكية للاسس والمكونات المختلفة  كما مجسدة في مجتمعية اللامجتمعية النافية لماقبلها عمليا وقائعيا بالسحق والازالة، وبمصادرة الرؤية التوهمية، العنصران الغائيان المبيدان لماقبل اي لحصيلة وخلاصة المجتمعية التاريخيه، فامريكا اللاتاريخانيه، بنت الساعة، المفقسه خارج الرحم التاريخي، نموذج الولادة المجتمعية الثانيه الموافقة للانتقالية من الانتاجوية اليدوية الى الالية، هي حالة اجهاز على ماقبلها كمحرك اساس ضمن اليات تشكلها غير المتحققة بعد، اذا كانت قد بدات ب "سنبني مدينه على جبل" حيث الفكرة قبل المجتمعية، وصولا الى العولمه  وبشائر الانتقال لمابعد التكنولوجيا الانتاجيوية الحالية، حيث التناقضية بين وسيلة الانتاج وتدرجها ونوع المجتمعية واشكال تنظيمها، بما في ذلك الامبراطوري الرسالي بعد الوطني القومي الكياني الجغرافي الاوربي، وهو ماصار العالم يعيشه اليوم وقد صارت الكيانوية بكل صنوفها من الماضي مع استمرار القصورية العقلية التاريخيه، والعجز عن رؤية ماهو منطو في المجتمعية بالاصل من ممكنات واحتمالات متجاوزة لاشكال التنظيم الحالي الارضوي.

تندفع الكيانوية الرسالوية لشبه المجتمعية الالية تكرارا، وكما في البدء اليوم الى تسييد نوع من نمطية رؤية حاكمه للمجتمعات البشرية، هي ذات الاولى "سنبني مدينه على جبل" مطورة ومعدله بما يحولها الى اطار مافوق امبراطوري، اساسة "الانجيلية المسيحويهودية" وفي الواقع وتجسدا"الترامبو صهيونيه" التي تلحق الاسلام بالدينين المفبركين، الامريكي الانجيلي  والصهيوني الاسرائيلي، حيث يلعب "آل سعود" دور تحويل الاسلام، من القبلية السلفية الريعيه، الى  الاندراج تحت خيمة الابراهيمه المزورة " الترامبوصهيونيه"، نتاج التازم الاعظم الارضوي لشبه المجتمعية الالية.

تنتقل شبه المجتمعية الامبراطورية الى العجز التلفيقي عندما لايعود المستعار واخذ الجاهز ممكنا، وبالذات الغرب ومتبقياته الايهامية التي تلبستها شبه المجتمعية باعتبارها هي الغرب، ومع العولمه التي هي خارج ارادة من صنعوها محكومين لاليات وقوانين النفاعليه التاريخيه، ماعادت النموذجية الغربية ممكنه حتى بصيغتها التوهمية المصنعية، ذلك في حين ان الموضع الجاري الحديث عنه، بلا قدرة على انتاج منظوره الكيانوي المجتمعي المتلائم مع التدرجية الالية، خصوصا مع التكنولوجيا الانتاجوية الراهنه، حين تصير في اخر، وعند نهايات حضورها قبل الانتقال الى التشكلية الثالثة اللاارضوية، حيث "التكنولوجيا العليا العقلية" مع بدء التفارق بين وسيلة الانتاج وشروط الانتاج المجتمعية، النافية للمجتمعية بصيغتها الحاجاتيه الجسدوية، وقت يصير العقل بموقع الفعالية المستقلة، بعد ان يتحرر من سطوة وحكم اشتراطات الجسدوية الحاجاتيه الملازمه للطور اليدوي من تاريخ المجتمعات، الامر المنوط بالوثبه العقلية الثانيه الهدف الاساس.

وفي حين تاتي الفبركة الابراهيمه القاضية بمحو الاخر واجباره على الخضوع لمنطق الابراهيمه الانجيلية "اليهو/ مسيحيه" المنتهية الصلاحية هي وعموم الابراهيمه، بما هي صيغة التعبيرية اللاارضوية الاولى ضمن اشتراطات اليدوية والغلبة الارضوية الجسدية مجتمعيا، مع القصورية العقلية، لنقف اليوم على باب الزمن الاخرمابعد  النبوية الحدسية الابراهيمه الاولى،  بمتبقياتها الايمانيه بعد فقد الفعالية، زمن اللاارضوية "العلّية السببية"، التعبيرية الثانيه التحققية، الانتقالية  التحولية العظمى.

ـ يتبع ـ

***

عبد الامير الركابي

 

بداية اعرف الغرب بانه المنظومة الحضارية التي تتشارك الفكر والثقافة والقيم والمواقف والممارسات والاهداف والمصالح، اما ال (نحن)فاقصد بها المنظومة الاسلامية التي تتشارك العقيدة والتاريخ والاخلاق والقيم والاهداف والمسؤوليات والمصالح المشتركة .

بين العالم الاسلامي والغرب تاريخ معقد ومضطرب من العلاقات الملتبسة التي تخللتها الحروب والصدامات والاحتلالات والنظرات المشوهة والرؤى الناقصة .حروب بدوافع دينية مقدسة، وحروب الاستعمار والمصالح المادية،  وصدامات الثقافة والهوية والمعرفة، انتهت تلك الحقب ليصحو الجانبان بعد الحرب العالمية الثانية على محاولات لترسية العلاقات بعيدا عن التاريخ الدامي والفهم المشوه والاحكام المسبقة، أسهم  الاستشراق والاستشراق المعكوس في بناء الفهم الملتبس،  ولم يتحرر الغرب من مركزيته رغم دعوات كثيرة من داخل الغرب نفسه ومن خارجه للخروج من هذه المركزية التي عنت بناء نفسيا ومعرفيا وثقافيا يجعل الذات في مرتبة المصدر للتقدم والعلم والرؤية الانسانوية فهي المركز وماسواها هامش يدور في فلكها عليه ان يتعلم منها ويحذو حذوها ويترسم خطاها ويتمسك بمعاييرها واخلاقها .

بقدر مايبدو تعريف المركزيات اشكاليا وباعثا على الاختلاف، لكن الواقع والسلوك العملي يكشفان عن تمركز غربي حول الذات ينفي حق الاخر في الاختلاف ويرفض تعريفات  هذا الاخر لمفاهيم قدتبدو جدلية  كالحق والعدل والمساواة والارهاب وغيرها .

مانحن بصدده الان كمثال حي شاهد على الاختلاف في القضايا المثيرة للمشاعر والانفعالات مايجري في غزة ولبنان من عدوان اسرائيلي بلغ حد التوحش وتجاوز تعريفات الابادة البشرية التي انتجها الغرب نفسه، فمازالت اسرائيل تمارس جريمة الابادة الجماعية والتدمير الممنهج وسحق الوجود البشري بذريعة الدفاع عن نفسها، ولم يجد الغرب الرسمي والحزبي غضاضة من التعبير المتكرر عن تأييده لهذه الحرب بدعوى القضاء على الارهاب الذي مارسته حماس في 7 تشرين الاول /اكتوبر 2023.وبحسب ارقام حكومة نتنياهو فان هجوم حماس ادى الى مقتل 1200 شخص واسر 250 اخرين، لكن  الغرب  لايعتبر مقتل 43 الف فلسطيني و2500 لبناني وجرح قرابة المائة الف من الشعبين وتدمير قطاع غزة بالكامل واجزاء كبيرة من لبنان، كافيا للضغط على اسرائيل لوقف الحرب او على الاقل منه  ايقاف تزويدها بالسلاح الفتاك المستعمل في الابادة البشرية، الاكثر ايلاما ان تجد مثل مستشار المانيا اولاف شولتس الذي ينتمي الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي ووزيرة خارجيته انالينا بيربوك المنتمية الى حزب الخضر اليساري وهما يتبجحان بتكرار عبارة  صادمة للضمير البشري (نحن لانخجل من تزويد اسرائيل بالسلاح وسنستمر في ذلك حتى لو ادى الى مقتل مدنيين، لان الارهابيين يستخدمون المدنيين دروعا بشرية)، هكذا وبقسمات وجه باردة خالية من الانفعال البشري يكرر الالمان مثلا سياسة تأييد الابادة البشرية التي يمارسها اليهود الصهاينة في منطقة الشرق الاوسط عبر القتل والتجويع ومنع وصول المساعدات، المانيا التي تنطق عن لسان يمينها ويسارها تجد تصامنا غربيا معها تعبر عنه احزاب يمينية ويسارية اوربية عدا استثناءات محدودة، وتتصدر شخصيات اليمين المتطرف في المجر (هنغاريا )والنمسا والتشيك وهولندا والدول الاسكندنافية وبريطانبا وفرنسا واستراليا وحتى الهند، المشهد الاعلامي والسياسي وهي تحذر من الخطر الاسلامي وضرورة دعم اسرائيل للقضاء على هذا التهديد، ومع ان مايجري في غزة ولبنان يصادم مقولات الغرب الحداثية، وايقوناته التي اراد لها ان تكون مرجعية عالمية، كالديمقراطية وحقوق الانسان وحق تقرير المصير وحرية الاعتقاد وو، لكن النخبة الثقافية والسياسية لاتشعر بالحرج من ازدواجية المعايير وخيانة المباديء الحداثوية، هذا الحرج تم ابتلاعه بتنظير فلسفي مصحوب بتحيز يعطي اليهود الصهاينة (حق!!) الاستمرار في القتل والابادة بذريعة تغيير الخريطة الامنية والسياسية ضمن مفهوم الدفاع عن النفس، لم يكن مستغربا ان يتبادل ساسة غربيون التهاني مع نتنياهو بمقتل قادة المقاومة ويشعرون بان اسرائيل تحقق اهدافهم وانها تخوض الحرب نيابة عنهم، وهنا نصل الى المعادلة التي يرسمها العقل الحداثي الغربي لسلوكه المتساوق مع سلوك اليمين الصهيوني المتطرف، عندما يضع معايير للحق والعدل والشرعية والسلام والامن لا تنسجم مع قيم الحداثة التي جعلت الانسان مركزها، الغرب يخون قيمه الانسانية، بتحيزه الفاضح الى الجهة التي تمارس القتل والابادة، دونما مسوغ اخلاقي مقبول سوى الادعاء بان الغرب يشعر بمسؤولية اخلاقية للدفاع عن اليهود وحماية كيانهم ووجودهم، تبدو القضية معقدة نوعا ما، كون الثقافة السياسية والقانونية في الغرب تمارس مركزيتها، فيغدو اليهودي ضمن نطاق تلك المركزية بناء على معايير، والعرب واالمسلمين خارجها بناء على معايير مختلفة، حرب غزة ولبنان اطاحت بجهود كبيرة لردم الحواجز النفسية والثقافية والتي سعت الى نوع من التفاهم والحوار البناء بين عالم المسلمين وعالم الغرب، لكن سياسة الغرب بزعامة امريكا في دعم سياسات الابادة والتدمير ستظل تذكر اجيال المسلمين بان العلاقة مع الغرب علاقة سجالية لم تتحرر من تراث وتاريخ من التحيزات وعدم الانصاف والتعالي والازدراء المتخفي ببلاغات السياسة والمصالح المادية .

***

ابراهيم العبادي

أن تعيش وفق منطق الأنا الفوقية في عقلك شيء، وأن تعيش وفق منطق أنا والاخرين واقعاً شيء اخر، المتتبع لسير العملية الانتخابية في اقليم كوردستان يجد أن التحزب قد بلغ ذروته في الصراع على الكراسي البرلمانية، وينطبق على الاحزاب الكوردية مبدأ -كل حزب بما لديه فَرِح -، ولكن في الوقت نفسه ينطبق على غالبية الاحزاب الكوردية مبدأ آخر؛ قد يزعج البعض ما اقوله لكن تلك هي وجهة نظري الشخصية التي استنبطها من وقائع ومن صيرورة العمل داخل المجتمع الكوردي في جنوب كوردستان، لاسيما من خلال تتبع اعلام الاحزاب، ومواقع التواصل الاجتماعي وقراءة شخصية قادة الاحزاب ومناظريهم، إذ يتضح بشكل جلي وواضع للعيان أن مراهقوا السياسية، وسياسي الاموال، وسياسي القنوات الاعلامية، وسياسي الروك، وسياسي الخطابات والصراخ والحماسة البلاغية، فضلاً عن سياسي الحقد، جميعهم يشكلون جبهة موحدة ضد سياسي المنطق الكوردستاني الساعي لحفظ الاقليم من جهة، والساعي للحفاظ على الشخصية السياسية الكوردستانية من جهة اخرى، على الرغم من كل الصعوبات التي تواجه الاقليم، سواء من الضغوطات الاقليمية المتمثلة بالاحتلال التركي للاقليم، أو التدخلات السافرة لايران في زعزعة أمن واستقرار الاقليم، ناهيك عن احقاد البعض في جبهة العراق الذي يفترض أن يؤمنوا بأن الدستور هو المحفل القانوني التشريعي الوحيد الذي يجب أن يكون الحكم والفيصل في القضايا والخلافات بين الاقليم وبغداد.

نحن هنا لانركز على حزب وشخصية واحدة، كما أننا لاننفي وجود الفساد المالي، والاداري والفساد بكل تصنيفاته، ولاننزه الحكومة التي تدير الاقليم التي لاتمتلك خطط بديلة للازمات، ولاتملك سلطة موحدة على جميع الاقليم،  كما أننا لانقوم بالدعاية الحزبية، فالانتماء الاكثر شيوعاً لدى الكثيرين من كورد الجنوب هو لكوردستان، لذلك النظر الى الوقائع لاتتم من خلال منظور حزبي دعائي، إنما من خلال الفوضى التي خلفتها الدعاية الانتخابية كواقع تاريخي ملموس ومنظور وواضح لدى غالبية الطبقة الواعية الكوردستانية سواء في جنوب كوردستان أو في باقي اجزاء كوردستان المحتلة، لأن الفوضى العقلية التي عاشها سياسيوا الجبهة المناهضة لوجود كيان كوردستاني قوي، أتت في الاصل من خلال العداء اللامنطقي للحزب المنافس أو للاحزاب المنافسة وللشخصيات المنافسة، وذلك ما اتضح بشكل كبير في خطاباتهم العدائية التنقيصية لتلك الشخصيات، ما يؤكد أن الفوضى العقلية قد تمكنت منهم، لاسيما إذا ادركنا أن الفوضى العقلية تعني: القلق المستمر ، فخاخ التفكير ، التحميل الزائد للمعلومات ، قوائم المهام التي لا تنتهي، فالقلق من فوز المنافس واكتساح الساحة السياسية، ولاجدوى صراخهم وسبهم وشتمهم ومحاولتهم لاثارة النعرات، فضلاً عن الفخاخ التي وقعوا بها جراء تتبعهم لاجندات خارجية اوهمتهم بالتدخل والمساعدة والعمل على فوزهم، ناهيك عن تلك المعلومات المضللة التي أثقلت حملهم وفاقت عقولهم الصغيرة على العملية السياسية الكوردستانية، حتى أنهم فشلوا في اتمام المهام التي كلفوا بها من قِبل اسيادهم، كل ذلك خلق فجوة كبيرة بين منطقهم اللامنطقي اللامعقول اللاكوردستاني، وبين القاعدة الواعية لاهمية وجود اسم كوردستان وكيان كوردستاني وحكم كوردستاني.

إن الفوضى القعلية التي عاشها هؤلاء الساسة اعطت رؤية واضحة حول الحالة التي يعيشها اغلبهم، وابتعادهم عن طريق خلق مجتمع مدني واعي بعيد عن قشور المفاهيم التحررية والحريات بصورة عامة، فتصادم الاراء وتضارب المصالح، أدت الى ارتباك وتوتر في عقولهم مما خلق فجوة بينهم وبين قواعدهم التي وعت كثيراً عدم وجود عقلية سياسية لدى قادتهم، ناهيك أن الجماعات الواعية خارج الاطار الانتخابي ايضاً أدركت بأن هؤلاء لايمكن أن يعول عليهم، فالتضليل الاعلامي الذي اعتمده تلك الفئات والمعلومات الخاطئة لاثارة الرأي العام لم تثمر شيئاً، فضلاً عن محاولتهم لشراء الذمم واستقطاب بعض الوجوه السياسية المنافسة لم تنجح بعكس الجبهة المنافسة، كما أن المصالح الشخصية والحزبية لبعض الاشخاص والاحزاب والتي عمدت الى تضخيم بعض الاحداث التي تتداخل وتتاشبك مع رؤى وايديولوجيات اقليمية خارجة عن الاقليم دون وعي نقدي وتفكير منطقي أدى الى تعرية عقولهم، فضلاً عن كون اسلوبهم الاستهزائي الانتقامي لاثارة العواطف لدى بعض الطوائف الدينية وبعض الاحزاب غير المرخصة داخل الاقليم، مع استخدام اسلوب التحفيز والتخويف في نفس الوقت، كل ذلك لم يجدي نفعاً بل العكس تماماً، أثر ذلك على قراراتهم الانتخابية، وعلى مكانتهم الحزبية، وعلى وجودهم الكوردستاني.

في المقابل عمدت الجبهة الاولى الى إعتماد شخصيات ذات وزن سياسي واجتماعي وعاطفي معاً، وسعت بثبات في حملتها الدعائية، دون الخروج على المنطق، والعقلانية، إذ كان خطابهم ثابتاً ومتحدياً لكنه غير مبتذل، وغير فوضوي، وغير معادي، فإثارة حماس الاتباع لم يكن من خلال سب وشتم المنافس، إنما من خلال منطق كوردستان واسم كوردستان والحفاظ على كوردستان على عَلَم كوردستان وبيشمركة كوردستان وقضايا كوردستان، حتى إن لم يكن الامر كذلك لكن كان ذلك الخطاب الواعي والاختيار الانسب لخلق قوة دعائية ورأي عام توحيدي الى حد ما ضد الجبهة التي ارتمت باحضان الساعين لانهاء الاقليم.

حقيقة إن فوضى العقول لسياسي الحالة، أو سياسي الظروف اعطت للجبهة المنافسة القيمة السياسية الواعية وخلقت فجوة كبيرة بين قواعد الجبهة الفوضوية وقادتهم، وذلك ما سمح للمنافس باستغلال تلك الفجوة وخلق علاقة تواصلية متينة بين قيادتها وقواعدهم الشعبية، حتى وإن كان الاعتماد جاء وفق منطق العشيرة والانتماء، لكن ذلك لم يمنع من بروز اشخاص مدركون لمهامهم التي تلقوها من قيادتهم، وساروا بثبات نحو هدفهم وهو الفوز بالانتخابات.

***

د.جوتيار تمر

20/10/2024

تعني النطقية ـ وان المتاخرة ـ اليوم، تجاوز القصورية العقلية البشرية المرافقه لحالة وحدود الادراكية المتاحة للعقل بعد وثبته الاولى الموصولة  مع الانتصاب على قائمتين، وبالتحديد بازاء المسالة المجتمعية ومنطوياتها، ومن ثم آليات ومستهدفات الوجود البشري. ولامن شك بان اخطر واهم  مظاهر القصورية المنوه عنها قد حصل ابان الانتقال الاوربي الحديث الى الالة، يوم كشف العقل الاوربي الاحادي الارضوي عن عجزه  وتدني حدود ادراكيته امام الانقلابية المستجده، فظل قاصرا، ولم  يتمكن من مجاراتها او التعرف على  آلياتها ومنطوى حضورها على مستوى الكينونه والبنيه المجتمعية.

ولكي نتوقف عند نموذج صارخ وجلي متداول على اوسع نطاق ممكن، نستعرض الماركسية بموقفها  من المسالة المجتمعية  في حينه، مع الانقلاب الالي المسمى بالبرجوازي، فماركس الذي تعرف على مفهوم "صراع الطبقات" كما جرى تاسيسة قبله بقليل، ذهب الى القول جازما بان " تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقات"، وهو هنا ارتكب من  حيث لايدري خطئا جوهريا، لانه اعتمد بسذاجة نوعا من المجتمعات بذاته ليعممه على غيره، فماكان  له ان ياخذ بالولادة والتشكل الحاصل في حينه،  بحيث ينتبه مثلا الى كون "المجتمعات" التي يتحدث عنها هي مجتمعات يدوية سابقة، وانها نتاج تفاعية ( الكائن البشري/ البيئة)، العنصران الاساسيان اللذان في غمرتهما تشكلت المجتمعية، ومنها الطبقية  ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي، الامر الذي ماعاد قائما بعد اليوم مع انبثاق الالة العنصر الثالث المختلف نوعا، والحال على الثنائية التشكلية البشرية البيئية الموروثة من خارجها،  بما يعني حتمية بدء الذهاب الى "مجتمعية اخرى".

من هنا كان ينبغي اولا وقبل كل شيء التوقف وقتها عند النظر للمجتمعات وعلاقتها بالاله بدل الطنطنه عن "صراع الطبقات"، و "المادية التاريخيه"، والمراحل الخمسة، التي هي مجرد تخيلات توهمية تخلط بين ماض لم يعد له وجود ماديا منذ الساعه، وحاضر اخذ بالتشكل والولادة من هنا فصاعدا،  حيث الطبقات وغيرها من اشكال ونمطيات المجتمعات اليدوية تصبح من الماضي، في الوقت الذي نكون فيه بحاجة الى تركيز النظر على عملية التشكل المجتمعي الثاني الالي، بعد ذلك الابتدائي اليدوي الاول  ومااستغرقه في حينه من عشرات القرون من التفاعلية، قبل ان يستقر على الصيغة التي استقر عليها ضمن اشتراطات (التجمع + انتاج الغذاء)، ولايمكن بالطبع اليوم  تجاهل ماتعنية الالة وحضورها بالنسبة للطبقات المتبقية من الطور الماضي بالغائها لها، وموقف كل طرف منها،  بالاخص وان الوسيلة الجديدة من نوع تغييري، ويمكن ان يؤثر في البنية المجتمعية ويحورها بعل الكائن البشري، وهذا ماقد حصل وصار اساسيا في فعل ومجهود الطبقات المختلفة بعد الالة وحضورها،  وعلى حسب مامتوفر للقوى المختلفة من قدرات اصلية او مكتسبة، او مايقع عليها من عبء وخسارة.

وبناء عليه فان شيئا اساسيا اخر سوف يطمس بالمناسبه التوهمية الارضوية الاوربية بمواجهة التبلورية المجتمعية الثانيه الالية، تلك هي المروية التشكلية المشار اليها بمراحلها وحقبها ومتغيراتها، الامر المتوقع، بما ان شخصا مثل "ماركس" يبني صرح نظريته الكبرى على موضوعة هي بالاحرى وساعة يفعل مايفعله تكون قد بدات بالزوال من الوجود، فلا صراع طبقات مع الالة، بل اصطراع بنيوي تشكلي بين العنصر الفاعل الجديد والبنى الموروثة المجتمعية اليدوية كما كانت قد تشكلت وغدت راسخة خلال الطور الزمني التاريخي اليدوي على طوله، مع ماينبغي توقعه من مقاومتها للطاريء الانقلابي، ومايتولد عنه والحالة هذه  من اشتراطات وديناميات شاملة تنال بالتغيير لا المجتمعات الموروثة وحدها،  بل مايقابلها ويتصارع معها لاجل تغيير ها بنيويا، اي الالة نفسها.

وهنا يمكن ان نعثر على شيء من العذر لماركس وغيره، بما انه كان منغمسا بالصيغة الاولى من صيغ "الاله" بحالتها "المصنعية" غير النهائية، لكن الاقرب لليدوية، والتي تؤجج احتدامية اصطراعية غامرة مع تجسيد مضطرب بين زمنين ونوعين للطبقات، وبالذات منها العاملة "البروليتاريا" وقتها، من بين اشكال وعوامل الاصطراعية الناشئة، يراها ماركس اخذه الى الاشتراكية و "الشيوعية"، بما انه لايستطيع رؤية  تبدل حوافزها الفعلية ووجهتها، وماينتج عنها،  متوقفا عند عتبة الماضي المجتمعي،  وقد ظن انه اكتشف اخطر دينامياته اليوم في الوقت الذي تكون فيه الاليات الفاعله والناظمه للعملية التاريخيه المجتنمعية قد تبدلت وانقلبت بما يلغي ماسبق وينهي الياته البدائية المقتصرة على البيئة ومفعولها، وماقد تولد عنها من نمطيات مجتمعية من بينها "الطبقية" التي هي من الماضي، ولم تعد فعاليتها قائمة بعد اليوم، ولا استمراها.

تتراجع حدة الاصطراعية الطبقية عند مفتتح ظهور الالة هي وكل اشكال التنظيم المجتمعي اليدوي  وموروثاته مع الانتقال الى شبه المجتمعية المفقسة خارج رحم التاريخ، مجتعية الفكرة والالة الامريكية الامبراطورية  الرسالية التوهيمه حكما، ومايلحق بها من اسقاطات ابراهيمة منقضية الضرورة، مختلطة بالتوهمية الغربية الحديثة، بينما الاصطراعية اليدوية تنتقل وفقا لاشتراطات التشكل القاري الامريكي خارج المصنعية الى الطور الالي الثاني، "التكنولوجي الانتاجي" والعولمة الاقتصادية القاصرة  العاجزة عن الانتقال الى مابعد كيانيوية دولتيه، بما هي الضرورة الحالة على المجتمعات البشرية مع الاله وتحوراتها الذاهبة من الارضوية الجسدية الحاجاتيه، الى المجتمعية العقلية المتعدية للجسدية مع توفر اسباب تحققها على مستوى وسيلة الانتاج.

ومن البديهي ازاء حال تحولي من هذا القبيل ان تظل التفارقية الادراكية المادية الواقعية سارية، مع انها تصل عند لحظة بعينها لما من شانه اجبار العقل على التخلص الضروري، وان الاولي من وطاة وهيمنه المنظور الارضوي الاحادي الراسخ،  بما في ذلك صيغته المتاخرة الحداثوية الاوربية، وتلعب هنا تراكمات التجربة التاريخيه وتفاعليتها دورا اساسا، مع اننا يجب من ناحية اخرى ان  نتحرى عما يمكن ان يكون كامنا بين تضاعيف العملية المجتمعية التاريخيه، اليدوية على وجه التحديد، واذا كانت منطوية على مايشير الى الحصيلة النهائية  التحولية العظمى نحوالوثبة العقلية الثانيه بعد تلك الاولى المنتهية الفعالية، مايتطلب اعادة نظر من نوع مختلف الى الظاهرة المجتمعية، كانت القصورية العقلية تمنع مقاربتها حاجبة اياهاعن الادراكية،  بما هي ازدواجية وثنائية النوع المجتمعي الابتدائي (الارضوية / اللاارضوية)، وحضورها  الكوني غير المعاين ولا المدرك على طول المسار التفاعلي التاريخ المجتمعي.

تتبلور الظاهرة المجتمعية مبتدأ في ارض سومر "لاارضوية" منطوية على  النزوع لمغادرة الكوكب الارضي سماويا عقليا، بالتحرر العقلي من الجسد ومقتضياته، واذ لاتتحقق في حينه لنقص في اسباب الانتقالية العظمى المادية "وسيلة الانتاج العقلي"، ومستوى الادراكية المتعدية للقصورية الارضوية "الانسايوانيه"، فانها توجد وتظل قائمة كتعبيرية لاارضوية  تكتمل بالنبوية الحدسية بصيغتها الابراهيمه التي تتوقف فعالية وضرورة عند الختام النبوي الجزيري المحمدي، لينفتح الافق من يومها للا ارضوية "العلّية السببية"، الموقوفة على الانقلاب الالي، المنطوي على "وسيلة الانتاج العقلية"، التكنولوجية الثالثة، مابعد الانتاجوية،  واحتدامية الاصطراعية الارضوية اللاارضوية، وصولا الى النطقية التاريخيه العظمى، حين ينقلب مسار التاريخ المجتمعي البشري تحوليا.

***

عبد الامير الركابي

 

اسفرت الانتخابات الرئأسية في تونس والتي جرت في شهر تشرين الأول من عام 2024م والتي صاحبتها أجواء سياسية عاصفه عن فوز الرئيس المنتهيه ولايته قيس سعيد بنسبه %90.69 من الأصوات أما منافسه العياش زمّال فقد حصل على المركز الثاني بنسبه7.35% وقد علل المراقبون فوز قيس سعيد الى أسباب ابرزها: مقاطعه الأحزاب التونسيه فهذه الانتخابات فقد قاطعت (5) احزاب يسارية الانتخابات ,وكذلك ازدياد شعبيه سعيد في الاونه الاخيره بالاضافه الى ان حزب النهضه الاسلاميه اوعز الى انصاره بالعزوف عن التصويت لصالح منافسي سعيد.

تونس: نبذة تاريخية

احتلت قوات الحلفاء تونس عام 1943 لكي تتخذها قاعدة انطلاق نحو الشمال الافريقي الأ ان الشعب التونسي لم يرتضى هذا الاحتلال فأعلن عن قيام المقاومة المسلحة في المدن والساحل وقد تهيأ لهذه المقاومة رجل قيادي قادها من مدينه الى أخرى وهو الحبيب بورقيبه الذي تزعم كذلك الحزب الدستوري التونسي ،وفي عام 1946 غادر بورقيبه بلاده الى مصر ليعرض قضيه بلاده على الجامعه العربية حيث اعلن ان هدف المقاومة هو تحرير تونس واستقلالها والانضمام الى جامعه الدول العربية.واستجدت المقاومة حتى اضطرت فرنسا الى الاعتراف بأستقلال تونس عام 1956 وفي عام 1957 انتخب الحبيب بورقيبه رئيسا للجمهورية وقد استمر في منصب الرئاسه اكثر من 30 عاما حقق خلالها الكثير من المنجزات التي شملت معظم نواحي الحياة في تونس واتخذ عدة قرارات ثورية.

قرارات الرئس بورقيبه

اصدر الرئيس بورقيبه عده قرارات ابرزها:

1- منع تعدد الزوجات ورفع سن الزواج الى 20 سنة للرجل و 17 سنة للمرأة وقرر مساواة المرأة بالرجل امام القانون

2- سمحت هذه القرارات بالتبني وسمحت للمرأة بالأجهاض

3- اصدر امراً بمنع ارتداء النساء للحجاب بأعتبارة مظهراً من مظاهر التخلف ويتنافى مع روح العصر وقد ظهر الرئيس بورقيبه في احتفال شعبي على التلفاز وهو ينزع الحجاب عن النساء وهو يقول ..(انظري الى الدنيا بغير حجاب ..)

4- حاول بورقيبه الغاء شهر الصيام (رمضان) كما انه جعل الغاء الصيام عن العمال لانه يقلل من الإنتاج ويؤثر على الاقتصاد في تونس الا ان محاولاته هذه فشلت بسبب موقف الأحزاب الدينية

5- حاول منع التونسيين من الذهاب الى مكه لأغراض الحج والعمرة لان هذه الأمور تسبب هدراً للعملات الصعبة

ان معظم هذه القرارات تتعلق بالاحوال الشخصية وقد وافق البرلمان التونسي عليها ورفضتها الأحزاب الإسلامية

وقد حاول بعض الزعماء العرب تقليد مسيرة بورقيبه فالرئيس المصري جمال عبد الناصر حاول الغاء شهر رمضان لكونه يؤثر سلباً على الاقتصاد المصري وحاول الرئيس الجزائري احمد بن بله  الغاء عيد الأضحى عام1964 الا ان محاولاتهم هذه باءت بالفشل لوقوف القوى الأسلامية ضدهم.

ان قرارات الرئيس بورقيبه اثارت موجه من الاعتراضات ضده الامر الذي مهد الطريق للإطاحة به في انقلاب عسكري قاده زين العابدين بن علي عام 1987 حيث نصب نفسه رئيساً للجمهوريه وفرض على بورقيبه الإقامة الجبرية حتى وفاته عام 2000م.

*** 

غريب دوحي

 

(من لم يسمع طبول الحرب تدق فهو بالتأكيد أصم)

هذا ما قاله هنري كيسنجر(1923-2023) وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في نهاية عام (2011)، مضيفا ً(إن ما يجري بالمنطقة هو تمهيد لحرب عالمية ثالثة، عندما صرح لجريدة (ديلي سكيب) الصادرة في نيويورك "بأن الحرب القادمة شديدة القسوة ولا يخرج منها سوى منتصر واحد هو الولايات المتحدة، وأن الخاسر الأبرز فيها هي روسيا والصين وإيران").

إن ارتدادات وتداعيات عشرات القضايا والملفات التي تزخر بها جغرافيا شاسعة عبر القارات المختلفة، قد تكون مدعاة لزيادة رقعة المعارك ودخول المنطقة والعالم في حرب كبرى تضع العالم على شفا حريق كبير، لا يمكن أطفاؤه بسهولة، فبين الحرب الروسية الأوكرانية، واستلام أوكرانيا عشر طائرات (أف 16) من حلف الناتو، الى عملية التصعيد بدخول أوكرانيا الأراضي الروسية في مدينة كورسك، والمعارك التي تجري بين الطرفين لفرض أمر واقع جديد، لإظهار قدرة الناتو وأمريكا وأوكرانيا على تهديد روسيا الاتحادية، ومحاولة اجبارها على تغيير مجرى المعارك التي تجري على الأرض، ودفعها لتقديم بعض التنازلات فيما يخص التفاوض بين الدولتين، فهل هي أداة حرب جديدة لتغيير المعادلة العسكرية؟، ام وصفة دواء سحري لموسكو لتسجيل نصر حاسم، ولهذا نرى بأن روسيا أظهرت بانها قد تلجأ لاستخدام الاسلحة النووية التكتيكية، لحسم المعارك مما يدفع ذلك لدخول الناتو بمعركة شاملة مع روسيا، وهذا ما تتجنبه كل الاطراف بمحاولة التعاطي مع الحرب بشكل تقليدي ومعارك كلاسكية، ومثال ذلك (تدمير 5 مقاتلات سو-27 أوكرانية بصواريخ إسكندر في مطار ميرغورود) ولكن العقال قد ينفلت، وهو ما يهدد كل الأمن القومي بالمنطقة والعالم.

فبعد أن خرقت أوكرانيا حدود روسيا باتجاه الشمال وهي آخر نقطة لتحويل الغاز الى أوروبا، والتي تعتبر رسالة تهديد بأن مناطق السيطرة على طريق الطاقة قد تخرج من سيطرة موسكو، ورغم انتهاء العملية وتمكن القوات الروسية، من صد هذا الهجوم، فالمعارك مازالت تجري رحاها بين الطرفين، كما أنه فتح الباب واسعا لعدة سيناريوهات ولا سيما بعد دخول طائرات اف 16 الميدان فهل سيتغير شكل الحرب؟ ام ستكون سببا بانتصار حاسم لروسيا؟

وفي الجانب الأخر حسب التقارير حول روسيا فإنها تستخدم بحدود 300 طائرة في الحرب، بينما أوكرانيا بعد تجاوز السنتين من المطالبات حصلت على 10 مقاتلات من أصل 79 طائرة وحسب، تليها 10 اخرى بحلول نهاية العام الجاري، والباقي منها سيصل على دفعات خلال عام 2025، وبالمقابل تحتاج طائرات اف 16 الى مدارج تتم صيانتها بعناية وبشكل دوري وطواقم أرضية مدربة تدريبا عاليا، وهذا ما يصعب عملية استدامة امداد تلك الطائرات وابقاء زخمها كبير في ساحة العمليات، في حين تمتلك أوكرانيا اسطولا قديما من الطائرات الحربية من الحقبة السوفيتية، والتي تستخدمها بحربها ضد روسيا التي تملك أسطولا يعد الأكثر تقدما وعددا، فاصرار أوكرانيا بالدفاع عن أراضيها والصبر لأكثر من 29 شهرا على حلفائها لتزويدها بالطائرات منذ بدء الحرب، وتحسين ترسانة البلاد بشكل كبير، وابقاء الجيش في وضع قتالي جيد يؤكد إن تراجعها أمر مستبعد الان، فهل ستغير الطائرات الحربية بشكل الحرب؟ ام إن الطريق السلمي وطاولة المفاوضات سيكون حاضرا في قادم الايام بين هذا وذاك تظل المخرجات تعتمد على متغيرات الاحداث.. ومنها ما تسعى له أوكرانيا بأن تفرض شروطها على روسيا قبل المفاوضات المستقبلية المحتملة على كل حال، فهل ستتغير شكل المعادلة العسكرية؟ هل هي قادرة على تغيير الموازين بساحة العمليات في أوكرانيا؟

وأمكانية الجيش الأوكراني بالحفاظ على مناطق كثيرة تم خسارتها سابقا، وعملية الدعم اللوجستي لتجهيز تلك الطائرات، وحسب تصريح زيلينسكي فإنه يحتاج الى 130 طائرة (أف 16)، والولاياات المتحدة وحلف الناتو تقول بأانها تحتاج الى عدة سنوات لتتمكن من تجهيز كامل حاجة أوكرانيا من الطائرات، أي هناك مبعث خطر أكبر من المعركة أو الفوز بها أو نهاية الحرب، وهي وجود نية مبيتة باستعداد الولايات المتحدة، وحلف الناتو الى استمرار حرب استنزاف طويلة الامد مع روسيا الاتحادية الى حين محاولة اخضاع روسيا اتجاه اشتراطات الغرب، وليست فقط محاولة إظهار امكانات وقدرات الغرب على المواجهة في ساحة المعركة مع أوكرانيا باستخدام هذه الطائرة، ولكنها نست بانها ستقع في جب الدفاعات الجوية الروسية، لا نتكلم عن صواريخ اس 300 وحسب، بل نتكلم عن اس 400 التي لديها امكانات فنية قادرة على اسقاط طائرة اف 16، حتى مع صواريخها بعيدة المدى جو ارض، وضرب بعض الاهداف في ساحة العمليات، لكن الناتو تغافل بأن هناك قدرات أكبر من صواريخ الاس 400، التي يصل مداها الى 400 كلم، وهي منظومة الدفاع الجوي اس 500، التي يصل مداها الى 600 كلم، ويمكنها أن تعالج أكثر من هدف في نفس العملية، وبالتالي لن تستطيع الطائرات العشر أن تقاوم حتى وإن كان لها اكثر من سربين أمام دفاعات جوية بهذه القدرات.

وما شهدناه مؤخرا من سقوط أحدى طائرات الـ(أف 16) ومقتل قائدها، قام على إثرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بإقالة قائد القوات الجوية، الذي يجعل الغرب واوكرانيا بمواجهة حرجة.

وإذا أردنا الحديث عن الهجوم البري الذي قامت به أوكرانيا ما الهدف من هذه العملية؟

بالرغم من وجود تصريح من قبل الجانب الروسي يقلل من شان عملية الهجوم.

ونتيجة تحقق عنصر المباغتة بشن الهجوم أثر على عملية إدارة هذه المعركة بشكل واضح من قبل موسكو، والذي قد يراه البعض بأن الإخفاق، هو بسبب عدم توفر إحاطة استخباراتية بساحة العمليات، ولعله أخطر من ذلك أيضا، بسبب حالة الاطمئنان من قبل القوات الروسية، بأن أوكرانيا لن تستطع التجاوز على الحدود الروسية، أو إنها ستخشى عملية المجازفة بدخول هذه الحدود، فالأمر تعدى الاحاطة الاستخبارتية، لأن جمع المعلومات يبدأ من العنصر البشري على الأرض وينتهي بالاقمار الصناعية، والتي تمتلكها روسيا، وهذه الوسائل متوفرة لديها، لكن عملية الاستكانة هي من جعل عنصر المباغتة ممكنا بهذه العملية، واستطاعت أوكرانيا أن تقوم بهذه المناورة وتخرق العمق الروسي بمساعدة وإشراف الناتو، حتى وإن نفت الولايات المتحدة علمها بالأمر، وبالتالي هي تظهر بأن إمدادات الاسلحة التي ما زالت ترسلها الى أوكرانيا، يمكن أن تصل لأبعد من هذا، وبالنظر الى تصريح نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف الذي قال عندما وصلت الدبابات الألمانية الى الجيش الأوكراني لساحة العمليات بأن "الدبابات الروسية قادرة على الوصول إلى ساحة مبنى الرايخستاغ في برلين"، ردا على ظهور مدرعات ألمانية ضمن الوحدات الأوكرانية في كورسك، وذلك عندما نشرت بعض الاشعارات الصحفية "بأن ألمانيا رجعت الى أرض روسيا بعد مرور80 عام".

لكن الولايات المتحدة إذا أردنا الحديث عن خطورة هذه العملية، نلاحظ أن هنالك تقليل من قبل الجانب الروسي لهذا التوغل، ولكن الى أي مدى احرجت هذه العملية الجانب الروسي؟ بالرغم من محاولة التقليل من شأنها، وبكل تأكيد لو استطاعت القوات الأوكرانية السيطرة على محطة كورسك النووية الروسية لسحبت جزء كبير من قواتها المتواجدة في المنطقة اليوم، وجعلها بموقف لا تحسد عليه، وهذا لم يحصل في ساحة العمليات.

الهدف الثاني لهذا الهجوم البري هو ربما يعني اجبار القوات والقيادة العسكرية الروسية  على سحب جزء كبير من قواتها المتواجدة في ساحات معارك أخرى في أوكرانيا من هذه المناطق، وأرسالها صوب كورسك، فهل تحاول أوكرانيا الضغط على روسيا من خلال هذه العملية في كورسك من أجل التفاوض؟

هل من دلالات أو أبعاد عسكرية ميدانية أخذين بعين الاعتبار بأن خطوط الدفاع الأوكرانية اساسا تعاني من صعوبات في خطوط المواجهة، والدخول الى الأراضي الروسية، والحفاظ على هذا النصر أمر صعب جداَ، وفي عملية الاستعداد الى التفاوض المستقبلي، هناك مؤتمر مرتقب يعقد في سويسرا لعملية التباحث مع اطراف فاعلة في الاتحاد الأوروبي والعالم حول موضوع الحرب الروسية الأوكرانية، وأين ستصل بنهاية المطاف؟، وقد أبدى الرئيس فلاديمير بوتين نوعا من المرونة بأنه سيقبل أي عملية تقارب إن كانت تحفظ حقوق روسيا الاتحادية في الأرض التي كانت ضمن جدول الخارطة الادارية لروسيا.

ونرى بأن هذه المعركة ستكون حاسمة إن استطاعت، وهذه النقطة هي أضعف عند أوكرانيا بالحفاظ على امداد عسكري ولوجستي وتسليحي وبشري أي عديد قوات يمكن أن يحافظ على هذه النقطة في مساحة الأرض الروسية، لكن ما يجري على أرض الواقع الآن من معارك ونتائج تظهر حجم الخسائر الكبيرة التي ترد بين الحين والاخر، إن كان بعديد القوات أو بالتجهيزات أو الطائرات المسيرة، والطائرات المقاتلة، وهكذا دواليك من باقي ما تدفع به الولايات المتحدة ودول حلف الناتو لتعزيز ساحة المعركة والعمليات لتحقيق هذا النصر من قبل أوكرانيا.

فأوكرانيا في حدها الأبعد مهما أرادت، لن تتخطى عملية الحفاظ على صمودها بالدفاع عن نفسها، لكن من الصعب أن تستطيع من تحقيق نصر كبير على روسيا الاتحادية، ومع زيادة التهديد والدعم الغربي، ُتظهر روسيا بأنها ستذهب الى استخدام الاسلحة النووية التكتيكية في ساحة العمليات، وهي تجري الان عدة تدريبات وصلت الى المرحلة الثالثة والامر نفسه في بيلاروسيا لاظهار امكانية قلب الطاولة بساحة المعركة، إن تطلب الأمر ذلك، بالمقابل ماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تقعل إن ارادت روسيا الاتحادية الضغط على زر استخدام الاسلحة النووية التكتيكية في هذه المعركة؟، ولهذا ستكون المعادلة خاسرة، وهذا ما يدفع بحلف الناتو الان لعملية إطالة هذه الحرب واستنزاف القدرات الروسية بمعارك كلاسيكية بمحاولة جس نبض امكانات وقدرات الدفاعات الروسية هنا وهناك أو محاولة الذهاب الى استخدام طائرات اف 16 حتى تسقط بعض الدفاعات الجوية أو الأهداف المهمة أو الحيوية بساحة عمليات روسيا الاتحادية.

وإذا ما أردنا الحديث أيضا عن مبدأ الحوار والتفاوض الى أي مدى ممكن أن يكون هذا المبدأ حاضراً في قادم الأيام؟

كل الحروب والمعارك في بقاع الأرض، ودعنا نُذكر بشاهد الحرب العالمية الأولى والثانية الى ماذا وصلت بالنتيجة النهائية للحرب؟

الجواب هو الذهاب والجلوس الى طاولة التفاوض، ولهذا الحل الأسلم، هو التوجه الى التفاوض بين كل الاطراف المشتركة بهذا النزاع، انظر الى النصيحة التي قدمها الراحل هنري كيسنجر قبل وفاته بأكثر من عام، بأن الحل الاسلم الى أوكرانيا هو بتقديم التنازلات الى روسيا الاتحادية، وعلى الغرب ألا يدفع بها كبشاً للفداء، لأن هذا سيؤدي الى حلقة أكبر باستنزاف كل امكانات وقدرات أوكرانيا..

الحل المتاح أمام أمريكا وحلف الناتو هو الذهاب للتوافق مع روسيا الاتحادية بنوع من الحفاظ على إمكانات إبعاد تقرب الناتو من الأراضي الروسية، وتقديم بعض التنازلات بالحفاظ على الفضاء الحيوي الروسي ضمن هذه المنطقة والرقعة الجغرافية على أقل تقدير بقلب أوراسيا، وبالتالي نحتاج أن نُذكر أن روسيا الاتحادية ماضية في هذا الامر، لكن عملية تعجيل الخطوات في قادم الأيام تحتاج الى صبر أكبر.

وفي الجانب الاخر فإن التنين الصيني زاد من وتيرة بناء ترسانته العسكرية، ولوحود الخلاف مع أمريكا حول ضم تايوان الى الصين ملوحة باستخدام القوة إذا اضطرت لذلك، وبين تدخل الولايات المتحدة بهذا الامر معتبرة بأن تايوان حليف أمريكي ولا يمكن المساس بها، وهذا ما أظهرته عبر زيارات مسؤولين رفيعي المستوى أو تسليح تايوان بسلاح أمريكي مجددا، ولهذا تستمر الصين بمناورة الولايات المتحدة الأمريكية في عدة مستويات سياسية واقتصادية في أكثر من بقعة بالعالم، والتي قد تستغل فيه إنشغال أمريكا بأكثر من حرب في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وقرب الانتخابات الأمريكية، ولهذا هناك سعي لتخفيف شدة التوتر بين أمريكا والصين بعد أن أجتمع مستشار الأمن القومي جايك سوليفان يومي (27 و28 اب) بعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب الشؤون الخارجية المركزية ووزير الخارجية في الصين الشعبية (وانغ يي) في العاصمة الصينية بكين. ويندرج هذا الاجتماع ضمن الجهود القائمة للمحافظة على قنوات التواصل وإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين بشكل مسؤول، على ضوء مناقشات الرئيسين بايدن وشي، في قمة وودسايد في نوفمبر 2023. ولكن الصين صعدت من لغة القوة مؤخرا بإقامة مناورات عسكرية متعددة حول جزيرة تايوان.

مازالت منطقة الشرق الأوسط تنتظر ارتدادت التصعيد ولاسيما بعد أن خرق الكيان الصهيوني القانون الدولي والسيادة الإيرانية باغتيال السيد اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، والذي ينذر برد انتقامي من قبل إيران، مازال ينتظر العالم طريقة وحجم هذا الرد، حتى مع كل محاولات أمريكا والاتحاد الاوروبي بمناورات عدة للتهدئة، بقيام إيران برد محدود، وعدم الذهاب لضربة شاملة قد تعجل الوقوع بفخ الحرب الكبرى بالمنطقة أمر وارد، ومن ضمنها هجوم المرحلة الأولى الذي شنه حزب الله في لبنان ردا على اغتيال أحد قادة الحزب المهمين (فؤاد شكر). وبالمقابل من المتوقع أن يكون هناك ردا من الفصائل العراقية، وكذا من أنصار الله الحوثيين، دعما الى غزة وردعا للعدوان على الفلسطينين.

وهنا في الشرق الأوسط الأكثر توترا والأصعب حلاً على طاولة القوى الكبرى حيث نشهد إعادة تحشدات عسكرية أمريكية، هناك من يراها ردعاً، ومنهم من يراها خيوطاً جديدة لاتفاقيات مستدامة.

ومع زيادة جرائم الاحتلال في غزة وسط متغيرات الشرق الأوسط، ولا سيما بجانبها العسكري، نجد حركة كبيرة بإعادة التموضع لحاملات الطائرات والبوارج والسسفن الحربية والطائرات ومعدات عسكرية متطورة، وهناك حركة دؤوبة بالمقابل تستثمر بالدبلوماسية، والمشكلة الاخرى هي بالدعم الأمريكي المطلق لهذا الاحتلال بشكل يخالف قواعد القانون الودلي ومقررات الأمم المتحدة، فالكيان الصهيوني مستمر بجرائمه المتكررة، لكن الملاحظ إنه مع كل حديث عن قرب مفاوضات لوقف إطلاق النار يقوم الكيان الصهيوني بمجزرة جديدة مثل ما حصل في مدرسة التابعين وهي تحت حماية الانروا، من الملاحظ بأن الولايات المتحدة الأمريكية غالبا ما تساند موضوعة الاستفراد بالقوة لدى دولة الاحتلال التي أظهرت اشارات سلبية بعد زيادة حجم العدوان الكبير على قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين المحتلة عندما أرسلت حاملتين طائرات وعززتها بغواصات في البحر المتوسط، وكذا الامر مع بحر العرب والمحيط الهندي، وبالتالي الولايات المتحدة ما زالت هي الداعم والظهير لتجاوز الكيان الصهيوني لكل مقررات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الامن التي أقرت بأن الكيان الاسرائيلي هو كيان محتل ومن حق الشعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه، ولهذا علينا ان نذهب على أقل تقدير الى ميثاق الأمم المتحدة بالمادة 51 التي تظهر بأن من حق الشعوب جماعات وافراد بالدفاع عن انفسهم إن وقعت تحت أي عدوان، ولهذا العدوان حاصل على تلك الأراضي، وما زالت لحد الان جرائم القتل العنصرية في الضفة الغربية وجرائم الابادة الجماعية في قطاع غزة التي تشهد سقوط عشرات الشهداء يوميا، بل هناك مجازر أخرى وهي المجاعة وأيضا نقص الأدوية، وحرمان ما يقارب 600 ألف طفل فلسطيني من التعليم، فما زال الشعب الفلسطيني يعاني الامرين، فلم يستطع المجتمع الدولي أن يستنهض همم القانون الدولي والقانون الدولي الانساني ومقررات الأمم المتحدة أو حتى الذهاب الى محكمة العدل الدولية التي لم تستطع حتى مع قراراتها الملزمة لبعض الاطراف، بعملية التفويض للذهاب الى مجلس الأمن حتى تأخذ قراراً ينهي عملية العدوان وإيقاف إطلاق النار بشكل فوري.

ولهذا يعمد نتنياهو (رئيس وزراء الكيان الصهيوني) اللعب على وتر الزمن بمحاولة تحقيق نصرا ما لانقاذه سياسيا لحين انتهاء انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية، وسيبقي على عملية التصعيد وعملية افشال كل المخططات الرامية للسلم، ما لم تستطع الولايات المتحدة  الأمريكية والمجتمع الدولي على أقل تقدير ألمانيا، فرنسا، بريطانيا بالذهاب الى إخضاع الكيان الصهيوني للقوانين المرعية وبأبسط صورة تذهب مع الجانب الإنساني أكثر مما تذهب الى الجانب السياسي، وبالتالي دعم الولايات المتحدة بشكل مفرط يتوازى مع حجم الاجرام الذي يقوم به نتنياهو، ستبقى دوامة العنف والقتل ما لم نستطع أن نلجم سياسة دولة الاحتلال، بقرارات عربية حازمة وصلبة، فعلى سبيل المثال، كان هناك اجتماع طارئ لمجلس الأمن بعد اغتيال السيد اسماعيل هنية في طهران، لكن لم نر هناك اجتماع طارئ للجامعة العربية في حينها، بعملية المؤازرة لردع دولة الاحتلال واخضاعها للقانون، للاسف هناك من يضغط على الاطراف المقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد وباقي الفصائل التي تدعم الان الحراك العسكري في فلسطين المحتلة بعملية لتقديم بعض التنازلات متمثلة بالطرفين الوسيطين قطر ومصر لتهدئة الاوضاع والذهاب الى هدنة مستعجلة، ولكن هذا الضغط لم ينتج تنازلا حقيقيا من قبل دولة الاحتلال للوصول الى وقف القتل في غزة.

فرئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو يبحث عن نصر عسكري وسياسي يمكن أن يحقق او يحسن صورته التي تشوهت عندما فشل في عملية التصدي بعلاقات تقدير الرد القانوني والحق الشرعي للفلسطينين يوم 7 اكتوبر، ولهذا نرى بأن هذا الخذلان ما زال لحد هذه الساعة يمضي بدوامة كبيرة، وهذه الدوامة تؤسس لها وتدفع بها الولايات المتحدة الأمريكية، فضغط نتنياهو بابقاء العمليات العسكرية قائمة اثناء التفاوض وعدم إيقاف اطلاق النار بشكل جزئي اثناء عمليات الاستلام والتسليم، وعدم الالتزام باتفاقية السلام بين مصر والكيان عام 1979 وإتفاقية أوسلو الثانية عام 1995 بالتراجع عن احتلال محور فلاديفيا وهو شريط حدودي إستراتيجي بين غزة ومصر، هو إفشال لأي عملية تهدئة، فإلى الان يعمدون الى قتل أهالي غزة، وما يحدث هناك هو جريمة بحق الإنسانية، حتى يغطي نتنياهو على جرائمه الحالية والسابقة، والمفارقة الأكبر التي تقوم بها الولايات المتحدة، هي دعوتها للحل الانساني والضغط باتجاه الوسطاء لايجاد هدنة بين جميع الاطراف، ولكنها بالمقابل تمضي بتقديم دفعات الدعم المالي والعسكري والتسليحي للكيان، وكان أخرها موافقة الإدارة الأمريكية على تسليم دولة الاحتلال عدة مئات من قنابل MK 83 وهي قنابل مدمرة تزن 500 كلغم، بل هي تدرس إرسال شحنة من قنابل MK 84 التي تزن 1000 كلغم.

فطائرات الولايات المنحدة وقوتها العسكرية تاتي لخرق كل المواثيق والمعهدات الدولية مثل ما حصل في العراق، وتحت ذريعة أمنها القومي تحتل أي بقعة ولا احد يستطيع ان يواجهها اليوم، وأن كان هناك ترقب كبير لما تخفيه عملة الرد الإيراني الذي يراه البعض بانه تأخروإن تأخر الرد الإيراني هو ليس تحضيرا للاستعدادات بالرد عل الكيان وحسب، ولكن قد يكون بانتظار نتائج المفاوضات أو عودة المفاوضات ما بين غزة والكيان الصهيوني وما ستؤول اليه هذه المفاوضات.

مازال الجمر تحت الرماد وقد تلتهب منطقة الشرق الأوسط مجددا إن كانت الضربة الأنتقامية الإيرانية تجاوزت حدود الحفاظ على هيبة سيادتها الى حد تدمير قدرات الكيان الصهيوني العسكرية والصناعية، وهو أمر تتفاده كل القوى الإقليمة والدولية منعا للتصعيد.

ولا يمكن إغفال بأن العراق يقع وسط هذه العاصفة أو ارتدادتها، وإن كان العراق يعمل جاهدا وبشكل مكوكي على زيادة الفعل الدبلوماسي بالتعاون مع الشركاء والاصدقاء للتهدئة السياسية وايجاد زخم للحل الإنساني وتفعيل جهود عقد الهدنة وكان أخرها خطاب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في أروقة الأمم المتحدة وقبلها زيارته الى كل من مصر وتونس.. ولهذا نرى بأن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يقول "لقد أصبح الشرق الأوسط على شفا حرب إقليمية كبرى، وروسيا تعمل مع جميع الأطراف للحيلولة دون ذلك".

وهنا يبرز حدة الصراع الجيوسياسي بالمنطقة حول الاستحواذ على أهم الفضاءات الحيوية في أهم واخطر منطقة ملتهبة للطاقة، فبين الحرب الروسية الأوكرانية والتصعيد في منطقة الشرق الأوسط، والسعي الحثيث للتنين الصيني لتثبيت حدود فضاءه بالمنطقة عبر مخططات اقتصادية ببعد استراتيحي ينافس الولايات المتحدة بمشاريع تنموية تتضمن تطوير البنى التحتية والاستثمارات في 152 دولة ومنظمة دولية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا—وتسعى كل القوة للحفاظ على الفضاء الحيوي ومراكز قوة بالمنطقة، وللحفاظ على أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية في اهم مراكز الطاقة بالعالم، والمنافس الأكبر لمراكز الطاقة العالمية هي روسيا الاتحادية، والصين، فالحرب القائمة الان في أوكرانيا، واحدة من أهم اسبابها هو تعطيل الدور الروسي فيما يخص مشروع الطاقة وبالطريقة نفسها قد يدخل الطرفين بالصراع بمنطقة الشرق الأوسط.

وقد أنهى ثعلب السياسة الأمريكي الراحل هنري كيسنجر تصريحه عن الحرب القادمة (إن تلك الحرب ستمهد الطريق لإسرائيل) أي أن لديه تصور بقيام دولة "إسرائيل الكبرى"، فهل مازالنا نصم الاذان عن سماع كل تلك الرؤى الأستشرافية التي تعمل عليها السياسة الخارجية الأمريكية، والكيان الصهيوني، أو أننا وحدنا من لا يريد أن يسمع تلك الطبول؟

***

د. أمير الساعدي

كتبت في 28-8-2024

 

ليس " كتاب العراق" من المسيرات او الصواريخ القادرة على اختراق القبه الحديدية، هو اوراق وكلمات، لا اتوانى ضرورة ومن قبيل الواجب ان اضعها امام حزمة الاسباب والعوامل الخارجة عن الادراكية او النطقية، مع مجمل الاحداث المقابلة، ابتداء من ما قد اطلق عليه "الربيع العربي"، دالة انتهاء مفعول الطور الاسقاطي، الايديلوجي المتماهي مع التوهمية الكبرى الاوربية الحداثوية، بعد التحضيرات الابادية للكيانية العراقية الريعية 1990/ 2003، اثر حربين كونيتين وماتبعهما من مسارات احترابية داخلية بلا توقف، مع انتفاء ابسط ممكنات الكيانوية المستعارة، وحلول زمن تسيد الحثالات الريعيه، وصولا لهبة الاول من تشرين 2019 اللاارضوية، العتبة الاخيرة الغارقة بدمها، بعد ثورات اللاارضوية السابقة غير الناطقة، الاولى ثورة العشرين، والثانيه في 14 تموز 1958، في القرن الماضي، وصولا الى الحد الفاصل التاريخي الراهن المنتظر على مر التاريخ البشري، ساعة الاقتراب من النطقية العظمى.

على مشارف "طوفان الاقصى" كانت الضرورة الانقلابية الفاصلة تعمل، من جهه داخل الكيانيه المتحولة الى قاعدة فبركة كونيه ابراهيمية، تحت وقع المسارات الجاري توليفها اسرائليا/ ريعيا/ امريكيا، وقد بلغت لحظة التنفيذ القهري بالقوة الغاشمة الابادية التكنولوجية، عن طريق تغيير حال الشرق الاوسط بما يتناسب وغلبة النموذجية "الابراهيمة الترامبو صهيونيه "، حيث الالغاء الكلي لمتبقيات التاريخ النهري النيلي الرافديني التاريخي التاسيسي، وما قدبدا انه معتمل داخل الطرف الفسطيني الواقف على حافة الشطب الكلي، ماقد جعله يبادر استباقا الى اشعال الفتيل قبل الاوان، وقبل اكتمال التحضير الاسرائيلي الامريكي للهجوم المنتظر، والمحتم لاجل اعادة صياغة الشرق متوسطية ريعيا، بالفبركة، توهميا تزويريا "ابراهيميا".

بالمقابل وبالصدفة، ربما البحته، او صدوعا لحكم قانون غير مدرك بعد، مترابط حكما مع حركة اليات التاريخ اللاارضوي، صدر بعد اكثر من ست سنوات من الاعتكاف والعزلة، سبقها اكثر من نصف قرن من التامل و البحث، الى ان حلت ساعة التنفيذ العملي " كتاب العراق"(3) او بالاحرى الحرف الاول من حروف النطقية المؤجلة منذ بدايات التاريخ وتبلور الظاهرة المجتمعية في ارض سومر، مبتدء ومنتهى التاريخ البشري الانسايواني، المنطوي على الذهاب الى "الانسان" بعد "الانسايوان"، الطور الانتقالي بين الحيوان و"الانسان"، والذي يبدا مع الوثبة العقلية الاولى، بعد الغلبة الاحادية الحيوانيه الكاسحه الطويلة، الى حين الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، وتجلي الازدواج (عقل / جسد) حين ينفتح الافق على الذهاب نحو وثبة عقلية ثانيه كبرى ابعد ،اخر محطاتها المجتمعية، بعد عدة محطات آخرها "الصيد واللقاط"، قبل الانتقال الى "التجمع + انتاج الغذاء"، وغايته النهائية، الاستقلال والتحرر من وطاة الجسدية، ومتبقيات الحيوانيه المستمرة عالقة بالعقل، ومتحكمه بعمله كحصيلة لتاريخ المجتمعات ونهايته. الامر الغائب عن منظور الجسدية الاحادية التي ترى في العقل ضمن وثبته الحالية النوعية، منتهى وغاية، وكمال لازم للجسد، وملحق به خضوعا لمنطق الاحادية، بالضد من الحقيقة الازدواجية غير المدركة (العقل / جسدية).

تتوافق اليوم معطيات الانتقالية الكونية الكبرى واقعا معاشا، وازمة كبرى لاحل لها، تشمل الكيانوية والدولة، وعملية الانتاج اجمالا، بناء على المسار الذاهب بالاله من المصنعية الاوربية الاولى التي اندرست، الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه التي تاخذ هي الاخرى بالانتهاء كممكن واحتمالية فعالية، تغدو متصادمة مع اشتراطاتها النوعية مجتمعيا، مع استمرار تدني الوسائل المتاحة والمستعملة من قبل الكائن البشري اعتيادا وقصورا عقليا، بينما تفاقمت الى الحد الاقصى التناقضات مابين الوسائل البشرية المجتمعية الاحادية المتاخرة الماخوذه من الزمن اليدوي محسنة، واهمها الكيانيه والقومية، واشكال الادارة والتنظيم الحياتي كما ممثل في الدول، من دون اي تغيير متناسب مع طبيعة الانتقال النوعي الالي المستجد وحقيقته المتجاوزة للمجتمعية الاحادية الحاجاتيه الجسدية، اذ اكتفت توهمية الغرب الحداثوية بالليبراليات والديمقراطية التي لاتمنع دولها من منع غيرها من التحرر او الالتحاق بالعصر بلا هيمنه، هذا بينما الطاريء الجديد الالي، وان بصيغته وشكل فعاليته الاولى المصنعية، كان يقتضي الانتقال الفوري الى "الدولة الكونية ووحدة الجنس البشري"، المطلب وحقيقة العصر الاولى والاكبر، المضاعة على حساب انتقال المجتمعات ضرورة وذهابها الى الطور المنتظر وصار واقعا/ على المستوى المادي /من تاريخها.

الالة تتناقض كليا وتزيل من الوجود تباعا، كل اشكال المجتمعيات الجسدوية الارضوية الحاجاتية، وهو ماقد حل باوربا وماسوغ لاحقا الانتقال لقيادة امريكا شبه المجتمعية المفقسه خارج رحم التاريخ واستعارتها الرسالوية الكونية التاريخيه السومرية، بصيغ الجشع الانتاجوي الراسمالي وان بلا طبقية، وقد انتقلت بدون ارادة منها الى الانتاجية المتعدية للكيانيه بالعولمه، النافية للدول والوطنيات، لتتحول تحت وطاة التازم الوجودي والاقتصادي الى فرض النموذجية المنتهية الصلاحية، بالقوة وبالتكنولوجيا الموظفة بالدرجة الاولى عسكريا لتعزيز قدرات اخضاع الاخر، بالسحق مع مفاعيل الذكاء الاصطناعي، لاسباب تاخرية "رجعية" مكررة.

ان اوربا كما امريكا اليوم هما قوتان رجعيتان، توظفان الوسائل الالية المستجدة لتكريس اشكال من الحياة والنمطية المعاشية ولى زمنها، تعود الى الطور السابق المنقضي، والذي لم يعد صالحا اليوم بعد الانتقالة الآلية، وتلعب القصورية العقلية الموروثة والمستمر في هذا المجال دورا اساسا، فالعجز عن ادراك الحقيقة المجتمعية الاصل والابتدائية الازدواجية (ارضوية / لاارضوية)، والبقاء تحت وطاة المنظور الاحادي مع كل الادعائية الحداثية والعلموية، ادخلاالبشرية منذ انبجاس الالة الى اليوم، تحت وطاة الاحتدامية الاصطراعية الاحترابية بلا حل، تزايدت مع استمرارها، الافتراقية بين فعل وعمل وسيلة الانتاج المستجدة وتحولاتها، واشكال التفاعل البشري المجتمعي معها، فظلت هذه محكومة بالاحرى الى سطوة الاحالة الى ماسبق محسنا بالقوة والغلبة، بحيث صار هذا احد اهم جوانب محركات التاريخ الحاضر تحت فعل الايهامية الاساس الغربية القاصرة المعروفة بالحداثية، وقوة مفاعيل المصلحة الذاتيه / الوطنيه القومية والطبقية الجشعه.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

من أشهر عديدة ونجوم الإعلام ومُثيرو الرُّعب والجَهل والغَباء وتدمير نفسيّة الإنسان العربي وشخصيّته وشعوره بالأمان، من فاقدي الضمير والشعور بالوطنية والانتماء وحتى الإنسانيّة من منجمين دجّالين تُلاحقهم علامات سؤال، وصحفيين يفتقدون للمسؤوليّة ووسائل إعلام رخيصة يخصّونهم بالمقابلات الطويلة التي فيها ينشرون الفزَعَ بين الناس بتنبؤاتهم الغريبة الرّهيبة المُحذّرة بقرب يوم الدين ودَمار البلاد وموت الكثيرين. حتى بات الكثيرون يتمنّون الموتَ القريب على اليوم الرّهيب.

وكما البصّارات اللاتي عرفناهن في قرانا تَمسِكْن بفنجان القهوة تُدرنه وتَقلبْنَه بين أصابعهن وتُؤكدّن للمنتظرة كلامَها، بأّنّ سَفْرة طويلة تنتظرها، ومَبلغ مال سيكون من حظها وهناك مَنْ تتربَّص بها لتُؤذيها. فتفرح المسكينة بالسَّفْرة والمال وتبدأ بالتّفكير والبحث عن الحيّة التي تتربّص بها، فتشك بالقريبة أو الجارة أو التي لا تستلطفها، ويبدأ إطلاق التّهم والتّشويه، وقد تؤدي لخلافات ونزاعات. والبصّارة المسكينة تقول: وأنا مالي هذا ما رأيته في الفنجان.

ولا يختلف وضعنا اليوم مع ليلى عبد اللطيف وميشال حايك، النّجمين اللامعَين على محطات التّواصل، والرُّؤى النّبوئيّة التي يدّعيانها وأوحيَت لهما بالزلازل والكوارث والموت والتّدمير والتّهجير ومَحو بلدان ودول عن وجه الأرض، ونصيحة الناس بالهرب وترك البيوت والبلدان، حتى تتساقط، في بعض الحالات، الدموع من عينيهما أسَفا على ما سيُصيب الناس، وحتى يثبتا براءتهما يؤكدان أنَّ هذا ما أوحي لهما به وشاهداه في الحلم ولم يأتيا بشيء من عندهما. وقبل فترة انضم للمنجمَين الأشهر المُنجّم الجديد الأريب محمد علي الحسيني.

ومثل هؤلاء المُنجّمين الذين يُدْخِلون الناسَ في أنفاق مُظلمة لا خروج منها، ولا من مُنقذ، ولا من سامع لاستغاثاتهم. نلتقي ببعض شيوخ ينشرون الجَهل والغَباء بين المستمعين لهم في المقابلات الكثيرة التي يظهرون فيها.

فمثلا يقول أحدهم شارحا المُهمّة التي أوكلها الله بنا نحن العرب:

 "بعض الناس يريدون أنْ نصنعَ الطيارات والسيّارات والقطارات ثم نُنافس أوروبا وأميركا وما لهذا خُلقنا، إن الله لمّا خَلقَنا جعل منّا شعوبا وقبائل، جعل منّا أصحابَ فكر وهُداة وهُم العرب، وجعل من الآخرين تلاميذا يهتدون بهُدانا وعليهم العمل، فيحصل التّكامل ما بين فكرنا وعملهم فيَعْمُر الكَوْن بشكل عام"

وشيخ آخر يُعيّشُنا بنعيم الجنّة ويشدّنا إليها شدّا بقوله إنه زار الجنة واطّلع على كلّ ما فيها ممّا يرغب فيه الإنسان فيحدّثنا قائلا:

 " كل واحد له أربعة أنهار مُخصّصة له في الجنة، نهر من لبن ونهر من ماء ونهر من عسل ونهر من خمر، لن يتغيّروا ولا يتَلَوّثوا ابدا على مدى العصور والأزمان أبدا، ويجْروا في غير أخدود، ودي المعجزة، مش حُفْرة وهم مَلْيينها لَأْ، وهم على وِشّ الأرض، مَتِنْدَلقْش المَيّ كدَه ولّا كده ولا العَسَل ولا الخمر ولا أيّ حاجة.

 ويقول للدكتور عمر المُضيف له في اللقاء: مثلا أنا عايز أزور أخوي الدكتور عمر، وأنا قاعد مثلا في جنّات عدن والدكتور عمر في الفردوس الأعلى أعلى منّي، في بيني وبينك مليارات السنين، مجرّد فقط أنْ أنوي، فجأة المَلَك ياخُدْني وألاقي نفسي عند حضرتك في ثوان في غَمضة عين.  بس أنا اتعَوَدْت  بَغَيَّرْش المَيَّ بتاعتي، تْلاقي الأنهار بتاعتي  تمشي ورايا والغلمان ورايا يْشَرِّبوني، وحور العين مَعايا، وكل الخَدم وحَبايبي كلهم وراي، وأنا رايح أزور حضرتك، تخيَّل في مُلك وفي نعيم أكثر من كدَه؟

وهذه عيّنات قليلة ممّا تبثُّه وسائلُ التّواصل المُختلفة، ويُقدّمه لنا الصحفيّون الكبار؟.

وسؤالي هو:

أين السلطة المُراقبةُ في كلّ مؤسسة؟ وأين أجهزةُ الدولة المسؤولة عن حماية المواطنين من الدّجالين والعاملين على إفزاع الناس وتدمير نفسيّاتهم ووجودهم؟

وأين المثقفون والأدباءُ والشعراء والمفكرون؟ لماذا يصمتُ معظمُهم، ولا يتصدّون لمثل هؤلاء، ويثيرون الرأيَ العام وحتى المسؤولين ضدّهم؟

فمكانُ هؤلاء الدّجالين الطبيعي في البلد الطبيعي الذي عنده القوانين التي ترعى وتهتمُّ وتحمي رعاياها والحاكم الذي يسهرُ على أمْن ومصالح وتقدّم مواطنيه، مكان مثل هؤلاء الدّجالين وراء القضبان في السجون لسنوات طويلة كفعل السلطان العثماني محمد الرابع (1648-1687) بمُدّع أنّه المسيح المُنتَظر حيث سجنه وقال له إن كنتَ المسيح المُنتظر كما تدّعي أطلق نفسَك من السجن.

***

د. نبيه القاسم

اخطر مايواكب الفعل الابادي الاسرائيلي المستمر منذ عام، غياب السردية المقابلة لتلك المصاغة وفق التوهمية الغربية الحداثية، والتماهي الببغاوي الايديلوجي معها، فلا منطقة الشرق المتوسطي، ولا اوربا، متوفر النظر لهما بناء على الاليات الذاتيه الشرق متوسطية ومسارات عودة مفاعيل الانحطاطية منذ الستينات الى الوقت الحاضر، في الوقت الذي حلت فيه الاليات الذاتيه على انقاض التوهمية الغربية، يوم صار لازما مع انه غير متاح،  الانتفاض على المنظور المستعار الاوربي الحداثي وتوهميته الالية الابتدائية، بعد ان دخلت المنطقة طورا جديدا من تاريخها، يمكن نسبته الى نوع من "عودة مفاعيل  ديناميات الانحطاطية التاريخيه" وقد غدت غالبة من جديد بعد انهيار المشاريع الحداثوية الايديلوجية، وخروجها من دائرة الفعل، بما في ذلك الايهامي منه .

وليس مانشير اليه بالمظهر العارض او العادي، فالمنطقة الشرق متوسطية عاشت تاريخها الاطول بين التواريخ المجتمعية البشرية بلا وعي للذاتيه، ناهيك عن ادراكها، فاستمرت لالاف السنين تعبر عن ذاتها كديناميه غير ناطقه، الامر المناط الى حالة  ومستوى ادراكية العقل البشري بالعموم، وقصوريته الابتدائية المستمرة الى اليوم بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها الفعلية، وعلى وجه التحديد بما خص المجتمعية اللاارضوية، ومن ثم الازدواج النمطي النوعي المجتمعي، ماقد جعل العقل محكوما لممكنات الادراكية القاصرة الارضوية من الظاهرة الوجودية المجتمعية، وهو ماقد تجلى باعلى واكمل صيغه اليوم مع الانتقال الالي والنهوض الحداثي الاوربي، مع ماهو  محكوم به من قصورية اصلية ظلت مستمرة، اهم وجوهها ومناحي الدلالة عليها،  العجز عن ادراك الخاصيات المجتمعية ازدواجا اصطراعيا بما هي مجتمعات (ارضوية/ لاارضوية). ومايترتب على مثل هذا الانتقال الادراكي، من احتمالية  انقلابية آلية اخرى ضرورية على مستوى الوعي، غير تلك الجاري التعرف عليها  والمستمرة غالبه الى اليوم قصورا، بما يضع زمن الالة المستجد وعيا امام لحظة اولى توهمية غربية ارضوية، تكرر بوسائل اخرى ماقبلها، وصولا للحظة الادراكية  الاخرى اللاارضوية المنتظرة، والمختلفة جملة وتفصيلا.

ذلك يعني ان الالة حين  تظهر فان البشرية تقف  امام رؤيتين  وتفاعليتين، اولى جاهزة مع انها ليست منها ولا تتوافق مع منطوياتها التاريخيه، واخرى تصبح من يومها على مشارف الحضور  بانتظار حصيلة التفاعلية المستجده الاقرب للافنائية النوعية ونتائجها، ولهذا يحدث ان الانبعاثية السومرية الحديثة الثالثة، بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمة، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، تبدا اليوم في وقت مقارب ان لم يكن اسبق على بدء حضور الاله على الطرف المتوسطي الاخر، مع القرن السادس عشر في ارض سومر ذاتها، بظهور "اتحاد قبائل المنتفك"،  قبل الحقبة الانتظارية النجفية، ومايلحق بهما من طور اخير ايديلوجي ايهامي، ينتهي بالافنائية المباشرة الساحقة من قبل الكيانيه المفقسة خارج الرحم التاريخي، بينما حال اللانطقية مايزال غالبا، ووعي الذاتية غير مدرك مايزال، في حين تطغى، تراكمات وخردة الفترات المتعاقبة  القبلية، والانتظارية النجفية، والايديلوجية، ابان القرون الاربعه المنصرمه، والمنتهية بسحق الكيانوية الايديلوجية الريعيه المفبركة، لتصبح ارض الازدواج واللاارضوية على حافة الفناء او وعي الذاتيه ادراكا، بعد وعيها الحدسي الاول النبوي المنتهي الصلاحية والفعالية بحكم تبدل الطور التاريخي النوعي المجتمعي.

عاشت البشرية على مدى تاريخها المجتمعي اليدوي "احادية" الرؤية، ارضوية جسدوية حاجاتيه، ظلت تحول دون ارتقاء العقل الى مستوى الكينونه المجتمعية الازدواجية، وهو ماقد استمر بصيغ اخرى ابان الحقبة الاولى الافتتاحية من الانتقال البشري الى الالية، بانتظار التفاعلية الازدواجية المغفلة والمؤجلة وصولا الى النطقية "اللاارضوية"، حيث الانقلاب التفكري الوجودي الشامل، والارتقاء العقلي المنتظر بعد الوثبة الاولى المرافقة للانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، بما هي مرحلة وطور اول عقلي، ذاهب الى الاعقال الازدواجي الاعلى التحولي، ناف للبدائية  الخاضعة للترسبات اليدوية الارضوية كما تتجلى ابان  بداية التحول الالي اوربيا / حداثيا توهميا.

وعلية فان اي منظور مواكب للآلية والانتقال من اليدوية، لم تعرفه البشرية الى اللحظة الراهنه بما هو انقلاب تحولي بالطبيعة، يحاكي اشتراطات الانتقال من الجسدية الى العقلية بعد انتهاء صلاحية وضرورة الاولى، وهو مايوافق الانتقالية من المجتمعية الاحادية الطبقية الاوربية الى شبه المجتمعية الالية بلا  ماض ولا طبقات، تلك المولودة خارج رحم التاريخ ومفاعيله، لتصبح عند المنطلق، محكومة للرؤية اللاارضوية الاولى "سنبني مدينة على جبل"(1)* مع الرسالية المتوهمه، وصولا الى التازم الاقصى مع بلوغ الكيانوية الامبراطورية كما قبلها الوطنيه/ القومية الاوربية، لحظة اللافعالية، قبل الانتقال الى فوضى عارمة مسبوقة بالغلبة الفاشية الابادية للاخر، وهو ماقد بدا يخيم بظله على الكوكب الارضي.

تتغير هنا مكانة ودور اسرائيل، من كونها فبركة كيانوية مناقضة لجذرها الابراهيمي الكوني، الى  نموذجية ترقى لمستوى الكينونه في المجتمع المفقس خارج رحم التاريخ، ومن هنا تاتي عند نهاية المطاف "الابراهيمه الترامبوصهيونيه" مع اتفاقيات السلام الابراهيمي والحاق "دول الابار"  الطامحه للحلول محل الخاصية الشرق متوسطية التاريخيه لمواضع ودول الانهار، وماقد صار مشروعا توهميا"حداثيا" مع  "برج زايد" محل "برج بابل"، وقد  غدت الشرق متوسطية التاريخيه، مطمحا تشكليا  ريعيا، بعد سحق العراق وكيانيته، كاخر عقبه، كي نصبح امام ثلاثية جديده خارجة عن الكينونه الارضوية المعتادة، مابين كيانيه غربية ابراهيمية / ديمقراطية صهيونية، ومثلها شبه مجتمعية فكرة والة امريكية، وجزء مستجد من عالم شرق متوسطي عربي، اوجده الريع النفطي، مفبرك بلا تاريخ هو الاخر، مايلحق الجميع او الثلاثة شكلا بالكونية الابراهيمة التاريخيه الحدسية المنتهية،   مع حلول الغلبة اللاارضوية ماديا، واقتراب التحقق والغلبة النهائية بصيغتها التعبيرية التحولية الادراكية   العليّة بدل النبوية الحدسية في ارضها.

انقلب العالم وتغير كليا  وهو يذهب من الكيانوية الاوربية الاولى الالية (الدولة/ الامه)، الى امبراطورية  الفكرة الرسالية المفقسة خارج رحم التاريخ، الى "سادة العالم الجدد" (2) المتحررين من وطاة الوطنيه والقومية، والذين يحضرون كاحتمالية قابلة لالغاء كل اشكال القيادة او الزعامة الكوكبية الكيانيه،  القطبية منها او الافرادية، او التعددية،  وبالذات الامريكيه بحكم الواقع العالمي كما هوقائم، لنصبح امام واقعة اساس، مغفلة ومناقضة للانقلاب الالي باعتباره لحظة انتهاء صلاحية، وليس تكريس مفاهيم الكيانوية الوطنية، فالالة قوة وعنصر مضاد للكيانوية اليدوية التاريخيه، وللدولة بصيغها المتعارف عليها، وهي كونية تلغي المحلوية، كما تلغي الارضوية الحاجاتيه الموروثة من طور وزمن انتهى.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

........................

(*) الهوامش مع الحلقة الاخيرة.

 

يزداد مصير العالم قتامة، ويزداد معه الأمل انحسارا، وتزداد بإزاء كل ذلك إسرائيل طغيانا. كلها أمشاج تزعج البشرية اليوم على هذا الكوكب الأرضي المتفجر، وتدفعه إلى الاصطلاء بعذابات الحروب التي لا تنتهي، ومضايق الأوبئة والزلازل والفياضانات والكوارث الطبيعية الأخرى.

قبل أيام حلت ذكرى 7 أكتوبر التي تؤرخ لأخطر عملية للمقاومة الفلسطينية عبر تاريخها النضالي المستميت، من أجل التحرر والانعتاق من الاحتلال الكياني المغتصب، حيث بصمت عملية "طوفان الأقصى"، بأياديها العريضة والممتدة في العقل والوجدان العربيين، بأطراف خيوطها المتشابكة، ومجاهلها الداكنة المقترة، وجها مشرقا جديدا للرفض وإعادة القضية إلى الواجهة، وتصحيح مسار طويل مليء بالذل والجحود والخذلان والتكاسل.

إن وعي الشعوب العربية بهذا التاريخ المحفور، بمداد الدماء الزكية، التي سقطت خلال الغزو الصهيوأمريكي على غزة والضفة الغربية وبعدهما لبنان، يحايث في العمق، انكشاف نظريات المؤامرة وانجلاء أكاذيب الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان والحداثة التنويرية، وما إليها من مصطلحات التلفيق والاستغفال.

ويصح بهذا الاعتبار، أن تكون ذكرى 7 أكتوبر المجيد، درسا بليغا في الجغرافيا السياسية وعلومها واستراتيجياتها، بقضها وقضيضها. فقد أعادت لحمة التضامن الجماهيري العربي والإسلامي والعالمي، جماهيريا وشعبيا، وأسرجت للضمائر الحرة الحية، مراكب الإنسانية والحرية والكرامة ومقاومة الظلم (الاحتلال)، بكل الوسائل المشروعة التي يكفلها القانون الدولي والعدالة الإنسانية.

إن صحوة الضمير العالمي، بعد حدث 7 أكتوبر، وما لحقه من مقتلة في غزة لا يجد المتتبع لسيرورتها المتلاحقة، وطيلة عام كامل ونيف سوى توصيفها بما لا يمكن لمدركاتنا الحسية والبصرية والنفسية، أن تستنبضه من قواميس "التقتيل" و"سفك الدماء" و"الإبادة" و"الحرق" و"التدمير" و"الفتك" .. وهي صحوة، عرت عن حقيقة إسرائيل والغرب، وما يخفيانه من قبح وشناعة وجنون غير مسبوقة في تاريخ الحروب البشرية على الإطلاق.

في ال(11) من شهر أكتوبر الجاري، تابعت وبإمعان، أطوار ندوة وطنية عقدت في مدينة مراكش، تحت عنوان “القضية الفلسطينية والقضاء الدولي”، والتي نظمها كل من التنسيقية المغربية أطباء من أجل فلسطين، وتنسيقية محاميات ومحامين لدعم فلسطين والجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، شارك في مقاربة موضوعها المذكور، الأساتذة النقيب عبد الرحيم الجامعي والدكتور يوسف البحيري وأحمد ويحمان وعبد الصمد فتحي، أثاروا جميعهم، مشكلة عزلة الأنظمة العربية، بين شعوبها وأخلاق التاريخ. بل إن بعض المتدخلين، أسرف في تصريف لبوسات التدجين الإمبريالي المتحكم في سلطة العالم، ضمن هذه المشكلة، التي تتساوق وجذور النفاق النظامي العربي، عبر حقبات زمنية لم تنقطع فيها مضايق الخيانة والاصطفاف خلف الأعداء وتسليم مفاتيح العروش والسلطنات لأولياء النعم وقارونات السلب والنهب واتفاقيات الذل والهوان.

ولا أدل على هذه الصيرورات المتواصلة من الردة الأخلاقية، في النفوس العربية، من استحضار البدايات الأولى من أزمة الخلافة في دار السقيفة، إلى موقعة صفين الشهيرة، وبعدها انقلابات الخلافات الأموية والعباسية، إلى هجومات التثار الدموية، والخلافة بالاندلس، ومعارك الصليبيين ضد الثغور الإسلامية، وبعدها الاستعمارات الحديثة، والخريطة ممتدة لم تنته بعد؟.

فهل استرخصت الأنظمة الشمولية العربية، استحقاقات تاريخ بنائها القائم على تفتيت النسيج الاجتماعي والسياسي، انكماشها في الحدود الدنيا لتدبيرها المراحل السياسية التي كرست انحطاطا عقلانيا لا مثيل له في البشاعة والضعة وسوء الوبال؟.

يذهب الفيلسوف السياسي الفرنسي، ألكسيس دي توكفيل، إلى أن الديمقراطية تحقق ما لا تستطيع حتى أكثر الحكومات مهارة تحقيقه. فهي تنشر في جميع أنحاء المجتمع نشاطًا لا يعرف الكلل، وقوة وفيرة، وطاقة لا تنبعث إلا بها، ويمكن للديمقراطية تحقيق المعجزات إذا ما توافر لها الشيء اليسير من الظروف المواتية.

لكن، الديمقراطية كشفت عورات الأنظمة، وجعلتها مهزوزة أمام شعوبها التي تحكمها. على الرغم من تأخر التأثيرات الجانبية الأخرى، التي أهرقت ما تبقى من انفضاح الطغمة، وتبعيتها للنظام العولمي الآمر، مجردة من أي أدوات لتعزيز مكانتها الاعتبارية وشرعيتها في الاقتدار بمسؤولية السهر على كرامة شعوبها وأمنها وسلامة أراضيه.

وفي بؤرة هذه الوضعية الكارثية الضجرة، وعلى ضوء ما يمارس الآن في الشرق الأوسط، من التقتيل والإبادة والميز العنصري والتهجير القسري، في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، تزداد وضعيات هذه الأنظمة قتامة وبؤسا، بعد أن استباحت الكلبية الصهيوأمريكية ما فاق كل تصور، مما تتمجنه الضمائر وترفضه النفوس وتنبذه الأعراف الإنسانية. فأضحت هذه الأنظمة، وبالا ثقيلا على شعوبها وتاريخه، ومغرما مفارقا لكوابيس استمراريتها ونفوقها في تآويل الفجاجة والركاكة الحضارية المزيفة.

فهل تعيد أسئلة الديمقراطية، ترتيب أوراقها المشتتة، بعد جنوحها عن طريق الربيع العربي غير المأسوف عليه؟ أم يعاد تدويرها بحسب الحاجيات الجديدة المستجدة، بعد نكسة ما بعد 7 أكتوبر، التي أفرغت السياسة العربية من كل قلق مفهومي أو انتقال عقلاني باتجاه فهم لعالم مليء بالقبح والشناعة والابتذال؟.

***

د مصطَفَى غَلْمَان

شهد الدينار العراقي أضطرابات في ديناميكية أستقرارهِ الوطني مع غريمه المستديم الدولار الأمريكي، ونحن في نهايات العام 2024 حيث وصل في السوق الموازي صعودا مقلقا غير مرحب به حيث تخطا حاجز ال150 ألف دينار مقابل 100 دولار أمريكي وحسب أعتقاد خبراء الأقتصاد أنهُ في تصاعد مستمر وربما يصل إلى الرقم المرعب والمخيف ألـ(200) ألف دينارعراقي وهو أحتمال وارد طالما هو ألعوبة بيد المضاربين وحيتان تجار العملة، وكان بيان الحكومة الأتحادية أيجابي بتبني رئيس الوزراء السوداني يوم أمس الأثنين 7-10- بضرورة معالجة ظاهرة هبوط الدينار العراقي ومحاسبة المضاربين وتجار العملة، وصرح للصحافة والأعلام: بأن موقف الحكومة أيجابي وجاد في المعالجة و(لكن) المشكلة في كمية ضخامة النقد لدى المضاربين؟.

العوامل الأقتصادية والسياسية المؤثرة على صرف الدينار العراقي!؟:

- تعويم العملة المحلية: وهي من الشروط التعسفية لصندوق النقد الدولي بدل أن ينصح في معالجة حدوث العجز في الميزانية فهو يلجأ إلى أخبث الطرق الذي هو تعويم العملة والذي يعني جعل سعر الصرف محرراً بالكامل عن سلطة الدولة والبنك المركزي، حينها يتحكم بهِ المضاربون وحيتان العملة الأجنبية مما يفرز أرتباكا وفوضى في السوق المحلية.

- ظاهرة غسيل الأموال Mony Laudering الشائعة اليومية في مزاد العملة للبنك المركزي، إن الأصطلاح عصري بديل للأقتصاد الخفي أو الأقتصاديات السوداء أو أقتصاديات الظل فهي الأموال المكتسبة الغير مشروعة، مصدرها الرشوة والأختلاس والغش التجاري وتزوير النقود وتهريب النفط وتهريب الآثار وتهريب البشر والأطفال والأتجار بالأعضاء البشرية وريعية نوادي القمار (الوار) والدعارة وتصنيع النباتات المخدرة وأختطاف وأحتجازالأشخاص (تخلط) بأموال مشروعة لأخفاء مصدرها الحرام والخروج من المساءلة القانونية بعد تظليل الجهات الأمنية.

- السياسات النقدية: إن قرارات البنك المركزي العراقي بشأن السياسات النقدية وأسعار الفائدة لها تأثير كبير على قيمة الدينار العراقي إن أي تغيير في هذه السياسات يمكن أن يؤثر إما بزيادة أو خفض قيمة الدينار.

- أسعار النفط: العراق يعتمد بشكل كبيرعلى صادرات النفط لتمويل أقتصاده، فأي تذبذب في أسعار النفط العالمية يؤثر بشكل مباشر على أستقرار السوق  العراقي.

- الوضع السياسي والأمني: الأستقرار السياسي والأمني يلعبُ دوراً كبيراً في تحديد الثقة في الأقتصاد العراقي وأي توترات وصراعات تؤثر سلباً على قيمة الدينار.

- التضخم: إذا كان هناك تضخم مرتفع في الأقتصاد العراقي فسيؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للدينار مما قد يؤدي إلى أنخفاض قيمتهُ مقابل العملات الأخرى، وتكون فاتورتهُ ثقيلة على المواطن العراقي بأرتفاع فوضوي لأسعار السلع والخدمات.

- الطلب والعرض على العملة وخاصة الدول المرتبطة بالدولار مثل العراق، إذا كان هناك طلب كبير على الدولار الأمريكي فقد يؤدي ذلك إلى أنخفاض قيمة الدينار العراقي وبالعكس.

- نحن مثقلون بمسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مسؤولية وطنية لمواجهة البعد الأنساني المغيّبْ اليوم، بفضل تدني الوعي الطبقي وأشاعة الفئوية والهوياتية التي أرّقتْ تقاطعات وجودنا وتلك منسلخة من موجات الفوضى الغائصة في مستنقع نظريات التفكك والأنقسام والفوضى التدميرية بقيادة البعض من أعداء المسيرة الديمقراطية الجديدة من سماسرة حيتان العملات الأجنبية والمضاربين

- أن أعلان الحرب على الفساد المالي ولو جاء متأخرا ويبقى الحضورأفضل من الغياب، وأن الفساد المالي والأداري هو سبب كل الأشكالات المتفاقمة على المجتمع وسبب مباشر في فشل المشاريع التنموية وظهور تداعيات الفساد الأداري والمالي ومردوداتها السلبية والأستلابية على عموم المجتمع العراقي، وبالتأكيد أن هذه الظواهر الأقتصادية المعيبة تؤدي حتماً إلى الفوضى السياسية والتي سببها ذاتوية تدفع الفرد للتقمّص بالنرجسية، وربما عن حب الظهور وأسقاط الآخرين أو ربما وربما لدعوات أنتخابية فكلها تؤدي إلى غياب الموضوعية وبالتالي نواجه كارثة حالة تدهور قيمة الدينار العراقي الذي يستلب منا فاتورة غلا ء الأسعارفي السوق المحلية.

- ولآن الحكومات المتعاقبة على السلطة بعد 2004 ولحد اليوم (غير) جادة في مكافحة الفساد الأداري ونهب المال العام لذا أصبح ينخرعظم المجتمع العراقي وأنتشرت تلك الظاهرة الطفيلية لترقى أن تكون شبحاً مخيفاً بهيئة مؤسسات يديرها مافيات أحرقت الأخضر فالأخضر ثُمّ اليابس، وعجز في ميزانية الدولة بمقدار 37 ملياردولار ناهيك عن أرتهان البلد بديون خارجية بسبب الفساد الأداري ونهب المال العام، مما أضطرّ العراق – وهي الكارثة الكبرى – أن يلتجأ إلى (صندوق النقد الدولي) في الأستدانة لسد العجز ووقوع العراق ضمن هذا الأختبوط الرأسمالي بدفع الحكومة لنهج فوضوي أرتجالي غير مدروس من الناحية الأقتصادية، مما يؤدي إلى تغول الدولار الأمريكي.

- وأن الجميع متفق اليوم حول ضعف تدابير سير المالية العامة في بلادنا حيث التردي في الأداء وغياب الشفافية ومواكبة المعلوماتية الرقمية المعصرنة، وجمود وتخلف في سن القوانين الداعمة لثقافة النهوض والألتحاق بالدول المتقدمة بل تقادم في تطبيق قوانين قديمة ربما ترجع لعهد مجلس قيادة الثورة المنحل، ولكن مع هذا وهذه أني لستُ سوداوياً في مبادرة مكافحة الفساد صحيح أنها ليست سهلة بيد أنها ليست صعبة فيما أذا تجاوزنا الخطوط الهوياتية والفئوية ووحدنا الخطاب السياسي ووجهنا بوصلتنا حسب ثقافة المواطنة والولاء المطلق لتربة العراق وأستحضار أرواح شهداء أمتنا الذين ضحوا بالجود بالدم من أجل الكلمة الحرة ودفع الظلم والشر عن وطننا!؟

إذاً ما الحل؟! وكيف نقرأ مستقبل حضرة الدينارالعراقي (قُدس سرهُ)!؟

من الصعب التنبؤ بدقة أتجاه الدينار العراقي وهناك بعض الحلول المتاحة التي قد تشير إلى تحسن مستقبلي محتمل، وإذا تفهم الجميع ثقافة (المواطنة) بأن المواطن هو مصدر المال العام لكونه المشمول بألأقتطاع الضريبي فهو يعتبر محور التنمية ومحرك التأريخ فيجب الأرتباط بهِ وحمايته والعمل على خدمته لتوفير العيش الكريم لهُ، أنطلاقا من هذه الديباجة المتواضعة أطرح بعض هذه الآراء التي تعلمتها من أساتذتي الكبار في موضوع الأقتصاد السياسي:

- إذا تمكن العراق من تحقيق أستقرار سياسي وأمني أفضل، وتحقيق أصلاحات أقتصادية مستدامة فقد تؤدي ذلك إلى دعم الدينار.

- تحسين العلاقات الأقتصادية والتجارية مع الدول الأخرى وزيادة الأستثمارات الأجنبية قد تعزز قيمة الدينار العراقي.

- أستمرار أرتفاع أسعار النفط قد يعطي دفعة أيجابية للأقتصاد العراقي وبالتالي دعم العملة المحلية.

-أصلاح المالية العامة اليوم في وطننا العراق ننظر أليها ضمن سياقات تأريخية وسياسية وأجتماعية في عهدها الديمقراطي الجديد، فنكون ملزمين في أستثمار الجو الديمقرطي وحرياته في رسم هوية عراقية تشخصن تأريخها وقيمها السماوية والوضعية فتكون المحصّلة رسم هوية تحكمها فلسفة جديدة نسيجها العقلانية والتحديث الهادف والموضوعي، فالأنتفاضات والثورات غالباً ما كانت تحصل بسبب ضعف أو سوء تدبير مالية الدولة والجماعات في ظل أنعدام الشفافية في صرف النفقات، وضعف العدالة في فرض التكاليف وشيوع الفساد والفئوية والكتلوية ونظم الأمتيازات الغير مسبوقة في العراق.

- على مجلس النواب أن يكون لهُ دور ريادي في تشريع القوانين كقانون الكسب الغير مشروع، وقانون كشف الذمّة للمسؤولين أبتدءاً من السلطات الثلاثة وإلى جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية ويكون القانون تأديبيا صارماً كالنموذج الأردني/للأطلاع فقط : يعاقب القانون بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من حصل على ثراء غير مشروع لنفسهِ أو لغيره وبغرامة تعادل مقدار ذلك الأثراء، ورد مثلهِ إلى خزينة الدولة، ويعاقب القانون الأردني بالحبس أو بالغرامة أو بكلتا هاتين العقوبتين أي شخص شملتهُ أحكام القانون أذا تخلف دون عذر مشروع عن تقديم أقرارات (الذمّة) المالية رغم تكليفهِ لذلك، كما يعاقب بالحبس مدة ستة أشهر ألى ثلاث سنوات كل من قام بأي فعل من الأفعال التالية او قدم عمداً بيانات كاذبة عن الأثراء الغير مشروع.

- سماع رأي الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي بأحتجاجات مليونية بشعارات سلمية تدعو ألى أستمرار النضال ضد الفساد الأداري ونهب المال العام والأفلات من العقاب، وتفعيل المساءلة بحق المتورطين وفتح التحقيق الفوري ولا ضير أن تدوّلْ وتكون بأشراف الأمم المتحدة في العراق وفي كل وزارة على حده.

- محاربة الفساد تبدأ بأنهاء المحاصصة، أنشاء محكمة خاصة، بديلة عن الهيئات القضائية، وعدم ألغاء مكاتب المفتشين العموميين وتقديم ملفات الكسب الغير مشروع والكشف عن الفارين وأحالتهم ألى القضاء، ونشر ثقافة النزاهة والقيم الخلقية النبيلة بين أطياف الشعب، والتعاون مع الشرطة الدولية (الأنتربول) لتعريفه على المدانين في كشف ملفات الفساد، ضمان حيادية التحقيقات وعدم تأثرها بالصراع السياسي، والحذر من المطب الوبائي القاتل (المحاصصي والطائفي والقومي وحتى المناطقي) وأن الفساد والأرهاب وجهان لعملة واحدة (مقتبسات من جريدة الطريق / الشيوعي العراقي).

- التشديد على المتهم عند أدانته، ونتساءل: أية عدالة عندما نسمع عقوبة الجنايات العراقية تحكم  بسنة واحدة لسارق مليار دولار؟!! أو وقف التنفيذ لكبر سنه أو كونه موظف حكومي مستمر بالخدمة  وعدم مصادرة أمواله المنقولة والغير منقولة لرد أموال الدولة منهُ على الأقل، الأغلبية الساحقة من المجتمع العراقي يطلب الحل الجذري في مكافحة الفساد والجريمة الأقتصادية، من المفروض بحكومة السوداني أعتماد خطة عمل وخارطة طريق وحصرها (بخلية أزمة) متبع في مكافحة الأرهاب مستندة على ركائز قانونية ودستورية وبمشاركة لمنظمة حقوق الأنسان في العراق بالوقوف ضد الخونة والفاسدين وبائعي الوطن والضمير في تطبيق فقرة الدستور التي تخص أزدواجية الجنسية عند أصحاب القرار، وأصدار قائمة منع سفر بالمتهمين بسرقة المال العام أو هدره ومرتكبي الجرائم الأقتصادية المضرّة بالبلد والشعب.

- تشكيل لجان وهيئات قضائية لمتابعة الفساد في العراق بأمر وزاري، وتفعيل دور الهيئات المستقلة (لجان الرقابة المالية وهيئة النزاهة والمفتشين العموميين) وهم أمام أمتحان وطني مجتمعي في أذكاء الوعي الوطني في ثقافة النزاهة أضافة ألى عملها الرقابي الذي ليس من الضروري أن يكون بوليسياً بل تربوياً ووطنياً وذلك لمنع الفساد ومحاربته ولآذكاء وعي الناس فيما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثل من خطر بالقيام بأنشطة أعلامية تسهم في عدم التسامح مع الفساد، وكذلك نشر وعي مدرسي لتشمل المناهج المدرسية والجامعية، وأخيراً أنها رسالة ألى رئيس مجلس الوزراء أنها فرصتك الذهبية أمامك في مكافحة الأرهاب لأن المرجعية الدينية معاك وحشود الحراك المدني مؤيد لأستئصال الفساد في العراق والصوت العالمي للمواثيق الأممية في تكريس السلام والأمان والعيش الرغيد لبني البشر ونبني عراقاً آمناً محايداً بعيدا عن ظهور بؤر المحاور.

***

عبد الجبار نوري - أبورفاه

كاتب وباحث في الأقتصاد - مغترب

في أكتوبر-تشرين أول 2024

 

اسباب غلبة اسرائيل كثيرة، ماتملكه من قدرات عسكرية وتكنولوجيه، وعقيدة ابادية تعبيرا عن حقيقة كون الكيان المقصود هو كيان لاقيام موضوعي له، وجد اصلا على شرط ابادة الاخر بتدرجات ومستويات، تصل الان درجة ونقطة الذروة حيث تفاقم حضور شرط الابادة المادية الوجودية، الا ان قيام كيان من هذا النوع مرتكز لمروية تاريخيه ونموذجية تنااقض احتمالية وجوده (النبوية الابراهيمة التاريخيه الكونية وجودا وكينونة، متلبسة بالفبركة ثوب الكيانيه الاوربية الحديثة الايهامية/ الوطنية القومية) هو من دون شك فرضية موكولة الى مايتعداها، وان هذا لوحده هو الذي يمكن ان يؤمن شكلا من اشكال وجودها ككيان مفتعل حيث وجب وجوده، بينما الصدام الفاصل معه هو بالاحرى صدام مؤجل في حينه ابان القرن الماضي، وقت الغلبة الكاسحة للنموذج الاوربي وتفكراته (بما يجعل من فيلسوف غربي مثل جان بول سارتر معني بمسالة الحرية، يرى في مثل هذا الكيان المفبرك بدون ركائز، لابل وبركائز مضادة، ولاغراض استعمارية غربية، بؤرة ديمقراطية وسط عالم معاد لها).

ووقتها ووفقا لمعطيات الظرف الذي نشات فيه اسرائيل، فان اسباب ومقومات تحقق الكيانيه المراد غربيا زرعها في الشرق الاوسط متوفرة وقتها وراجحه، في حين ان المنطقة بالعموم كانت خاضعه لذات الرؤية التي كانت تعمل كمطمح شرق متوسطي غالب، يوم كان الغرب نموذجا وهدفا اقرب للشامل منذ ابتداء زمن "اليقظة"، او "النهضة العربية" الكاذبة والمزورة كما بدات تكرس منذ القرن التاسع عشر، وهوماتزال اثاره ومتبقيات الايديلوجية المتصلة به مستمرة كصدى بلا حصيلة، وشكلا من اشكال مواصلة مشروع ولد ميتا، انتهت اليوم مبرراته واحتمالية تحققه، ان استمرت ذيوله باقية، فبسبب غياب البديل، والاعتياد غير المدقق فيه، ولا الجاري التوقف عنده وعند اسسه ومبرراته الواهية، والمتماهية بلا اساس واقعي اصلا مع الاخر.

ونعلم انه من غير المالوف اعتماد مروية تقول بان المنطقة الشرق متوسطية / العربية. مرت منذ 1258 تاريخ سقوط عاصمة الدورة النهوضية الثانيه، بطور من الانهيار الانقطاعي، انتهى مع القرن التاسع عشر وصعود مشروع الغرب الالي وحداثته، وماقابله من النهوض التوهمي الشرق متوسطي، تماهيا مع اوربا والغرب خارج الاشتراطات الذاتيه والبنيوية، وهو ماقد انتهى مفعوله واحتمالاته الايهاميه منذ وقت، بينما توقف كفعالية في الغرب نفسه ابتداء من القرن المنصرم، بغض النظر عن منظومة رؤيتة المعززة بجملة منجزه الشامل العائد لفعل الالة وانبجاسها في الموضع المذكور الاوربي، الطبقي التكوين، والمقابل للشرق الاوسط البدئي التاريخي المجتمعي، والنمطي اللاارضوي الكوني السماوي الابراهيمي النبوي، مقابل الاوربي الغربي الاغريقي الفلسفي، وعلاقة التفاعلية التاريخيه بين الموقعين، وانصبابات الغرب التاريخية باعتبارها جزءا من ديناميات تحقق المنطويات المجتمعية كونيا، باختراق اللاارضوية الشرق متوسطية السماوية كابتداء للمجتمعية الازدواجية الطبقية، وللامبراطوريات الشرقية المنصبه هي الاخرى في الموضع اللاارضوي لذات الحصيلة والمنتهى.

من اهم عناصر انكسار النهضوية المزيفة وماقد كشف واحضر الدالات عليها، وجود والصراع مع الكيانيه البرانيه الغربية المتلبسه بالابراهيمة المناقضة لها نوعا وكينونة، ومنذ حزيران 1967 كان المفترض ان تحضر في العقل والتفكير الشرق متوسطي العربي ضرورة العودة الى الذات بغية كشف النقاب عن جانب اساس، ظل على مر التاريخ ودوراته خارج الادراكية، وهو مالم يحدث، دلالة على استمرارية مفعول الانحطاطية الاصل، وبدء عودة تغلبها من جديد، بعد طور من التوهمية النهضوية المنتهية الى ايديلوجيا انتفى اساسها ومبرراتها الاولى الايهامية على الطرف الاصل المقابل، وقد ظلت تتجلى على مستوى الدولة والحزبية المعروفة بالقوموية، واليسارية، والليبرالية.

انقلب الغرب بين بدايات القرن الماضي، من التوهمية الالية "المصنعية" ونموذجها( الدولة الامه/ الليبرالية) الى صنف جديد من صنوف الفاشية بالقوة والاكراه التكنولوجي بعد الانتقال الالي، من "المصنعية" الى "التكنولوجيا الانتاجية"، ومن مركزية وقيادة المجتمعات الاوربية الطبقية الكيانوية التي انبجست فيها الالة عالميا، الى المجتمعية الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ، بلا طبقات، وليدة فعل الالة والتفاعل معها ضمن اشتراطات المكان ونموذجيته التي تم سحقها وامحاء اهلها "60 مليون"، هم نموذج مجتمعات اللادولة الاحادية، مع مصادرة المنجز والنموذجية المتحققه غربيا اوربيا حداثيا، علما بان الموضع الامريكي كنموذج لاعلاقة له ولاصلة تصله، لابالغرب ولا بالانقلاب الالي كما ولد، حين يتعلق الامر بالسياقات والديناميات التاريخيه، مثلما انه لاعلاقة له بالنموذجية الكيانوية الاوربية، فامريكا امبراطورية لاوطنيه كينونة بلا ماض، مرتهنه وجودا وفعلا باختلاق الرسالية العالمية غير المحدده المعالم، تتحول في الممارسة الشعبية الى "حلم امريكي"، رسالته الفعليه ازالة ماقبله من نموذجية مجتمعيه ـ كما اسرائيل مشروطة بازالة المجتمعات التاريخية السابقة عليها ـ كما ازيل الهندي الاحمر وتاريخه التشكلي والوجودي العريق، وكما ازيلت الكيانية العراقية عام 2003.

وبالانتقال من الالة المصنعية، ومن الانتاجية بالاشتراطات الكيانيه الوطنيه القومية، الى العولمه المتعدية للدول والكيانات، تنتفي موضوعيا وتاريخيا صلاحية النموذج الغربي، وهو ماكان تحقق عمليا منذ القرن المنصرم وبالذات مع الانهيار الاوربي بالحرب العالمية الثانيه والقطبية العالمية، نتاج التناقض بين الالة وطبيعتها، ونوع الكيانيه الملائم لها المتعدي للكيانيه بنيويا والذي يحول جزيرة معزوله مثل بريطانيا الى "امبراطورية لاتغيب عن ممالكها الشمس" خارج ارادتها او غرضيتها، فضلا عن فعل الالة في البنيه المجتمعية، بعد دخولها كعنصر ثالث جديد ومن نوع اخر على ثنائية (الكائن البشري/ البيئة) عنصري التشكلية المجتمعية البنيويين النمطيين ابان الطور اليدوي من تاريخ المجتمعات، بين مجتمعات كلاسيكية من ناحية حضور ومدى نضج برجوازيتها، او تلك التي تستعين بالاله والايديلوجيا لسد النقص في اليات الانتقال الى الطور الجديد الالي، وان يتصورات توهمية من نوع ماحصل في روسيا.

انقلب العالم وسياقات تفاعليته ونوع صراعيته، ولم تعد اسرائيل بنت الاشتراطات التي اتاحت وجودها لاغراض ودوافع عائدة لنوع العلاقة الاوربية الشرق متوسطية ابان بدايات ومفتتح لحظة استثناء وانقلاب تاريخي يلغي المجتمعية الارضوية طبقية كانت او مجتمعات دولة احادية او لادولة احادية واو مجتمعات مختلطة النمط، ويضع الشرق الاوسط العربي امام اشتراطات نوعية وتاريخيه انقلابيه عظمى مؤجله، وغير ناطقة، صارت غير قابله للانتظار،الحضور الاسرائيلي بطبعته الابادية، والمواكب لنوع النمطية الامريكية المازومه، عنصر تاجيج لاسباب ومواطن نطقيتها المؤجله منذ بدايات التبلور المجتمعي الى اليوم.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

غالبًا ما توقّف المختصون في السياسة الخارجية والديبلوماسية أمام سؤال معلن أحيانًا، وبعضهم في الكثير من الأحيان أمام سؤال ملغم، أي الحقول الأكثر تأثيرًا على كسب العقول واستمالة القلوب والتأثير في الرأي العام الخارجي؟ هل هو العلم والمؤسسات الأكاديمية  والجامعات والأبحاث أم الفنون بمختلف صنوفها، ولاسيّما السينما؟ والسؤال ذاته حسبما يبدو شغل كتّابًا ومفكّرين وناشطين وشعراء وفنانين، وفي الوقت نفسه انشغل به أكاديميون وباحثون وساسة وإعلاميون ودبلوماسيون وأجهزة مخابرات، وكان شاعر أمريكي، يُدعى كارل سادنبيرغ  قد طرح في ستينيات القرن العشرين السؤال الملتبس: أيهما أكثر تأثيرًا في سياسة الولايات المتحدة، هل هارفارد أم هوليوود؟

والمقصود بهارفارد هو جامعة هارفارد الشهيرة، والتي تعتبر أعرق الجامعات العالمية ، وقد تأسست في العام 1636، وسُميّت باسم المتبرّع الأول، رجل الدين البروتستانتي جون هارفارد، وهي أقدم مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة، وتقع في مدينة كامبريج في ولاية ماساتشوستس. أما هوليوود فاشتهرت عالميًا بصناعة السينما وشركات الإنتاج والنجوم السينمائيين العالميين. وهي منطقة في مدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا، وكان أول فيلم صوّرته (1908)، وجوابًا على السؤال الحائر أيهما أكثر تأثيرًا؟ قال سادنبيرغ على نحو مثير هارفرد أنظف من هوليوود، لكن هوليوود أكثر تأثيرًا من هارفارد في الوصول إلى أمد بعيد، والمقصود بذلك التأثير على الرأي العام العالمي.

ويبدو أن هذه الإجابة التي تعود إلى أيام الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين المتناحرين الرأسمالي والإشتراكي، والتي أصبحت أكثر وضوحًا بالتجربة العملية وليس من باب التكهّن  أو التقديرات، بل وفقًا لما أكّده الواقع، خصوصًا وقد صيغت بشأنه عددًا من النظريات التي كان يعمل على بلورتها "ترست الأدمغة" أو "مجمّع العقول"، الذي يعمل بمعيّة الرؤساء الأمريكان منذ عهد الرئيس جون كينيدي، من بينهم عدد من مستشاري الأمن القومي ووزراء الخارجية، أبرزهم كيسنجر وبريجينسكي الذين استخدموا وسائل القوّة الناعمة للتغلغل داخل الكتلة الاشتراكية والتاثير على الرأي العام فيها، ولاحقًا كانت مادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وستانلي هادلي وغيرهم ممن ساهموا في تبني سياسة أبلسة الخصم وشيطنة العدو، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.

وكان أبرز من صاغ مفهوم القوة الناعمة جوزيف ناي، وقد أظهرت الكاتبة اللبنانية حوراء حوماني كيف استخدمت واشنطن القوة الناعمة لصناعة الآخر لتحقيق أهدافها، فصورة إيران كانت حاضرة بقوّة في هوليوود. وحري بنا أن نعرف أن هوليوود تستولي على 80% من الأفلام التي تعرض في السينما العالمية، فأي تأثير لها على الرأي العام.

وهنا يمكن الاستدلال أن هارفرد، وإن كانت مؤثرة كجامعة أولى في العالم، لكن تأثيرها قياسًا لهوليوود يبقى محدودًا، التي لعبت دورًا بارزًا في الاضطلاع بالدور الإمبريالي وفي تشويه صورة الآخر، لاسيّما مع كل المعارضين لسياسة واشنطن، الذين تظهرهم دائمًا بالقبح والبشاعة، مما يثير اشمئزاز الرأي العام العالمي منهم، ويحدث ذلك بطريقة فنية محكمة وذكية وناعمة.

وتبقى هارفرد تحكمها قوانين وأنظمة ليس من السهولة التجاوز عليها، لما تتمتّع به من تاريخ ورصانة وأكاديمية وانضباط، وإن بإمكانها إمرار أهداف السياسة الخارجية والديبلوماسية الثقافية والأكاديمية والعلمية والترويج لنمط الحياة الأمريكي لدى النُخب، أما هوليوود فإن الجمهور هو من يهمها بالدرجة الأساسية حتى وإن كانت النخب هي التي تقوده.

السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذه المقالة ليس ترفًا فكريًا أو حقلًا أكاديميًا نظريًا بقدر ما له علاقة بالواقع العملي، حيث يصبح  حاجة ماسّة، تقاس نجاحات الدولة وقوّتها اليوم بمدى قدراتها الثقافية على تكوين علاقات دولية وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدي إلى خدمة سياستها الخارجية، فما بالك إذا كانت منسجمة مع احترام الإنسان وحقوقه الأساسية العامة والفردية، وتحقيق التنمية المستدامة بجميع حقولها.

ديبلوماسية القرن الحادي والعشرين

أصبحت القوّة الناعمة، ولاسيّما الثقافية والفنية اليوم ركنًا متينًا من أركان دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، حتى أن بعض الدول النامية أخذت تحجز لنفسها مكانًا متقدمًا فيها، ليس بسبب قوتها العسكرية، بل بفعل إمكاناتها الاقتصادية التي توظفها في إطار دبلوماسية ثقافية تكون قادرة على الاستقطاب، لما تملكه من مقوّمات التأثير على الجماعات والشعوب والأمم الأخرى بالتجاوز على الوظيفة الديبلوماسية التقليدية، أي أنها تتضمّن الإبهار من جهة، واجتذاب الآخر بدلًا من ترويعه أو قهره بوسائل عسكرية أو عنفية من جهة أخرى، ربما تكون غير قادرة عليها، وإنما يمكنها التأثير الناعم عليه عبر الفنون والآداب والرياضة والسياحة والانفتاح الثقافي واللغة والعلاقات المباشرة.

وفي ذلك أكثر من مغزى وأكبر من دليل على قيمة الفن والأدب والثقافة وأدواتها المتنوعة في التغلغل الناعم والتأثير الهادئ على القلوب والعقول معًا، لاسيّما أنه يصل إلى غرف النوم حتى دون استئذان، في حين أن صرحًا علميًا كبيرًا مثل هارفرد، وهو وإن كان مؤثّرًا بلا أدنى شك، إلّا أنه أقل تأثيرًا من  هوليوود في نشر القيم الأمريكية.

ولعلّ ذلك يعود إلى أن ما تنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، خصوصًا وأن ما يحدثه الفن السابع، يكاد أن يهيمن على القلوب والعقول معًا، في حين أن المنتوج الأكاديمي يبقى محصورًا بنخبة محدودة وخاصة. وتسعى الدول الكبرى لتأمين مصالحها الحيوية عبر التأثير على الآخر بضخّ أوسع قدر ممكن من وسائل التأثير، وهو ما تساهم به هوليوود على نطاق واسع.

الاستثمار في الديبلوماسية الثقافية

لقد استثمرت دولًا صغيرة ومحدودة الإمكانات في الديبلوماسية الثقافية، لاسيّما الانفتاح والسياحة والقوّة الناعمة والصداقة والتسامح والتبادل الثقافي، لتأكيد المشترك الإنساني. وأظن أن الانفتاح الذي حصل في المملكة العربية السعودية، ترافقًا مع مشروع نيوم، يمكن أن ينقلها إلى مصاف دولة متقدمة بمعايير الديبلوماسية الثقافية، بما لها من ترابط مع الديبلوماسية الاقتصادية، وذلك جزء من الاستثمار العقلاني البعيد المدى للثقافة والديبلوماسية الثقافية والاقتصادية، الذي يمكن أن تنتهجه دولًا نامية لتحقيق أهدافها ورفع مكانتها في العلاقات الدولية، وبالطبع أن ذلك يحتاج إلى وعي جديد ورؤية واضحة وإرادة صلبة وإدارة سليمة وتعاون عربي لا غنى عنه.

ويمكننا تصوّر لو اجتمعت طاقات وجهود بعض دول المنطقة وشعوبها، مثل العرب والكرد والفرس والترك في ديبلوماسية ثقافية موحّدة ومتنوعة بينها جوامع عديدة ومشتركات كثيرة على الصعيدين الرسمي والشعبي، كيف يمكن أن تؤثر على صعيد الأمن الإقليمي وحماية المصالح الحيوية العليا، بل على صعيد المشاركة في حماية السلم والأمن الدوليين، خصوصًا إذا تمّ تسوية مشكلاتها بطرق سلمية وعبر الحوار والتفاوض على أساس احترام الخصوصيات وحق تقرير المصير ومراعاة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وليس بالشعارات الأيديولوجية العاطفية، بل بالمكانة التي يمكن أن تحتلّها دول المنطقة وشعوبها في نظام العلاقات الدولية المستقبلي والمتعدّد الأقطاب، الذي بدأت بعض ملامحه تتكوّن، وقد تزداد وضوحًا بعد تبلور نتائج الحرب الروسية - الأوكرانية والعدوان على غزّة الذي امتدّ إلى الضفة الغربية وشمل لبنان أيضًا.

***

د. عبد الحسين شعبان

(هذه ليست دراسة أكاديمية منهجية إنما هي رد في ملاحظات تعتمد على ما في الذاكرة من معلومات تأريخية وبيانات حول وقائع معروفة كتب عنها الكثيرون قديماً وحديثاً).

أثار بعض الكتاب العراقيين في الآونة الأخيرة موضوع قتل الحسين بن علي في مذبحة الطف في كربلاء وأولاده وأبناء إخوته ورجال من النخبة التي التحقت به ولم تتخلَ عنه حتى إستشهادها معه في واقعة طفوف كربلاء المعروفة.

تبرئة يزيد بن معاوية من دم الحُسين: جاءت الخلافة ليزيد غدراً وخيانةً مارسهما أبوه معاوية حين خان وتنكّر للعهد الذي أبرمه مع الحسن بن علي والذي دُعي ب [صُلح الحسن] والذي نصّ (حسبما روى بعض المؤرخين) فيما نص من بنود أخرى على إقرار معاوية بخلافة الحسين بن علي على المسلمين من بعده مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. هل في هذا شك أو ضبابية أو طعن؟

دعا زعماء قبائل الكوفة والعراق الحُسين بن علي لترك المدينة والتوجه إليهم للتحرك تحت قيادته ضد طغيان وعنت وشذوذ يزيد الخليفة المفروض على المسلمين في دمشق الشام. أرسلوا له مئات الرسائل أو أكثر يحثونه ويستدعونه للشخوص إلى الكوفة لإنقاذ الأمة من الغمّة المقيمة. أرسل لهم ابن عمه مسلم بن عقيل مستطلعاً ودارساً لمجمل الأوضاع وتحرّي صحة ولاء هؤلاء الزعماء العراقيين له. أعلنوا له الولاء أوائل أيام حضوره في الكوفة وصلّت الآلاف خلفه ولكن ! أخذ عدد المصلين خلفه بالتناقص يوماً بعد يوم مع تزايد حُمّى أمير العراق عُبيد الله بن زياد إبن أبيه الإعلامي المضاد للحسين ولدعوته ولجهود ابن عمه ورسوله مسلم بن عقيل والضغط على مناصريهما لترك الحسين ومن وراء الحسين والإلتحاق بركب يزيد وطغمته الحاكمة في العراق مُستخدماً السلاحين المعروفين جيداً: الإغراء بالمال ومنح الأراضي الشاسعة وإمتيازات منوّعة أخرى إدارية أو في قيادة الجيوش والسلاح الثاني: السجن والتعذيب والقتل. النزاع الذي كان بين الإمام علي والمنشق معاوية كان كما قال العارفون نزاعاً بين تيارين وفكرتين ونزعتين متناقضيتين هما بتركيز شديد: النزاع بين الدين (معسكر علي) والدنيا (مُعسّكر معاوية) حيث أنتصرت الدنيا الفانية بمعاوية على دين علي المؤمن بالخلود بعد الحياة.

وبعد عشرين عاماً (41 للهجرة ــ 61 للهجرة) عادت أجواء ذلك النزاع الذي ساد ايام الخلاف بين علي ومعاوية [ نزاع الدين والدنيا ] وسيطر على أجواء ما قبل واقعة الطف فانتصر فيه معسكر أصحاب الدنيا وهم خبراء فيه وبفنونه آل أُميّة ومن مثّلهم في تلك المرحلة ،يزيد وعُبيد الله بن زياد على معسكر الدين بقيادة الحسين فارتفعت الراية فوق دمشق وانتكست الرايات الأُخَر في العراق والحجاز. الآن:

يدّعي الكتّاب النابشون في بطون التأريخ وإثارة موضوعات عفى عليها الزمن هي مدعاة لإثارة المزيد من الفتن والمشاكل في عراق فيه ما يكفيه من مشاكل سياسية ودينية وقومية وعرقية وطائفية فما الذي يدعو هؤلاء الكُتّاب للخوض في مثل هذه المواضيع؟ ولكي لا أتشعب وأُطيل أدخل في صُلب الموضوع وأقول:  يدّعي هؤلاء أنَّ يزيد بن معاوية برئ من دم الحُسين ! مستندين على موضوعتين اثنتين لا غير ضعيفتين لا تصلحان أنْ تقوما كبشهادتين على تبرئة مجرم كبير قاتل أمر بقتل حفيد النبي محمد ومن كان معه أو إذلاله بالبيعة لخليفة فاسق مُنحرف سارق للخلافة !

أولاً: الصبي العليل الأسير والناجي الوحيد من مجزرة الطف وشاهد عيانها

يدّعي هؤلاء الأخوان المولعون بنبش المقابر والبحث في الرميم (وقد يكون ادعاؤهم صحيحاً حسب بعض الروايات التاريخية) أنَّ علاقة يزيد بعد الطف بهذا الصبي العليل الضعيف المأخوذ بما وقع لأبيه وأخوته وأقاربه ورجال أبيه المخلصين الشجعان كانت علاقة ود واستلطاف. أجل ، قد تكون العلاقة بين الإثنين كانت كذلك ولكن ... هل كان الجو الخاص والجو العام طبيعيين بحيث يسمحان لقيام علاقة طبيعية بين قاتل مُستبد غاشم وطفل أو صبي عليل أسير مغلوب على أمره لا من حولٍ له ولا من قوة هو في أمسّ الحاجة إلى شئ من العناية وتهوين وقع ما أصاب أهله عليه. وما كان في وسع الأسيرالعليل السجّاد علي بن الحُسين أنْ يفعل غير ذلك؟ هل يثور وهل يستطيع أنْ يثور وهل كانت في حوزته أدوات ورجال الثورة على الخليفة المنحرف والمغتصِب المقيم في دمشق؟ وهل في هذا كله ما يصلح للإستنتاج أنَّ صاحب الحق والوريث الوحيد للحسين أبيه وما ترك زين العابدين السجّاد كان قد برّأَ القاتل الأكبر من دم أبيه؟ هل كتب هو هذه البراءة وأين هي ولِمَ لمْ يبحث عنها ويُثبّتها مؤرّخو تلك الحقبة من الزمن؟ إذاً هذه الحُجّة باطلة ولا تصلحُ أنْ تكون شهادة بتبرئة يزيد من دم الحُسين وما وقع له ولمن معه في معركة  الطف في ضواحي كربلاء. كان يزيد من جهته وقد حصّل على ما يريد بقتل المنافس الأكبر له على خلافة المسلمين كان بحاجة ماسة لتهدئة الخواطر وتخفيف حِدّة اللوم المُسلّط عليه من بعض كبار القوم  سواء في دمشق أو مكة أو المدينة. وما يخسر يزيد إذا ما جامل صبياً عليلاً أسيراً يتيماً من أكثر من جهة وجانب؟ كان فيه بعض دهاء أبيه. لماذا التعكز على بعض مواقف صبي أسير عليل مغلوب على أمره وإهمال المواقف البطولية الشجاعة لعمّته السيدة زينب ومساجلتها المعروفة مع يزيد في قصره ومنع رجاله من الإجهاز على الصبي السجاد زين العابدين برمي نفسها عليه حماية له وقولها لهم أُقتلوني بدلاً منه؟ هل هادنت يزيد وهل برّأته من دم أخيها ومَن كان معه؟

شئ يستدعي ذِكرَ غيره: هل كان في مقدور عبيد الله بن زياد مخالفة سيده يزيد بن معاوية حتى يجرؤ بالأمر بمقاتلة الحسين ومن كان معه ثم إرسال رؤوس مّن كان قد قتلَ إلى يزيد في دمشق مرفوعةً على رؤوس الرماح كما قرأنا في كتب التأريخ؟ هذا السؤال موجّه لأولئك  القائلين أنَّ أمير الكوفة والبصرة عبيد الله بن زياد هو المسؤول الوحيد عن قتل الحسين وليس الخليفة يزيد.

قرأنا أنَّ الحُسين وضع أمام الحر الرياحي القائد الأموي الذي كان مأموراً بمحاصرة الحسين ومنع الماء عنه ثلاثة مقتحرات هي:

1ـ رجوعه ومن معه إلى من حيث أتى

2ـ ذهابه ومن معه للإقامة في اليمن

3ـ أو أخذه وحده دون من معه لمقابلة يزيد ....

رُفِضت هذه المقترحات جميعها فما دلالة ذلك غير النيّة وقرار قتل الحُسين بأي ثمن.

ثانياً: أخ الحسين غير الشقيق محمد إبن الحنفية

هذا رجل غريب غامض يُثير الحيرة في بعض تصرفاته حتى لكأنه ما كان أحد أبناء الإمام علي ولا كان أخاً للحسن والعباس والحسين. كان بعد استشهاد أبيه في الكوفة واستفراد معاوية بالسلطة كثير الزيارات للقاء معاوية في دمشق وأكيد ما كان هذا بخيلاً معه وما كان ليقصّر في المبالغة في إكرام هذا الزائر غير العادي. يزورغاصب سلطة أبيه وغادره في خدعة التحكيم ورفع المصاحف  أثناء حرب صفين بل وما كان مع باقي أهله في حين توجه الإمام علي إلى الكوفة في العراق. إذا كانت مصالح فأية مصالح وما طبيعتها تلك التي كانت تُزيّن لهذا الرجل صداقة معاوية وتمتينها وإدامتها؟ أرى أنَّ الفضل في ذلك لمعاوية نفسه الداهية البعيد النظر والمفكّر [الستراتيجي] الفذ. أقصد سعيه للتمهيد إلى تولية ابنه يزيد خليفةً على المسلمين من بعده وبعض هذا السعي هو كسب موالين له ولمشاريعه ولولده من بعده خاصة من بين بني هاشم والعباسيين والعلويين حتى يقول المؤرخون إنَّ إبن عباس كذلك كان كثير الزيارات لمعاوية. إبن الحنفية لم يغادر المدينة أو مكة مع أخيه الحسين حين غادرها وآل بيته ورجاله الموالون له. لم يرافق أخاه الحسين كما فعل أخوه العباس الذي قاتل حاملاً راية أخيه حتى استشهد وأولاده وقصّت كفّاه وحُزَّ رأسه. محمد ابن الحنفية هذا صديق معاوية كان كذلك موالياً لقاتل أخيه يزيد إبن معاوية فهل يصح الأخذ بشهادته وتبرئته يزيداً من دم الحسين ومن كان معه؟ شاهد مرتشٍ ضعيف الشخصية موضع جدل دجّنه معاوية بالمال والعطايا وأعده لهذا اليوم خصيصاً ليقول في يزيد ما يريد يزيدُ أنْ يُقالُ فيه: إنه برئ من دم الحسين إنما عبيد الله بن زياد هو المسؤول الأول والأخير!

ما قصد بعض الكتّاب العراقيين من نشر موضوعات ملتهبة حادة تفيدُ منها فئة طائفية معينة وتُثير غضب فئة طائفية أخرى والعراق يحترق بنيران الطائفية اليوم؟.

***

د. عدنان الظاهر

 10.10.2024

كيف تستغل الجائزة الأدبية الأكثر شهرة ضد الخطاب المؤيد للفلسطينيين؟

جائزة جيلر و"إنديجو 11"

بقلم: مايكل دي فورج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

انضم الكتاب إلى الفنانين التشكيليين وصناع الأفلام والعاملين في المجال الثقافي تحت لواء "لا للأسلحة في الفنون"، وهي حملة تطالب جميع المؤسسات الثقافية التي تتلقى تمويلاً من سكوتيابنك، بما في ذلك جائزة جيلر، بالضغط عليه لسحب استثماراته من مصنعي الأسلحة الإسرائيليين وإنهاء تواطؤه في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. تصوير: يولا بينيفولسكي.

منذ 7 أكتوبر 2023، قامت شرطة تورونتو باعتقال 92 شخصًا من المتظاهرين والمنظمين الذين يحتجون على الإبادة المستمرة التي تمارسها إسرائيل في غزة. تصرفت الشرطة ضد العديد من الاحتجاجات، والاعتصامات، والاحتلالات، والتدخلات البصرية، وخطوط الاعتصام، والمقاطعات التي حشدت نشطاء من مجموعة واسعة من القطاعات. ما يثير الانتباه، مع ذلك، هو أن 16 من هذه الاعتقالات (أكثر من 17 في المئة من العدد الإجمالي) كانت تركز على قطاع واحد بشكل خاص: العالم الأدبي الكندي.

في 13 نوفمبر 2023، قُطع بث حفل جائزة جيلر من قبل محتجين يلفتون الانتباه إلى استثمار الراعي الرئيسي، بنك سكوتيا، في شركة إلبيت سيستمز الإسرائيلية لصناعة الأسلحة. في ذلك الوقت، كان لدى بنك سكوتيا استثمار بقيمة 500 مليون دولار في إلبيت، مما جعله أكبر مساهم أجنبي في الشركة. تم اعتقال ثلاثة أشخاص بتهمة المشاركة في تعطيل الحفل تلك الليلة، وقد وجهت إليهم تهم جنائية. ثم تم إجراء اعتقال رابع بعد عدة أشهر، واعتقال خامس قبل أكثر من أسبوع.

في الأيام التي تلت حفل جيلر، كُتبت رسالة مفتوحة وقع عليها أكثر من 2100 شخص من المجتمع الأدبي في كندا تطالب بإسقاط التهم الموجهة إلى المحتجين. انطلقت حملة "لا للأسلحة في الفنون" في مارس/آذار التالي، في معارضة للروابط بين المؤسسات الثقافية مثل جيلر والشركات التي تغذي وتدعم الإبادة الجماعية، مع التركيز على سكوتيابنك. بعد أشهر من التعتيم من قبل مؤسسة جيلر، التي تمول وتقدم الجائزة السنوية، تعهد ما يقرب من 40 مؤلفًا بمقاطعة الجائزة تمامًا. سحب المؤلفون إصداراتهم الخيالية المؤهلة لجائزة جيلر لعام 2024 من الاعتبار، ورفض الفائزون والمرشحون السابقون المشاركة في أي دعاية حول الجائزة في المستقبل. وفقًا للحملة، ستنتهي المقاطعة عندما تتخلى المؤسسة عن جميع الرعاة الذين يدعمون ماديًا قمع الفلسطينيين. ويشمل ذلك بنك سكوتيا، ولكن أيضًا مؤسسة أزريلي، الجناح الخيري لإمبراطورية العقارات الإسرائيلية التي تربطها علاقات اقتصادية سابقة وحالية بالمستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وشركة إنديجو للكتب.

"إنديجو 11" هو المصطلح الذي أُطلق على الأفراد الذين استيقظوا في الساعات الأولى من يوم 22 نوفمبر 2023 على مداهمة شرطة تورنتو العنيفة لمنازلهم. وقد ألقيت متعلقات بعضهم وخُلعت أبواب منازلهم. وقُيد الآباء بالأصفاد أمام أطفالهم. وكانت جريمتهم المزعومة هي وضع ملصقات على نوافذ أحد فروع إنديغو في وسط مدينة تورنتو. وقد صورت المنشورات وجه الرئيسة التنفيذية لشركة إنديجو هيذر رايزمان، واتهمتها بالتواطؤ في حصار غزة. ووصفت الشرطة التهم - التخريب والمضايقة الجنائية والمؤامرة - بأنها "بدافع الكراهية".

على الرغم من الجهود المبذولة لإخفاء العلاقة بين "إنديجو" واحتلال إسرائيل، فإن حقيقة أن هذر ريسمان، إلى جانب زوجها ومدير "إنديجو" جيرالد شوارتر، هما مؤسسا مؤسسة "هيزغ" (HESEG) معروفة جيداً. لقد كانت "هيزغ" مصدراً دائماً للجدل لسنوات بسبب دعمها المالي لـ "الجنود المنفردين" في الجيش الإسرائيلي، وهم مواطنون غير إسرائيليين يرغبون في التطوع للانضمام إلى قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF). وهذا يعني أن رايزمان وشوارتز يدعمان الجولات العسكرية للجنود الذين ينفذون بنشاط نظام الفصل العنصري والاحتلال والإبادة الجماعية الإسرائيلي. وهما المانحان الوحيدان الكبيران لمؤسسة HESEG، وقد قدما لها أكثر من 185 مليون دولار على مر السنين. وهذه التبرعات مدعومة بدورها من أموال الضرائب الكندية، على الرغم من التباهي بقانون الجمعيات الخيرية الفيدرالي الذي من شأنه أن يستبعد المنظمات التي تقدم الدعم المالي لـ "الجيوش الأجنبية".

عندما نواجه أسئلة أخلاقية حول الروابط بين الشركات والفنون، نسمع عبارات مألوفة للغاية حول أزمة التمويل التي تواجهها صناعاتنا. يُقال لنا إن المال يجب أن يأتي من مكان ما، سواء شئنا أم أبينا. لا أقصد استحضار هذه الأزمة باستخفاف. فالفنانون يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد، وهو وضع تفاقم بسبب قيام مؤسساتنا الفنية بالمخاطرة بوجودها بالكامل على حفنة من الرعايات من الشركات. عندما ننظر إلى ارتباطات مؤسسة جيلر مع سكوتيابنك وأزريلي وإنديجو، فقد تصفها وجهات النظر المتعاطفة والساخرة على حد سواء بأنها حيوان محاصر. يرسم أنصار مؤسسة جيلر صورة لمؤسسة مجبرة على الاختيار بين الحفاظ على الذات والأخلاق، وتعتمد على هذه الحقن الضخمة من الجوائز من أجل دعم نفسها - بغض النظر عن المكان الذي أتت منه. في حين قد يكون هذا صحيحًا كتفسير جزئي، إلا أنه لا يلتقط تمامًا الطريقة التي تتحد بها القوة والإيديولوجية في المجال الثقافي.

إن هذه الاعتقالات هي مظاهر مادية للسلطة والإيديولوجية. لقد شهد العام الماضي المزيد من الإجراءات المباشرة الواضحة والمؤثرة في تورنتو، لذا قد يبدو للوهلة الأولى أن الدولة قد اتخذت إجراءات صارمة ضد المحتجين على جيلر وإنديغو. لماذا أصبح المجتمع الأدبي الكندي مكانًا لمثل هذه المناورات السياسية؟ تكمن الإجابة في الطرق التي تحافظ بها هذه المؤسسات الثقافية على التزاماتها الإيديولوجية تجاه الصهيونية، وتمارس نفوذها الثقافي في خدمة هذه النظرة العالمية القومية العرقية.

وفي الحالتين، تم استخدام العنف بشكل مباشر للغاية.. كما ذكرت صحيفة The Walrus، شوهدت إيلانا رابينوفيتش، المديرة التنفيذية لجيلر، وهي "توبخ الشرطة لمهاجمتها المتظاهرين". تم تأكيد ذلك أيضًا في بيان في اليوم التالي عندما أخبروا صحيفة جلوب آند ميل أن "المنظمين كانوا يعملون بشكل وثيق مع مسؤولي إنفاذ القانون المحليين".

عندما كان من المقرر أن تقوم الفائزة بجائزة جيلر لعام 2024 سارة بيرنشتاين (التي انضمت لاحقًا إلى قائمة الموقعين على مقاطعة جيلر) مندى للكتاب عبر الإنترنت من أجل الجائزة، حذرها منظمو جيلر من أن أسئلة الجمهور حول غزة أو المحتجين سيتم حذفها. في أبريل، أرسل منظمو جيلر بريدًا إلكترونيًا يحمل تهديدًا مبهمًا إلى الناشرين يطلبون منهم أن يكون المؤلفون الذين يرشحونهم للحصول على الجوائز "مستعدين لتكريم الترشيح والالتزامات." كان ذلك تحذيرًا بـ"الالتزام بالخط" جاء بعد فترة قصيرة من الانسحابات الجماعية من حفل جالا PEN America (وبدوره، تم تبني أسلوب طلب من الناشرين تأديب مؤلفيهم قبل حفل توزيع الجوائز المحتمل أن يكون مثيرًا للجدل من قبل PEN نفسها الشهر الماضي). تحت تحذيرات غيلر، يكمن تهديد قائمة سوداء. هناك خوف مبرر بين المؤلفين من أن أي شخص غير راضٍ عن استخدام عمله لتلميع الشركات المتواطئة في الإبادة قد يواجه عواقب مهنية جراء قوله ذلك، ويفقد الوصول إلى الدعاية القيمة، والسمعة، ومبيعات كتب.

مثل العديد من المؤسسات الأدبية، كان على جائزة جيلر الاعتراف بواقع أن كل فن هو سياسي. بدأت مراسمها لعام 2023 بإقرار الأمر، وتضمنت العديد من الإشارات التقليدية إلى القوة السياسية التحويلية للقراءة، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته الجائزة في تعزيز الأصوات المهمشة. ومع ذلك، كان الأمر محرجًا بشكل خاص عندما تمسكت بشراكتها مع سكوتيابانك، ، مما اضطرها إلى اتخاذ موقف غير رائج وهو اللامبالاة السياسية. في 11 يوليو، أصدرت المؤسسة بيانًا تؤكد فيه أنها احتفظت ببنك سكوتيا كراعي، وكتبت أن "المؤسسة ليست أداة سياسية." ومع ذلك، ها هي إيلانا رابينوفيتش، تستخدم ثروة وقوة أكثر جوائز الأدب الكندية شهرة ضد الخطاب المؤيد لفلسطين. قد يتوقع المرء أن تذهب استجابة مؤسسة غير حزبية حقًا في الطريق المجرب الذي يتمثل في تجاوز الجدل، بدلاً من أن تتورط بشكل أكبر مع رسائل تهديد وقمع للمؤلفين والناشرين. على مستوى خالص من الجبن، كان من الممكن بالتأكيد أن تكون هذه استراتيجية أكثر ذكاءً للعلاقات العامة. إن ما نشهده هو شيء أكثر قبحًا يكشف الألوان الحقيقية لفكر أيديولوجي.

بينما قد يضطر اللاعبون الآخرون في عالم النشر الكندي إلى تبني واجهات أكثر خجلًا، شعرت هيثير ريزمان وجيرالد شوارتز بالقوة للتعبير عن مواقفهما المناهضة للفلسطينيين بشكل علني ودون خجل. بخلاف جهودهما الخاصة التي تهدف إلى تشجيع الأجانب على الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي، تبرعت مؤسسة عائلتهما بعدد من المنظمات الصهيونية الأخرى التي لها روابط مع المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والجيش الإسرائيلي. وشملت هذه المنظمات صندوق إسرائيل الوطني ومؤسسة نعمان، التي تم سحب وضعها الخيري مؤخرًا من قبل وكالة إيرادات كندا بسبب تلك الروابط؛ ومؤسسة القدس ومزراحي كندا، التي تدعم أيضًا المستوطنات غير القانونية، بالإضافة إلى العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة الإسرائيلية. كما كان رايزمان وشوارتز محوريين في إنشاء مركز إسرائيل والشؤون اليهودية (CIJA)، وهي مجموعة ضغط سيئة السمعة مؤيدة لإسرائيل تدفع بنقاط الحديث الصهيونية وتقمع وجهات النظر الفلسطينية في وسائل الإعلام والسياسة الكندية.

تتعارض العديد من هذه الجمعيات عادةً مع الحساسيات "التقدمية" في عالم الأدب. ومع ذلك، تمكنت ريزمان دائمًا من الحفاظ على دورها كراعية محبّة للفنون بسلطتها. تمثل شركة إنديجو (التي استحوذ عليها ريزمان وشوارتز في وقت سابق من هذا العام) احتكارًا تسبب في أضرار جسيمة لصناعة النشر، حيث أضعفت سوق بيع الكتب المستقل في كندا، ولا تزال سياساتها المتعلقة بإرجاع الكتب تشكل تحديًا كبيرًا لدور النشر الصغيرة. إن وجودها الرمزي والفعلي في المهرجانات وعروض الجوائز والحفلات ناتج عن كون بقية صناعة النشر تجد نفسها كجمهور متردد وأسير أمامها.

عندما تم اعتقال "إنديجو 11"، كان من المدهش أن نشهد كيف أن عملاً اعتياديًا من أعمال العصيان المدني، مثل توزيع المنشورات، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مستويات عنف الشرطة والاتهامات الجنائية التي ترتبط عادةً بجرائم أكثر خطورة. وكما يوضح تقرير موقع "ذا بريتش"، فإن السبب في ذلك يعود إلى تدخل ريزمان شخصيًا، حيث أجرت مكالمة هاتفية مباشرة مع رئيس شرطة تورنتو، وفقًا لمصدر في الشرطة. مثلما حدث في اعتقالات حفل غيلر، فإن هذه الاتهامات الجنائية والصعوبات الناتجة عنها تنبع أساسًا من ضغط فرد أو مؤسسة واحدة.

قبل أسابيع قليلة، شهدنا ريزمان تسيء استخدام النظام القضائي مرة أخرى، عندما قامت إنديجو بتقديم طلب للحصول على أمر قضائي طارئ ضد حملة "إنديجو تقتل الأطفال". وبموجب مزاعم انتهاك حقوق الطبع والنشر، تم إصدار أوامر لشركات الاتصالات بتعليق جميع حركة المرور مؤقتًا إلى IndigoKillsKids.com قبل الدعوة الوطنية للاحتجاج على ارتباط بائع الكتب بـ HESEG. وإذا أصبح الأمر القضائي مستمرا، فإنه سيمثل ذلك بمثابة ضربة قوية للخطاب السياسي وحرية التعبير في كندا.

إن القطاع الثقافي يلعب دوراً مهماً في إضفاء الشرعية على بعض أشكال الخطاب، ونزع الشرعية عن أشكال أخرى. وكثيراً ما اختار الصهاينة الفنون كساحة معركة أيديولوجية لشن هذه الحرب ضد اللغة. إنها حرب شهدناها على مدى عقود عديدة، بدءًا من قتل إسرائيل للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وصولاً إلى ممارساتها في تدمير المكتبات والجامعات والأرشيفات، فيما وُصف بأنه "إبادة ثقافية".

لا يمكننا أن نتجاهل الدور الذي تلعبه الفنون في "السياسة" كقضية مجردة أو وجودية. ففي تورنتو، اتخذ نزع الشرعية عن الخطاب الفلسطيني والمؤيد للفلسطينيين أشكالاً عديدة، بما في ذلك طرد شخصيات بارزة، وأعمال الرقابة، والإلغاء والاعتقالات. وكانت هجمات إنديغو وجيلر على اللغة ذات عواقب مادية، وربما لا رجعة فيها. وعلى الرغم من إسقاط التهم الموجهة إلى أربعة من المعتقلين في إنديجو بعد أن قررت المحكمة أنه "لا توجد احتمالات معقولة للإدانة"، فقد فقد اثنان منهم على الأقل وظائفهما نتيجة للتشهير العلني الذي شنته الشرطة ووسائل الإعلام ضدهما. ويتحمل رايزمان ورابينوفيتش والمؤسسات التي يمثلانها المسؤولية عن تعريض حياة المعتقلين وسبل عيشهم للخطر، وإحداث الأذى المهني والنفسي والجسدي لأولئك الذين يحاولون إسكاتهم.

لكن كما يتضح من انسحابات جائزة جيلر، فإن هذه المؤسسات بحاجة إلينا—الكتاب والقراء—أكثر مما نحن بحاجة إليهم. يعكس مقاطعة جائزة جيلر ممارسة الكتاب لصوتهم واستغلالهم لجهودهم في خدمة فلسطين الحرة. إن المقاطعة هي تأكيد لسلطتنا وقوتنا كعمال ثقافيين، وليس فقط كمنتجي ثقافة.

لقد أظهرت إعلانات سكوتيا بنك الفصلية لعام 2024 تقليص حصتها في إلبيت إلى خمس ما كانت عليه في بداية العام. ويمثل هذا سحب ما يقرب من 400 مليون دولار من الأسهم، وهو أحد أكبر عمليات سحب الاستثمارات الأخيرة من آلة الحرب الإسرائيلية. وفي حين كان هناك معارضة على مستوى البلاد لاستثمار سكوتيا بنك في إلبيت، فإن العديد من الجهود الأكثر شهرة كانت مرتبطة بحملة "لا للأسلحة في الفنون"، والتي استخدمت رعاية سكوتيا بنك للفنون كسلاح ضدها. وقد استشهد الرئيس التنفيذي لشركة إلبيت بنفسه بهذا القصف السلبي للصحافة باعتباره سبب سحب سكوتيا بنك لاستثماراته.

ولنتذكر هنا أن قوتنا كفنانين ليست رمزية بحتة، بل مادية. فقد جردت المقاطعة بالفعل مؤسسة جيلر من أي ادعاء بالشرعية، على الرغم من استعداد بعض المرشحين للانشقاق عن الصفوف لحضور الحفل هذا العام. دعونا نرى مدى القوة الثقافية التي يستطيع جيلر ومديرها ورعاتها استخدامها عندما يتحول حفلهم إلى قاعة فارغة. قد يكون لديهم القائمة السوداء، لكن لدينا خط الاعتصام.

(انتهت)

***

...........................

الكاتب: مايكل دي فورج / Michael DeForge  مؤلف ورسام مقيم في تورنتو. ومن بين أعماله المنشورة كتاب "طيور ماين" و"السماء لا الجحيم". وهو أيضًا منظِّم لحملة "لا للأسلحة في الفنون" و"الكتّاب ضد الحرب على غزة".

 

كي نميز ما يحدث ببلاد الرّافدين، مِن عجائبَ وغرائبَ، نؤكد أنْ ما جاء في أهلها: «أهل العقول الصّحيحة والشّهوات الممدوحة، والشّمائل الموزونة، والبراعة في كلِّ صناعة»(المسعودي، التنبيه والإشراف)، قصد نخبة الأمس؛ النُخبة التي طفت ورسبت في بحر الزّمن، وعلى قلتها- طبيعة النخب ضئيلة العدد فائقة العِدة- كانت عنوان البلاد الأبرز، واليوم مع وجود أماثل، مِمَن قصدهم المسعودي(تـ: 346هـ) وغيره، إلا أنَّ عنوانها صار الرَّثاثة، وكأنَّ العِراق عَقم عن ولادة نخبة، يُنتصر بها للعقل؛ كالتي ذَكرنا.

نقول ما تقدم قصد النّخبة، الغائبة المغيبة اليوم، وإلا نجد في خطبة عبد الملك بن مروان(حكم: 65-86هـ)، وهو يستعد لمنازلة الأزارقة (فرقة متطرفة أباحت قتل أطفال المخالفين)، ما يعكس الصُّورة، في أزمنة الثَّورات والاضطرابات: «أيها النَّاس! إنَّ العِراق، قد تكدر ماؤها(وهي أم الرَّافدين)، وظهر جدبها، ملح عذبها، وبدا وميضها، وأشتد ضرامها، وكثر لهبها، وثار قتامها (السواد الحالك)، وعظم شررها، وعلا أمرها، وأبرق رعودها، وكثر وقودها، بحطبٍ حيٍّ، وجمر ذكي، ودخان وهي، وهؤلاء الأزارقة، الطُّغاة المارقة، قد أشتدت شوكتهم، وتفرقت جرثومتهم(أصلهم)»(ابن أعثم، كتاب الفتوح).

هنا، لا يحسبني القارئ اللَّبيب، بأنني مع عبد الملك، وضد الأزارقة، فاعلمُ أنَّ كلاً منهما «يُغنَّي على ليلاه»، إنَّما تعاملتُ مع النَّص شاهداً، مثله مثل بيت الشّعر، بعد عزله عن مناسبته، ومع الحدث كونه منسجماً مع ما نعيشه؛ هذا، ولا أرى الأزارقة لو استولوا، سيصلحون فساداً، والمثال أزارقة اليوم بماذا هتفوا، وماذا صنعوا؟

ما يحصل مِن طائفيّة غريبة، على التّاريخ الطائفيّ نفسه، لم تكن مِن أفعال السّلطة، فرؤساء الوزراء، ورؤساء الجمهوريَّة كافة، مِن 2003 حتّى يومنا- إلا ما تورط به أمين الدَّعوة الإسلاميَّة- لم يمارسوا خِطاب الكهوف، لكنَّ قوى الأزارقة وهي المتنفذه بسلاحها، صَبت جهودها لهدم الدّولة، ومازال الخارج فراشها ودثارها، فكم مِن قائد أزرقيّ، هدد رئيس وزراء ورئيس جمهوريّة، بعزل واغتيال.

نُفذت أحكام إعدام، بقتلة الحُسين(61هـ)، ثم نبش العباسيون الهاشميون قبور الأمويين (المسعوديّ، مروج الذَّهب) ثأراً له، وجاء البويهيون، وحكم الفاطميون، والصَّفويون، فالقاجاريون، والخمينيون، لم يبدع هؤلاء نصب محاكمات بأثر تاريخيّ؛ فمَن يُحكم عليه، مِن التّاريخ، لديه أدلته لإقامة محاكمات مضادة، فالزَّمن مبارزة بين غالب ومغلوب، وشاهدنا المحاكمات الثّوريّة، التي ينصبها المنتصرون، وبعد إزاحتهم تُنصب لهم. لكنّ الأفظع جهلاً أنْ تكون واحدة مِن المحاكمات درساً تطبيقاً في كلية مِن كليات القانون؛ بينما كان العراق مِن أول بلدان المنطقة بتعليم الحقوق(1908)، ثم تجددت بمحاكمة يزيد بن معاوية(تـ: 64هـ).

إذا كان مصدر نص الاتهام التاريخ المدون، وليس سواه، فالتاريخ دَونَ أيضاً: ابن الحُسين اقتنع أنَّ يزيدَ لم يتخذ قرار القتل، كذلك اقتنع أخو الحُسين محمد بن الحنفية(تـ: 81هـ)، بما كان بينه وبين يزيدَ من مراسلات مدونة(كتاب الفتوح).

نعتمد في ما تقدم على مؤرخ يبغض الأمويين، أحمد بن أعثم الكوفيّ( تـ: نحو314 هـ)، وكتابه «الفتوح»، تحدث عن منزلة ابن الحُسين السّجاد(تـ: 95هـ) عند يزيد، ففي اجتياح المدينة، حيث وقعة «الحَرة»(63هـ)، صارت داره ملجأً للمطلوبين، وبينهم أمويون كبار، حتى ولنا تشبيهها بدار أبي سفيان عند فتح مكة، وكذلك الحال مع ابن الحنفيَّة.

يثور السُّؤال: لماذا يحدث هذا بالعِراق اليوم، والمحاكمات تقصد مَن، إذا لم تقصد حرق الجيل الحاضر؟ والفعل فعل أمثال الأزارقة، الذين يتعاظم نفوذهم كلما جفت العقول وتحنطت، فليس مِن مصلحتهم مغادرة الماضي، لأنَّ في حوادثه أسواقاً وأرزاقاً.

أقول: ليت السُّلطة تأخذ بحماسة شاعر بني تميم: «اذَا الجَهلُ أَمسَى قاعِدًا لَم نَقُم بهِ/ ونَضرِبُ رأسَ الجَهلِ حِينَ يقُومُ»(كتاب الفتوح، والدُّر الفريد)، لا تنسحب هذا الانسحاب المريب.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كيف اظهر لنا "تاثير دانينغ-كروجر" ان الجهلاء ليس لديهم ادنى فكرة عن مدى جهلهم.

يتساءل الفيلسوف الشعبي البارز ويليام باوندستون William Poundstone عما اذا كنا نبالغ في القلق بشان زيادة الجهل.

في هذا المقال، يجادل باوندستون باننا ربما لا نبالغ.374 William Poundstone

 في فيلم حديث مثلت فيه ميريل ستريب دور امراة ثرية تدعي فلورنس فوستر جنكينز تعتقد انها مغنية موهوبة. كان الفيلم مستندا الى قصة حقيقية. كانت فلورنس فوستر جنكينز (1868-1944) عازفة بيانو معجزة في طفولتها، لدرجة انها قدمت عرضا في البيت الابيض للرئيس رذرفورد هايز. عندما اصبحت بالغة، حولت جنكينز اهتمامها الى الغناء الاوبرالي. بدات في تقديم حفلات خاصة في عام 1912، وكان غناؤها سيئا للغاية لدرجة انها اصبحت مشهورة في سن 44. وكان نخبة اعيان نيويورك يحضرون حفلاتها لمجرد سماع مدى فظاعة غنائها. كان غناء جنكينز الاوبرالي سيئ وغير متناسق ويشوه الكلمات الايطالية والالمانية.

هل يمكن ان تكون جنكينز غير مدركة لمدى سوء غنائها، او هل كانت تُدرك ذلك؟ لا يزال هذا موضع نقاش. من الواضح انها سمعت بعض جمهورها يضحكون عليها. اطلقت عليهم لقب الاوغاد والمحت الى انهم تم توظيفهم من قبل منافسين غيورين.

بلغت ادنى منزلة في مسيرتها المهنية في سن 76، عندما استخدمت ثروتها الكبيرة لحجز قاعة كارنيجي لاقامة اول حفلة عامة لها. حضر الحفلة مشاهير مثل كول بورتر وجيان كارلو مينوتي، وكيتي كارلايل. وكذلك حضر نقاد الفن في نيويورك، بسكاكينهم المشحوذة. كانت التعليقات الصحفية قاسية جدا. بعد يومين، اصيبت جنكينز بنوبة قلبية اثناء تسوقها لشراء نوتات موسيقية.

اليوم لدينا مصطلح لوصف سوء تقدير جنكينز لقدرتها الاوبرالية: تاثير دانينغ-كروجر.

سمي هذا التاثير على اسم عالم النفس في جامعة كورنيل ديفيد دانينغ وطالبه في الدراسات العليا انذاك جاستن كروجر، وهو يوضح ان الاشخاص غير الموهوبين، غير المهرة، او الجهلة يميلون الى الاعتقاد بانهم اكثر كفاءة بكثير مما هم عليه في الواقع. وبالتالي، يعتقد السائقون السيئون انهم سائقون جيدون، ويعتقد عازفو الغيتار المحليين انهم يمكن ان يكونوا نجوم روك، ويعتقد المليارديرية الذين لم يشغلوا منصبا عاما ابدا انهم سيكونون رؤساء رائعين. كم يمكن ان يكون الامر صعبا؟

وصل دانينغ الى هذه النتيجة من خلال قصة غريبة مثل قصة جنكينز. في 19 ابريل 1995، سرق ماك ارثر ويلر مصرفين في بيتسبرغ في وضح النهار. لم يكن لص بنك نموذجي، بدءا من حقيقة انه كان طوله 167 سم  ووزنه 122 كيلوغراما. لم يرتد قناعا، والتقطت كاميرات الامان صورا جيدة لوجهه. اطلقت الشرطة اللقطات على الاخبار المحلية، وجاء تبليغ على الفور. بعد منتصف الليل بقليل، القت الشرطة القبض على ويلر في منزله في ضواحي المدينة.

"لكنني وضعت العصير على وجهي"، قال ويلر.

اوضح ويلر انه كان يعلم ان عصير الليمون يستخدم كحبر غير مرئي. لذلك، فان وضع عصير الليمون على وجهه سيجعله غير مرئي.

قال انه جربها! قبل السرقة، وضع ويلر عصير الليمون على وجهه والتقط صورة سيلفي بكاميرا بولارويد. لم يرى وجهه في الصورة، اصر على ذلك. يبدو ان ويلر لم يكن اكثر كفاءة في التصوير الفوتوغرافي من السرقة.

عيب اخر لعصير الليمون هو انه كان يلسع عيني ويلر. بالكاد كان يستطيع رؤية الصرافين في البنك، رغم انهم كانوا يرونه.

جعلت مغامرة ويلر كميزة لاغبى المجرمين في العالم. لفتت تلك المقالة انتباه عالم النفس دانينغ. راى شيئا عالميا فيها: "الشخص الغبي الواثق من نفسه هو شخص قابلناه جميعا". لذلك بدا هو وكروجر في محاولة توثيق هذا.

في احدى دراساتهم، ذهبوا الى مسابقة اطلاق النار على الاطباق الطائرة وطلبوا من عشاق الاسلحة اخذ اختبار سلامة الاسلحة النارية الذي اعدته الجمعية الوطنية للبنادق. بعد الاختبار، ولكن قبل معرفة نتيجتهم، طُلب من مالكي الاسلحة ايضا تقدير مدى ادائهم مقارنة بالاخرين.

من المدهش ان اولئك الذين حصلوا على اسوا الدرجات في الاختبار اعتقدوا انهم ادوا اداءا جيدا، افضل من حوالي ثلثي الذين تم اختبارهم. اما الذين حصلوا على اعلى الدرجات فكان لديهم فكرة اكثر واقعية عن مستواهم، رغم انهم كانوا يميلون الى التقليل من تقدير درجاتهم.

وفي دراسة اخرى اختبر علماء النفس طلاب جامعة كورنيل في مواضيع تتراوح من القواعد الى المنطق الى الفكاهة. طلب اختبار الفكاهة من المشاركين تقييم مدى طرافة النكتة من مثالين:

الاول: ما هو الشيء الذي بحجم رجل ولكنه لا يزن شيئا؟ الجواب ظله.

الثاني: سال طفل من اين ياتي المطر؟ الجواب هو ان “الله يبكي”. سال الطفل لماذا يبكي الله، والجواب  هو “ربما بسبب شيء سيئ فعلته”.

يتفق معظم الناس على ان المثال الاول ليس مضحكا، بينما الثاني (وهو مقتبس عن كاتب الكوميديا التلفزيونية جاك هاندي) يعتبر رائعا. ولكن هناك شريحة من السكان غير قادرة على التمييز بينهما. اعتقدت المجموعة التي تفتقر الى حس الفكاهة انها افضل من معظم الناس في الحكم على ما هو مضحك.

نشر دانينغ وكروجر نتائجهما في ورقة بحثية عام 1999 بعنوان لا يُنسى: "جاهل وغير مدرك لذلك: كيف تؤدي الصعوبات في التعرف على عدم كفاءة المرء الى تقييمات ذاتية مبالغ فيها". منذ ذلك الحين اصبح ذلك جزءا من لغة علم النفس بل ومن الانترنت. جون كليز (وهو كوميدي مشهور) يعرف دانينغ شخصيا، قام بعمل فيديو على يوتيوب يشرح التاثير في 60 ثانية. يوضح كليز: "اذا كنت غير جيد تماما في شيء ما، فانك تفتقر بالضبط الى المهارات التي تحتاجها لتعرف انك غير جيد تماما فيه. وهذا ينطبق ليس على هوليوود فقط ولكن تقريبا على كامل قناة فوكس نيوز".

كما ينطبق على فلورنس فوستر جنكينز، المغنية ذات الصوت النشاز لكونها غير قادرة بطبيعتها على ادراك لماذا يختلف غناؤها عن غناء المواهب التقليدية. في الواقع، اصرت جنكينز على انها تساوي اعظم نجوم يومها. كانت غالبا ما تؤدي اكثر الاغاني تطلبا وصعوبة. لو كانت لديها فهم افضل للتفاصيل التقنية، ربما كانت ستختار مجموعة اغاني اكثر ملاءمة لقدراتها، مهما كانت.

يرسم المنحنى البياني لدانينغ-كروجر الثقة مقابل الكفاءة.

يقدم درسا واضحا: القليل من المعرفة شيء خطير.

عندما لا يكون لديك اي معرفة او خبرة على الاطلاق في مجال معين، يكون من السهل عادةً التعرف على حدودك. لم المس كمانا في حياتي، لذا لا اتوقع ان التقط واحدا وابدا في العزف. ثقتي في قدرتي هي بشكل صحيح صفر. وبالمثل، كما ذكر دانينغ وكروجر في ورقتهم البحثية عام 1999، "معظم الناس ليس لديهم مشكلة في تحديد عدم قدرتهم على ترجمة الامثال من اللغة السلوفينية، او اعادة بناء محرك V-8 (نوع من محركات الاحتراق الداخلي) او تشخيص التهاب الدماغ الحاد".

لكن اولئك الذين لديهم القليل من المعرفة او الخبرة غالبا ما يعتقدون انهم يعرفون كل شيء. هذا يفسر الصعود الحاد في اقصى يسار الرسم البياني وبلوغ القمة العالية. ستكون فلورنس فوستر جنكينز وماك ارثر ويلر في مكان ما بالقرب من قمة المنحنى.

اولئك الذين لديهم الكثير من الموهبة او الخبرة يكونون اكثر قدرة على فهم حدودهم. يعرفون ما لا يعرفونه، يفهمون اين تفتقر مجموعة مهاراتهم. يقدرون كيف ان الاخرين افضل حقا في بعض الاشياء منهم. تصل مستويات الثقة الى الحد الادنى، في وسط الرسم البياني.

اخيرا، اولئك الذين هم خبراء حقيقيون يعرفون انهم جيدون. يميل المنحنى صعودا الى اليمين. اولئك الذين في مستوى ماريا كالاس (من اشهر مغنيات الاوبرا في القرن العشرين) يدركون خبرتهم - رغم انهم لا يمتلكون بالضرورة الثقة المطلقة التي يمتلكها الجاهل. العبقري يدرك عيوبه، حتى لو لم يلاحظها الجميع. قلة من المستمعين مؤهلون لادراك ان كانت ماريا كالاس قد اخطات قليلا في غنائها.

من السهل السخرية من الثقة الزائدة لدى غير الموهوبين. لكن القيام بذلك هو تفويت الرسالة المزعجة لابحاث دانينغ وكروجر. في عام 2003، كتبوا ان البحث "يثير التساؤل عما اذا كان الناس، او يمكن ان يكونوا، في وضع يمكنهم من تكوين انطباعات دقيقة عن انفسهم. اذا لم يكن لدى الافراد غير الاكفاء المهارات اللازمة لتحقيق البصيرة في محنتهم، فكيف يمكن توقع ان يحققوا رؤى ذاتية دقيقة؟ كيف يمكن لاي شخص ان يكون متاكدا من انه ليس في نفس الموقف؟"

لكي تحصل على الجواب الصحيح لابد ان يكون لديك شبكة اجتماعية مستعدة لقول الحقيقة. كانت فلورنس جنكينز معزولة عن واقع عدم كفاءتها بسبب محبة زوجها، ومدرب صوتها. ولم يطلب سارق المصارف ماك ويلر الراي بطريقته لاخفاء وجهه. العلاج، اذن، يجب ان يكون بسيطا: تجنب الممكّنين والموافقين (اللوكية)، اسال اصدقاء يمكنهم ان يكونوا صادقين بقسوة، اقرا التعليقات حولك، عبر الانترنت وغيرها.

هذه ليست وصفة سيئة، لكنها ايضا ليست علاجا شاملا. فمثلا، كره النقاد عرض الباليه لسترافينسكي "طقوس الربيع" في ادائه الاول. وشكك المجتمع العلمي في امكانية الطيران بجسم اثقل من الهواء. ولم يستطع اينشتاين الشاب الحصول على وظيفة تدريس، ولم يهتم احد كثيرا بما كان يفعله فان كوخ باستثناء شقيقه المحب. قد لا يتعرف الاصدقاء والنقاد على العبقرية الحقيقية، في حال امتلاكها.

قد لا تحمل اوهاما حول قدرتك على اداء متفوق. ومع ذلك، في السيرة الذاتية التراجيدية الكوميدية للحياة، نعاني جميعا من اوهام الكفاءة، بطرق صغيرة وكبيرة.

تاثير دانينغ-كروجر ليس حالة مرضية - انه الحالة الانسانية.

***

..........................

* مترجم عن الاندبندنت البريطانية

* اخيرا، سؤال يهمنا جميعا:

كم في مجتمعنا وخاصة بين صفوف القادة السياسيين والطبقة الحاكمة من تنطبق عليه صفات المغنية فلورنس جنكينز وسارق المصارف ماك ويلر؟

 

ترجمة: عزام محمد مكي

***

هذه ترجمة: لكلمة القاها شاب ايرلندي يعيش في مانشستر (يصف نفسه كجمهوري ايرلندي).  تعرفت على الشاب من خلال المشاركة في التظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني التي تنظم في مركز المدينة في يوم السبت من كل اسبوع منذ تشرين الاول 2023، بالاضافة الى التظاهرات المناطقية. من خلاله تعرفت على الخيط الذي يوثق تضامن جماهير نادي السلتيك في غلاسكو، كجزء من تضامن الجماهير الايرلندية مع نضال الشعب الفلسطيني.

بمناسبة بدء مباريات كرة القدم في غلاسكو لهذا الموسم، دعى هذا الشاب الى تجمع تضامني مع الشعب الفلسطيني. وقد حضرالى هذا التجمع عدد كبير من المتظامنين. واما هذا التجمع القى هذا الشاب كلمة القت الضوء على الرابطة النضالية للشعب الايرلندي مع الشعب الفلسطيني.

 ***

يمكنهم قمعكم، يمكنهم سجنكم. لكنهم لن يكسروا روحكم أبدًا.

غزة، طولكرم، نابلس ....لن تمشون وحدكم أبدًا

(ترجمة للشعارات التي ترفعها جماهير النادي)

نادي السلتيك لكرة القدم: لقد تم تأسيس نادي السلتيك في مدينة غلاسكو (سكوتلندا) من قبل المهاجرين من أجل المهاجرين. وهم الناجون من الإبادة الجماعية التي خطط لها البريطانيون... من عام 1845 إلى عام 1852، حيث قُتل ثلث سكان أيرلندا، ونُقل ثلث آخر إلى أستراليا الاستعمارية، أو على متن سفن نقل الجثث إلى أمريكا أو فروا على متن قوارب نقل الماشية إلى بريطانيا.

لم تكن هناك حاجة لذلك. فقد تم شحن آلاف الأطنان من الحبوب والماشية إلى بريطانيا بينما كان الملايين يتضورون جوعاً. ولم يتم تقديم أي إغاثة.  ولم تصل أي مساعدة لأمثالنا. وادعى ملاك الأراضي والأرستقراطيون الغائبون، الذين لم تطأ أقدام معظمهم أرض أيرلندا قط، "حقهم الممنوح من الله" في غنائمهم الاستعمارية وثمار الإمبراطورية.

إنها صورة تكررت في مختلف أنحاء العالم.  العبيد السود في أفريقيا، والسكر والروم في منطقة البحر الكاريبي، والقطن الذي كان يُرسل من العبيد في أميركا إلى الهند لإنتاج الأفيون، ثم إلى الصين، وكل هذا من أجل الشاي والفضة.

كانت أيرلندا بمثابة الوقود الذي يغذي أفران الدم في الصناعة. الرجال والنساء والأطفال. المناجم والمطاحن والعمل لمدة 18 ساعة، مقابل ما يكفي من الخبز لإبقائهم على قيد الحياة حتى يتم العثور على بديل.

في الطرف الشرقي من غلاسكو كانت الأحياء الفقيرة الكاثوليكية الأيرلندية مروعة.

ولكن وفي عام 1887، شرع الأخ ويلفريد، وهو قس كاثوليكي، في إحداث تغيير. فقد تأسس نادي سلتيك لكرة القدم بهدف واحد: استخدام الأموال من مبيعات التذاكر لإطعام الجوعى والأطفال والعاطلين عن العمل.

بعد مرور أكثر من مائة عام، ها نحن ذا، ولا تزال نفس الروح الإنسانية حية حتى يومنا هذا.

لا تزال أيرلندا غير حرة. ولا تزال هناك ست مقاطعات تحت الحكم البريطاني الاستعماري، ولا يزال نضالنا من أجل التحرير مستمرًا. ومع ذلك، فإننا كمشجعين لنادي سلتيك نرفض أن نغض الطرف عن أولئك الذين يعانون تحت نير الحكم الأجنبي والتطهير العرقي. إن تحرير فلسطين يحتل الصدارة في أذهان كل مشجعي سلتيك.

أتذكر الاقتباس الشهير لأسطورة نادي السلتيك تومي بيرنز الذي قال: "إنه أكثر من مجرد فريق كرة قدم، إنهم يلعبون من أجل قضية، من أجل شعب".

هذه القضية هي قضية أيرلندا وقضية فلسطين أيضًا، وهي قضية كل المجموعات والشعوب المضطهدة في العالم.

في عام 2016، واجهنا في دوري الأبطال فريقًا فظيعًا من إسرائيل. وبدلاً من التطبيع مع الهمجية، دافع مشجعوا نادي السلتيك عن مبادئنا وغطوا ملعب نادي السلتيك ببحر من أعلام فلسطين كما فعلوا مرات عديدة.

وعلى اثر ذلك فرض الاتحاد الأوروبي لكرة القدم غرامة على النادي قدرها 8600 جنيه إسترليني. مصمما على عدم الخضوع للإسكات، اطلق الفريق الأخضر حملة "ادفع الغرامة من أجل فلسطين".  وبعيداً عن دفع الغرامة فقط، نجح مشجعوا نادي السلتيك، ومن خلال تبرعات صغيرة من الناس العاديين، في جمع مبلغ مذهل قدره 176 ألف جنيه إسترليني لصالح الجمعيات الخيرية في فلسطين.

تم تقسيم الأموال بين مؤسسة المعونة الطبية لفلسطين ومركز عايدة الرياضي في بيت لحم. ومن خلال نفس روح الخير التي شكلت نادينا، ولد فريق جديد: عايدة سلتيك أو لاجي سلتيك كما يُعرف الآن.

إن هؤلاء الأطفال في الضفة الغربية، الذين يعيشون كل يوم تحت المراقبة العسكرية المستمرة، والمضايقات، والمداهمات الليلية للمنازل، والاعتقال التعسفي، والغاز المسيل للدموع، وإطلاق الذخيرة الحية - كل هذا يعرفه الشعب الأيرلندي جيداً.

ومع ذلك، ورغم كل الرعب والمعاناة التي تحيط بهم، فإن كرة القدم تمنحهم فرصة للتحرر من هذا الواقع. فهي تعيد إليهم إنسانيتهم وحريتهم التي حرمتهم منها سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية ـ ولو لبضع ساعات في الأسبوع.

نسمع دائمًا عن السلبيات في كرة القدم، لكننا نادرًا ما نسمع عن قدرتها على أن تكون قوة للتغيير، وقوة للخير، وقوة للمقاومة والتحرر.

بالاستفادة من تجربتنا التاريخية المشتركة، في أيرلندا وفلسطين، يمكننا أن نتعاون معًا لإحداث الفارق.

إن التضامن هو فعل بسيط من أفعال المقاومة التي يمكننا جميعًا القيام بها. فمجرد التواجد هنا اليوم، وارتداء اللونين الأخضر والأبيض، والتلويح بالعلم بفخر، يحدث فرقًا لا يصدق. ولهذا السبب يكرهوننا. بغض النظر عما تقوله الحيوانات، وبغض النظر عما يفعله هؤلاء البرابرة على أرض الملعب اليوم، فإننا نعلم أننا نضع أنفسنا على الجانب الصحيح من التاريخ.

***

 

قدم الطلبة في العالم، لا سيما في الجامعات الامريكية مبادرات ملفتة للانتباه، ومتواصلة مع الغضب الشعبي العام، في الولايات المتحدة الامريكية، وفي العواصم والمدن العالمية ووضعوا في حراكهم الاجتماعي والسياسي والاخلاقي العالم امام حقائق ووقائع ملموسة وضاغطة، عاكسين، دورهم المعهود، وقدراتهم الميدانية في التاثير والتغيير.

ما ابرزه الطلبة تعبيرا عن طوفان واقعي وامتداد فعلي، من جامعات امريكا الرئيسية، وامتداده عالميا. في مغرب الكرة الارضية ومشرقها، ورسم هذا الطوفان بوضوح ووعي اشعاعات طوفان الأقصى وتحولات الارادة الانسانية في قراءة المتغيرات والتحولات والمهمات المطلوبة. فقد كانت طبيعة التظاهرات والحراك العام إثباتا لحقائق تاريخية وفهما متقدما لقضية شعب ووطن وحقوق عادلة، بخلاف السردية الصهيونية الشائعة بقوة المال والاعلام والقمع والتضليل والتشويه وكي الوعي. ولهذا انشغلت الإدارات الامبريالية الحاكمة والمتخاصمين معها وادواتها الوظيفية في التصدي لهذا الحراك المتصاعد ومارست عليه شتى اشكال القمع والتهديد والارهاب، سواء من اعلى السلطات المتحكمة او الادارات الجامعية التابعة والمتخاذلة، وكشفت الصور التي نقلتها الفضائيات العالمية حقيقة إزدواجية المعايير في إحترام القوانين الدولية وحقوق الانسان والمواثيق والاتفاقيات الدولية الموقعة او المقترحة منها.

عمت تظاهرات الغضب الشعبي العالم بعد طوفان الأقصى، وتصاعدت مع استمرار سياسات الاحتلال الصهيو امريكي في الابادة الجماعية والتهجير والقتل والارهاب الممنهج والتدمير المبرمج، حيث اثارت هذه السياسات الاجرامية والانتهاكات الصارخة الضمير الانساني الشعبي، وشرائح المجتمعات الغربية والشرقية عموما، ولاسيما الطلاب في الجامعات والمعاهد الاكاديمية، ودفعتهم لاخذ مواقف سياسية مؤيدة  للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والعادلة ورفض ممارسات  النازفاشية (النازية/ الفاشية) التي تشنها الامبرياليات الغربية وقاعدتها الإستراتيجية العسكرية المحتلة لفلسطين.

ملحمة طوفان الأقصى بدات في السابع من تشرين الاول/ اكتوبر 2023 وطوفان الطلبة، باسمهم كطلبة في حرم جامعاتهم، سجلت انطلاقته في 17 نيسان/ابريل 2024، حين بدأ طلاب جامعة كولومبيا في نيويورك اعتصاماً بحرم الجامعة، رفضا للعدوان على غزة، ومطالبة إدارة الجامعة بوقف تعاونها الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية وسحب استثماراتها في شركات تدعم احتلال الأراضي الفلسطينية. ولعبت سياسات القمع والارهاب الحكومية والادارية التي استدعت تدخل القوى الامنية واعتقال عشرات الطلاب، وقعها في توسيع حالة الغضب وامتداد التظاهرات إلى عشرات الجامعات الأميركية، مثل هارفارد، وجورج واشنطن، ونيويورك، وييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ونورث كارولينا. ولاحقاً، وبالموازاة معه، اتسع الحراك الطلابي غير المسبوق لدعم فلسطين بالولايات المتحدة إلى جامعات ومعاهد في دول مثل كندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسويد والدانمارك والنرويج وسويسرا وهولندا واليونان والارجنتين والمكسيك والهند واندونيسيا واستراليا وجنوب افريقيا، وغيرها في انحاء المعمورة، شهدت جميعها تظاهرات داعمة لنظيراتها الأميركية ومطالباتها بوقف الحرب على غزة ومقاطعة الشركات التي تزود الكيان الاسرائيلي بالأسلحة او تتعاون مع مؤسساته.

فرض طوفان الطلبة منذ انطلاقته اصراره على مطالبه التي ووجهت رغم سلميته  بالعنف المفرط من قبل الاجهزة الامنية وادارات بعض الجامعات في بعض الحالات مثل جامعة كولومبيا وجامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلس ودالاس ـ تكساس وغيرها الكثير. واستخدمت الغازات المسيلة للدموع في اكثر من جامعة وكلية، وهو أمر غير مسبوق، واعتقل أكثر من 2200 طالب وطالبة في بقية الجامعات، خاصة في نيويورك، في الاشهر الاولى للطوفان، وشمل العنف الأساتذة، نساء ورجالا، ونقلت الفضائيات مشهد اعتقال أستاذة في جامعة إيموري في اتلانتا جورجيا بصورة عنيفة، اذ تشارك شرطيان لإخضاعها وهي تصرخ بهم «أنا بروفيسورة» مما تركت أثرا كبيرا على تحرك الطلاب، وتوسع الاحتجاج والارتباطات التضامنية المهنية بين العديد من منظمات الأساتذة والطلاب، بكل عناوينها وتشكيلاتها.

كما لفت الطوفان مشاركة طلبة من الديانة اليهودية فيه، اضافة الى شخصيات أكاديمية وسياسية ودينية معروفة في المشهد السياسي الامريكي والعالمي، وشارك هؤلاء الطلبة في مظاهرات المدن المنتظمة ايضا خارج حرم الجامعات، كاقتحام الكونغرس ومحطات القطارات وتمثال الحرية والمطارات، بشعارات تعرف بهم مؤيدة للقضية الفلسطينية وضد الحرب والعدوان والابادة الجماعية والتهجير المنظم والدموي. وهو ما طرح فهما جديدا ومواقف مهمة في اختراق العقلية والسردية الصهيونية ورد ملموس، عليها وعلى جرائم الحرب والابادة التي ترتكبها الامبريالية وقاعدتها ضد الشعب الفلسطيني والوطن العربي.

وما اكده الطوفان مع تصاعد الحراكات الاحتجاجية والاعتصامات في حرم الجامعات رفع العلم الفلسطيني على سارية طويلة وسط الحرم، مع رفع العلم الفلسطيني ولبس الكوفية الفلسطينية، كرمزين احتجاجيتين لاغلب المشاركين، ونصب الخيام والاعتصام في الحرم الجامعي او بالقرب من بنايات الجامعات او اداراتها، تنديدا باستمرار العدوان الوحشي على غزة  ومماطلة بعض إدارات الجامعات في تلبية المطالب الداعية الى وقف الاستثمارات في الكيان المحتل وقطع العلاقات والتعاون مع الجامعات فيه. وبديهي تتعالى الهتافات المؤيدة للقضية الفلسطينية اثناء رفع العلم الفلسطيني والتلويح بنموذجه والكوفية في تحد ومواجهة مكشوفة وصمود كفاحي معبر عن وعي ثوري وجهادية شبابية كاملة، ورفع شعارات مركزية، تدعو الى الحرية لفلسطين، ووقف الحرب فورا، وفلسطين حرة من البحر الى النهر، ومنع تصدير الاسلحة وإدانة الممارسات النازفاشية. وتكررت هذه الاحتجاجات حتى في حفلات التخرج الاكاديمية وفي كلمات الطلبة المتفوقين في دراساتهم، داخل قاعات الاحتفال وخارجها، باشكال لفتت الانتباه الى ثقافة جديدة، يتمتع بها طلبة الجامعات، من مختلف التكوينات الاجتماعية والتيارات الثقافية والفكرية.

في هذا الزخم الكفاحي امتد طوفان الطلبة في اغلب الجامعات الامريكية، في اكثر من 120 جامعة في اغلب التقديرات الاعلامية والتي تركت اثرها عالميا وحركت في اساليبها ومطالبتها وعي الطلبة الجديد بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، رغم الاعتقالات والعنف المتوحش من قبل القوى الامنية وبعض الادارات الجامعية وانتهاكها للاعراف الجامعية وحقوق التعبير المنصوص عليها في الدستور الامريكي، وفي اغلب الدول التي مارست تلك السياسات الارهابية الرسمية.

انتقال صورة الحراكات الاحتجاجية واساليبها وشعاراتها داخل الجامعات وفي اغلب الدول، غربا وشرقا على هذه المعمورة، من الولايات المتحدة الى استراليا واليابان، مرورا بالدول الاوربية والدول الأفريقية والآسيوية والامريكية الجنوبية، اعاد وهج القضية الفلسطينية وعرّف بعلمها وكوفية الشعب الفلسطيني وتاريخ كفاحها من اجل التحرر والاستقلال والسيادة الوطنية. وبيّن مشروعية حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة تحرره وعودة المهجرين لوطنهم وبناء الدولة الوطنية المستقلة من البحر الى النهر، كما رفع بالشعارات والبوسترات، في كل الحراكات الاحتجاجية في ذلك الطوفان العالمي.

عكس هذا الطوفان الطلابي والشعارات والمطالب التي رفعها، والقائمون  به، والمتصدون بصلابة لسياسات الحكومات القمعية وعنفها الفاقع، واستمراره في الاحتجاج والإدانة المتواصلة للحرب والاجرام والابادة والتهجير والتدمير، عكس  صورة وعي جديد، صحوة عالمية بلا حدود، انسانية النزوع، وارادة جامعة لاجيال جديدة تدخل معترك العمل السياسي والكفاح الانساني من اجل عدالة القضايا المشروعة للشعوب، وابرزها اليوم، الشعب الفلسطيني، وعزل السياسات الاستعمارية وادواتها العدوانية وسرديتها المخادعة والقائمة على التضليل وتزوير التاريخ وقلب الحقائق وتشويه الوعي فيها. وفي الوقت نفسه قدم هذا الطوفان في استمراره، وامتداداته العالمية، ردا نضاليا لعدالة القضية الفلسطينية ومشروعية حقوق الشعب الفلسطيني ومقاومته بكل اساليبها واشكالها.

اثبت طوفان الطلبة العالمي عمليا انطلاقه من اشعاعات طوفان الاقصى ومن ارتداداته وانعكاساتها ثقافيا وفكريا ومبادرات نابعة من صحوة الضمير الانساني، والالتزام الأخلاقي والمبدأي من ابناء وبنات القضية الفلسطينية والمتضامنين معها، من العرب والمسلمين، ومن احرار العالم من كل الجنسيات والاديان والتيارات الفكرية والسياسية والثقافية، وهو ما يذكر او يسجل موقفا تاريخيا وتواصلا بالكفاح الوطني التحرري العالمي.

***

د. كاظم الموسوي

السير آرنولد ولسن قطب الاستعمار البريطاني الكبير الذي كان يعارض استقلال العراق وتأسيس الحكم الوطني فيه والذي اصبح بمنصب وكيل الحاكم المدني العام فيه بعد الإحتلال البريطاني ذكر في كتابه المشهور (ولاءات بلاد ما بين النهرين) بمناسبة وفاة الجنرال مود ما يلي: وكان مثله كمثل الاسكندر الكبير توفي في بابل سنة 323 ق.م. والأمبراطور الروماني (جوليان) الذي مات سامراء سنة 363 م حيث إنه استولى على أرض العراق الناكرة للجميل فأصبح فريسة لها..).

ايها (السير) لو كنت حاضراً بيننا الآن لقلنا لك ما هو الجميل الذي قدمه هؤلاء لبلاد الرافدين؟ إنهم دنسوا الأرض وعاثوا في الأرض فساداً لهذا رفضتهم الأرض وحاربتهم الأقدار فسقطوا صرعى على هذه الأرض الوفية لإبناءها ومحبيها وعشاقها، ولقلنا ولقلنا الشيء الكثير لكنك سقطت أنت الآخر صريعاً عندما تطوعت في سلاح الجو البريطاني إثناء الحرب العالمية الثانية وسقطت بك الطائرة قي سماء لندن فتحولت إلى رماد منثور.

فكل العالم يعرف إن بلاد النهرين هي هذه الأرض المباركة والتي أمتدت حضارتها في طول التاريخ وعرضه وذكر سهلها الرسوبي الخصيب في التوراة بأسم (سهل شنعار) وهي بلاد بابل وآشور وموطن نوح والنبي يونس ومسقط رأس إبراهيم الخليل حيث ولد في مدينة (إور) وهي المكان الذي أنشأ نبوخذنصر فيه الجنائن المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، وهي الأرض التي يجري فيها الفرات ودجلة الذي ورد أسمه في التوراة بأسم (حديقيل) ويعني هذا الاسم (السهم) لسرعة جريانه، وبعد هذا كله فهي تضم بغداد عاصمة البلاد ومدينة الأف ليلة وليلة، وكعبة العلم والمعرفة طوال العصر العباسي الذي أمتد أكثر (500) سنة.

لقد جابت جيوش الأسكندر الكبير الأرض غرباً وشرقاً حتى دخل بلاد الهند ووصل إلى تخوم الصين ثم عاد إدارجه إلى بابل وأتخذها عاصمة لإمبراطوريته حيث أختارها لإنها كانت تضاهي (روما) في جمالها وعظمتها وكان إحتلاله عام 331 ق.م.

توفي الإسكندر في بابل إلا إن الروايات التاريخية اليونانية تختلف في سبب وفاته فمنها من قال إنه مات مسموماً من قبل رفاقه إثناء حفلة للشرب، إلا إن المصادر البابلية تقول إنه كانة يشكو من داء (البرداء) وهو (الملاريا) حيث أخذت الحمى تدب في أوصاله بدون إنقطاع وتذكر هذه الروايات إنه كان يكثر من الذهاب إلى نهر الفرات لغرض الإستحمام في مياهه ولكن دون جدوى حيث أخذت درجة حرارة جسمه في الإرتفاع الشديد حتى فقد القدرة على الحركة والكلام وكانت وفاته عام 323 ق.م. وقد أكدت المصادر اليونانية ذلك حين ذكرت بإن سبب وفاة الأسكندر هي إنه تعرض إلى لدغة بعوضة سببت إصابته بمرض الملاريا ولم يتعرض إلى مؤامرة – بحسب ما نسميه اليوم بنظرية المؤامرة.

وهكذا مات أعظم فاتح في التاريخ القديم بلدغة بعوضة (بابلية) باسلة هدت ذلك الجسد الشبابي المفتول العضلات وجعلته جثة هامدة.

بعد إحتلاله لبابل قال الأسكندر (إن الدخول إلى بابل سهل ولكن الخروج منها صعب...) فخرج منها محمولاً في تابوت من ذهب، لقد أوصى قبل وفاته  بأن يكفن ثم يوضع في تابوت من ذهب ويدفن في الأسكندرية وكان له ما أراد.

فاتح أخر هذه المرة رومي الوجه واليد واللسان غزا بلاد الرافدين هو (يولياس) كما يسميه الرومان و(يوليان) كما نسميه نحن عاش بين 331 – 363 م وهو أبن أخت الإمبراطور قسطنطين الكبير أول إمبراطور روماني أعتنق المحسيحية، اصبح (يوليوس) إمبراطوراً عام 361 م إلا إنه جحد المسيحية وشجع الوثنية فسماه الروم (يوليوس) الجاحد أو المرتد. غزا هذا المرتد بلاد الرافدين عام 363 م بعد أن إجتاز آسيا الصغرى  وبلاد الشام حتى وصل إلى موقع مدينة سامراء الحالي وكان غزه للعراق أبان حكم الملك الفارسي (سابور بن أدشير) وجاء إلى العراق في جيوش لا يحصى عددهم ولم يكن لسابور حيلة في دفعه ولقائه لمفاجأته أياه فانصرف سابور عن اللقاء إلى الحيلة، كما جاء في مروج الذهب للمسعودي (ج.1)، وبينما كان يولياس يسير على ضفاف نهر دجلة وقد تملكه الغرور وأحاطت به العظمة من جميع جوانبه جاءه سهم من يد فارس نصراني كان قد حقد عليه لإرتداده عن المسيحية فاصابه وقد قال إثناء أصابته (... لقد غلبتني أيها الجليلي ترث مع ملك السماء ملك الأرض أيضاً) مشيراً إلى السيد المسيح بهذا القول. ثم لفظ إنفاسه الأخيرة على ضفاف نهر دجلة حيث غسلت موجاته ومياه دجلة تربة بلاد النهرين من دنس هذا الوغد الرومي الجاحد.

وما كان ستانلي مود (1864-1917) بأخر غزاة بلاد ما بين النهرين ولم تكن نهايته أحسن من نهاية من سبقوه من الغزاة كالأسكندر المقدوني ويولياس فقط مزقت الكوليرا امعاءه ونزف ما في جوفه من أحقاد قديمة تجاه شعب وحضارة العراق إنها النهاية الحتمية لكل الغزاة والطامعين من قبله فهكذا انتهى جنكيز خان ونيرون وهولاكو وهتلر وصدام حسين. لقد رسم القدر المحتوم نهاية مود حين دعاه زعماء من يهود بغداد الذين رحبوا بدخول القوات البريطانية الغازية إلى بغداد واعربوا عن فرحهم بزوال الحكم العثماني بسبب الإضطهاد الأتراك لهم خلال فترة حكمهم فأطلقوا على الإنكليزي أسم (أبو ناجي). وقد لبى الجنرال ستانلي مود هذه الدعوة وحضر الإحتفال الذي أقامته مدرسة الليسانس الإسرائيلية في بغداد والذي اقيم في يوم 14/11/1917 وتناول إثناء الحفل هذا قدحاً من الحليب الممزوج مع الشاي ويبدو إنه كان ملوثاً ومن يومها أصيب مود يمرض الهيضة (الكوليرا) ولم يمهله المرض غير أيام معدودة فلفظ أنفاسه الأخيرة في يوم 18/11/1917 بحسب ما جاء في التحقيق الذي أجرته سلطات الإحتلال البريطاني في بغداد.

ستانلي مود صاحب المنشور الشهير الذي إلقته طائرته على أهالي بغداد إثناء الإحتلال قائلاً (حنجن جئنا محررين ولسنا فاتحين). ولكن بعد أيام ظهر زيف ادعاءه. هذا الغازي اعتبر من كبار الفاتحين وكانت سلطات الإحتلال قد جمعت من كبار التجار ووجهاء بغداد مبالغ من المال لإنشاء تمثال له بإعتباره (فاتح بغداد) وقد أقيم التمثال بالقرب من السفارة البريطانية في بغداد وبقى قائماً يتحدى مشاعر العراقيين حتى قيام ثورة 14 تموز المجيدة 1958 حيث هاجته الجماهير الثائرة وأزالته من الوجود.

وهكذا غسلت مياه دجلة والفرات آثار اقدام الغزاة مهما تجبروا وطالت أعمارهم وثقلت وطئتهم على أرضه، فقد أنتهوا بوثبة من وثبات الشعب المباركة.. ولكن هل يتعظ السلطان العثماني أوردغان الأول بدروس التاريخ هذه ويتجنب مصير أسلافه الغزاة والفاتحين الذين سقطوا كالذباب تحت أقدام شعب بلاد ما بين النهرين؟

***

غريب دوحي

لم تذكر التَّواريخ، ولا معاجمُ اللُّغة وقواميسها القديمة، أسماء الأرقام ما بعد الألف. لم يكن المليون معروفاً، ولا المليار، ناهيك عن التريليون. كان أفضل مَن توسع بتدوين الحسابات هلال بن المُحسن الصَّابيّ(359-448 هج)، في «رسوم دار الخلافة». زاد الكتاب فائدةً محققُه الحَصيف ميخائيل عواد(ت: 1996)، شكل وشقيقه كوركيس(ت: 1993) ثنائياً علمياً، وكم مِن النّوادر خرجت بتحقيقهما.

أتى الصَّابيّ على تفاصيل رواتب الموظفين، والعساكر، والمستخدمين، وميزانيات المطابخ، وما خص الخلفاء والوزراء، ومصروفات العمران، والأسعار وتبدلها حسب المواسم. لكنَّ أهم ما وقعت العين عليه: أنَّ هارون الرّشيد(حكم: 170-193 هج)، تمنى بلوغ خزينته «البَنُور»(المليار)، فـ «خِلَافَته فِي غَايَة العظمة والفخامة، حتَّى يحْكى أَنه كانَ يستلقي على قَفاهُ، وينظر إلى السَّحابة الحاملة للمطر، ويقول: اذهبي إِلى حيثُ شِئتِ يأتيني خراجكِ» (القلقلشنديّ، مآثر الأناقة في معالم الخلافة).

قال صاحب الخراج: «سَألني الرَّشيد يوماً، عن مبلغٍ مالَهُ، فَقلتُ: ثَمَانمِئَة ألف ألف وثلاثَة وسبعُونَ ألف ألف دِرهَم. فقالَ: أحبُّ أنْ تبلغ بَنُوراً، والبَنُور ألف ألف ألف. فَقلت: لا أرَانِي الله ذلِك ولا كانَ، فضَحِك ثمَّ قالَ: كأَنَّك تذهب إلى أَنَّ الإنسانَ إِذا أُعطي أمْنِيته أتَتهُ منيتهِ»(رسوم دار الخلافة).

كان يُعبر عن المليون بألف ألف، وعن المليار(البَنُور)- وربَّما لم يُذكره غير الصّابئّ- بألف ألف ألف. كذلك مِن بين المعجمين ذكر مجد الدِّين الفيروزآبادي(ت: 817هج) «البَنُور»: «المُخْتَبَرُ من النَّاسِ، (و) البنادِرةُ: تجَّارٌ يلزَمونَ المَعادِنَ، أو الذينَ يَخزُنُونَ البَضائعَ للغَلاءِ»(القاموس المحيط)، أي الاحتكار.

لم يحقق هارون الرَّشيد أمنيته، ونحن لا نتذكر، في دروس الحساب والرِّياضيات، في المدارس، طُرح رقم «المليار»، ناهيك عن «التريليون»، كذلك لم يُطرح المليار رقماً لميزانية مِن ميزانيات دول المنطقة، فالسقف كان الملايين. أمّا الجرائم المالية فلم تتجاوز الألوف، وهناك مَن قُدم إلى محكمة الثَّورة(بعد 1968) لاختلاس مئة دينار أو أقل، فحينها شكلت السُّلطة مفارزَ رقابية وتحقيقية، تُفاجئ المحاسبين في دوائر العراق كافة، يفتح الخزنة ويفتحون سجله، فإذا وجدا غير متطابقين اُعتقل بالحال، ومنهم مَن أخذ عشرة دنانير، بنية إرجاعها، فضبطت عليه وصدر حُكماً ضده، وبهذا انتهى الاختلاس مِن أموال الدَّولة، ولم نسمع باختلاس مليون ناهيك، عن المليار.

لكن ما إنّ نُشرت فضيحة ما عرف بـ «سرقة القرن»، مليارين ونصف المليار دولار، مِن الأموال الضّريبيّة(2022)، حتَّى أُعلن عن فضيحة اختلاس اثنين وعشرين مليار دولار، وقد لا تكفي الأصفار تحويلها إلى الدينار العراقي، فهو مِن الضَّخامة بحيث يصعب عد أصفاره، وبهذا يُريح سارق، أو مختلس، الألوف والملايين ضميرَه، فسرقته لا تعني شيئاً.

لهذا سخر مني أحد المطلعين، عندما كُتبتُ عن الاستحواذ على «جامعة البكر»، أرضاً وبناءً ومعداتٍ، وأرضها مِن أغلى الأرضين ببغداد، قال: لا أحداً يلتفت إليها، وسقطت لضاءلتها نسبة لما تلاها! فمع الزَّمن حذفت فضائح، لظهور الأفضح.

عندما يُسرق اثنان وعشرون مليار دولار، أو «بنور» بلغة الأقدمين، ماذا يُقابله مِن الخراب؟! ناهيك عمَّا يُصب مِن المليارات في طواحين التَّخلف والجهل. رافق ذلك تعطيل وتخريب نحو عشرة آلاف مصنع، تُغني العراقيين عن الاستيراد، وضخ المليارات إلى الخارج، لنصرة «الولاية»، وما يُصاحب ذلك مِن الفساد، تغنيهم بالألبان، والأدوية، والمربيات، والدِّبس - والبلاد أمّ النّخيل - والأقمشة، والورق، والصَّابون، والزُّيوت، والطّابوق، وما تفرش به الأرض، مرمر وكاشٍ، والأدوات الدّقيقة، كل هذه الصّناعة نخرها فساد المليارات، لصالح الخارج الذي يظهر الود و«حماية الأعراض»، وهو الخراب الأعظم.

ربط صاحب خراج الرّشيد بلوغ الألف ألف ألف(البنور/ المليار) بالمَنية، حتّى مات خليفته وهو متمنياً البنور، لكن «بنورات» اليوم تتجدد بها حيوات مختلسيها، وقد «سمن الرّصيدُ» بشركات وعتبات!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كثيرا ماتمنى ساسة ومخططون وصناع استراتيجيات رؤية الشرق الاوسط -هذه البقعة الاهم والاخطر امنيا وستراتيجيا -متوافقا مع مايريدون ومايطمحون اليه، الشرق الاوسط نقطة تقاطع الحضارات والاديان والثقافات والمدنيات والستراتيجيات الدولية.

.يوم انشأ الغرب اسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، ودعمها وساندها وطنا قوميا لليهود ودولة وظيفية تشكل امتدادا للغرب وستراتيجياته في المنطقة، لم يخامر النابهون والعارفون الشك، بان اسرائيل هذه ستكون السوط الذي يجلد به الغرب ابناء المنطقة، كلما احتاج الى ذلك لاي سبب كان، لكن الذي لم يكن متوقعا هو، تحول اسرائيل من دولة وظيفية تابعة، الى دولة صانعة للستراتيجيات، تتخادم مع الدول التي تقود النظام العالمي، وتشارك في ترسيم صور النظام الدولي بما يلائم امنها وطموحاتها، استطيع الزعم باننا في هذه الفترة الانتقالية بين نظام دولي تنفرد بزعامته الولايات المتحدة، وملامح نظام دولي غير واضح يقال بانه في طريقه الى التشكل باقطاب متعددة، تقوم الدولة العبرية بدور اكبر من حجمها بكثير، متخطية القوانين والاعراف والقرارات وحتى الاخلاقيات الدولية، من دون ان يكون لداعميها القدرة على التأثير الحاسم في قراراتها .

في جميع الحروب التي شنتها الدولة العبرية كانت الادارات الامريكية تفرض رؤيتها لوقف الحرب وان كانت هذه الرؤية لاتتباعد عن المصلحة الصهيونية، لكن بما يحفظ لامريكا هيبتها وتأثيرها في النظام العالمي،

في الحرب الراهنة (حرب غزة ولبنان) تبدو الادارة الامريكية اضعف من ان تؤثر في قرارات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، الان اظهرت تفاعلات الساحة الداخلية الصهيونية الميالة الى مزيد من التطرف والعنف والغطرسة، انها متساوقة مع الاتجاهات اليمينية المتطرفة في اوربا وعموم الغرب، ترفع ذات الشعارات وتسلك نفس السلوك، كأننا في مرحلة ماقبل الحرب العالمية الثانية، حيث تسود اتجاهات قومية يمينية متطرفة، وتتعالى قيم التشدد وتدمير وسحق الاعداء بالقوة !!! .

بداية الالفية الثالثة طرح شيمون بيريس الرئيس الاسرائيلي مشروع الشرق الاوسط الكبير، متزامنا مع المشروع الامريكي الذي عبرت عنه كوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي ولاحقا وزيرة الخارجية في ادارة الرئيس بوش الابن، قوام المشروعين او بالاحرى الرؤيتين، يتأسس على توسيع ونشر الديمقراطية واحترام حقوق الاقليات والحريات الدينية، واقامة سلام دائم في المنطقة، وادماج اسرائيل في محيطها الشرق اوسطي بتطبيع العلاقات معها وتمكينها من قيادة المنطقة بفعل (عبقرية العنصر اليهودي وراس المال العالمي) مقترنا بقبول وتعاون دول المنطقة، مع طي صفحة الصراع العربي الصهيوني باعطاء الفلسطينيين دولة تضم الضفة الغربية وقطاع غزة، منزوعة السلاح وخاضعة عمليا للهيمنة الاسرائيلية امنيا واقتصاديا .

تأخر بلوغ هذا المشروع لاهدافه بسبب ممانعات ومقاومة ومخاوف قادتها القوى الاسلامية وبقايا اليسار القومي العربي، هذه الممانعة غذتها ايران بدرجات متفاوتة، لان مشروعها السياسي كان يقوم على فكرة مقاومة الهيمنة الغربية والتغول الاسرائيلي، وساهمت الانتفاضات الفلسطينية وتعالي قيمة وهيبة المقاومة الاسلامية اللبنانية (حزب الله) في تماسك هذا المشروع وصموده، خاصة بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، ثم انسحاب اسرائيل من غزة عام 2005، وصعود كفة حماس والجهاد الاسلامي فلسطينيا، واحزاب الاسلام السياسي عربيا وفي تركيا .

بعد عقدين داميين من الصراعات الداخلية على السلطة بين مشاريع قوى الاسلام السياسي وبين مناوئيها، وبعد سلسلة عقوبات وحصارات على ايران - قائدة محور المقاومة- انهكتها اقتصاديا واجتماعيا، تمخض الوضع العام في المنطقة عن لوحة سوريالية محزنة من الخسارات والتراجعات وضياع الفرص وصعود الشكليات على حساب الجوهر، (ساهم التطرف والارهاب القاعدي والداعشي السلفي في تسريع الانهيارات )، في قبال تنامي قدرات عسكرية وتكنولوجية هائلة لدى اسرائيل وتسليم عربي شبه كامل بالذهاب الى التطبيع الشامل معها، كون مشروع الاسلاميين الزاحف الى السلطة، جمع في تهديده اسرائيل وانظمة المنطقة على حد سواء، ووجدت الانظمة وبعض النخب السياسية والمالية والثقافية، ان مصلحتها في التطبيع، فعدوها لم يعد اسرائيل، انما القوى الدينية السياسية التي رفعت شعار مناكفة الغرب حضاريا مبتدئة بانظمة الدول القطرية، وهي لاتملك القوة المكافئة ولا الادوات المساعدة، ولا البنية المادية، عدا خزين الحماسة الدينية والخطاب الثوري والايدلوجية التعبوية، وحتى هذه الاخيرة لم تكن قادرة فعلا على بناء حاضنة اجتماعية كافية لدعم المشروع (الاسلامي)، لان الاسلاميين اهملوا قضايا ومشكلات اجتماعهم السياسي المحلي، وصنعوا لهم اعداء كثر، واستفزوا قوى عديدة اجتماعية وسياسية ناوئتهم، مستفيدة من الخصومة بين الاسلاميين والغرب، وعداوة الغرب لكل مشروع لاينسجم مع قيمه الحضارية والسياسية .

هجوم حماس في اكتوبر 2023 كشف الى اي حد بلغت عزلة الاسلاميين وفقدانهم للدعم والتعاطف الجماهيري، وكشف الصعوبات التي افقدت زعيمة محور المقاومة (ايران) القدرة على المخاطرة ودعم حلفائها وخوض حرب شاملة او جزئية قد تكلفها خسارة بقاء النظام، حيث تقوم ستراتيجية الامن القومي على قاعدة راسخة مفادها: حفظ النظام السياسي الاسلامي من اوجب الواجبات، ومقدم على كل القضايا المبدئية الاخرى .

اسرائيل والغرب من ورائها، ودول اقليمية عديدة تخشى من محور ايران وجماعات وفصائل (الاسلام السياسي) جديا، وقد وجدت ان الفرصة سانحة لضرب هذا المحور. في هذه الفرصة التي قد لاتتكرر، مادامت ايران منشغلة بالتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها (الاقتصاد، الامن، ثقافة الجيل Z، العقوبات، التحولات الاجتماعية والسياسية التي اثرت على الثقافة الثورية )، صحيح ان حركات المقاومة الاسلامية امتلكت ترسانة اسلحة لم يسبق لفاعل سياسي غير دولتي امتلاكها من قبل، لكن هذه الاسلحة الصاروخية صارت هي الدافع لكل القوى الاقليمية والدولية الى جانب اسرائيل للتخلص من هذا التهديد، الذي بات يقلق دول الشرق الاوسط بأسرها والقوى الدولية الداعمة لها .

ستتوقف حرب غزة -لبنان في غضون اسابيع او اشهر، بعد جراحات مؤلمة وتضحيات جسيمة، لكن الثمن الاكبر لترتيبات مابعد الحرب سيكون على حساب حركات المقاومة، وسيكون العامل الاكثر ضغطا وخطورة ليس اسرائيل وعنجهيتها، والغرب الحامي لها، والدول الاقليمية المقبلة على التطبيع معها، بل جيل النكبات والخسارات المحلي الذي لن يقبل بعد الان ان تخاض باسمه ونيابة عنه حروب ابادة يدفع من لحمه ودمه وحاضره ومستقبله اكلافها دونما منجز سياسي كبير، سينصرف القسم الاكبر من هذا الجيل عن المثل والقضايا الاسلامية الكبرى، الثقافة السائدة التي تهيمن على الفضاء المعرفي والاعلامي والسياسي لم تعد الافكار والتوظيف الديني، بل صارت لقضايا المعاش والامن والرفاه والسلام الاولوية، ورغم التعاطف الكبير مع قضايا فلسطين وحريتها والقدس ورمزيتها، غير ان الوعي السائد لم يعد وعيا ايديولوجيا لدى عامة الجمهور، انما هو وعي متجزيء، فالاغلبية التي تعبر عن نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد مؤمنة ومتحمسة لمعارك المصير كما كان الجمهور القومي يردد، الاولويات اختلفت، والمصالح المحلية الوطنية صارت اهم بكثير من المصلحة الاسلامية العليا كما كان يقال، سيظل جمهور حركات الاسلام السياسي وحده في ميدان الصراع، وهذا الجمهور لن يمنع لوحده ولادة الشرق الاوسط الذي عملت عليه العقول الماكرة الذكية التي نجحت في التخطيط والتنفيذ مستفيدة من تعويل اهل القضية على الايديولوجيا وخطابها واهمالهم القضايا الواقعية لهذا الجيل، فانصرف عنهم في ساعة الجد .

فلسطين ومعاركها استهلكت العديد من المشاريع والافكار والايديولوجيات والسيناريوهات، بيد ان التكنولوجيا والمعرفة والتحالفات الذكية تستطيع ان تلحق الاذى باقوى المباديء رسوخا، فلا حياة لمبدأ لاتحميه القلوب والسواعد والعقول الذكية .

***

ابراهيم العبادي

 

يمر العالم اليوم بأزمة أخلاق حيث يرى مجازر الإرهاب التي يقوم بها الكيان الصهيوني الغاشم على أناس عزل في فلسطين ولبنان، ولا نسمع أي موقف من قبل الدول العربية والإسلامية، وكذلك الدول التي تدعي تطبيق الحرية ونبذ الإرهاب وهنا لابد لنا إن نعطي تعريف واضح لمعنى الإرهاب . 

يطلق لفظ الإرهاب كوصف على من يستخدم العنف والقوة الجبرية لتحقيق أهدافه السياسية، وهو ما حدده المعجم الوسيط، هذا وقد اختلف العلماء والباحثين حول إيجاد تعريف متفق للإرهاب نظرا لاختلاف العديد من الدول في نظرتها للإرهاب من حيث المعنى والمضمون، إلا أن العديد من التعريفات لظاهرة الإرهاب قد أوضحت أنه شكل من أشكال العنف، كما أنه لا يقتصر على دين أو ثقافة أو هوية معينة، وإنما هو ظاهرة شاملة وعامة نتيجة عدد من الاضطرابات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية التي قد تنتاب مجتمعا ما .

والإرهاب هو عبارة عن العمليات المادية أو المعنوية التي تحوي نوعًا من القهر للآخرين، بهدف تحقيق غاية معينة،  كما يشير مفهوم الإرهاب إلى الآلية التي تلجأ إليها بعض الأفراد والجماعات. والحركات الثورية للتعبير عن رفضها لبعض السلوكيات من قبل الحكومة، أو كآلية لفك الحصار الذي تضربه حولها بعض الحكومات التي تحتكر العنف القانوني ويمكن تعريف الإرهاب إجرائيا بأنه هو كل ما من شأنه أن يثير الفزع، والرعب، الخوف والاضطراب بين أفراد المجتمع ويؤثر سلبًا على استقرار، وأمان، وتنمية المجتمع وتطوره أيا كانت الوسيلة المستخدمة، والهدف من وراءه، وأيا كان الدافع والسبب الحقيقي في حدوثه.

منذ القرن التاسع عشر اعتبر العالم النمساوي المختص ب الإستراتيجية (كارل فون كلوز فيتش) الحرب ظاهرة اجتماعية والفيلسوف الفرنسي (ريموت أرون) قال بأن (الحرب والسلم وجهان لعملة واحدة) وكانت مقياس الحكم على الحرب من حيث شرعيتها أو عدمه يعتمد على هدف الحرب وبواعثها فإنه من المنطقي أن يكون الحكم على الإرهاب السياسي مرتبط بالهدف من ممارسته إلا إنه نظراً لأن العمليات (الإرهابية) تولد ضحايا قد يكونون أبرياء وتثير مشاعر الخوف والرهبة عند الناس فإن الاتجاه الغالب هو الهروب من المسؤولية عن هذه الأعمال ومحاولة إلقاء التبعية على الآخرين)، الآخر يتهم بالإرهاب والقتل وحتى في الحالات مسميات مثل الدفاع عن النفس أو الإرهاب ضد الإرهاب أو الإرهاب الأبيض... إلخ من المسميات، وبصورة عامة هنالك موقفان من الإرهاب الدولي. وهذا بالفعل ما نراه اليوم بان جميع الإعمال التي يقوم بها الكيان الصهيوني هي ردت فعل طبيعية للدفاع عن النفس حسب رأي دول الاستكبار وبالخوص الولايات المتحدة الامريكية،إذ نسمع تصريحات من قبل منظمة الإرهاب(CAA) بأنها توسع نطاق الحرب في العالم هو ليس بمصلحة الجميع وهنا نتسأل بتجرد عندما قامت  الحرب العالمية الأول (1914 – 1919) أو الثانية (1939 – 1945) كانت هناك محورين متقابلين بالقوى والعدد واليوم لا يوجد هناك محور ثاني لدول الاستكبار وهذا ماعملت عليه خلال الفترة السابقة .

ولو عدنا قليلاً لتاريخ إرهاب الكيان الصهيوني فهذا موثق بصورة جلية دون لبس، فحسب (توماس سواريز) في كتابه "دولة الإرهاب: كيف خلق الإرهاب إسرائيل الحديثة"، مارس الكيان الصهيوني الإرهاب على أساس يومي تقريبا منذ العام 1937، في الوقت نفسه الذي كان فيه البلطجية من النازيين يرهبون اليهود الأوروبيين، حيث نفذت العصابات الصهيونية المشكلة من الغرباء اليهود "حملات محسوبة من الإرهاب" ضد الفلسطينيين الأصليين، وفي هذه الحملة تعرض الفلسطينيون للذبح والتشويه والترويع بلا رحمة؛ جراء التفجيرات المتكررة أو الهجمات بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية على المقاهي الفلسطينية وعلى "المارة العرضيين"، وعلى السيارات والحافلات الفلسطينية وقطارات الركاب ودور الأيتام والمدارس والمتاجر والأسواق والأحياء العربية. وأغارت العصابات اليهودية على القرى العربية، وزرعت الألغام الأرضية، وأعدمت بدم بارد على غرار النازية القرويين المحاصرين، وضاعفت عصابة الأرغون العسكرية القومية الإرهاب من خلال التهديد بـقطع الأيدي العربية التي ترتفع ضد القضية اليهودية، والى يومنا الحاضر نشاهد المجازر التي ترتكب من قبل هذا الكيان الغاصب وإمام أنظار العالم ودون رادع  .

إن كان الفكر الليبرالي الأوروبي في القرنين الماضيين أولى أهمية كبري لقضايا الحرية والمساواة حيث يمكن أن هاتين شكلتا محور اهتمام هذا الفكر فإنه الوجه المقابل الحقيقي للحرية والمساواة كان حق في المعارضة وفي الثورة ومقاومة كل ما يعوق حرية الإنسان وحقه في الحرية والمساواة مع غيره دون مبالغه يمكن القول (إن الإرهاب صناعه دول الاستكبار العالمي دون منازع سواء من حيث التنظير الفكري له أو صيرورته واقعا فكل أسلحة الدمار التقليدية والشاملة والجرثومية والكيماوية والذرية هي نتاج الغرب وأشرس الحروب، وما يحدث من اعتداء غاشم من قبل الكيان الصهيوني في غزه ورفح ولبنا هو خير دليل على إرهاب هذا الكيان وعلى الدول كافة وبالخوص الدول العربية التي تحاذي هذا الكيان اليوم فلسطين ولبنان وغداً انتم فانتبهوا أيها العرب ولا تبقوا تتوهمون بأن دول أللاستكبار حليفة لكم

لذلك نشاهد الإصرار الأمريكي والأوروبي والصهيوني على تصنيف حركات المقاومة " حزب الله،حماس، الحوثين، وحتى الحشد الشعبي العراقي" منظمات إرهابية تهدف إلى نزع الصفة السياسية عن عملها، ونزع الحصانة الإنسانية عن أعضائها، فوصف مقاومي الحركات يضع جنودهم في قائمة "محاربون لا شرعيّون"، بل إن حشر الفلسطيني في هوية جوهرانية إرهابية هي الأصل، ففي الصّحافة الإسرائيلية والغربية كلما تعرض الجيش الإسرائيلي لمقاومة غير منتظرة من الفلسطينيين أو البنانين، اعتبرتها الصحافة دليلا على عملهم الإرهابي. فحسب الرؤية الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية لا يحق للإرهابي أن يقاوم، وهذه المفارقة تقع في صميم الفكرة التي ينهض عليها برنامج "الحرب ضد الإرهاب؛ هذه الحرب الغريبة الّتي يضحى فيها العدو مجرما بسبب دفاعه عن نفسه أو مقاومته.

فهذا الانقلاب في مقولة العدو إنما هو انقلاب بيوسياسي لأنه لا يمكن أن يختزل في شخص الجندي العدو أو المجرم العادي، فمقاتلو حماس او حزب الله او الحوثيون يعتبرونهم من "الإرهبيين" ليسوا جنودا أعداء، وليسوا كذلك مجّد مجرمين، وإنما هم "محاربون لا شرعيون". وهذا الصنف الجديد من المحاربين يمثل في نهاية المطاف وجه العدو السياسي الجديد، أو وجه العدو البيوسياسي الذي أقصي من فضاء المدينة السياسي، وزج به في فضاء "المعتقل" الاستثنائي في غزة، أي الفضاء السياسي الجديد الذي انقلبت فيه السياسة إلى بيوسياسة، وانقلب فيه المجرم الذي يعاقبه القانون إلى "إنسان مقدس"، وتحول الآخر إلى "حياة عارية"، لا يشمله القانون لأنه بلا حقوق، تماما كالمواطن المجرد من حقوق المواطنة لأنه "بلا أوراق". فالتعاطي بمكيالين مع القضايا الإنسانية أصبح جلياً لكل شعوب العالم المستضعف؛ ففي وقت تقوم القيامة في الولايات المتحدة وأروقة مجلس الأمن لجرح صهيوني محتل في لبنان أو فلسطين، تجدها تسكت حين يرتكب الصهاينة المجازر في غزة ورفح ولبنان . كذلك تراها تتشدق بالحديث عن انعدام الديمقراطية وعن سجناء الرأي السياسي في العالم العربي، في حين ترى بشائر ديمقراطيتها في سجون الكيان الصهيوني،  لقد تظاهرت القوى الشيطانية وما تسمونه بالاستكبار الذي يتمثل في أمريكا ضد البشرية والقيم الإنسانية . فأرواح آلاف الأشخاص لا قيمة لها عندهم، فقد شاهدتم كيف أن (إسرائيل) في ظرف أيام قتلت وجرحت وشردت عشرات الآلاف وأحدثت الفجائع دون أن بطرف حضن للاستكبار العالمي الذي يستفز أجهزته ويبذل الأموال رياءً لإنقاذ حياة قطة سقطت في بالوعة رغم أنها حيوان .

***

أ. م .د. حميد ابو لول جبجاب

العراق / جامعة ميسان

ان اقدم تواجد لليهود في العراق يعود الى القرن الثامن قبل الميلاد على اثر الحملات العسكرية التي قادها ملك بابل (نبوخذ نصر) ضد مملكة إسرائيل ويهوذا فقد كانت الحملة الأولى في عام 597 قبل الميلاد حيث استولى على اورشليم وسبى اليهود الى بابل ومعهم ملكهم واخذ نبوخذ نصر جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وكسر كل آنية الذهب وقد سميت هذه العملية ب(السبي البابلي الأول) ثم تبعه السبي البابلي الثاني في عام 586 قبل الميلاد فاحتل اورشليم واحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت الاعيان وجاء بالاسرى وقدر عددهم بـ(50) الف شخص وقد سمح لهم نبو خذ نصر بالاستمرار في ممارسة طقوسهم الدينية و تكوين مجتمعهم الخاص بهم واصبحوا بعد فترة قصيرة من اغنى سكان بابل حيث اشتغلوا بالتجارة والربا واخذت اعدادهم بالتزايد حتى انهم في العصر العباسي استلموا مناصب مهمة في الدولة.

ونعود الى التاريخ القديم فانه بعد وفاة نبوخذنصر احتل الفرس بابل عام (539) قبل الميلاد بزعامه ملك الفرس (كورش) وقد تساهل مع اليهود وسمح لهم بالعودة الى فلسطين وذلك لكون امه (استير) فارسية فرجع الكثير منهم واصر الاخرين على البقاء في بابل ومنها انتشروا في المدن الرئيسية مثل بغداد والموصل والبصرة والعمارة  

تهجير يهود البصرة

رغم ان التهجير شمل يهود العراق في عام 1950م الا انني سأركز على يهود البصرة. نتيجة لهزيمة الجيوش العربية في الحرب العربية الإسرائيلية الولى عام 1948م امام الجيش الإسرائيلي كان رد فعل الحكومة العراقية آنذاك هو الانتقام من اليهود العراقيين في كل المدن العراقية بتهجيرهم من العراق واسقاط الجنسية العراقية عنهم , ولقد كان عدد يهود البصرة حسب إحصاء عام 1947م هو(10419) نسمة وقد تعرض يهود البصرة الى السرقة والنهب منذ احداث عام 1941م فيما يسمى بالفرهود الذي شمل محلات واملاك اليهود في البصرة والعشار كما تعرضوا أيضا الى القتل كما حصل في اعدام , التاجر اليهودي شفيق عدس الذي اعدم في عام 1948م الذي اتهم بالتجسس لصالح إسرائيل واتهم كذلك بشراء سكراب السيارات والدبابات والأسلحة المختلفة وتهريبها الى إيطاليا ثم الى إسرائيل وقد نفذ فيه حكم الإعدام شنقاً امام قصره .

وعند صدور قانون اسقاط الجنسية عنهم رفضوا مغادرة البصرة وسبب حبهم لهذا المدينة هو الحرية التي كانوا يتمتعون بها في المجتمع البصري المتسامح

قرارات الحكومة العراقية الخاصة بتهجير اليهود

لعب كل من توفيق السويدي رئيس وزراء العراق وصالح جبر وزير الداخلية دوراً كبير في مسألة تهجير يهود العراق الى فلسطين والتي استفادت منها إسرائيل حيث قامت الحكومة الإسرائيلية بتجنيد الشباب منهم في صفوف الجيش الإسرائيلي لمقاتلة العرب اثناء الحروب التي كانت تحصل بين الطرفين وتذكر المصادر التاريخية بان سكرتيرة صالح جبر وزير داخلية العراق كانت يهودية وكانت شقيقة الطبيب (كرجي ربيع) الذي كان مديراً لصحة مدينة القدس المحتلة قد لعبت دوراً كبيراً في هجرة عدد كبير من اليهود بشتى الوسائل الى ان صدر البيان رقم(1) من وزارة الداخلية العراقية سنة 1950م القاضي بأسقاط الجنسية العراقية من اليهود كما ان لصالح جبر علاقات قديمة مع الإنكليز ترجع الى سنوات الاحتلال البريطاني للعراق اثناء الحرب العالمية الأولى.

ونتيجة لكل هذه الجهود طلب من البرلمان العراقي عقد اجتماع لمناقشة ذيل مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم(1) لسنة 1950 وقد نشر في الجريدة الرسمية يوم 9/آذار/1950م واصبح نافذ المفعول منذ تاريخ نشره ثم اتخذت الحكومة قراراً آخر بتجميد أموال الذين اسقطت جنسيتهم رقم(5) لسنة 1951م ثم انشاء دائرة (الأمانة العامة لمراقبة وإدارة أموال اليهود).

وفي آذار لسنة 1951 أصدرت الحكومة (قانون ذيل قانون أموال اليهود المسقطة عنهم الجنسية , كذلك أصدرت الحكومة عام 1951م (قانون التصرف باموال اليهود المجمدة وادارتها وتصفيتها ) وقد اوضحت فيه طريقة التصرف بالاموال المذكورة في بغداد وغيرها من الالوية العراقية.

وهكذا ساهمت هذه القرارات في مسألة تهجير اليهود من العراق الى فلسطين الا ان اعداد منهم رفض الهجرة وفضل البقاء في العراق كما هو الحال في مدينة البصرة حيث كان عدد من الطلاب اليهود معنا في المدارس وكانوا من الطلبة المتميزين في المستوى العلمي كما ان عدد من يهود بغداد من كبار مطربي المقامات العراقية وكان منهم من الملحنين الذين ساهموا في تلحين عدد كبير من الأغاني العراقية نذكر منهم الاخوين صالح الكويتي واخاه داود الكويتي حيث تم تسفيرهم الى فلسطين رغماً عنهما وقد بقيا في فلسطين حتى وفاتهما .

***

غريب دوحي

 

نكرهها ولا نطيق البعد عنها!

شعور غالب على أكثرنا في تعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت كأنها لعنة لا فكاك منها! وهي في ذاتها كأي شيء في هذه الحياة: لها مزايا وعيوب، نصفها حلو ونصفها مرير، يختلط فيها الخير والشر معاً..

 وفي مصر غلبت الثقافة الاستهلاكية محاولات القليل ممن استطاعوا الاستفادة من فوائد التقنيات. حتى على نطاق الدولة والحكومة؛ ففي حين سعت الدولة لرقمنة الخدمات، وتقنين التقنيات، ما زالت فئة من المتشبثين بالماضي يصرون على النمط الورقي القديم والروتين الحكومي العقيم!

 وفي حين قطعت الدول المتقدمة أشواطاً هائلة في التقدم التكنولوجي، ما زلنا في سجالنا وجدلنا الضيق في الدول النامية حول استهلاك التقنيات، مفيد أم ضار؟ صحي أم معيوب؟ جائز أم مكروه؟ فيه الخير أم منه الشر؟

النبش عن الحرية

 تحت عنوان: "عالم الفوضى الافتراضي، بين الغابات الرقمية السحرية وأوهام الحرية" تحدثت في كتابي: (مصر في عالم مضطرب) الصادر عن هيئة الكتاب منذ نحو عامين مضيا حول مسألة الحرية كمحور ومرتكز تدور حوله الأنشطة البشرية في مختلف الأزمان. وأن تطور مفهوم الحرية فلسفياً انتهي إلى مرحلة ربطت بين التقنية والحرية فيما عُرف في الستينيات بـ “سوسيولوجيا الاتصال والميديا" عندما تحدث الفلاسفة المعاصرون أمثال: رولان بارت وإدجار مولان عن مدي ارتباط مفهوم الحرية بثقافة الدعاية والاستهلاك والسينما باعتبارها أنشطة إنسانية مُحدَثة.

 ثم نشأ مفهوم جديد للحرية ارتبط بالتقنيات فيما أسماه سكينر: "تكنولوجيا السلوك الإنساني"، وهو المفهوم الذي نظر إلى الحرية باعتبارها ردة فعل انعكاسية ضد أي تهديد؛ حتى أن عمليات حيوية كالعطس والإخراج اعتبرها نوعاً من التحرر العضوي الوظيفي. وأن سعي الإنسان لتوفير سبل المعيشة والرفاهية هي محاولة منه للتحرر من العوز والحاجة. وبهذا المفهوم تمثل الحرية حافزاً للتطور على المستويَين الاجتماعي والفردي. وبهذا المعني تصبح وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا ردة فعل تجاه الواقع المؤلم، ويصبح كل روادها باحثون عن حرية يفتقدونها في عالمهم الواقعي فينبشون عنها في العالم الافتراضي..

 ولأن الهدف لدي مستهلكي التقنيات يقف عند تحقيق رغبات نفسية ضيقة كالتعزيز الاجتماعي وحصد اللايكات والإعجابات والتعبير عن الذات بأسهل العبارات والصور، انقسم العالم الافتراضي للسوشيال ميديا إلى ثلاثة أقسام: قسم مستهلك يكتفي بالأهداف السطحية للتقنية، وقسم من صغار المنتجين يستطيعون استغلال السوشيال لدعم جيوبهم ومحافظهم المالية فلا يقفون عند حدود الأهداف الضيقة للتكنولوجيا، والقسم الثالث يمثل هؤلاء الذين يهيمنون على إدارة منظومة السوشيال والتحكم في آلياتها ومنهجها وتنظيم محتواها وفرض سياستهم الإدارية والفكرية على رواد وسائل التواصل ومستهلكيها وفي نفس الوقت يحصدون أضخم العوائد والفوائد.

 معني هذا أن الحرية المكذوبة التي يفتش عنها رواد السوشيال ميديا باتت خيوطها تتجمع في أيدي واضعي السياسات العامة ممن يناصرون الصهيونية ضد الحرية، ويؤثرون مصالحهم الخاصة على المصالح الدولية. ومن هنا تنشأ قيود جديدة على الحرية الوهمية داخل الشبكة العنكبوتية.. كما تنشأ حالة من التحكم العقلي الجمعي يمكن تشبيهها بحالة القطيع!

حالة فوضوية مخيفة

 الأرقام والإحصائيات تكشف لنا مدي فداحة تأثير الشاشات الرقمية على مجتمعاتنا..

عدد مستخدمي وسائل التواصل في مصر اليوم وصل لنحو 94.3% من تعداد السكان، وهذه النسبة تشمل الصفحات المكررة، فالبعض لديه عدد من الصفحات الشخصية والتجارية. وينفق المصري نحو ثلاث ساعات في المتوسط في متابعة وسائل التواصل والتفاعل معها، وهناك من يقضي يومه كله يتابع الأخبار والبوستات واللايكات كأنها حالة إدمان مفرطة. وتصل نسبة المعرَّضين لخطر الاكتئاب بسبب العزلة الاجتماعية التي يفرضها السمارت فون على مقتنيه إلى حوالي 13% من المصريين وأكثرهم من المراهقين والشباب!

 هناك دراسات بحثية كثيرة تفيض في شرح وتحليل مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها دراسة جامعية لباحثة بجامعة الإسكندرية توصلت فيها إلى مدي حجم المخاطر الصحية والنفسية والاقتصادية على الأفراد من إدمان استخدام الإنترنت والسوشيال ميديا، وأكدت الدراسة تعرض مختلف الشرائح البحثية لعدد من المشكلات النفسية المتباينة أشهرها القلق والتوتر والاكتئاب والأرق والإحباط وإدمان الإنترنت. ومشكلات عضوية أهمها ضعف النظر والصداع المزمن وآلام الرقبة وتنميل الأطراف والإعياء والغثيان. ومشكلات اجتماعية كالعزلة الأسرية وهشاشة العلاقات والتعرض للقرصنة والتنمر والتطفل وسرقة المعلومات. ومشكلات ثقافية مثل الغزو الثقافي وانعدام المصداقية والتغريب. ومشكلات اقتصادية تأتي من ارتفاع تكاليف الموبايلات والاشتراكات الشهرية للإنترنت والتي باتت تمثل عبئاً على كاهل رب الأسرة وطلباً من الطلبات الملحة لدي الشباب والأطفال بسبب حالة الإدمان على الألعاب وتوافه المنتجات الرقمية.

 على الناحية الأخرى هناك فوائد جمة للإنترنت والسوشيال ميديا، أهمها الإسهام في التعليم عن بعد والتدريب المهني والكورسات المجانية في شتي المجالات، وهو ما يسهم في استيعاب عدد كبير من الشباب الذين تهددهم البطالة للعمل في مجالات الربح عبر الإنترنت، وهي مجالات متشعبة وكثيرة وسهلة التعلم. غير أن النسبة الأقل من المصريين هم الذين بإمكانهم تجنب جاذبية النمط الاستهلاكي للإنترنت من أجل الاستفادة بالنمط الإنتاجي له. إنه سلاح ذو حدين بالفعل، غير أننا ندمي أيدينا بالإصرار على الضغط على الطرف الحاد الضار الشائك باستمرار!

الرابضون خلف الكواليس

 مسألة الانقياد الجماعي للأفكار الخبيثة الماكرة فيما أسماه البعض "القطيع الرقمي" هي مسألة خطيرة حقاً. وهي تمثل إحدى نتائج الفوضى الخلاقة داخل الشبكة العنكبوتية. والناتجة بدورها من حالة الحرية الفوضوية اللامحدودة في التفاعل مع المنتجات الرقمية المرئية من صور وتعليقات وفيديوهات وأخبار مجهولة المصدر أو مفبركة.

 الخطير في الأمر أن هناك مؤسسات وجهات مشبوهة بات شغلها الشاغل التربص للشباب من أجل التأثير عليهم فكرياً وعقائدياً في إطار ما اشتهر تحت اسم حروب الجيل الرابع..

 وفي محاضرة للباحث أحمد عزت سليم في أحد مؤتمرات اتحاد الكتاب عنوانها: "فاعليات الهندسة الاجتماعية" ، تحدث فيها عن الكيانات والكتل النفعية الرابضة من خلف الحجب لتستغل العالم الرقمي لتحقيق مصالحها على حساب إفساد العقل الجمعي، تلك الكتل والكيانات المحترفة تجيد استخدام مواقع الدردشة وتطبيقات الهواتف الذكية من أجل القيام بعمليات تلصص وتجسس وإشغال وتشتيت وترويج لدعايات كاذبة وأخبار مفبركة.

 المحاضرة عمرها سنوات، رغم هذا كشف فيها عزت أن الكيان الصهيوني مسيطر على شبكة من مواقع وصفحات التواصل، يكتبها عملاؤه باللغة العربية لاستغلالها في الترويج لسياساته وشن حرب إليكترونية تشمل حرب معلومات وعمليات تجسس. يستخدم فيها الكيان الصهيوني شتي الطرق المريبة للوصول لأهدافه الخبيثة كالتشهير ونشر الشائعات والتحايل والتلفيق وتشويه الحقائق أو استخدام المواد الإباحية والخادشة للحياء من أجل زعزعة العقيدة ونشر الأفكار الهدامة للقيم وللثوابت الوطنية والمخالفة للأعراف.

 وقد شهد شاهد من أهلها؛ إذ جاء أحد مديري موقع فيسبوك عام 2011 في حوار له مع موقع روسيا اليوم فقال: (إن على جميع البشر حول العالم أن يدركوا أن مجرد الاشتراك في الفيسبوك يعني تقديم معلومات مجانية إلى وكالات الأمن الأمريكي لكي تقوم بإضافتها إلى قواعد بياناتهم في مصفوفة تضم سائر المشتركين والمتعاملين مع تلك المصفوفة)!

 ليس باستطاعتي ولا باستطاعة أحد أن يمنع الناس وينهاهم عن استخدام الإنترنت أو وسائل التواصل، لأنها باتت جزءاً من الحياة اليومية للجميع. لكن علينا أن نقنن هذا الاستخدام، أن نحدده ونرشده، أن نكون على حرص وحذر في التعامل مع الكذب المنتشر والمتغلغل في أركان السوشيال ميديا، والأهم أن نكون منتجين مستفيدين لا مجرد مستهلكين له أو مدمنين عليه.

***

عبد السلام فاروق

شهد القرن العشرين مجموعة كبيرة من المستشرقين الألمان، والفرنسيين، والبريطانيين، والإيطاليين، والدنماركيين، والروسيين،والسويسريين، والمجريين، والسويديين، والبلجيكيين، والأمريكيين، وغيرهم،  حيث بلغ عددهم حوالي أكثر من 55 مستشرق، اهتموا بدراسة تراثنا العربي – الإسلامي من فقه، وتفسير، وعقيدة وفلسفة، وتاريخ وجغرافيا وتاريخ  علوم،  على شكل مواد معجمية مرتبة ترتيبا هجائيا،  بشكل تغلب عليه العجلة، وانعدام الدراية في بعض المواضع، والعجلة في الأحكام، والفصل في القضايا التي لم تكتمل أركانها، ولم تثبت وقائعها؟

ويبدو أن ذلك يرد الى على ثلاث: فهم الإسلام على أنه دين لاهوتي خالص كالمسيحية، بينما الإسلام دين، ومنهج حياة، وإما أنهم تأثروا بوجهه نظر السياسة الاستعمارية فخضعوا لها، وإما أن أدواتهم البيانية، والفكرية قصرت عن فهم الإسلام، وطبيعته الجامعة بين الثابت والمتغير، والتمييز بينهما أيضا والروحي والمادي، والدنيوي والأخروي، وتوازن بينهما كذلك، وأغلب ما تجيء أخطائهم في العجز عن فهم الوحي، والنبوة، والتفرقة بين الألوهية، والنبوة، ولذلك فإن أغلبهم ينسبون القرآن الكريم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يعد الرسول مصلحا اجتماعيا، أو وأحدا من الفلاسفة.

ومن هنا تعد دائرة المعارف الإسلامية Encyclopedia of Islam  كما جاء في الوكبيديا أول موسوعة أكاديمية تُعنَى بكل ما يتّصل بالحضارة الإسلامية، سواءً من الناحية الدينية أو الثقافية أو العلمية أو الأدبية أو السياسية أو الجغرافية على امتداد العصور، بما في ذلك العصر السابق للإسلام. وقد صَدَرت على طبعتين، الأولى بين 1913-1938، والثانية ما بين 1954-2005، وتُصدَر من قبل شركة بريل الهولندية. ظهرت هذه الموسوعة بأكثر من لغة، أمَّا بالنسبة لِلُّغة العربية فقد عُرِّبَتْ بعض أجزائها، ونُقِحَتْ وصدرت في مصر في الستينات من القرن الماضي، وأُعيد طبعها بالشارقة عام 1998. وانطلق مشروعان آخران لدائرة المعارف الإسلامية أحدهما في تركيا، ويسهر على إصدارها مركز وقف الديانة التركي، أمَّا الثاني في إيران حيثُ تصدَّر بعنوان دائرة المعارف الإسلامية الكبرى.

كذلك تعد دائرة المعارف الإسلامية من أهم المراجع الاستشراقية العلمية المعاصرة، والتي يعتمد عليها الكثير من الباحثين، ويستمدون منها المعلومات على مبدا الثقة دون التأكد من صحتها، وهناك العديد من المغالطات المتعلقة بقضايا العقيدة، والفكر الإسلامي بث مضامينها في ثنايا هذه الموسوعة، وهذه المقالة تحاول التنبيه نحو كشف هذه المغالطات، وتحديد قوامها وبيان جهود مفكري وعلماء الإسلام في بيان زيفها، وخطرها، وتحذير الناس من سوء مقاصد هؤلاء المغالطين.

ولذلك تكمن خطورة هذه الموسوعة، في كونها جهد علمي كبير، احتوى على كثير من الآراء  المضللة، التي لم تستوفى قدر اللازم في البحث والتقصي، والمغرضة الكامنة وراء الصدور، ضد الإسلام والمسلمين.

ومع هذا فهي تعد المرجع الأساسي للغرب في الاطلاع على الإسلام وما يتعلق به، بل هي مرجع يعتمد عليه في عيون كثير من الكتاب الإسلاميين، يستقون منها تصوراتهم وأراءهم، فأي مراجعة حصيفة لدائرة المعارف الإسلامية تكشف عن هذا الاتجاه الرامي الى إدخال شبهات حول العقيدة واصولها الإسلامية، كمادة أساسية منه ونجد هذه المحاولات واضحة في جميع فروع التراث ذات الصلة المباشرة مثل: القراءات، وكتابة  القران، وسيرة الرسول، وفي مجال التاريخ، والشريعة الإسلامية، وفي مجال اللغة؛ حيث كان الغرض منها وضع مصدر متكامل للمعلومات عن الإسلام والمسلمين، باللغات الثلاث: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية.

ولم تظهر حاجه المستشرقين الى اصدار هذه الموسوعة فجاه، دون أي تقليب فكر وإدامة نظر، بل سبق ظهورها، متون موادها في عدة مؤتمرات دوليه للحركات الاستشراقية، واستغرق الإعداد لصدارها قرابة عشرين سنه، أو يزيد فلقد شعر المستشرقون في مؤتمراتهم الدولية بالحاجة إلى دائرة معارف لأعلام العرب والإسلام، تجمع شتات دراساتهم عنها فدعوا الى اصدارها عام 1895م، وكلفوا هوتسما من جامعة اوتراخت بإنشائها، ومطبعه ليدن لصدارها، واستعين بمجامع ومؤسسات نشر العلم في أوروبا قاطبه للإنفاق عليها، وقد شارك في تحريرها عدد كبير من المستشرقين.

فأشرف هوتسما على تحرير الدراسات المتعلقة بالإمبراطورية العثمانية، وفارس وآسيا الوسطى والهند الهولندية، ثم حل محله في الإشراف على دائرة المعارف فنسنك عام 1924م.

وقد ذكر بعض الباحثين أن مقصد المستشرقين من إصدار هذه الموسوعة، جمع الأبحاث التي اعدت مسبقا خلال منتدياتهم، وابحاثهم، ومؤتمراتهم في مجلد واحد تعبر عن وجهه نظر الفكر الغربي عن الإسلام ومعتقده، وحضارته.

وتولى تحرير النسخة الألمانية: شاده، وريتشارد هارتمان، وبوبير وتحرير النسخة الفرنسية: رينيه باسمه عميد كلية الآداب في الجزائر فأشرف على جميع الأبحاث المتعلقة بشمال افريقيا (الجزائر، تونس، المغرب، السودان).

وتولى تحرير النسخة الإنجليزية، أرنولد، فأشرف على جميع الدراسات المتعلقة بالبلاد المتصلة ببريطانيا، ما عدا مصر، وعهد بالمقالات المختلفة في كل موضوع من موضوعاتها الى علماء أكفاء، يوقعون على ما يكتبون، وهم مسؤولون عنه.

وهنا يجيء الباحث المصري "أحمد محمد عبد الرحمن حسين" والذي ينتوي التسجيل لدرجة الدكتور من جامعة أسيوط – كلية الآداب – قسم الفلسفة في موضوع بعنوان  "منهج المفكرين المسلمين في الرد على أباطيل غلاة المستشرقين ( قضايا العقيدة في دائرة المعارف الإسلامية، والذي عقدنا سيمنارا لمناقشته أول أمس في خطة التسجيل من خلال إشراف الأستاذ الدكتور عصمت نصار، وأشهد أنني استفدت من هذا السيمنار والذي أفرز لي تلك المقالة من معلومات أخذت معظمها من خطة الباحث هنا في تلك المقالة، حيث أراد أن يكشف لنا أسباب اختيار الموضوع كالتالي :

1- ذيوع الأفكار الخاصة بالعقيدة الإسلامية بين شبيبة الدارسين الأكاديميين وغيرهم من عوام المثقفين، الأمر الذي يستلزم إعمال المنهج الكلامي في الجدل والتثاقف، وهو من صميم رسالة المجددين في علوم العقيدة، وعلم الكلام الجديد.

2- الكشف عن هشاشة الكتابات المتخصصة التي استندت في إثارة قضاياها على متون تلك الموسوعة، دون مراجعة الردود الواردة، أو مقابلة الادعاءات الواردة بالكتابات العلمية المعاصر.

3- إثبات أن علم الكلام من العلوم الإسلامية الأصيلة، التي سوف يظل دوما بمثابة الدرع، والسيف الواقي من الجموح، والشطح، والتشكيك، والتلفيق.

4- كشف الستار عن الدوائر البحثية الصهيو-أمريكية، والماسونية الداعمة لهذا الدرب من دروب نشر المعارف الزائفة في المجتمع الإسلامي... وللحديث بقية...

***

أ. د. محمود محمد علي

كاتب مصر

 

يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: «هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات الممدوحة، والشّمائل الموزونة، والبراعة في كلِّ صناعة»(المسعودي، التنبيه والإشراف). لم يبق مِن هذا الوصف شيء، والملايين تُقاد إلى حتفها بعصا خطاب يعسرُ على الفهم والعلِم. لنسمع ما قاله أحدهم، صاحب السطوة على الاقتصاد والسّياسة والتّعليم: «لو رأيتُ رجلاً يطيرُ بين السّماء والأرض، وهو لا يؤمن بالمرجعيّة، لا يُساوي عندي قُلامة ظفرٍ»! معلوم أنَّ الطيران بين السّماء والأرض، يعني السّمو، فهذا عند صاحبنا أحقر مِن القُلامة، ولكم حِساب المصيبة.

لا يدري صاحبنا أن ما يتذرع به مِن جذب طائفي، قد هان على الأئمة أنفسهم، الذين يتحدث بولايتهم، ويصف غير المؤمنين بوكلائهم أحقر مِن «قُلامة ظفره». فهذا ابنُ أخي علي بن أبي طالب عبد الله بن جعفر(ت: 80ه)، كان صديقاً لمعاوية بن أبي سُفيان، وسمى ابنه معاوية (المرزبانيّ، معجم الشّعراء)، وجدة معاوية هذا أمّ محمد بن أبي بكر نفسها، تزوجها علي بن أبي طالب، ليكون ابن أبي بكر أبرز خلصائه.

يولدُ من تلك الصّلة جعفر الصّادق(ت: 148هجرية)، أمّه أمُّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وبالتالي فالصّادق حفيد أبي بكر(المفيد، كتاب الإرشاد). انظروا التَّداخل، فهل من المعقول أنَّ كلّ هؤلاء لا يساوون قُلامة ظِفْر، لأنَّ أمثالهم لا يقرون بمرجعيته؟ كان الخطيب يقصد الدَّولة، والرؤساء أبناء طائفته، فكيف الحال مع الآخرين، وأحوالهم ممَن ذكرنا.

في عدم الإقرار بما أوردنا مِن الأنساب، قد يحتجون بأبي لهب، ويعتبرون عبد الله بن جعفر عدواً لعمه، لكنه واجه قاتله ابن ملجم (40 هجرية)، وقال: «دعوني حتّى أشفي منه، فقطع يديه ورجليه»(مروج الذَّهب). أمّا أولاد ابنه معاوية فناصروا حفيد الحسن، النَّفس الزَّكيَّة (145هجرية) عند خروجه (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

في عُرف صاحبنا أنَّ فاطمة بنت الحُسين بن عليّ، لا تساوي أيضاً قُلامة ظِفر، لأنها كانت أمَّاً لمحمد الدِّيباج، حفيد عثمان بن عفان (قُتل: 35ه)، الذي واجه المصير مع أخوته لأمه، ومنهم عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.

كذلك حفيدة العباس بن علي لا تساوي قُلامة ظفره، لأنها تزوجت عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فولدت عليّاً أبا العميطر، وكان يقول عندما خرج بدمشق على العباسيين(195ه): «أنا ابن شيخي صفين، أنا عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمي نفيسة ابنة عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب»(ابن عساكر، تاريخ دمشق).

كل هؤلاء، ومَن يأخذ هذا التَّاريخ على محمل الجد، لا يُساوون عند صاحبنا «قُلامة ظِفرهِ»، لأنَّهم كافة لا يقرون بمرجعيته. فمع الغرور، بالسُّلطة والمال وحشود التابعين، تتضخم قُلامة الظِّفر، لا تعادلها عقول العلماء، ولا بناة العراق، الذي منحه عزاً ومنبراً، يدمره من على أعواده بخطابه، صاحب هذا الخطاب، لا يذكر للعراق فضلاً، فهو الآخر عنده لا يعادل قُلامة ظفرٍ، كأنه لم يسمن «نحراً عنده».

كانت كلمة صاحب قُلامة الظفر تحذيريّة، موجهة للشعب والدَّولة، إذا لم يتم التَّقيد بأوامر ونواهي مرجعيته، فهما إلا قُلامة، محذراً أي حراك اجتماعي، يعمل على إرجاع المرجعيات الدّينيَّة إلى مواقعها اللائقة بها، إدارة الدّين لا الدَّولة، لذا أخذت القوانين الطائفية تُشرع. أقول: تواضعوا، وإن غدت قُلامة الظِّفر عنقاء، فهناك مَن يعاند، «أرى العنقاء تكبرُ أنْ تُصادا/ فعاندْ مَن تطيق لهُ عِنادا»(المعري، سقط الزَّند)!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

اسمحوا لي أن أستعير تعبير الأستاذ هيكل مستخدماً إياه كعنوان للمقال. ذلك التعبير هو وحده القادر على تفسير ما يحدث في منطقتنا العربية من حالة إنكار نفسي متفشية عند الجميع؛ يقال لهم: هذا عدوكم؟ فيهتفون جميعاً: لا ليس هو. يرونه يقترب من حاميتهم ثم يقتل حراسهم، فينكرون أنهم رأوا أو سمعوا شيئاً. يؤكد لهم كل المراقبين المحايدين أن العدو يدبر لهم أمراً عظيماً، وأن عقيدته الراسخة أنه سيملك ما تحت أقدامهم، فيسخرون ويضحكون وينصرفون إلى شئونهم غير عابئين بما يقال.

فهل ننتظر أن يحدث كما حدث عام 1948 عندما انهزم الجمع وولوا الأدبار، ثم ما حدث عام 1967 عندما تمدد العدو في سوريا ولبنان والأردن ومصر وفلسطين، وبدأ كل طرف يكيل الاتهامات لأطراف أخري أنها السبب.

يبدو أننا لا نتعلم الدرس مهما مرَّ علينا الزمن، ومهما تلقيناه من ضربات! ألم يكن ذلك العام الذي مرَّ على أحداث غزة كافياً لنفهم كيف يفكر العدو؟ أو كيف نستعد لما يحاك للمنطقة؟

 إن ما حدث في لبنان يدق نواقيس الخطر كلها؛ إذ تأكدنا أننا مجرد رد فعل. وأننا لا نفيق إلا إذا رأينا النار تحيط بنا، ويلفحنا لهيبها الحارق!

حرب إقليمية على الأبواب

كل الشواهد والدلائل تؤكد أننا على شفا حرب واسعة النطاق لا يدري أحد حجم امتدادها زمنياً أو جغرافياً، وأسوأ ما تعيشه المنطقة الآن حالة التشرذم وانعدام الرغبة في توحيد الصفوف أمام الخطر الوشيك.

إيران رغم ما تتلقاه من ضربات متتالية، إلا أنها هرولت لعقد شراكة استراتيجية مع روسيا. وبدا أن لهذه الشراكة مميزات عسكرية، إذ أظهر استخدام الصاروخ الفرط صوتي من قِبل الحوثي أن إيران وأذرعها يملكون أسلحة جديدة وبإمكانهم التصعيد في أي وقت وعلى عدة جبهات.

خلال ثلاثة أيام فقط تعرض حزب الله لتفجيرات أجهزة البيج واللاسلكي، فأصيب الآلاف من عناصره، وقبل أن يستعيد الحزب توازنه تلقي صاروخين وصلا إلى اجتماع قادة حزب الله تحت الأرض، ومن بينهم القائد الأعلى للعمليات، ما يعني أن الضربات الإسرائيلية تمثل هجمات عسكرية تكتيكية تهدف إلى إضعاف جبهة لبنان عسكرياً من خلال استهداف قادة حزب الله أنفسهم، بما يضعف قدرتهم على الرد أو استجماع هذه القدرات. غير أن كل هذا الاستفزاز لن يمرّ قطعاً دون رد فعل يناسب تلك الهجمات القاتلة والضربات الموجعة.

 لا يمكن أن يبقي الوضع على ما هو عليه. ولابد أننا سنشهد رداً أو عدة ردود عسكرية من إيران وحزب الله. وهو ما سيدفع إسرائيل للرد بدورها، وقد يبدأ الاجتياح البري لجنوب لبنان في أي وقت، بعد أن بدأ الجيش الإسرائيلي في تحريك قواته شمالاً نحو الجنوب اللبناني، لرغبتهم في استعادة المناطق التي تم تحييدها وإخلاءها من المستوطنين بسبب الضربات الصاروخية المستمرة من حزب الله منذ بداية طوفان الأقصى. وهو ما يعني أن عجلة الحرب سوف تدور بأسرع مما كان متوقعاً. وأن مرحلة جديدة من الصراع سوف تبدأ.

الحليف الموثوق

في أي حرب تنشأ لابد أن يبحث الأطراف، أو حتى المهدَّدون بأضرارها من دول الجوار، عن حليف أو عدة حلفاء. وفيما إسرائيل لديها حلفاؤها المعروفون. فهل يجوز لنا كعرب أن نعتمد على نفس حلفاء إسرائيل، ظناً منا أنهم سوف يقفون معها ومعنا؟!

  نحن لم نعد نثق في أنفسنا، وكل بلد عربي له عداوات مع عدد من الدول العربية الأخرى. ولهذا توقفت جامعة الدول العربية عن التدخل بجميع صوره، بعد أن زهد الجميع في الاجتماع معاً ولو لتجميل الصورة القاتمة. هكذا لا سبيل لإقامة تحالفات عربية، ويظل الحل الوحيد أن تقف كل دولة عربية بمفردها أمام الخطر المحدق؛ إذ لا يوجد حليف موثوق.

الغريب في الأمر أن أقوى دول العالم لا تتحرك في حروبها خطوة دون حلفاء. بينما نصر نحن أن نخوض معاركنا بمفردنا، ولهذا نخسر. لقد حاولت مصر طوال الوقت أن تنزع فتيل الأزمة، وأن تشجع مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة دون جدوى. الآن وقد أشعلت حكومة نتنياهو فتيل الحرب من جديد، فلابد أن يكون لدينا تصور واضح لما هو قادم ونستعد له.

 لا ينبغي لنا أن نتحول إلى مجرد رد فعل، بل لابد أن نستبق الأحداث ونتوقعها، حتى نتحسب لما هو قادم. الشعوب نفسها لابد لها أن تستعد نفسياً واقتصادياً؛ فلربما تأثرت سلاسل الإمداد أسرع من المتوقع، فتشح السلع وتقل الموارد. هذا ما تفعله الدول الأوروبية الآن رغم أن روسيا لم تتخذ خطوات فعلية تهدد سلامتها بشكل مباشر، إلا أنها تعِدّ شعوبها للأسوأ. إن الدول الأوروبية رغم الرفاهية التي توفرها لشعوبها، إلا أنها ترفض أن تدلل الشعب لدرجة ألا يكون قادراً على التصرف أمام أي أزمة عسكرية أو اقتصادية تلوح في الأفق.

الجميع يصطف

هناك استعدادات تتم على قدم وساق في كل مكان حولنا..

 إثيوبيا تحتشد طمعاً في ميناء على ساحل صومال لاند. وقوات الجنجويد تستعد لحصر الأراضي التي استولت عليها لبسط نفوذها هي وحلفائها عليها. والحوثي خضعت له رقبة البحر الأحمر التي أمسكها بين تلابيبه يمنح ويمنع ما يشاء من سفن أو يستولي عليها أو يدمرها، وقد آل له التحكم في حركة الملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب قسراً.

 حتى البلدان البعيدة عن دائرة الصراع تستعد. فها هي كوريا الشمالية تجري اختبارات لصواريخها الباليستية تحت دعوي التهديدات الخارجية غير معلومة المصدر! وبولندا تخشي أن تكون أول بلدان الناتو تأثراً بتهديدات روسيا المستمرة باستخدام النووي، وتايوان تنفي تورطها في صفقة أجهزة البيجر المنفجرة في لبنان، خشية أن تتخذها الصين ذريعة لاجتياحها والسيطرة عليها.

 كل هذا يحدث بينما الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بالاستعداد للانتخابات التي يبدو أنها لن تمر بسلام. والأمم المتحدة لم يعد لها دور حقيقي. ومحكمة العدل الدولية لا تستطيع كبح جماح إسرائيل ومجازرها اليومية ضد المدنيين في فلسطين ولبنان.

 الجميع يحتشد ويستعد ويحذر مما هو قادم. بينما نحن مصرون على أن نلعب دور الأصم وسط كل تلك الانفجارات المنذرة بالتمدد.

رقصة المذبوح

إسرائيل، وبعد ما يقرب من عام حرب، باتت كأنها ذئب جريح ينهش مَن يقترب منه. فقد خسرت جراء الحرب خسائر بلا حصر. وخسارتها الأكبر أنها لا تستطيع إعادة النازحين من مستوطنيها لأراضيهم وبيوتهم، ولا استعادة الأسري، ولا استعادة الشعور بالأمان داخل أراضيها بما فيها تل أبيب. وأصبح تأمين مناطق الشمال يمثل هاجساً لها؛ إذ لا يمكنها إيقاف الحرب وفى حلقها شوكة اسمها حزب الله تهددها على الدوام، وتحول دون عودة المستوطنين للشمال.

 العمليات المشتركة الأخيرة للموساد الإسرائيلي والاستخبارات العسكرية كانت تمثل رقصة المذبوح الذي ينثر الدم من حوله، ويؤذي مَن تطاله يداه. وهي عمليات غير مأمونة العواقب، ورد الفعل ضدها من حزب الله اللبناني ومن ورائه إيران قد يكون أخطر وأشد من تصورات إسرائيل. وإذا حدث الاجتياح البري لجنوب لبنان، فسوف تنفتح عدة جبهات لتخفيف الضغط على لبنان، وتشتيت إسرائيل. هكذا سوف تتلقي إسرائيل ضربات من العراق وسوريا واليمن وإيران معاً. وسوف تدافع أمريكا عن إسرائيل بكل قوة، ما يعني أن العجلة ستنزلق سريعاً حتى تهوي نحو أتون مشتعل من معارك لا يدري أحد مداها.

 أما الحالة السيكولوجية الغريبة التي أصابت بلادنا العربية بميكروبات البلادة والاستكانة والإنكار، فلابد لها أن تنتهي. العدو واضح، وخططه معلومة، وخطره يزداد، وعلينا أن نكون على أتم استعداد لسيناريوهات الحرب الإقليمية القادمة بمختلف آثارها وتبعاتها.

***

عبد السلام  فاروق

تحتضن الأمم المتحدة في مقرها في نيويورك يومي 22 و 23 أيلول/سبتمبر الجاري " قمة المستقبل"، بوصفها "مؤتمر القمة المعني بالمستقبل"، التي من المؤمل ان تكون حدثاً عالمياً محورياً، رفيع المستوى، يجتمع فيها قادة العالم للتوصل إلى توافق دولي جديد في الآراء بشأن كيفية تحقيق حاضر أفضل بشكل يكفل حماية المستقبل، الى جانب حماية الحاضر، في وقت يلمس العالم فيه  الحاجة المتزايدة، بالضرورة، للتعاون الدولي الفعال لبقائنا على قيد الحياة، لكن تحقيق ذلك صعب في أجواء تنعدم فيها الثقة، وتُستخدم فيها هياكل عفا عليها الزمن لم تعد تعكس الواقع السياسي والاقتصادي  في للوقت الحاضر.

في هذا السياق، تعتبر " قمة المستقبل" فرصة هامة لترميم ما تآكل من الثقة، وإثبات فعالية التعاون الدولي في تحقيق الأهداف المتفق عليها والتصدي للتهديدات والتحديات والفرص الناشئة.وعدا هذا فهي تعتبر فرصة نادرة في كل جيل لإعادة تحديد مسار المستقبل لصالح البشرية جمعاء. بعبارة أخرى

تأتي القمة تنفيذاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم 76 / 3007 والمؤرخ في 8/9/2022 والذي هو ثمرة نقاشات بدأت منذ عام 2020 بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الأمم المتحدة، والتي أطلقت طروحات جادة وتخوفات موضوعية بشأن مستقبل التعاون الدولي وتحدياته. وقد تبلورت فكرة القمة خلال جائحة كوفيد-19، حين ظهرت فجوة بين تطلعات الأمم المتحدة وواقع العالم المتغير بسرعة.

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد كلفت الأمين العام أنطونيو غوتيريش بوضع رؤية لمستقبل التعاون العالمي. وإستجابة لهذه الدعوة قدم "خطتنا المشتركة"، وهو تقرير تاريخي يتضمن توصيات بشأن التعاون العالمي المتجدد لمعالجة مجموعة من المخاطر والتهديدات، واقترح فيه عقد قمة استشرافية بشأن المستقبل عام 2024.وقال السيد غوتيريش إن المقترحات والأفكار الواردة في رؤيته لمستقبل التعاون العالمي، والمعروفة باسم  "خطتنا المشتركة"، تمثل "جسورا عبر فجوة التطلعات: بين العالم كما هو، والعالم كما نعرف أنه يمكن أن يكون"..

تنظيمياً،ستسبق القمة يومان من التحضيرات والمناقشات العامة ضمن الأسبوع رفيع المستوى المخصص للجمعية العامة. سيشارك فيها الى جانب ممثلي الدول الأعضاء،ممثلون عن المجتمع المدني، والقطاع الخاص،والأوساط الأكاديمية، والسلطات المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى الشباب.

ستتيح التحضيرات لكافة الأطراف المعنية فرصة للمشاركة في النقاشات المهمة وتبادل الأفكار حول القضايا الرئيسية. وأوضحت مديرة السياسات في القمة، ميشيل غريفين: “على الرغم من أن الحكومات هي اللاعب الرئيس، إلا إن مشاركة ممثلي المجتمع المدني والشباب والقطاع الخاص، ضرورية جداً لضمان شمولية القمة ونجاحها ”. وأضافت: "إن العنصر الأكثر أهمية في التعاون الدولي هو الثقة. الثقة في بعضنا البعض. والشعور بإنسانيتنا المشتركة وترابطنا".وأكدت بان "القمة مصممة لتذكيرنا جميعا، ليس فقط الحكومات ولا الأشخاص فحسب الذين سيحضرون إلى الأمم المتحدة في نيويورك في أيلول، بل الجميع، بأننا يجب أن نعمل معا لحل أكبر مشاكلنا المشتركة".

الى هذا، تطمح الأمم المتحدة والحكومات الحريصة على مستقبل شعوبها والحفاظ على السلم والأمن الدوليين، ان تمثل قمة المستقبل فرصة استراتيجية لإعادة النظر في كيفية إدارة التحديات العالمية ومواجهة الأزمات الراهنة. من خلال التعاون الدولي والتزام الدول المختلفة بميثاق دولي يُقر بالإجماع،.وتأمل أيضاً بتحقيق نتائج ملموسة تدفع العالم نحو مستقبل أكثر استدامة وعدلاً.

من هذا المنطلق أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2022ان يعتمد" مؤتمر القمة المعني بالمستقبل "وثيقة ختامية موجزة وذات بعد عملي، تعنون :" ميثاق من أجل المستقبل"، يُتفق عليه مسبقاً من خلال مفاوضات حكومية أولية، وان  تشمل الوثيقة الختامية / الميثاق من أجل المستقبل/ العناصر التالية المؤلفة من مقدمة و5 قصول على النحو التالي:

الفصل الأول- التنمية المستدامة وتمويل التنمية.

الفصل الثاني- السلام والأمن الدوليان.

الفصل الثالث-العلم والتكنولوجيا والإبتكار والتعاون الرقمي.

الفصل الرابع- الشباب والأجيال المقبلة.

الفصل الخامس-إحداث تحول في الحوكمة العالمية.

وان يؤخذ في الإعتبار في الفصول ذات الصلة من الميثاق خطة التنمية المستدامة لعام 2030 والتعهد الوارد فيها بأن لا يترك أحد خلف الركب، والإلتزام بالقضاء على الفقر والجوع في كل مكان، ومكافحة أوجه عدم المسؤولية داخل البلدان وفيما بينها، وإقامة مجتمعات مسالمة وعادلة لا يُهمش فيها أحد، وضمان الحماية الدائمة لكوكب الأرض وموارد الطبيعة، وتهيئة الظروف المؤاتية للنمو الأقتصادي البطيء والمستدام الذي يشمل الجميع ولبلوغ الإزدهار العميم وتوفير فرص العمل اللائق للجميع، مع مراعاة مستويات التنمية والقدرات على الصعيد الوطني، وكذلك إعمال حقوق الإنسان الواجبة للناس كافة، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين جميع النساء والفتيات.

المطروح على " قمة المستقبل " المرتقبة ان تشتمل نتائجها المباشرة: صدور النسخة النهائية من "الميثاق من أجل المستقبل" ، وميثاق رقمي عالمي، وإعلان بشأن الأجيال القادمة. ومن المؤمل أن تعتمدها الدول الأعضاء جميعا خلال القمة

ويؤكد خبراء الأمم المتحدة لن تكون نهاية القمة نهاية النقاشات. بل، ستبدأ مرحلة تنفيذ القرارات التي ستصدر عنها وذات علاقة بقرارات مؤتمرات دولية أخرى. ففي تشرين الثاني القادم ستستضيف أذربيجان مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP29)، حيث سيتم التركيز على تمويل المناخ. وفي كانون الأول 2024، سينعقد مؤتمر الأمم المتحدة حول البلدان النامية غير الساحلية في بوتسوانا، لمناقشة حلول التنمية المستدامة. وفي حزيران 2025  سينعقد في إسبانيا مؤتمر التمويل الدولي الرابع (FfD4)  لتمويل التنمية، والذي ستُركز الجهود على إصلاح الهيكل المالي الدولي، بما في ذلك هيئات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي تقرر كيف وتحت أي شروط، تقدم القروض والمنح والمساعدة الفنية للدول النامية، بتوجيه طموح لمعالجة التحديات المالية “في سياق الحاجة الملحة لتسريع تنفيذ خطة العمل 2030 وتحقيق أهداف التنمية المستدامة ودعم إصلاح الهيكل المالي الدولي.”

ولابد من تسريع الجهود للوفاء بالإلتزامات الدولية القائمة التي سيتضمنها الميثاق واتخاذ تدابير عملية للاستجابة لما ينشأ من تحديات واستغلال ما يُتاح من فرص.والنتيجة المتوخاة هي إيجاد عالم - ونظام دولي - أكثر استعدادا للتعامل مع التحديات التي نواجهها حاليا وتلك التي سنواجهها في المستقبل، تحقيقا لصالح البشرية جمعاء وصالح الأجيال المقبلة.

ويأمل الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش أن تسمح "قمة المستقبل" للأمم المتحدة بالوفاء بوعدها الذي قطعته في "ميثاق الأمم المتحدة" لإنقاذ الأجيال المقبلة، ليس فقط من ويلات الحرب، وإنما أيضاً من التهديدات الآنية العديدة التي تهدد بقاءها على قيد الحياة.

***

د.كاظم المقدادي

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" Benjamin Netanyahu في خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة "هذا صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب". وقام بتكرار هذا الكلام في الخطاب الهزلي الذي ألقاه في الكونغرس الأمريكي في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 2024. وكان نتنياهو قد أعرب عن هذه الفكرة مراراً وتكراراً، قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ــ وهي فكرة مفادها أن إسرائيل معقل للحضارة الغربية في منطقة غير حضارية ومتخلفة وبدائية.

إن ذكره لكلمة "الغابة" يذكرنا بتعبير إسرائيلي شائع، منسوب إلى رئيس الوزراء السابق "إيهود باراك" Ehud Barak قبل ثلاثة عقود من الزمن، مفاده أن إسرائيل "فيلا في الغابة". والغابة في هذه الحالة هي العالم العربي، والفلسطينيون فيه هم «غير الآدميون» بامتياز.

لكن الفكرة تعود إلى إلى المفكرين الصهاينة الأوائل. أراد "تيودور هرتزل" Theodor Herzl الأب النمساوي المجري للصهيونية الحديثة، إنشاء دولة يمكن لليهود فيها أن يكونوا في مأمن من معاداة السامية العنيفة التي واجهوها منذ فترة طويلة في أوروبا. لقد رسم رؤية لدولة يهودية في فلسطين من شأنها أن تمنح الحقوق المدنية للعرب الذين بقوا هناك (في مذكراته، طرح فكرة نقل البعض خارج الحدود). وقال إنه من خلال جلب الحضارة الغربية إلى المنطقة، سيعود اليهود بالنفع على العرب المحليين اقتصاديا وثقافيا - وأن الدولة اليهودية "ستشكل جزءا من جدار الدفاع ضد آسيا" وهي سنكون بمثابة موقع أمامي للحضارة ضد الهمجية.

تُعتبر أيديولوجية "البؤرة الاستيطانية للحضارة" هذه مفتاحاً لفهم كيف بررت إسرائيل تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم أمام الإسرائيليين والعالم، حيث استقر اليهود الذين لجأوا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين. عندما تأسست إسرائيل عام 1948، تم طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بالدولة اليهودية.

لكن منذ الأيام الأولى للدولة، كانت هناك فئة لم تقتنع بالتبرير: هم اليهود الذين لهم جذور في العالم العربي والإسلامي. يُطلق على هؤلاء اليهود اسم "المزراحيم" Mizrahi في إسرائيل، وهم اليوم أكبر مجموعة عرقية في البلاد. لقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل بعد عام 1948، وخلال معظم تاريخ إسرائيل، كانوا ضحايا لنفس النوع من الأيديولوجية المعادية للعرب التي تُمارس ضد الفلسطينيين.

تمتع اليهود الشرقيون لقرون عديدة بمكانة عالية في بلدانهم الأصلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تراوحت من العراق إلى مصر إلى المغرب. ولكن عندما وصلوا إلى إسرائيل، وجدوا أن الدولة الجديدة يحكمها يهود أوروبا، الذين يطلق عليهم "الأشكناز"  Ashkenaziالذين نظروا إليهم بأغلبية ساحقة على أنهم بدائيون ومتخلفون ثقافياً.

سارع المثقفون اليهود الشرقيون في ذلك الوقت إلى ربط التمييز ضدهم بالتمييز ضد الفلسطينيين. وكان الاستشراق ــ وهو المصطلح الذي أطلقه الباحث الفلسطيني "إدوارد سعيد" Edward Said على الاتجاه الأوروبي لتصوير "الشرق" على أنه غريب وغير عقلاني وغير متحضر ــ يستخدم لتصوير كلا المجموعتين على أنهما أقل شأناً وحرمانهما من الحقوق المتساوية. وكان نضالهم واحداً. وهكذا، بدءًا من خمسينيات القرن الماضي، شكّل المزراحيون والفلسطينيون حركة تضامن، وأنتجوا كل شيء بدءًا من المجلات المشتركة وحتى الاحتجاجات المشتركة في الشوارع.

تقدم هذه الحركة وجهة نظر مضادة لنظرة "فيلا في الغابة" لإسرائيل - وهي رؤية بديلة لكيفية العيش معاً لليهود والفلسطينيين على الأرض. كما أنها تقدم طريقة أكثر دقة للتفكير في المناقشات المعاصرة حول معنى الأصلانية والأمة والاستعمار في إسرائيل وفلسطين.

وتبدو رؤية التضامن المزراحي ـ الفلسطيني أكثر أهمية في ضوء ما حدث بالفعل في العقود الأخيرة: إن فهم الانحراف في السياسات الصهيونية اليمينية المتشددة هو المفتاح لفهم الخطأ الذي حدث في تاريخ إسرائيل والذي جعلها غير قادرة على تصور التعايش مع شعب عربي. وقد يكون المفتاح لبناء مستقبل أفضل للجميع.

من هم اليهود الشرقيون؟

جاء اليهود الشرقيون إلى إسرائيل من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا، وغالباً من الدول العربية. (على الرغم من أنه يتم في بعض الأحيان تجميعهم مع اليهود "السفارديم" Sephardic الذين يتشاركون معهم بعض العادات الدينية، فإن مصطلح "السفارديم" يشير تقنياً إلى اليهود من إسبانيا والبرتغال). ولكن قبل الهجرة إلى إسرائيل، لم يكونوا يفكرون في أنفسهم كمزراحيين. هذا المصطلح يعني "الشرقية"  easternأو "ا מזרחי" بالعبرية، تمت صياغته في إسرائيل في القرن العشرين.

وكان أغلبهم يظنون ببساطة أنهم "يهود عراقيون"، على سبيل المثال، أو "يهود مغاربة"، أو يهود يمنيين، اعتماداً على بلدهم الأصلي. لكن البعض وصفوا أنفسهم بأنهم "اليهود العرب" وكان جيرانهم المسلمون يستخدمون هذا المصطلح أحياناً لوصفهم.

في الوقت الحاضر، من الشائع جداً أن نسمع عن العداء بين اليهود والعرب لدرجة أن الكثير من الناس قد يعتقدون أن العلاقة كانت دائماً عدائية، ومصطلح “يهودي عربي” يبدو تقريباً وكأنه تناقض لفظي. لكن على مدى قرون اندمج اليهود بعمق في المجتمع العربي، حيث عملوا كموسيقيين وتجار وحتى وزراء في الحكومة. لقد استهلكوا وأنتجوا الثقافة باللغة العربية. وقد تأثرت فلسفتهم ولاهوتهم تأثراً عميقاً بالفكر الإسلامي، والعكس صحيح. كان هناك يهود عرب بالتأكيد كما يوجد مسيحيون عرب.

ومع ذلك، فإن "اليهودي العربي" هو هوية متنازع عليها اليوم. العديد من اليهود ذوي الجذور في العالم العربي والإسلامي، الذين خاب أملهم من الطريقة التي يعامل بها هذا العالم اليهود - وخاصة بعد تأسيس إسرائيل - يفضلون مصطلحات مثل "مزراحي". ومع ذلك يشير بعض العلماء إليهم على أنهم يهود عرب للتأكيد على مدى ارتباطهم بالثقافة العربية قبل إنشاء إسرائيل.

على سبيل المثال، كان اليهود في العراق يشكلون ثلث سكان بغداد قبل قرن من الزمان. وكانوا بارزين في مجلس النواب العراقي وفي النظام القضائي. وفي عشرينيات القرن الماضي، أكد ملك العراق "فيصل الأول" King Faisal I على دورهم المتكامل، معلناً أنه “لا معنى لكلمات مثل اليهود والمسلمين والمسيحيين في مفهوم القومية. هذا ببساطة بلد اسمه العراق وجميعهم عراقيون”.

القصة مماثلة في المغرب، حيث حاول نظام فيشي الفرنسي فرض الاضطهاد النازي في المغرب خلال الحرب العالمية الثانية، لكن الملك "محمد الخامس" Mohammed V رحمه الله رفض وقال: “لا يوجد يهود في المغرب. هناك مغاربة فقط". وهفي المغرب أيضاً شغل اليهود مناصب عليا في الحكومة. لقد أقاموا صداقات عميقة مع جيرانهم المسلمين.

حتى في فلسطين كان اليهود يشكلون حوالي 8% من السكان العرب الفلسطينيين في عشرينيات القرن العشرين. تناول الخطاب السياسي الفلسطيني وضع اليهود الفلسطينيون في عدّة سياقات، فمثلا ورد في الميثاق القومي الفلسطيني الصادر عام 1964: «اليهود الذين هم من أصل فلسطيني يعتبرون فلسطينيين إذا كانوا راغبين بأن يلتزموا العيش بولاء وسلام في فلسطين.»

أما الميثاق الوطني الفلسطيني الصادر عام 1968 فلم يتطرق للإثنية، فنصت المادة السادسة منه على أن «اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها يعتبرون فلسطينيين»

لكن الخطاب الرسمي الإسرائيلي تجاهل استعمال مصطلح 'اليهود الفلسطينيين' لأسباب سياسية وأيدولوجية، فالصهيونية تعتبر الهوية الدينية اليهودية هي القومية وهي الهوية الوطنية، ولأنها كانت تريد إدماج اليهود الوافدين حديثاً كمواطنين أصليين إذاً لا فرق بينهم وبين اليهود المحليين.

النقطة المهمة هنا أن اليهود كانوا دائمًا آمنين في ظل الحكم العربي أو الإسلامي، على الرغم من تعرض اليهود لبعض الاضطهاد في اليمن في العصور الوسطى، وطردهم من أصفهان بإيران في عام 1656. لكن إذا كنت يهودياً تعيش في الإمبراطورية العثمانية الشاسعة، فقد حظيت بوضع جيد نسبياً. كان الحكام المسلمون ينظرون إلى اليهود باعتبارهم "أهل الكتاب" - رفاقهم الموحدين الذين، يستحقون الاحترام والحماية.

 لقد كان الأمر مختلفاً تماماً في أوروبا المسيحية، حيث تم إلقاء اللوم على اليهود في كل شيء بدءًا من موت يسوع وحتى الطاعون الدبلي. وبشكل عام تعايش اليهود مع جيرانهم في العالم الإسلامي بدرجة ملحوظة لمدة ألفي عام.

تذكر المؤرخة اليهودية "أوريت باشكين" Orit Bashkin أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في "جامعة شيكاغو" University of Chicago “لقد كان عمراً مريحاً مقارنة بالحياة في أوروبا. وعلى الرغم من وجود صعود وهبوط، ولكن بشكل عام ازدهر اليهود في الأراضي الإسلامية".

ومع ذلك، فإن الجاليات اليهودية المتبقية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أصبحت اليوم صغيرة إلى حد التلاشي.

لماذا غادر اليهود الشرقيون الدول العربية؟

وفي حين نجت المجتمعات اليهودية في الشرق الأوسط - وازدهرت في كثير من الأحيان - تحت الحكم العربي أو الإسلامي لأكثر من 2000 عام، فإنها في نهاية المطاف لم تتمكن من البقاء على قيد الحياة بعد تأسيس دولة إسرائيل.

أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، استقر مئات الآلاف من اليهود الفارين من الإبادة الجماعية بأوروبا في فلسطين. بحلول عام 1947، وسط دعوات لإقامة دولة تكون بمثابة ملاذاً آمناً لليهود بعد المحرقة، قامت الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، التي كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية، إلى دولة عربية ودولة يهودية.

لكن مندوب مصر لدى الأمم المتحدة حذر في ذلك الوقت من أن “حياة مليون يهودي في الدول الإسلامية ستتعرض للخطر بسبب إقامة دولة يهودية”. وكان الخوف هو أن يُنظر إلى جميع اليهود في العالم العربي على أنهم مؤيدون للصهيونية، وأن تنقلب الدول العربية على اليهود داخل حدودها نتيجة لذلك.

لكي نفهم الذي حصل، ولماذا كانت هذه لحظة زلزالية، علينا أن نتذكر أننا نتحدث عن فترة في تاريخ المنطقة حين اهتزت الإمبراطوريات العالمية الكبرى وسط الجهود المبذولة لإنهاء الاستعمار. وكانت التحولات التكتونية تحدث في الأيديولوجية السياسية، بما في ذلك في العالم العربي، حيث كانت القوى القومية العربية تختمر منذ سنوات.

في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حصلت الدول العربية مثل العراق وشرق الأردن على استقلالها من القوى الأوروبية، وأبرزها بريطانيا. لقد صور القوميون العرب في هذه البلدان العالم العربي كله كأمة واحدة موحدة. لقد كانت رؤية قومية عربية وشملت فلسطين – حيث كانت التوترات تتصاعد بين الفلسطينيين واليهود، بسبب تزايد أعداد اليهود الأوروبيون المهاجرين القادمين إلى فلسطين.

وحتى قبل تأسيس دولة إسرائيل، وضع هذا اليهود في العالم العربي في موقف مربك. هل يرى اليهود العرب أنفسهم جزءا من الحركة القومية العربية؟ هل سينظر إليهم العرب الآخرون بهذه الطريقة؟ واختلفت الإجابة. شعر بعض اليهود بأنهم جزء من الثقافة العربية لدرجة أنهم دعموا القومية العربية - بما في ذلك في فلسطين.

الكاتب والمؤرخ اليهودي العراقي "عزرا حداد"  Ezra Haddad صاحب كتاب "تاريخ اليهود في العراق وتراثهم الشعبي" قال في عام 1936 "نحن عرب قبل أن نكون يهود". وفي عام 1938، قالت مجموعة من المهنيين اليهود العراقيين للصحافة إنهم "شباب يهود عرب" يدعمون فلسطين العربية. لكن العديد من جيرانهم غير اليهود نظروا إلى اليهود على أنهم يدعمون البريطانيين بدلاً من دعم جهود الدول العربية للخروج من تحت الاستعمار. وقد فتح الصدع في العلاقات. ثم تأسست دولة إسرائيل، وتحول الصدع إلى هوة واسعة النطاق. والآن يُشتبه أيضاً في أن اليهود في الدول العربية يدعمون طرد العرب الفلسطينيين من أراضيهم لإفساح المجال أمام قيام دولة يهودية نقية.

في معظم أنحاء العالم العربي، أصبح اليهود أهدافاً للشبهات، وفي عدد من الحالات أصبحت الظروف معادية للغاية لدرجة أنهم اضطروا فعلياً إلى الخروج. وفي حالات أخرى، غادر اليهود العالم العربي لأنهم أرادوا ذلك. وشعر البعض بشوق ديني عميق للعودة إلى الأرض المقدسة. إلى جانب ذلك نشط المبعوثون الصهاينة في هذه البلدان منذ أوائل الأربعينيات، محاولين حث اليهود على الهجرة. بعبارة أخرى، كان هناك دفع وسحب. وكانت النتيجة النهائية نزوح اليهود من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى دولة إسرائيل الوليدة.

كيف كانت حياة اليهود الشرقيين في إسرائيل؟

على الرغم من أن المبعوثين الصهاينة وعدوا المزراحيين بالعثور على حياة أفضل في إسرائيل، إلا أن هؤلاء اليهود كانوا في الواقع يواجهون خيبة أمل كبيرة. بدأ الأمر بمجرد نزولهم من الطائرات. أولاً، تم رشهم بمبيد الحشرات دي دي تي DDT "لتطهيرهم" و"إزالة القمل". ثم تم إرسالهم للعيش في مخيمات مؤقتة تعرف باسم "المعبروت" ma'abarot وهي عبارة عن مدن خيام لا توجد بها كهرباء أو مياه جارية أو صرف صحي أساسي.

وفي وقت لاحق، تم نقلهم إلى المدن الفقيرة المعروفة باسم مدن التطوير، والتي توفر السكن الدائم، ولكن الفقير في البنية التحتية أو الفرص الاقتصادية. خلال الخمسينيات من القرن الماضي، كافحت إسرائيل لبناء مساكن كافية للمهاجرين الذين يتدفقون عليها من العالم العربي وأوروبا، لكن اليهود الأوروبيين حصلوا على مساكن أفضل في مدن مرغوبة أكثر.

وذلك لأنه في نظر النخبة الأشكنازية الحاكمة، كان إخوانهم اليهود الأوروبيين متحضرين بالفعل، في حين كان اليهود الشرقيون بدائيين ــ أو كما قال المثقف الشرقي "إلياهو إليشار" Eliyahu Elishar "عبء الرجل الأبيض".

بين عامي 1948 و1954، اختفى ما بين 1500 و5000 طفل مزراحي – معظمهم أطفال يمنيون – من المستشفيات الإسرائيلية، إما مباشرة بعد ولادتهم أو عندما تم نقلهم لرؤية الطبيب بسبب بعض المشاكل الطبية. وقيل للوالدين أن الأطفال قد ماتوا، ولكن دون تقديم أي دليل. يعتقد بعض اليهود الشرقيين أن الأطفال يُمنحون لأزواج أشكنازي ليس لديهم أطفال.

وفي السنوات الأخيرة، تم إثبات هذه الادعاءات بمساعدة اختبار الحمض النووي. واعترف الوزير الإسرائيلي المكلف بالتحقيق في هذه القضية علناً قبل بضع سنوات بحدوث عمليات الاختطاف بالفعل.

تُظهر الشهادات أن موظفي المستشفى اختطفوا الأطفال بسبب الاعتقاد بأن اليهود الشرقيين كانوا آباء غير مؤهلين ولديهم عدد كبير جداً من الأطفال. إن منح الأطفال لأزواج من الأشكناز سيكون بمثابة خدمة للجميع، من وجهة نظرهم، بما في ذلك دولة إسرائيل الفتية، التي ستحصل على جيل جديد من المواطنين الذين تحرروا من النفوذ الشرقي "المتخلف".

لم تكن الأيديولوجية الاستشراقية الأوروبية القديمة وحدها هي التي طالبت اليهود الشرقيين بأن يكونوا "متحضرين" وأن يتخلوا عن ثقافاتهم. لقد كانت أيضاً حقيقة سياسية إسرائيلية بشكل واضح. في نكبة عام 1948 التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، هاجمت الدول العربية المجاورة إسرائيل. فأصبح «العربي» مرادفاً لـ«العدو» وكل ما يهدد لطمس الحدود بين اليهود والعرب كان لا بد من إزالته.

وفي سعيها لنزع الطابع العربي عن اليهود العرب، اخترعت إسرائيل "المزراحيين" كفئة اجتماعية. الآن لن يكون لهؤلاء اليهود أي فائدة لمُعرفات غير مقبولة مثل "العرب" أو "اللبنانيين" أو "السوريين" - سيكونون جميعاً مجرد مزراحيين. (تم أيضاً إدراج الفرس والأتراك والهنود الذين ليسوا عرباً في الفئة الشاملة للمزراحيم لأنه كان يُنظر إليهم على أنهم "شرقيون".

كان النفور من كل ما هو عربي يعني أيضاً أن المزراحيين اضطروا إلى التخلي عن لغتهم الأم، العربية، التي كانت في السابق توحدهم مع جيرانهم في بلدانهم الأصلية والتي تعتبرها إسرائيل الآن لغة العدو. لقد كان تمزقاً مؤلماً ربما تم التعبير عنه بشكل أفضل في كلمات الكاتبة المغربية اليهودية "سارة شيلو" Sarah Shilo صاحبة رواية "مات ملك الفلافل" The Falafel King is Dead حيث قالت "جاءت سكينة العبرية وقطعتنا إلى قسمين".

التاريخ غير المعروف للتضامن المزراحي الفلسطيني

واجه المزراحيون تمييزاً شديداً لدرجة أن البعض أصبحوا يعتبرون أنفسهم ضحايا للصهيونية وحذروا أفراد عائلاتهم المتبقين في وطنهم من الهجرة إلى إسرائيل. وفي الواقع غادر آلاف اليهود من شمال إفريقيا وآسيا إسرائيل وعادوا إلى بلدانهم السابقة. في إحدى الاحتجاجات التي لا تنسى في عام 1951، أعلن اليهود الهنود إضراباً عن الطعام حتى الموت وقدموا مطلباً واحداً لإسرائيل: “لقد أحضرتمونا إلى هنا – نريدكم أن تعيدونا”. وانتهى الأمر بإسرائيل بإعادتهم إلى بومباي. ومع ذلك، بقي معظم اليهود الشرقيين في إسرائيل. لقد فعلوا ما يفعله المهاجرون: لقد حاولوا الاندماج. فإذا كان ذلك يعني التخلص من عروبتهم لشراء رأس المال الاجتماعي فليكن.

لكن كان هناك مقاومون أيضاً. قام المثقفون الشرقيون بتحليل الأيديولوجية الصهيونية وجادلوا بأنها نشأت من التفكير القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر، حيث كان يُنظر إلى الاستعمار على أنه نبيل وكان الاستشراق أمراً ضرورياً. ففي نهاية المطاف، في أوائل القرن العشرين، لجأ هرتزل إلى البريطانيين للحصول على الدعم في إنشاء دولة يهودية لأنه، كما قال "يجب فهم الفكرة الصهيونية، وهي فكرة استعمارية، في إنجلترا بسهولة وبسرعة" نظراً لأن إنجلترا كانت "أول من أدرك ضرورة التوسع الاستعماري في العالم الحديث". تم تصوير الاستعمار على أنه وسيلة "لحضارة" العالم. قال رئيس وزراء إسرائيل الأول "ديفيد بن غوريون" David Ben-Gurion بلا خجل: "لا نريد أن يصبح الإسرائيليون عرباً. وواجبنا أن نحارب روح الشام التي تفسد الأفراد والمجتمعات.

ونظراً لهذه الأيديولوجية، لم يكن من المفاجئ أن تصور الصهيونية العرب على أنهم وحوش غير متحضرة - سواء كانوا يهوداً أو فلسطينيين. أدرك المثقفون الشرقيون أن نفس الأيديولوجية كانت تضطهد كلا المجموعتين. وهكذا شكلوا حركة تضامنية.

في عام 1953، أنشأ المثقفون الناطقون بالعربية مجلة تسمى "الجديد" Al Jadid والتي نشرت الشعر والروايات التي كتبها اليهود الشرقيون والفلسطينيون. قال المحررون إنهم يريدون تسليط الضوء على التمييز ضد المزراحيين والعرب "من منطلق روح "تأسيس" التضامن العربي اليهودي"، وفقاً لكتاب الأكاديمي اليهودي من أصل أفريقي "بريان روبي"  Brian Roby " عصر التمرد المزراحي: نضال إسرائيل المنسي من أجل الحقوق المدنية 1948-1966". The Mizrahi Era of Rebellion: Israel's Forgotten Civil Rights Struggle 1948-1966 الذي ذكر في كتابه " المزراحيم أو اليهود الشرقيون يمثلون الأغلبية العرقية للسكان اليهود الإسرائيليين. وعلى الرغم من هذا الوضع، فقد عانوا من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ونقص نسبي في التمثيل السياسي، نتيجة التسلسل الهرمي الاجتماعي العرقي الذي سمح بوضع متميز للأشكنازي". امتد التضامن بين العرب واليهود المزراحيم إلى الشوارع معاً في احتجاجات شعبية، حاملين لافتات كتب عليها "خبز – عمل – سلام" و"من أجل نضال موحد ومستمر"، ردت الشرطة الإسرائيلية بقوة شديدة.

حتى مجرد التحدث مع بعضهم البعض كان عملاً محفوفاً بالمخاطر. وكما يوثق روبي في كتابه قال أحد الضباط لعربي كان يتحدث إلى المزراحيين في مدينة بئر السبع الجنوبية: "يُسمح لك بزيارة المدينة، لكن ليس من الصواب أن تتحدث إلى السكان".

على الرغم مما وصفه روبي بأنه "سياسة فرق تسد التي تبذلها الحكومة لزرع بذور الكراهية المتبادلة بين المواطنين الفلسطينيين والمزراحيين"، حث المزراحيون مثل الكاتب اليهودي العراقي المولد "لطيف دوري"  Latif Douri على إنشاء حركة شبابية اشتراكية مشتركة للمزراحيين والفلسطينيين المراهقون لتعزيز “جسر التفاهم” بين الشعبين اليهودي والعربي. وكتب دوري أن «نضالنا المشترك» هو السبيل الوحيد لخلق مستقبل إيجابي لـ«الشعبين الشقيقين» اللذين يقفان «يداً بيد أمام الموجات القومية».

الاستعمار والأصالة والأمة - من منظور مزراحي

ومع ذلك، بالنسبة للعديد من المزراحيين، لم يكن الهدف محاربة فكرة الوطن اليهودي في حد ذاتها، بل محاربة الصهيونية الأشكنازية، التي اعتبروها استعمارية وعنصرية في جوهرها. لقد أدركوا أن هناك فرقاً بين الهجرة والاستعمار، ولم تكن لديهم مشكلة في عودة اليهود للعيش على أرض أجدادهم طالما أنهم لم يطردوا أو يستغلوا الفلسطينيين الذين عاشوا هناك بالفعل. ويتناقض هذا الرأي بشكل صارخ مع الشعار الصهيوني المبكر الذي وصف فلسطين قبل الاستيطان اليهودي بأنها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

من المفيد أن نتوقف لحظة لفهم ما يعنيه هذا الشعار حقاً. لا يعني ذلك أن الصهاينة الأوائل اعتقدوا حرفيًا أن فلسطين كانت صحراء غير مأهولة - فعندما زارها هرتزل، رأى العرب المحليين بأم عينيه وأطلق عليهم اسم "السكان الأصليين". في الواقع، قام اليهود الأوروبيون الذين استقروا في فلسطين في أوائل القرن العشرين بإضفاء طابع رومانسي على السكان المحليين باعتبارهم رموزاً للأصالة المحلية، إلى درجة أنه كان من المألوف بالنسبة للشباب الصهاينة ارتداء زي الراعي البدوي وخلط لغتهم العبرية بعبارات عربية. وكما كتب أحدهم لاحقاً: "كنا نموت لنكون مثلهم... لنتحدث مثلهم، لنسير مثلهم، قلدناهم في كل شيء... كنا نعتبرهم نموذجاً للمواطنين الأصليين". من الواضح أنه كان هناك بالفعل أشخاص على هذه الأرض. لكن من وجهة نظر العديد من الصهاينة الأوائل، لم يكن هناك شعب. وقد وصفهم هرتزل بأنهم "جموع مختلطة"، خليط من مجموعات سكانية مختلفة بدلاً من مجموعة عرقية واحدة متماسكة. ووفقاً للمنطق الأوروبي في بناء الدولة القومية في القرن التاسع عشر، فإن الأمة الموحدة فقط هي القادرة على المطالبة بالحقوق القومية، وبالتالي فإن عدم تجانس العرب المحليين يبطل أي حقوق قد تكون لديهم في الأرض على أساس أصلهم.

كان الصهاينة الأشكناز سعداء بالنظر إلى العرب باعتبارهم مُثُلاً رومانسية بينما كانوا يفتقرون إلى القوة، لكنهم أعادوا بناءهم باعتبارهم "الآخر" عندما أصبحوا يشكلون تهديداً كبيراً من خلال معارضة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وهكذا تحول الصهاينة من التنكر كعرب قبل تأسيس إسرائيل إلى التمييز ضدهم بعد ذلك.

وفي هذه الأثناء، كانت الحركة الصهيونية الأشكنازية تحاول إنتاج شعب يهودي موحد من أجل المطالبة "بالحقوق القومية". ولتحقيق ذلك كان عليها أن تجرد المزراحيين من أي علامات للهوية العربية، الأمر الذي يتحدى صورة الوحدة. ومع ذلك، أظهر هذا بشكل متناقض أن الشعب لم يكن جوهراً ثابتاً، بل هو بناء مصنّع، به قطع يمكن إزالتها حسب الرغبة. كانت الأصلانية والأمة فئتين مبنيتين اجتماعياً، وتتغيران باستمرار اعتماداً على الاحتياجات السياسية في ذلك الوقت.

لقد رفض المثقفون الشرقيون رفع شأن اليهودية بينما يشوهون العروبة. وبدلاً من الموافقة على شكل من أشكال الصهيونية الذي من شأنه أن يبني دولة قومية ذات أمة واحدة على القمة، دفعوا من أجل إعادة صياغة من شأنها أن تمنح حقوقاً متساوية لجميع سكان الأرض. والطريق الوحيد إلى هذا النوع من الرؤية العالمية هو التخلي عن فكرة هرتزل القائلة بأن اليهود موجودون هناك ليكونوا "موقعاً متقدماً للحضارة ضد الهمجية".

ولكن بحلول السبعينيات، كانت الأحداث التاريخية قد ضيقت المجال أمام تصور نسخة من إسرائيل يمكنها أن تقدم للجميع حقوقا متساوية. وفي حرب عام 1967، استولت إسرائيل على الضفة الغربية من الأردن، وغزة وشبه جزيرة سيناء من مصر، ومرتفعات الجولان من سوريا، مما أدى إلى توسيع الأراضي الخاضعة لسيطرتها بشكل كبير. وتم تهجير ما يقرب من 300 ألف فلسطيني من الأراضي المحتلة حديثاً، ووقع الملايين تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. ورغم أن إسرائيل أعادت سيناء في وقت لاحق، إلا أنها حافظت على درجات متفاوتة من القوة على المناطق الأخرى.

هل يمكن للتضامن اليهودي الفلسطيني أن يكون أكثر من مجرد رؤية رومانسية اليوم؟

قد تتوقع، بناءً على تاريخهم، أن اليهود الشرقيين سيرتبطون باليسار الإسرائيلي اليوم. لكن الأمر ليس كذلك: فالعديد من المزراحيين أصبحوا الآن يمينيين. في الواقع، من المستحيل فهم ميل إسرائيل إلى اليمين وصعود حزب الليكود المتشدد دون فهم مسار المزراحيين. اذاً ماذا حصل؟

بادئ ذي بدء، أدت تجربة الطرد من الدول العربية بعد عام 1948 بطبيعة الحال إلى توتر مشاعر العديد من اليهود تجاه العالم العربي. بالإضافة إلى ذلك، منذ لحظة وصولهم إلى إسرائيل، علمت تجربة التمييز ضد المزراحيين أن اكتساب المكانة الاجتماعية كان مشروطًا برفض العروبة. وما هي أفضل طريقة لرفضه من أن نصبح الأكثر قومية ومعاداة للعرب على الإطلاق؟ تقول "سمادار لافي" Smadar Lavi عالمة الأنثروبولوجيا المزراحية اليهودية من أصل مصري ومؤلفة كتاب "ملفوفة بعلم إسرائيل: الأمهات العازبات الشرقيات والتعذيب البيروقراطي" Wrapped in the flag of Israel : Mizrahi single mothers and bureaucratic torture "إذا كان خيارك الوحيد هو هز نقائك العنصري - فأنت بحاجة إلى إثبات أنك يهودي جيد، وهو ما يعني أنك إذا كنت يهودياً قومياً فهذا ما ستفعله”.

ولكن كان هناك عامل آخر. طوال العقود الثلاثة الأولى من وجود إسرائيل، كان يحكمها حزب العمل، الذي كان متجذراً في كل من الاشتراكية والصهيونية الأشكنازية. من الناحية العملية كان ذلك يعني بناء مؤسسات يسارية مثل الكيبوتس - وهو نوع من المجتمعات الزراعية الطوباوية التي يعود تاريخها إلى الأيام الأولى للصهيونية - حتى مع طرد الفلسطينيين من أراضيهم والتمييز ضد المزراحيين الذين كان من المرجح أن يتم توظيفهم كعمال رخيصين في الأراضي المحتلة). الكيبوتس بدلاً من الحصول على العضوية فيه.

وكانت هذه هي نسخة "اليسارية" التي واجهها المزراحيون. بالنسبة للكثيرين، كان الاستمرار في دعم حزب العمل عندما كان يمثل الصهاينة الأشكناز الذين اضطهدوهم احتمالاً غير ذات جدوى.

من ناحية أخرى، استخدم اليمين الإسرائيلي، الذي فضل نهجاً أكثر تشدداً في التعامل مع الفلسطينيين، بشكل استراتيجي التمييز الذي يمارسه اليسار ضد المزراحيين لصالحه. من خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، استثمر في مغازلة المزراحيين من خلال وعدهم بمزايا ملموسة وإمكانية صعودهم إلى أعلى. وبلغ هذا ذروته في انتخابات تاريخية مفاجئة في عام 1977، عندما ساعد المزراحيم في إطاحة حزب العمل الحاكم من خلال التصويت لصالح حزب الليكود اليميني بقيادة "مناحيم بيغن" Menachem Begin. ومع ارتباط المزراحيين بالليكود، فقد تبنوا بعض وجهات نظره السياسية.

واليوم، يقود نتنياهو المعارض لفكرة الدولة الفلسطينية، والذي أشرف على تكاثر المستوطنات الإسرائيلية على نحو أدى إلى تقويض إمكانية إنشاء دولة فلسطينية. والمزراحيم – الذين ما زالوا محرومين اقتصادياً مقارنة بالأشكناز – يشكلون جزءاً مهماً من قاعدته.

وبطبيعة الحال هناك بعض المزراحيين اليساريين. لقد حاولوا الانضمام إلى اليسار الإسرائيلي، الذي يهيمن عليه اليوم الأشكناز. لكن الكثيرين منهم أصبحوا يشعرون بالغربة، ويشعرون أن الأشكناز يتجاهلون القضايا التي تهمهم – مثل الفقر وعدم المساواة في السكن، والتي هي إرث التمييز العنصري داخل إسرائيل.

لقد حاول المزراحيون بشكل دوري إعادة تشغيل الرؤية القديمة للتضامن مع الفلسطينيين من خلال تأسيس مجموعاتهم الخاصة، مثل "ائتلاف قوس قزح الديمقراطي المزراحي" Mizrahi Democratic Rainbow Coalition في التسعينيات، و"تحطيم الجدران" Breaking down walls في عام 2019، و"التجمع المدني المزراحي" Mizrahi Civic Gathering في عام 2023.

تصر "نيتا عمار شيف" Neta Amar-Shift محامية حقوق الإنسان المزراحية على أن مستقبل الإسرائيليين مرتبط بمستقبل الفلسطينيين، لأن الصراع الطويل يعرض كلا الشعبين للخطر. “أعلم أنه إذا لم يكن الفلسطينيون آمنين، فلن أكون آمنًا. قالت: "إما الدمار المؤكد المتبادل أو الخلاص المؤكد المتبادل". لكن الآن ـ كما كان الحال في السابق ـ فإن مجموعات بناء الجسور المزراحية هذه تعاني من نقص الموارد. وبما أن المزراحيين يشكلون النسبة الأكبر من اليهود في إسرائيل، فإن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة لاحتمالات السلام في إسرائيل. ولا يقتصر الأمر على المزراحيين فقط، فقد كان الجمهور الإسرائيلي ككل يتحرك نحو اليمين من سنوات.

منذ تأسيس إسرائيل، أدرك الفلسطينيون أنه لا توجد إمكانية للتعايش في المجتمع الإسرائيلي؛ وهم لا يريدون ذلك. ولذا احتفظوا بهوية وطنية وثقافية قوية. ومع ذلك فإن المزراحيين يريدون بشدة أن يصدقوا أنهم جزء من الدولة اليهودية. لقد لعبوا لمدة سبعون عاماً وفقاً لقواعد النظام الصهيوني. لقد تخلصوا من أسمائهم، وتخلصوا من لغتهم، وتخلصوا من التاريخ والثقافة، وظلوا بلا شيء. ولا تزال الفجوات بين الأشكناز والمزراحيين في التعليم والدخل قائمة، وفي بعض الحالات آخذة في الاتساع. تظهر الدراسات أن المدارس ذات الجودة المنخفضة هي في البلدات المزراحية، وتُظهر تفاوتاً عميقاً في الميزانيات المخصصة تاريخياً للثقافة المزراحية. إن عدم المساواة هذا ليس من قبيل الصدفة. إنها نتيجة مباشرة لهذه الصورة الذاتية البيضاء لإسرائيل كدولة استعمارية غربية.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني مقيم في الدنمرك

 

تضاعفت الأقوال المسموعة على مدار الساعة، والقلة ممَن يخضعها لعقله، كي يميز الغث مِن السَّمين، وبقدر ما نفعت التكنولوجيا، الفكر النير، خدمت الجهل، لأنها تُدار بيد الإنسان، إذا كانت يد عاقل أو يد جاهلٍ، وبهذا تُعد منارة عقلٍ، أو مفرخة جهلٍ، حسب إدارتها.

تجد أطباء العلاج بطرد «الجن» لهم جمهورهم الغفير، وهؤلاء خدمتهم التكنولوجيا بمواقع وفضائيات، بينما قبل ألف عام قيل: «مِن بركة المعتزلة أنَّ صبيانهم لا يخافون الجن»(التَّنوخي، نشوار المحاضرة)، لأنهم أخضعوا القول للعقل، واليوم تتهافت الملايين على الهذيان، يُقدمه الوعاظ بعبارة «ورد في رواياتنا»، وآلاف الأقوال تنسب لأئمة وعلماء كذباً.

وقف إخوان الصَّفا(الرّابع الهجريّ) إزاء الظَّاهرة، وكأنهم عاشوا عصر وسائط التواصل اليوم، وما يغرف لها مِن أقاويل ليست على أساس، فأكدوا حكم العاقل لا القائل: «الإنسان قادر على أنْ يقولَ خلافَ ما يعلم، ولكنْ لا يقدر أنْ يعلمَ خلافَ ما يعقل، وذلك أنه يمكنه أنْ يقول: زيدٌ قائمٌ قاعدٌ، في حال واحد، ولكنْ لا يمكنه أنْ يعلم ذلك، لأنَّ عَقله يُنكرُه عليه. فما كان هذا هكذا. فلا ينبغي أنْ ينزلَ بالحكمِ على قولِ القائلين، ولكنْ على حكمِ العقولِ»(الرّسالة 13 من القسم الرّياضي).

لاحظ إخوان الصَّفا ما يمارسه القصاصون، وهو يجوبون الطُّرقات لبيع الهذيان، فدخلت أطنان منه إلى الأديان والمذاهب. لذا قالوا في رؤوس الجهل: «إنَّ قوماً من القصَّاصين وأهل الجدل، يتصدرون المجالسّ، ويتكلّمون في الآراء والمذاهب، ويناقضون بعضهم بعضاً، وهم غير عالمين بماهيتها، فضلاً عن معرفتهم بحقائقها، وأحكامها، وحدودها، فيسمع قولهم العوام، ويحكمون بأحكامهم»(الرسالة الأولى في الآراء والديانات).

شاهدتُ أحد الوعاظ، يتهم «الفيسبوك» بالكذاب، لأنَّه أحرجه بنشر جهالاته في الأقوال، وهو نفسه لا يتحرج مِن نشر غير المعقول فيه. إنها منصةٌ هائلهٌ في نقل القول، بلا خضوع لغربلة، فمن يقول زيدٌ قائمٌ وقاعدٌ في الوقت نفسه، يفسره للعوام بالكرامة، لأنّ العقول مرهونة عند مَن يقلدونه، في الدُّنيا والدِّين، وقد أشير إلى قصاصٍ صاحب منبر: «وكان مِن مشاهير الوعاظ، الذين يحسنون الهيمنة على شعور العوام»(الخاقانيّ، شعراء الغري).

فالعوام هم ضالة القصاصين، جمهور غفير لا يعرف اليمين مِن اليسار إلا بتقليد، ليس صعباً على القصاص إقناعهم بتأخير غروب الشَّمس أو شروقها بكرامة مِن الكرامات، فما هو حجم مصلحة هؤلاء إبقاء الجمهور جاهلاً؟ فالإنسان «لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم»(الجاحظ، البيان والتبيين)، والتَّعليم عندما توجهه منابر القصاصين، يُحقق ما نرى ونسمع مِن فضائع.

ما حذر منه إخوان الصّفا، قبل ألف عام، يمارس مِن على أرقى اختراع اليوم، حتَّى صار الجهلُ صناعةً، والهذيان يحل محل العلم، ولا يهم التّحقيق، مع أنّ «كلَّ كلام على غير أصل، هذيان لا تحقيق له»(الرَّسالة الأولى في الآراء والدِّيانات).

نأتي بمثالٍ تطبيقي، على ما نبه إليه إخوان الصَّفا، في القائل والعاقل، وهو ما تُحارب ضد تنفيذه الأمهات اليوم، يقول فقهاء: «لا يجوز وطء الزَّوجة قبل إكمال تسع سنين»، فيجوز العقد للرضيعة، فهل يُحكم بهذا القول، مع أنه ليس مِن بنات العقل؟! محال يقبله عاقل، وبالتالي يكون هذياناً، الهذيان القاصد هتك الطّفولة، باسم الدِّين. فطوبى لإخوان الصّفا تركوا حِجَّةً فلسفيَّة، نجادل بها غرائب زماننا.

مثّلَ إخوان الصّفا في تمييزهم بين القائل والعاقل نهضةً في قياس زمانهم، سرعان ما خفتت، وظلت رسائلهم جذوةً يُستضاء بها، عند المميز بين النُّور والظّلمة، أمّا الآخرون، «ممَن يسمع قولهم العوام ويحكمون بأحكامهم» فأبي الطَّيب(قُتل: 354 هجريَّة) يقول: «وما انتفاع أخي الدُّنيا بناظره/ إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلمُ»(العُرف الطَّيب).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: فلوريانا بولفون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

يزيد رؤساء العمل المتحرشون جنسياً من صعوبة الحياة على العاملات الأجنبيات اللاتي فررن من الحرب والفقر إلى إيطاليا.

في توسكانا الجميلة، الشهيرة بمناظرها الطبيعية القديمة ومأكولاتها اللذيذة، هناك فئة من الناس محرومة من حقوقها وغالباً من الأمل أيضاً. يعملون من الفجر حتى الغسق منحنين الظهر، يقطفون الفواكه والخضروات التي تصبح مكونات لأشهر الأطباق الإيطالية - 12 ساعة في اليوم تحت حرارة الصيف، وساعات أقل قليلاً في برودة الشتاء. يحدث هذا في تلال أريتسو، حيث تحولت القلاع إلى منتجعات سياحية فاخرة؛ وفي القرى ذات الأبراج في فال دي كورنيا، حيث يأتي الفنانون والكتاب  إلى هنا بحثاً عن حياة هادئة ومنسجمة؛ وفي ريف ماريمّا، المزدان بمنازل المزارع الحجرية القديمة التي يرغب بها المصطافون من جميع أنحاء العالم.

هذا هو الجانب المظلم من توسكانا: على بُعد أميال قليلة من المناظر الطبيعية الرائعة لعصر النهضة، توجد مشاهد استغلال جهنمي. معظم العاملات هن من النساء؛ العديد منهن يعبرن إيطاليا في المرحلة الأخيرة من رحلة بدأت في أفريقيا جنوب الصحراء. مشين عبر الصحاري، ونجون من رحلات بحرية خطرة ومهربي البشر العنيفين، وسجون ليبيا وعواصف البحر الأبيض المتوسط - فقط ليجدن أنفسهن في يد نوع آخر من المعذبين، ما يسمى "الكابورالي" (رؤساء العمال)، وهم مشرفون على العاملات نيابة عن أصحاب المزارع.

تقول ماري، التي جاءت من نيجيريا: " يعاملوننا كالحيوانات"،  تعيش  ماري هي وأطفالها في منزل مع مهاجرين آخرين في ضواحي المدينة، ليس بعيداً عن المزارع التي تعرضت للاستغلال فيها لسنوات. إنه منزل مؤقت، وفرته جمعية خيرية لأنها تحتاج إلى مأوى مناسب لرعاية طفلها المولود حديثاً. تحدثت إلى "نيو لاينز" أنها فضلت عدم دعوتنا للدخول، احتراماً لخصوصية زملائها في المنزل"  لذلك جلسنا في الخارج. على بعد أميال قليلة، هناك مزارع بها صفوف مزروعة بعناية من الكروم والطماطم. يبدو الأمر كإعداد مثالي، لكن بالنسبة لماري، أصبح هذا فخاً.

تقول: "الوضع في ليبيا أسوأ لأن السجّانين يمكن أن يطلقوا عليك النار، لكن على الأقل هناك لم أعمل دون أن أتلقى أجراً". "في توسكانا، قمت بحصاد العنب وملأت الصناديق بالطماطم والبصل والخس والسبانخ من الساعة 7 صباحاً حتى الساعة 7 مساءً. ومع ذلك، في العديد من الأحيان، كان الكابورالي يدفعون لي أقل بكثير مما أستحق."

ليس هناك راحة، حتى للأمهات الحوامل. تقول ماري إنها عملت في تلك الظروف خلال شهرها السابع من الحمل. "هم لا يحترمون شيئاً"، قالت ماري، وهي تحمل طفلها الرضيع بينما تقوم بتضفير شعر ابنتها البالغة من العمر أربع سنوات.

إن العثور على أشخاص مستعدين للحديث عن الظروف المروعة المفروضة على العمال الزراعيين ليس بالأمر السهل. هناك جو مشابه لـ"أوميرتا"، كود الصمت المافياوي. في إيطاليا، غالباً ما يعيش طالبو اللجوء في واقع معلق: عندما يصلون إلى صقلية، يقدمون طلب اللجوء السياسي، لكن التأخر البيروقراطي يعني أن سنوات قد تمر قبل أن يحصلوا على رد. منذ عام 2023، شددت حكومة جورجيا ميلوني اليمينية سياسات الهجرة في إيطاليا، مما يجعل من الصعب على القادمين من بعض الدول في أفريقيا وآسيا التقدم بطلب للحصول على وضع لاجئ. ونتيجة لذلك، يُحرم الأشخاص الذين هم بأمس الحاجة إلى الحماية القانونية منها.

يتم تقييد طالبي اللجوء بشكل شديد في نوع العمل الذي يمكنهم القيام به في إيطاليا. من الناحية الرسمية، يحق لهم الحصول على المساعدة القانونية والصحية واللغوية بالإضافة إلى دورات الاندماج، لكن في الواقع لا يتلقون شيئاً لأن الحكومة حجبت التمويل الكافي للبرامج. بالنسبة لمعظم العمال غير الموثقين، لا يوجد بديل سوى العمل بدون عقد إذا كانوا يرغبون في البقاء على قيد الحياة؛ ولهذا السبب لا يتم الإبلاغ عن الانتهاكات التى يتعرضون إليها  .

تقول أوى، التي فرت من منطقة الساحل: "نحن نساء وأجنبيات وسوداوات. نحن بشر من الدرجة الثانية، أسلحة يجب استخدامها. نحن أقل عدداً من الجرارات". وأضافت أن النساء يتقاضين أجراً أقل بكثير من الرجال. "يعدون بـ 5 يورو في الساعة مقابل 12 ساعة في اليوم، ولكن في نهاية الشهر يدفعون فقط 600 يورو." ينص الاتفاق الجماعي للعمل الزراعي في توسكاني على حد أدنى للأجور للعاملين في المزارع يتراوح بين 7.40 و10 يورو في الساعة، اعتماداً على مستوى الخبرة.

وافقت بيتي، وهي أيضاً من نيجيريا، على مقابلتنا في محطة قطار بعيدة عن مكان عملها، لأنها شعرت بأن المسافة والزحام يمنحانها أمانًا من المجهول. إذا رآها أرباب العمل تتحدث إلى صحفي، فإنها ستفقد العمل الذي يسمح لها بالكسب الكافي للبقاء على قيد الحياة. وقالت: "أول قاعدة تعلمتها في إيطاليا للعمل هي الطاعة، وألا أطلب المزيد من المال. دائمًا أطِع، دائمًا قل شكرًا، ولا تذهب أبدًا إلى الشرطة."

وثقت "وي ورلد"، وهي منظمة غير حكومية إيطالية تعمل على حماية حقوق النساء المهاجرات وأطفالهن، حياة هؤلاء العاملات لمدة ستة أشهر بالتعاون مع تعاونية "تمبي موديرني" للأبحاث في المجتمع المدني. أجروا تحقيقاتهم بحذر لتجنب إثارة قلق الكابورالي. كان من المستحيل التحدث مع النساء في المزارع؛ لذا كان على المحققين التواصل معهن في أماكن سكنهن وكسب ثقتهن. في عدة مناسبات أثناء كتابة هذا التقرير، طُردت من المخيمات التي يقيم فيها العمال بواسطة الكابورالي الذين ادعوا أن المكان "ملكية خاصة". استخدمنا أيضًا الطائرات بدون طيار لالتقاط الصور، محاولين التحليق على ارتفاع عالٍ قدر الإمكان.

يصل الكابورالي عند الفجر لجمع العمال من "مراكز الاستقبال"، المخصصة لطالبي اللجوء السياسي. ينقلونهم إلى المزارع في عربات. في المزارع، يستخدم المراقبون أساليب قاسية للسيطرة على العمال. قالت امرأة نيجيرية: "كانوا دائمًا يصرخون: ’بسرعة! أسرع!‘ ولم يكن لدينا أي استراحة. كانوا يمنحونك بضع دقائق فقط للشرب: إذا كنت ترغب في الأكل، كان عليك أن تفعل ذلك بسرية. الكثير منهم تخلوا عن الأكل وانتظروا حتى وجبة المساء."

في الصيف، عندما يصل السياح إلى توسكانا للاستمتاع بالعطلة، هو أسوأ وقت بالنسبة للعمال الزراعيين. في يوليو الماضي، بقيت درجة الحرارة فوق 40 درجة مئوية لأسابيع. قالت ماري، وهي ترضع طفلها الرضيع في أحد أيام إجازتها النادرة: "أصعب موسم هو موسم الطماطم". "لا يوجد ظل، ولا يخف الحر أبدًا. تغرب الشمس في وقت متأخر، ويجب عليك العمل طالما هناك ضوء، حتى لمدة 13 ساعة. رأى زوجي أنني كنت مريضة واشتكى للحراس، لكنهم قساة ولم يعطونا حتى القبعات".

لا يهدأ القطاع الزراعي في هذه المحافظات أبدًا. في الشتاء، يتم حصاد الخضروات الفاخرة مثل الخرشوف الأرجواني والشمر. والبرد لا يرحم. قالت سونيا، عاملة مهاجرة تبلغ من العمر 30 عامًا من الهند، لصحيفة نيو لاينز إنها عانت من الإجهاض بسبب البرد وظروف العمل القاسية.

لحماية سلامتها، وصلت مراسلة وعاملة في منظمة إنسانية إلى مكان منعزل في دوار، حيث وصلت سونيا بدراجة، واصطحبوها إلى مقهى بجانب محطة وقود في منطقة نائية في توسكاني لإجراء المقابلة. كنا بعيدين عن القرية الصغيرة التي تعيش فيها، لكنها كانت ما زالت تخشى أن يتم اكتشافها. اختارت الطاولة الأكثر عزلة في المقهى واحتفظت بنظرتها لأسفل، حيث كانت وجهها مغطى بشعرها الأسود الطويل. في كل مرة يدخل فيها شخص إلى المقهى، كانت ترفع نظرها بتعبير مملوء بالخوف. تسعى منظمة WeWorld إلى مساعدتها في تحقيق الاستقلال المالي. في الوقت الحالي، هي راضية ببساطة عن استعادة كرامتها.

تحدثت سونيا عن إجهاضها، قائلة: "قال لي طبيب الطوارئ إنني أقضي ساعات كثيرة على قدميّ. كنت أقضي ساعات طويلة أيضًا ويديّ مغمورتان في ماء بارد لغسل الخضروات. لم يكن لدينا قفازات؛ كنا نفعل كل شيء بأيدينا العارية. الماء لا يجمّد يديك فحسب، بل جسمك كله، خاصة في الشتاء أو عندما تمطر. كان هناك ماء غالبًا على الأرض، ولم يكن لدي دائمًا أحذية مطاطية. لمدة ثلاثة أو أربعة أيام كنت أرتدي أحذية عادية لأن الأحذية المطاطية قد تشققت، ولم يكن لدي وقت لشراء جديدة." أرتني يديها، التي كانت مغطاة بالقروح الناتجة عن البرد وأدوات الحصاد.

في "فال دي كورنيا"، الذين تجرأوا على الاحتجاج تعرضوا للأذى من قبل الحراس الذين وصفوهم بـ"الحيوانات" و"العبيد". لكن العنف يتجاوز الإساءات اللفظية. التحرش الجنسي والاعتداءات الجنسية أمر شائع. في أريتسو، حاولت سونيا مساعدة امرأة بنجلاديشية تبلغ من العمر 23 عامًا؛ كانت تعيل والدتها بعد وفاة والدها في حادث أحواض بناء السفن مارجيرا، في ضواحي البندقية. قالت سونيا: "كان الكابورالي ينام مع تلك الفتاة". "لو رفضته، لكان قد طردها. أخبرتني باللغة البنغالية أن  رئيسها الإيطالي كان يعلم بذلك لأن الكابورالي أخبره عن الأمر. وكان الجميع بخير مع ذلك. ولكن في ثقافتنا [جنوب آسيا] هذا أمر خطير جدًا: الآن الجميع يعاملونها كعاهرة. حاولت مساعدتها، لكن كان الأمر صعبًا جدًا. أحيانًا كان الرئيس يلمسها وهي تعمل. تظاهرت وكأن شيئًا لم يحدث. تركت الأمر. لكنني أعلم أنها كانت في ألم كبير."

قالت لويز، وهي عاملة زراعية من نيجيريا: "امرأة رومانية رفضت الذهاب إلى المرحاض مع رئيسها الإيطالي. كانت جميلة جدًا. أهانها الرئيس ثم طردها في الليل."

قالت جريس من نيجيريا: "لم أعتقد أن العمل سيكون صعبًا إلى هذا الحد. كنت أعتبر نفسي قوية، لكنني غيرت رأيي [بعد العمل في المزرعة]. لم يكن فقط التعب الجسدي. أحيانًا شعرت بالتعب من الداخل: كنت دائمًا أشعر بأعين الرؤساء الذكور تراقبني. عندما وصلت إلى إيطاليا تعلمت كيفية الدفاع عن نفسي أثناء عملي كعاهرة، وأنا واقفة نصف عارية في الشارع؛ والآن شعرت بالضعف مرة أخرى."

تتعرض النساء الأجنبيات للاستغلال بدرجة أكبر بكثير من نظرائهن من الرجال. فهنّ لا يتقاضين أقل بكثير من العمال الإيطاليين فقط، بل يتلقين أيضًا أقل بنسبة الثلث على الأقل مقارنة بالرجال الأجانب. وللحفاظ على الوظائف التي توفر الحد الأدنى من الحياة، يجب على هؤلاء النساء أن يتحملن رؤساء يستفزونهن بالإساءة اللفظية، ويجبرونهن على العمل بما يتجاوز طاقتهن البدنية، وينكرون عليهن المال الذي كسبنه — ويستغلونهن جنسيًا.

غادرت هؤلاء النساء بلدانهن لأنهن كن يتطلعن إلى مستقبل أفضل. تقول بيث، إحدى النساء النيجيريات القليلات الحاصلات على تعليم جامعي: "لا أحد يريد العمل بهذه الطريقة. وإذا فعلن ذلك فذلك لأنهن لا يملكن بديلاً، لأنهن يرغبن في العمل بكل تأكيد وليس لديهن ما هو أفضل". ومع وجود عشرة أشقاء ووالدين يعانيان من مشاكل مالية، اضطرت بيث إلى ترك الجامعة، حيث كانت تدرس الاقتصاد. وهي واحدة من القليلات اللاتي تمكنّ، بعد العمل في قطف الخضراوات، من العثور على ما أسمته "وظيفة منتظمة" كنادلة في أحد المطاعم.

جميع النساء الأجنبيات اللواتي يعملن كعاملات زراعيات تعرضن لصدمة رحلة الوصول إلى إيطاليا، خصوصًا عبور البحر الخطير، حيث كان المئات من اللاجئين محشورين في قوارب صغيرة غالبًا ما تكون غير صالحة للإبحار. لا تستطيع بيث أن تنسى ذلك: " كان الرحلة صعبة للغاية. فبعد بضع ساعات بدأ القارب يمتلئ بالمياه. كان الناس مرعوبين، يصرخون ويلوحون بأجسادهم. ثم أنقذتنا سفينة أخرى".

تشير الإحصاءات إلى أن النساء هنّ من يتحملن أكبر المخاطر في الرحلة من أفريقيا إلى صقلية: يشكلن فقط خمس عدد المهاجرين الذين يصلون إلى الشاطئ، لكن 70% من الجثث التي تم العثور عليها من حطام السفن في عام 2018 كانت نساء، وفقًا لمركز تحليل بيانات الهجرة العالمية. حتى بالنسبة لماري، فإن الإبحار من ليبيا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية لا يزال كابوسًا لا يُنسى. "رأيت الناس يموتون"، قالت ماري. نجت ماري "بمعجزة"، لكنها كانت بحاجة إلى دخول المستشفى لمدة أسبوع بعد نزولها. تؤثر هذه الرحلات المروعة بشكل كبير على نفسية هؤلاء النساء، مما يجعلهن مستعدات لتحمل أي شيء لتجنب العودة.

في توسكانا، تكون هؤلاء النساء شبه غير مرئيات. حياتهن في أيدي "الكابورالي"؛ هؤلاء الرجال يكونون غالبًا باكستانيين أو، في حالات نادرة، هنودًا. قالت ماري: "لم نتحدث أبدًا مباشرة مع المالكين الإيطاليين. كنا نراهم عندما يأتون للتحدث إلى الباكستانيين. كانوا ينظرون حولهم، يتجولون في الأماكن، لكنهم كانوا يتجنبوننا. كانوا يعطون التعليمات للباكستانيين، عن ما يجب القيام به وكيف يجب القيام به، ثم يغادرون. حاولت مرة التحدث إلى المالك، لكنه تظاهر بعدم فهمي وابتعد."

يعد "الكابورالي" من أبرز الممثلين لنظام الاستغلال الذي له جذور عميقة في جنوب إيطاليا. نظام "الكابورالاتو"، حيث يلتقي رؤساء العصابات بمتطلبات العمل القصير الأجل للمزارعين، يعود تاريخه على الأقل إلى أواخر القرن التاسع عشر، وفي بعض الأماكن أصبح مرتبطًا بالجريمة المنظمة واسعة النطاق. لا يزال هذا الظاهرة الإجرامية منتشرة في جنوب إيطاليا، خاصة في بولا، وصقلية، وكامبانيا، وكالابريا، حيث فرضت قواعدها على موجات من المهاجرين على مدار الثلاثين عامًا الماضية، بدءًا من أوروبا الشرقية ثم من أفريقيا. ولكن توسكانا لها تاريخ من الانخراط المدني، مع تقليد عميق من النقابية القوية والتعاونيات الزراعية النشطة. وهذا ما جعل اكتشاف العمال المحاصرين هنا في ظروف استغلالية، تشبه العبودية، صادمًا جدًا.

قبل ثلاث سنوات، أثارت السلطة القضائية و"جارديا دي فينانزا"، محققو الجرائم الاقتصادية، ضجة عندما كشفوا عن المنظمات التي توظف عمال المزارع دون عقد. منتجات توسكانا الزراعية مرتبطة بصورة الجودة والانسجام، سواء في إيطاليا أو في الخارج. يعتبر النبيذ والزيت والدقيق والمربى والخضروات في المنطقة من أفضل المنتجات في العالم. ولأن الفواكه والخضروات لها سلسلة إمداد قصيرة، يتم تقديمها في المطاعم والفنادق المحلية وبيعها في محلات السوبر ماركت التوسكانية.

ومع ذلك، فقد شهدت توسكانا مؤخرًا بعض التغيرات في السياسات تجاه العمال الأجانب، ويرجع ذلك جزئيًا إلى النتائج التي نشرتها منظمة وي وورلد على حين يمكن ملاحظة ممارسات العمل غير القانونية بسهولة في المناطق الجنوبية، حيث يعيش العمال في أكواخ من الكرتون والصفيح، في توسكانا، يبذل المالكون الإيطاليون جهدًا للحفاظ على مظهر الأعمال الشرعية. إنهم يوكلون الإدارة لشركات وهمية، عادةً ما تكون مسجلة باسم الأجانب، حتى يتمكن المالكون من الادعاء بأنها تتبع السياسات القانونية والأخلاقية عند زيارة المفتشين. غالبًا ما توجد عقود — خصوصًا للعمال الرومانيين، لأنهم مواطنون أوروبيون، ولكن أيضًا في بعض الحالات للعمال الأفارقة. ولكن تسجل الشركات الوهمية ساعات أقل بكثير من ساعات العمل الفعلية، مع دفع الفرق خارج الدفاتر.

قالت إيلينا، وهي عاملة رومانية، إنه على مدار سنوات، وُعدت بعقد مناسب، لكنه لم يتحقق وظروف عملها لم تتحسن. "كنا نعمل حتى 12-13 ساعة في اليوم، غالبًا دون راحة أسبوعية، لكن قسائم الدفع أظهرت أننا كنا نتقاضى أجرًا عن ستة إلى ثمانية أيام فقط في الشهر. البقية كانت تُدفع خارج الدفاتر. بهذه الطريقة، لم أتمكن أبدًا من التقدم للحصول على إعانات البطالة." توجهت إيلينا إلى نقابة العمل المحلية للحصول على المساعدة، فقط لتُقال إنها بحاجة إلى إثبات أنها تلقت أجرًا لـــ 51 يومًا على الأقل في السنة للتأهل للحصول على إعانات البطالة. وتضيف: "شعرت كما لو كنت قد تعرضت للسرقة مرتين".

إن الخوف من البطالة هو ما يبقي الجميع صامتين. أدريانا، وهي امرأة رومانية تبلغ من العمر 55 عامًا، تعمل في الحقول منذ ما يقرب من 13 عامًا، "تقطف الخرشوف والسبانخ والبطيخ." وجهها مجعد ومحترق من الشمس، وظهرها متيبس ومؤلم، ولديها التهاب مفاصل في يديها. "الآن أشعر أنني لا أستطيع النهوض عندما أنحني، أو أشعر بالتجمد عندما أقف لفترة طويلة لحصاد المحصول. ولكن إلى أين سأذهب إذا طُردت؟ من سيعطي عملاً لامرأة أجنبية، مسنّة وضعيفة؟ ولهذا أواصل، محتمِلة الألم."

لقد امتلكت بعض النساء الرومانيات الشجاعة الكافية للإبلاغ عن هذه الظاهرة، فأبلغن النقابات المحلية للمزارعين عن ظروف عملهن. تقوم النقابات بتوعية العمال بحقوقهم — حيث لا يعرف العديد منهم حقوقهم التي يحق لهم الحصول عليها. كما تدعم النقابات النساء في الإجراءات الإدارية والقانونية لضمان تطبيق بنود العقد بشكل صحيح وفقًا للاتفاقية الوطنية للعمل الجماعي، بما في ذلك معدلات الأجور وظروف العمل.

بفضل شجاعة هؤلاء النساء، بدأت السلطات المحلية تحقيقًا جنائيًا في ممارسات ثلاث مزارع في وادي كورنيا، وهي منطقة خضراء تطل على جزيرة إلبا. وجدت التحقيقات أن 900 شخص يعملون تحت ظروف غير قانونية، منهم 571 يعملون دون عقد. ومع ذلك، قال أحد محققي "جارديا دي فينانزا": "لم يكن من الممكن تحديد عدد العمال المشاركين بدقة، لأن العديد منهم تم فصلهم من قبل أحد المشتبه بهم ثم استُدعوا للعمل من قبل الآخرين خلال بضعة أسابيع، لتجنب إدعائهم بعلاقة طويلة الأمد."

ووفقًا لعدة وسائل إعلام بما في ذلك "جارديا دي فينانزا"، فقد دفع رجال الأعمال الثلاثة المتهمون غرامات تصل إلى 5.8 مليون يورو. عندما تتحدث ماري عن محنتها كعاملة في مزرعة حيث لكل شجرة زيتون قناة ري خاصة بها وصفوف الكروم مثالية، تقول إن النباتات تُعامل بشكل أفضل من البشر. "عندما رأيت أسعار الخضروات التي قمت بحصادها في السوبرماركت، شعرت بالغضب. تساءلت لماذا يدفعون لنا القليل جدًا."

***

..........................

الكاتبة: فلوريانا بولفون / Floriana Bulfon صحفية استقصائية ومؤلفة إيطالية حائزة على جوائز وتعيش في روما.رابط المقال على New Lines:

https://newlinesmag.com/reportage/on-tuscanys-farms-women-migrant-laborers-face-exploitation/

أفضل من يقيم طبيعة الديمقراطية هم أهل البلد وليس مؤسسات أو هيئات أو مقيمون من غير أهله، أي أولئك الذين يتفاعلون ويتأثرون يوميا بمجريات وقواعد السلوك الديمقراطي وإجراءاته القائمة في مؤسسات الدولة، وطبيعة تلك الإجراءات المتخذة لعلاج المشاكل التي تحددها اعتراضات وشكوى الناس واحتياجاتهم.

مثل هذا التقييم يمثل الحلقة الأهم لشرعنة العلاقة بين السلطة والشعب. فهو يؤدي إلى تبسيط المشاركة الجماهيرية في الكشف عن المميزات الإيجابية لأعمال السلطة، وأيضا إظهار العيوب التي تتعرض لها مسيرة الديمقراطية. ويقدم العون ويساعد على رفع مستوى وعي الجماهير، ويمكنهم في كل مرة من معرفة المعايير التي يحتكم لها التقييم. ويسهم أيضا في تحديد أولويات الإصلاح المرجو لإنجاح مسيرة الديمقراطية.  لذا يخضع هذا المسعى للعديد من الاشتراطات والأسس التي يستعان بها لتقييم المسيرة الديمقراطية.

من أولويات التقييم معرفة العقبات التي تعترض تطبيق المعايير الديمقراطية في علاقة المؤسسات السلطوية بالمنتفعين منها أو من يمسهم يوميا ومباشرة عمل تلك المؤسسات، وما هي المظاهر المميزة للتطور الديمقراطي في التعامل مع المرتبطين نفعيا معها. وقبل هذا البحث في وجود نظام مؤسساتي يدعم حقيقة تمثيل تلك المؤسسات لجمهورها، ومدى قدرة هؤلاء الناس على تحصيل حقوقهم دون مماطلة أو عناء. وهذه العلاقة التبادلية هي من يعطي عملية التقييم مصداقيتها. ويرحل هذا على باقي الفعاليات المؤسساتية الدستورية  للدولة.

الديمقراطية معطى اجتماعي ثقافي يقدم  للناس الضمانات لممارسة حقوقهم وواجباتهم وفق نظام تبادلي مع مؤسسات الدولة، ويبدأ هذا من تعريفهم وإرشادهم عن الكيفية في ممارسة الحق الانتخابي المقام على وفق طرق الشفافية والنزاهة، بعيدا عن الضغوط وفرض الخيارات المحددة. لتكون بالنتيجة وسيلة مهمة  للقبول بحق الجميع بالتداول السلمي للمسؤوليات، وصولا لمبادئ التعامل المتكافئ بين الناس على أساس المساواة بالمواطنة واحترام حرية الرأي وضمانة حق التعبير دون تمييز وانتقائية، وقبل كل ذلك خضوع مؤسسات الدولة لرقابة الرأي العام، وفي المقدمة منه الإعلام غير الحكومي.

إقامة نظام ديمقراطي يستوجب توفر بيئة اجتماعية ثقافية سياسية تساعد وتساهم للقبول بفكرة الديمقراطية، بدءا من تبني رجال السلطة منهجا واضحا وصريحا في تركيبة دولة المؤسسات وفق مبدأ استشارة الشعب ومشاركتهم في اتخاذ القرارات المصيرية، وعندها يمكن الحديث عن تلك الطبيعة،  وعن الشروط الموجب توفرها لمسمى التكوين الديمقراطي في هيكلة الدولة والمجتمع، ابتداءً من وجود أحزاب سياسية بأنظمة داخلية ديمقراطية تؤمن بالتعددية، وتعلن دون ريب، وبلا مماطلة عن قبولها التداول السلمي للسلطة، بعيدا وبالمطلق عن تركيبة التشكيلة المموهة والازدواجية  بشطريها السياسي والمسلح. وعلى أن يتقدم قواعد عملها وجود برنامج سياسي اقتصادي مكشوف ومعرف للجمهور، مثلما مطروح للتداول وسط التنظيم الحزبي.  وعلى أن تتطابق وتتوافق أنظمتها الداخلية مع سنن التشريع الدستوري للبلد. وتعلن دون مماطلة وتمويه عن مصادر تمويلها. وهذا ما يضمن وجود بيئة شعبية تدرك مسؤوليتها، وتتقبل من الحزب أطروحاته، وتساعد على إنضاج وتنفيذ مشاريعه، إن شعرت بحقيقة مساعيه الذاهبة للإصلاح الحقيقي  والديمقراطية.

ولكن ومن خلال مراقبة طبيعة ومجريات البناء الحزبي الداخلي الممارس في العراق، يمكن ملاحظة استحواذ بعض الكتل والأفراد على مصادر القرار ومصادرتهم لوسائل التأثير والنفوذ، مما ينعكس على مشهد السلطة ليتم وسمها بالتمايز والتوزيع غير المنصف للقدرات والثروات، وهذا بدوره انعكس على تركيبة وأداء تشكيلات السلطة نفسها، وتأثيره السلبي في صناعة القرار السياسي السيادي.

منذ التشكيل الأول للسلطة بعد سقوط نظام البعث، لجأت الأطراف الحزبية إلى ما سمي بمصطلح التوافقية في إدارة السلطة، حيث لا يتخذ ويمرر أي قرار ومهما كانت طبيعته ومنفعته  للشعب، دون توافق ورضا القوى السياسية الحاكمة عليه، وهذا يعني التخلي عن أي نوع من أنواع الاحتكام للمعايير الديمقراطية، ومشاركة الجماهير بصنع القرار، بالرغم من وجود برلمان وطني يعال عليه  تشريع القوانين وإصدار النصوص لمعالجة الاختلال .

هناك أيضا وبشكل فج وسافر، تجري عمليات مصادرة واستحواذ مفزع للكثير من الثروات الوطنية والمال العام والسيطرة على أملاك وعقارات الدولة. ويرافق هذا النهب المستمر وغير القانوني،  استعانة ظاهرة بقوى القمع الرسمية والشعبية، المتمثلة بقوى الأمن والمليشيات المسلحة وعصابات الجريمة، وتتسم تلك التعديات بالعنف المصاحب لفقدان الحقوق وإخفاء الأدلة بعيدا عن مساءلة ومقاضاة من القضاء .

ويلاحظ أن هناك عمليات فرض وتدخل سافر بشؤون القضاء لتغيير سير الوقائع وقمع المعترضين أو المطالبين بالحقوق أو تغيير نتائج التحقيق، وهذا ما أعلنه وبشكل سافر عبر تصريح إعلامي أحد أقطاب إدارة الدولة، دون أن يتعرض للمساءلة والحساب،وكأن الأمر بعيد جدا عن السلطة القضائية، ولا يشكل خرقا قانونيا وطعنا بشرعية المؤسسة القضائية والنصوص الدستورية. ولا يقتصر هذا الأمر على تلك الشخصية القيادية، بل هناك غيرها الكثير من المتبجحين والمفاخرين بقدراتهم على خرق القانون وإبطال قرارات القضاء. وهذا يعني بالمطلق عدم خضوع أصحاب المناصب الرسمية والسياسيين لحكم القانون وتحقيقات هيأة النزاهة ومحاسبة القضاء. ويمثل هذا الخرق الفاضح والفعل المستهجن حقيقة ناصعة عن ابتعاد الأحزاب والقوى المشاركة بالسلطة وعدم قناعتها بالنص الدستوري الخاص باستقلالية القضاء، وبسبب هذا وغيره من الخروق والتعديات على القوانين وقرارات القضاء، ما عادت للجمهور ثقة في النظام الحاكم بصفة عامة والقضاء بمقدمة ذلك، ولذا تثار الشكوك حول بعض قراراته وتصبح قدرته على تحقيق العدالة والنزاهة مصدر للريبة والظنون،  وهذا وحده يفصح عن وجود هوة عميقة تمنع توفير البيئة السياسية والقانونية  للمواطنة الصحيحة، والسلوك الرسمي المعني بتوفير الظروف المادية والمعنوية للديمقراطية، ولهذا يندفع الناس للنأي والابتعاد عن القواعد الدستورية والبناء الديمقراطي،ومن ثم يفضلون الاحتكام للمقاضاة خارج القضاء وحل خلافاتهم مجتمعيا. ويمثل هذا الملح اختبارا يوميا للنظام السياسي ومدى خضوعه لأحكام القانون والدستور، وتمسكه بالمعايير الديمقراطية مثلما يدعي قادته.  وبسبب هذه المشاكل والخروق تتكشف صورة عدم قدرة السلطة على توفير الحماية لكافة أبناء الشعب ضد الانتهاكات والاضطهاد أو الخوف وتغييب الحقوق أو ثلمها، وانعدام الضمانات الكافلة لحق المواطن للوصول إلى العدالة بدرجة متساوية.  ويعني هذا وبشكل صريح  تجريد  لوقائع نص عليها الدستور، وكفلت في مقدمة ما احتوته، حرية التعبير وعدم خضوع الناس للإكراه والقمع ووقوفهم سواسية أمام القانون والمقاضاة دون تمييز. ولكننا نلاحظ وعلى مدى سنوات طوال ومنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد اليوم، بأن  قدرة المواطن تضمحل وتضعف أمام سطوة القوى الحاكمة واذرعها، وهذه القوى وحدها من يمتلك الإمكانات على كبح دعاوى أصحاب الشكاوى ومنعهم بالإكراه من الوصول إلى القضاء وضمان حصولهم على حقوقهم بدرجة متساوية مع المسؤول. 

نطلع ونشاهد كل يوم الإجراءات المبتورة والقاصرة للحكومة الاتحادية، التي تؤكد حقيقة ناصعة عن كون ما يتخذ من معالجات وبسبب الصراع للاستحواذ على مصادر القوة والثروة، بأن حلولها ما عادت تمثل العلاج المفيد والناجح والمناسب لمشاكل عدة، هي من صلب حاجات الناس واهتماماتهم والمتمثلة  بالغذاء والسكن والتعليم والصحة والماء والكهرباء والبيئة النظيفة وغيرها. مما ولد شعورا مستداما بعدم الثقة بقدرة الحكومة على حل تلك المشاكل التي باتت متراكمات كبيرة وكثيرة من معضلات عصية على الحل. ولا يقتصر الأمر على تلك العقد اليومية المتعلقة بتقديم الخدمات والمنافع للناس، وإنما تتعداها لمساحة واسعة من معضلات سياسية اجتماعية ثقافية اقتصادية تعجز السلطة عن وضع الحلول لها أو في الأقل تحجيمها وتقليل أضرارها.

ولا يقتصر الأمر في هذا التقصير الواضح ويقف عند حدود الحكومة الاتحادية ومؤسساتها، فالقصور يتعداها إلى مستويات أخرى ممثلة بالحكومات المحلية حيث تعاني اغلب المحافظات والإقليم أيضا، من ذات المشاكل المستعصية والغائبة عنها الحلول الناجعة، ولذات الأسباب التي تحيق بعمل السلطة الاتحادية.

***

فرات المحسن

التنمر الرقمي مصطلح ربما يستخدم للمرة الأولى لكني آثرت استخدامها كصفة من صفات عالم المعلوماتية والتطورات الهائلة في عالم الاتصالات الرقمية والافتراضي والذي نعيش فيه اليوم. واعني بهذا المصطلح ليس فقط بمعناه العام وجميع الآثار السلبية لاستخدام أنظمة المعلوماتية وتأثيرها في السلوك السلبية للبشر وخاصة التنمر بصورة عامة في كافة مجالات الحياة. التنمر كذلك يستخدمه الأطفال والمراهقين في علاقاتهم مع اقرأنهم في المدارس وساحات اللعب وحياتهم اليومية.

التنمر هو أحد أشكال العنف و إزعاج الآخرين مقصودا (مع سبق الإصرار) بطريقة متعمدة ومتكررة. وقد يأخذ التنمر أشكالًا متعددة كنشر الإشاعات، أو التهديد، أو مهاجمة الطفل المُتنمَّر عليه بدنيًا أو لفظيًا، أو عزل طفلٍ ما بقصد الإيذاء أو حركات وأفعال أخرى تحدث بشكل غير ملحوظ. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بدا استخدامه كأداة للتنمر كذلك عن طريق نشر الصور المزيفة. وحتى إجراء تعديلات على الصور والأفلام ودمج الصور بصورة مخلة للشرف وغير أخلاقية.

الثورة الهائلة في عالم الرقمي والاتصالات مع تطور وسائل الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي وحرية الحركة الرقمية وخاصة الجيل الجديد من الذكاء الصناعي (AI) الذي بدا يغزو كافة مجالات الحياة وتتحول الى هاجس مخيف للبشرية بدلا من ان يكون للخيرها.

راجع مادتنا حوا الموضوع تحت الرابط التالي:

توفيق التونچي: مسار "قطار" الذكاء الاصطناعي وأفاق المستقبل (almothaqaf.com)

ومع كل كشف علمي متطور يبدأ نقاش حول الفائدة والخسارة. لكن هل التطور في خدمة البشرية او هل يجعل من بني البشر خيرين ويتركون طريق الشر؟ طبعا يمكن استخدام هذا التطور في امور لخير البشرية خاصة في مجال البحوث العلمية والطبية. "السايبرنتك" Cybernetik علوم التحكم والكلمة في الأصل يونانية وتعني آلة التحكم في السفن الذي يوجه به دفة السفينة. التطورات الحديثة في عالم المعلوماتية ادى الى توظيفها من قبل الأشرار في عمليات ابتزاز وتزيف للحقائق بحيث ان بعض تلك العمليات ادى حتى الى حوادث الانتحار هؤلاء ممن تنمر عليهم رغم ان الإحصائيات غير متوفرة لإجراء بحث علمي في الموضوع. الا ان التنمر حالة مستمرة ونراه خاصة بين المشاهير في عالم الفن والمال والسياسة. لا بد إدراك خطورة الأمر عند الشباب والمراهقين وخاصة في الصفوف الدراسية في المدارس. التزوير والنزيف والاستنساخ أمور باتت طبيعية في عالم الذكاء الصناعي كل ما تحتاجه تلفون خلوي ( موبايل) وبعض البرامج. هذا ما يجعل من المؤسسة التعليمية تقف امام خطورة زحف الذكاء الصناعي بإبعاده السلبية الى المدارس خاصة يجب ان لا ننسى بان الهيئة التدريسية نفسها لم تتمكن منتسبيها من مواكبة كل تلك التطورات في عالم المعلوماتية.

الجهل ألمعلوماتي صفة عامة في الجيل القديم وبين الكبار وقد نرى حتى ذلك بين مواطني الدول الأوربية والغربية المتطورة تقنيا وحتى استخدام الانترنت غير منتشر ويحتاج الكبار في السن الى كورس لمعرفة كيفية التعامل مع كل تلك التطورات في عالم الاتصالات. حتى القوانين المرعية في معظم دول العالم لم تتمكن من مسايرة تلك التطورات وسن القوانين لجرائم النظام الرقمي لذا يبقى مرتكبي تلك الجرائم بعيدين عن أيادي العدالة بينما نرى زيادة في اعدد الضحايا يوما بعد اخر.

المشكلة متفاقمة في الدول الفقيرة وخاصة بين المجتمعات الأمية ( الجهل بالقراءة والكتابة) حيث يكون الوالدين امام مشكلة كبيرة مع ابنائهم اللذين يجيدون استخدام المعلوماتية وعلى كافة الأصعدة. تلك العوائل ليس لهم اي رقابة على أفعال أبنائهم في البيت، في المدرسة وخارج الدار. هذا البون الشاسع بين معارف الأبوين والأبناء يؤدي الى مشاكل عديدة. خاصة ان الانترنت اليوم يسمح للمرء الولوج الى عالم الجريمة وبسهولة وحتى وهو جالس في إحدى المقاهي مع أصحابه لذا نرى زيادة ملحوظة في الجرائم المرتبطة باستخدام الانترنت خاصة الجرائم الاقتصادية بابتزاز الكبار في السن كما ان العديد من الجرائم ترتبط اليوم بالمعلوماتية مباشرة.

كما انها تستخدم في النزاعات والحروب وهناك دلائل على استخدامها في الانتخابات العامة في العديد من دول العالم. كما تمثل اداة يستخدمها الجهات الأمنية للدول في السيطرة على الراي العام في دولهم والتأثير عليهم بطرق مختلفة. الوعي بأهمية المعرفة في تطور الشعوب والوصول الى مجتمعات مفتوحة وتعددية في عالمنا اليوم تحدي كبير يواجه جميع المجتمعات البشرية.

***

د. توفيق رفيق التونچي - الأندلس

 ٢٠٢٤

لربما تخلق ثقافة الحزن في البلاد حلقة من الشقاء والبؤس

بقلم: كورس زيا باري

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في الساعة 6:12 صباحًا، في 8 يناير 2020، أقلعت طائرة بوينغ 737-800 من مطار الإمام الخميني الدولي في طهران بعد تأخير دام ساعة. كانت تحمل 176 راكبًا وطاقمًا، بما في ذلك 15 طفلًا. الطائرة كانت تابعة لشركة الخطوط الجوية الأوكرانية الدولية، وتشغل رحلة مسجلة تحت رقم PS752 من الجمعية الدولية للنقل الجوي. بعد ثلاث دقائق من الإقلاع وأثناء صعودها، تم إسقاطها بصاروخين من طراز TOR-M1. قُتل جميع الركاب على متن الطائرة. بعد ثلاثة أيام، اعترف الحرس الثوري الإيراني بالمسؤولية عن إسقاط الطائرة التجارية، واعتبر "الخطأ البشري" السبب في هذه المأساة المروعة.

قبل خمس ساعات من إسقاط الطائرة، أطلق الحرس الثوري الإيراني وابلًا من الصواريخ الباليستية على قاعدة الأسد الجوية في محافظة الأنبار العراقية، حيث تتواجد فرقة الأسد. تفاصيل الخسائر الناجمة عن ما أطلق عليه اسم عملية الشهيد سليمانــي تظل غامضة، لكن قيل إن 110 من أفراد الجيش الأمريكي أصيبوا بإصابات في الدماغ.

أطلق الحرس الثوري وابل الصواريخ انتقامًا لقتل قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليمانــي، الذي اغتيل في غارة بطائرة مسيرة الأسبوع السابق في 3 يناير أثناء زيارته لبغداد. الغارة التي أذنت بها الولايات المتحدة قتلت تسعة آخرين، بما في ذلك خمسة من أعضاء مجموعة شبه عسكرية عراقية.

تُركت مراسم جنازة سليمانــي من 4 إلى 7 يناير، وشملت ثماني مدن في العراق وإيران. في 7 يناير، حدث تدافع في موكب الجنازة في مسقط رأسه كرمان، حيث كان من المفترض أن يُدفن، مما أسفر عن مقتل 56 شخصًا وإصابة 200 آخرين. كانت الحالة الوطنية بعد قتل سليمانــي تتميز بمزيج من القلق، والانتقام، وعدم الاستقرار. نشأت هذه المخاوف من الإزالة غير المتوقعة للشخصية الثانية في إيران، التي كانت دائمًا تُعتبر بطلاً، والإهانة التي تعرضت لها الحكومة بسبب الطريقة التي قُتل بها.

كان الدافع لتوحيد الأمة حول قضية مشتركة مستوحاة من إرثه وإصلاح تقدير الذات المتضرر الذي يعتمد عليه النظام الإسلامي في تقديم قوته الناعمة قويًا. في بلد يضم 85 مليون نسمة، كان هناك من يندب خسارة سليمانــي ومن يحتفل بها علنًا، ولم يكن النظام الكهنوتي ساذجًا ليتجاهل الاستقطاب المتصاعد.

لذا، استهل النظام فترة طويلة من الحداد، بهدف إحياء الدعم للحرس الثوري الإيراني والموقف الهجومي ضد الغرب. لم يكن هناك أداة أفضل من استدعاء "ثقافة الحداد" ما بعد عام 1979 من أدوات الدبلوماسية التقليدية.

على الرغم من أن الحزن الديني لم يُستدعَ فور الثورة، فقد رعت الجمهورية الإسلامية ثقافة الحداد التي تفوق الاحتفالات التقليدية مثل نوروز، احتفال رأس السنة الفارسية، مما حول عادات الإيرانيين الثقافية.

أصول ثقافة الحداد التي تشكل المجال السياسي في إيران ليست دينية فقط. الحداد يُستخدم عمدًا كأداة للسيطرة الاجتماعية تغذيها الحزن المؤسسي وتعيد إنتاجه في علاقة تآزرية يقودها الدين.

تسبب ميل الحكومة إلى تكرار مناسبات الحداد وتقليص تجارب الفرح في حالة من الحزن المستمر التي تحدد النبرة العاطفية في إيران. حتى لو كان الإيرانيون على المستوى الفردي  معروفين بأنهم اجتماعيون وذوو روح مرحة وودية، فإن البلد بشكل جماعي يبدو أنه يمتلك روحًا غير سعيدة ومحطمة.

في ظل خلفية تحكم الجمهورية الإسلامية في السكان، التي كانت مرئية في تراجع الناس التدريجي عن التعبير عن الفرح إلى احتضان اليأس، توفر العاطفة الجماعية مقياسًا لضعف إيران. بعد فترة وجيزة من الثورة الإسلامية عام 1979، بدأ الباحثون في التعمق في ما وجدوه عرضًا غير عادي: التضخيم المتعمد للحزن الديني من قبل الحكام الجدد لتحقيق أهداف سياسية، مما دمر حيوية المجتمعات في هذه العملية.

قامت ماري-جو ديلفيكيو غود، عالمة اجتماعية متقاعدة وعالمة أنثروبولوجيا طبية في كلية هارفارد الطبية، عاشت وعملت في إيران لسنوات قبل وبعد ثورة 1979. في عام 1988، بالاشتراك مع  بيورن ج. غود، وهو عالِم نفس أنثروبولوجي في هارفارد، بنشر دراسة رائدة في مجلة الثقافة والطب والطب النفسي، تسرد تحول الخطاب العاطفي في المجتمع الإيراني.

بدأ اهتمام المؤلفين بالحزن في الثقافة الإيرانية قبل وقت طويل من قيام الجمهورية الإسلامية بإبراز الحزن كالسلوك المناسب والضروري الذي يجب على المواطنين تبنيه. من خلال المقابلات مع الإيرانيين، سواء في الوطن أو في المجتمعات المهاجرة، لاحظا أن الحكومة كانت تعطي قيمة خاصة للرثاء. قال أحد المشاركين في الدراسة، وهو مهاجر إلى الولايات المتحدة، في عام 1985: "لقد أصبح الحزن العمل الرمزي للمسلم الجيد. لا يُفترض بك أن تبتسم، أو تبدو سعيدًا، أو تبدو نظيفًا. هذه هي الشخصية التي تُعجب الآن."

في الوقت الذي كانت فيه الأبحاث تُجرى، أشار المؤلفان إلى أن النظام فرض الحزن كرمز للإخلاص الديني والسياسي، مما وضع المسار للأمة "من خلال البث اليومي لمراسم الحداد، و'الرثاء' [مرثية إيقاعية] التي يغنيها الملالي المرتدون العمائم على التلفاز والراديو، تقريبًا باستثناء برامج أخرى." لم تتغير الأمور منذ ذلك الحين.

في "تقرير السعادة العالمي 2024"، الذي هو شراكة بين جالوب ومركز أكسفورد للرفاهية وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، والتي تستخدم ستة معايير لقياس السعادة (بما في ذلك الدعم الاجتماعي، ومتوسط العمر المتوقع، والحرية)، تحتل إيران المرتبة 100 من أصل 143 دولة. في التصنيف، حيث تظهر فنلندا والدنمارك وآيسلندا والسويد كأول أربع دول بشكل غير مفاجئ، تقع إيران تحت فنزويلا وجمهورية الكونغو والعراق.

وبالمثل، في أحدث إصدار من مؤشر كوكب السعادة، الذي ينشر بشكل أقل تكرارًا ولكن موثوق، والذي يقيم متوسط العمر المتوقع، والرفاهية، والبصمة الكربونية، تحتل إيران المرتبة 115 من أصل 147 دولة، متأخرة عن بيلاروسيا وباكستان وميانمار. على مقياس من صفر إلى 10، حيث يعتبر 10 الأكثر سعادة، قيم الإيرانيون رفاهيتهم بـ 4.8 وفقًا لنتائج استبيان غالوب العالمي، التي تم دمجها في التصنيف.

سواء كان ذلك بسبب ثقافة الحداد في البلاد أو بسبب اضطرابات حكومية أخرى، فإن نوبات الغضب والحزن والضغط والألم تبدو شائعة بين الإيرانيين. بالفعل، وجدت تقرير جالوب للانفعالات العالمية 2022 أن إيران هي البلد العاشر الأكثر غضبًا في العالم، حيث قال 39% من الذين شملهم الاستطلاع إنهم شعروا بالغضب "خلال الكثير من يوم أمس." في فنلندا، البلد الذي يُعتبر الأقل غضبًا، أشار فقط 6% من الذين شملهم الاستطلاع إلى أنهم شعروا بالكثير من الغضب في اليوم السابق.

في غياب بيانات أكثر موثوقية، يمكن أن تساعد الاستطلاعات في فهم حالة عقلية معقدة تؤثر على إيران. ومع ذلك، قد لا تتمكن من تقديم صورة كاملة عن مزاج المجتمع الجماعي، خاصةً واحد يكافح باستمرار لاستعادة نفسه من عواقب سوء الإدارة قبل أن يتم إعادة صدمه. يعتمد بعض الإيرانيين على السخرية كآلية للتعامل لتقليل حدة الخسائر، والأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية. بينما يعبر آخرون عن استيائهم السياسي في التجمعات العائلية وأماكن العمل. وبالتالي، يمكن أن يُفقد الكثير أو يبدو غير واقعي في مثل هذه التصنيفات.

هنا، الأدلة القصصية على التجارب المشتركة للأشخاص توفر الأساس لاستنتاج: إيران ليست مشرقة بالسعادة. بدلاً من ذلك، هناك كل سبب للاعتقاد بأن القيادة العليا أصبحت مهووسة بالكآبة. قلة المناسبات الاحتفالية في التقويم والتدخل النشط من قبل الدولة وأجهزتها القمعية لقمع حفلات الزفاف، والحفلات الموسيقية، وحتى معركة بالمسدسات المائية بين مجموعة من المراهقين في حديقة هي بعض الأمثلة على المقاومة المستمرة للفرح.

مع إغلاق السلطات الصارم لطرق التخفيف من التوتر والراحة باسم العفة والروحانية، فإن مؤشرات الصحة العقلية في البلاد تنبئ بالسوء. وجدت دراسة في عام 2023 أن 31.03% من سكان إيران يعانون من شكل واحد على الأقل من اضطرابات الصحة العقلية. النظام الثيوقراطي الذي أسسه آية الله روح الله الخميني ملزم بتكريم هوس ثابت بالألم.

في مارس 1989، خطب الخميني مجموعة من الناس في عطلة دينية حيث جادل بأن مقاومة القوى الإمبريالية العالمية وإقامة حضارة إسلامية جديدة "تتطلب الضغط، والمشقة، والشهادة، والجوع، وقد اختار شعبنا هذا الطريق بأنفسهم، وسيدفعون الثمن ويشعرون بالفخر بذلك." وأضاف أن هزيمة حضارات الغرب والشرق "مستحيلة بدون الشهادة."  لقد تم غرس تمجيد الجروح الذاتية واليأس في نفسية الأمة ما بعد 1979 منذ المراحل الأولى.

إلى أي مدى يُعزى هذا البؤس إلى عواقب طبيعية للقمع والركود الاقتصادي الذي يميز حياة الإيرانيين؟ وكم هو مصطنع من قبل نظام سلاح أسلوبه الحزين الفريد في الإسلام الشيعي؟

في دراسة نادرة لآثار الإسلام السياسي، استكشف الباحث الإيراني البارز آصف بيات المبررات وراء قلق الإسلاميين من التعبيرات عن الفرح، والتي يعرّفها بأنها مجموعة من السلوكيات المبهجة، من الألعاب، والنكات، والرقص إلى طرق معينة في الكلام، والضحك، والتصرف. في مقاله في سبتمبر 2007، "الإسلاموية وسياسة الفرح"، لمجلة الثقافة العامة، جادل بيات بأن الفرح يتحدى الانضباطات الصارمة والقواعد السلوكية المقررة غالبًا من قبل السلطات.

افترض بيات أن "الخوف من الفرح" هو نفور من إضعاف السلطة الذي تشاركه العديد من التقاليد الدينية. من خلال قمع تجلي هوية الناس عبر الموضة، وتجريم اختلاط الجنسين، وتحظر الأفعال غير الضارة مثل حلق الرجال لذقونهم أو وضع النساء للمكياج، تسعى الأنظمة الثيوقراطية في أفغانستان وإيران لتحقيق أهداف أساسية من نشر كتب الأخلاق الخاصة بها.

"وبدلا من أن تكون مجرد مسألة عقائدية، فإن معاداة الأصولية هي مسألة تاريخية، وهي مسألة تتعلق بشكل كبير بالحفاظ على السلطة"، كما كتب.

هذه النية الخفية تتجلى بشكل أفضل من خلال تصريحات محمد تقي مصباح يزدي، رجل الدين الشيعي الراحل وعالم الدين الذي كان يُثنى عليه كثيرًا من قبل المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي. كان مصباح يزدي يُعرف غير رسميًا بـ "نظرية العنف" بسبب آرائه الراديكالية ورفضه للانتخابات الشعبية كوسيلة لتبرير الحكومات الدينية.

وقد صرح قائلاً: "إن أخطر ما يهدد الإنسانية هو أن ينسى الرجال عبادة الله، وأن يقيموا المراكز الثقافية بدلاً من المساجد والكنائس، وأن يتبعوا السينما والفن بدلاً من الصلاة والدعاء".

بتأثر بمثل هذه المعتقدات التي تؤكد تفاهة المتعة والضحك، توقفت إيران منذ فترة طويلة عن كونها مجتمعًا مبهجًا.

في أحدث إصدار لتقريرها حول نفقات الأسر الحضرية حسب الفئة المنشور في عام 2019، قدرت المركز الإحصائي الإيراني أن الترفيه والأنشطة الترفيهية تشكل فقط 2.9% من الإنفاق الروتيني للأسرة العادية شهرياً. في حين أن 48.2% من النفقات مخصصة للإسكان و12.5% لتكاليف النقل والاتصالات، فإن ما ينفقه الإيرانيون على الأنشطة الترفيهية مثل الذهاب إلى الحفلات الموسيقية والأفلام يكاد يكون معدومًا.

يؤكد العديد من العلماء أن انتشار الحزن بطريقة رسمية ليس ظاهرة إيرانية بحتة، حتى وإن كان شكلها الأكثر تطرفًا يمكن العثور عليه في إيران بعد عام 1979. في البلدان الكاثوليكية والإنجيلية أيضًا، ليس من غير المألوف أن تلجأ الحكومات إلى تصوير الماضي بطريقة كارثية لتحقيق أهداف محددة في المستقبل.

يعتقد يونس ساراميفار، أستاذ مساعد في العلوم الإنسانية بجامعة فريجي في أمستردام، أنه سيكون من الخطأ قبول التعميمات الواسعة حول كيفية تعامل الدول "الغربية" مع الحزن.

وقال: "إن الجدل الدائر حول عدم تكرار ما حدث مرة أخرى وإحياء ذكرى الهولوكوست في ألمانيا، والاحتفال بالماضي الاستعماري في فرنسا، والعديد من المتاحف الحربية والمواقع التذكارية في الولايات المتحدة، كلها أمثلة جيدة على أن ما يسمى بالثقافات الغربية تتأمل في الماضي وتبقيه حياً في الحاضر"

ومع ذلك، هناك إجماع على أن قِلة من الحكومات تقضي على مناسبات الابتهاج، مثل المهرجانات العائلية، فقط لضمان انتصار نسختها المفضلة من الوحدة والسيادة. وعندما أطاح الإسلاميون بالملكية العلمانية في إيران، نالوا الثناء من بعض المفكرين البارزين في العالم، الذين تكهنوا بأن الثورة كانت انقلاباً معجزياً للنظام العالمي لصالح الروحانية.

ولكن بمجرد أن دخلت روح الله الخميني في مرحلة التنفيذ الكامل، نشأ نقاش حول ما إذا كان نوروز، وهو أهم عيد وطني، ذو صلة أم ينبغي التخلص منه لأنه لم يكن دينيًا بما فيه الكفاية، أو أنه يذكر بالوثنية أو يمثل أسطورة ما قبل الإسلام.

بالنسبة لملايين الإيرانيين الذين ترتبط أجمل ذكريات طفولتهم بالاحتفالات البسيطة ولكن الملونة لنوروز، فإن الجهود المنهجية للنظام الثيوقراطي لتشويه وتهميش مهرجان رأس السنة الجديدة غالبًا ما تؤدي إلى المرارة وعدم الرضا.

قال أحمد صدري، عالم الاجتماع ورئيس كرسي الدراسات الإسلامية في كلية ليك فورست في إلينوي: "أشعر بنفس الاستياء من تقليص نوروز وأيضًا من الأعياد مثل يوم الأربعاء الأحمر وسيزده بي-دار، والتي هي أقرب إلى قلوب الأطفال."

يوم الأربعاء الأحمر / تشهرشانبه سوري هو مهرجان النار الذي يُحتفل به في عشية الأربعاء الأخير من السنة. تعود أصوله إلى الزرادشتية، ويُعتقد أنه بدأ الاحتفال به حوالي عام 1000 قبل الميلاد. يجتمع أفراد العائلات في مساء يوم الثلاثاء ليقفزوا فوق النيران التي يضرمونها باستخدام الأوراق وجذور الأرز والحطب. الغرض من هذا الحدث هو التخلص من المشاعر السلبية للعام المنقضي ودرء الحظ السيئ.

في اليوم الثالث عشر من الربيع، يسافر الإيرانيون إلى الحدائق والغابات والشواطئ والحدائق، عادةً بأعداد كبيرة ومع الأسرة الممتدة، لتكريم سيزداه بي-دار. وهذه أيضًا واحدة من الطقوس المرتبطة بأفق نوروز، حيث تؤكد الأسر على روابطها بالطبيعة قبل حلول السنة الجديدة وعند نهاية العطلة التي تستمر أسبوعين.

بدأت الجمهورية الإسلامية في جهود لتهميش المناسبات السعيدة بتغيير أسمائها. في التقويم الرسمي واللغة الحكومية، يُشار إلى يوم الأربعاء الأحمر باسم "آخر أربعاء في السنة" ويُسمى سيزداه بي-دار "يوم الطبيعة". يمكن أن يكون محو الاسم مقدمة لمحو الواقع الذي يمثله.

لم يكن تراث إيران القديم وتنوع الاحتفالات التي تجسد تلك الهوية مخصصًا للقتال المستمر مع الواقع الجديد الذي نشأ بعد الفتح الإسلامي لفارس في عام 654 ميلادي. قد لا يكون الإيرانيون قد قبلوا الإسلام طوعاً في البداية، ولكن تسوية ما تجسدت مع مرور الوقت، ووجد الناس أنهم يستطيعون التوفيق بين القيم الوطنية والدين.

ولكن مع ظهور الجمهورية الإسلامية، اختفى هذا الفهم، وفرض الإسلام السياسي بقوة على كل بُعد من أبعاد الحياة اليومية قد مزق المجتمع. يشعر الإيرانيون الوطنيون الذين يتخيلون المجد المفقود للأمة بالاستياء لأن نسخة الإسلام التي يروج لها رجال الدين فُرضت على الاحتفالات مثل نوروز. حيث يزعم أتباع آية الله أنهم لم يعجبهم الفجور والانحلال الذي تمثله هذه المناسبات.

تقول أزاد نافيسي، الكاتبة المشهورة عالميًا بكتاب "قراءة لوليتا في طهران: مذكرات في كتب" والفائزة بجائزة فريدريك و. نيس للكتاب، "أن إيران اليوم هي مسرح مواجهة مستمرة بين اتجاهين فكريين. أحد المعسكرات يقدس الموت لتبرير حكمه، والآخر يعشق الحياة ويقاتل عقلية القدر."

قالت نافيسي: ""على النقيض من عبادة النظام الإسلامي للبؤس والضحية والموت، فإن وجهة النظر الأخرى التي يتبناها غالبية الشعب الإيراني متجذرة في الاحتفال بالحياة والجمال". وأضافت "إن عيد النوروز وعيد التركمان وغيرهما من الأعياد الإيرانية تستند إلى هذه المفاهيم. وعلى مدى 45 عامًا، احتفل الإيرانيون بالحياة من خلال الاحتفال بالحرية".

من خلال اتخاذ موقف من العروض العامة للفرح، يستدعي رجال الدين الشيعة العقلانية لاقتراح أن الإسلام يدعم أي تقليد مستند إلى العلم والمنطق ولكن يرفض الخرافات. هذا الإطار يضع فعليًا حظرًا على جميع أشكال الفرح غير الديني. ومع ذلك، لم تكن المصداقية العلمية أبدًا مقياسًا لتقييم المبادئ التي يروج لها رجال الدين كحقائق، بما في ذلك الطقوس التي هي من اختراعهم بالكامل.

قال صدري لنيو لاينز: "الأمر المضحك هو أن المتطرفين على التلفاز يدينون هذه الأشياء باسم الخرافات. هذا أمر غريب قادم من أشخاص قاموا بتطوير تقاليد الشيعة الإسلامية بأكملها لتناسب أغراضهم."

وأضاف: "هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين يعارضون الرقص والموسيقى، ولكن في احتفالاتهم السرية بعيد الزهراء، أو ما كان يسميه الناس العاديون عمر كوشان، يشاركون في كل ذلك وأكثر من ذلك."

يُلاحظ بعض المسلمين الشيعة في إيران عيد عمر كوشان، وهو عيد سنوي يبدأ في اليوم التاسع من ربيع الأول، الشهر الثالث من التقويم الإسلامي، وينتهي بعد 18 يومًا، ويحتفل باغتيال الخليفة الإسلامي الثاني، عمر بن الخطاب. يعتقد الشيعة أن حقوق الخلافة بعد وفاة النبي محمد قد أُخذت بشكل غير عادل من الإمام علي، ولهذا السبب، يحتفل بعضهم، لإزعاج إخوانهم السنة، بقتل الصحابي عمر بن الخطاب على يد عبد فارسي ساساني في عام 644 ميلادي.

نظرًا لأن سيطرة الحزن قد تم تثبيتها بعمق في نفسية المجتمع الإيراني لدرجة أن لا الممارسون للتقاليد الدينية ولا المراقبون النقديون يتساءلون عن ضرورتها، فإن حتى أقصى درجات المبالغة تعتبر طبيعية.

تستمر عملية الجلد العام للنفس لتكون عنصرًا شبه مقدس خلال فترات الحزن السنوية الطويلة في ذكرى معركة كربلاء، عندما قُتل الإمام حسين وخلد في الميثولوجيا الشيعية كشاهد. في بعض المدن والقرى الإيرانية، أصبحت هذه الأفعال الذاتية مؤلمة لدرجة أن، بالإضافة إلى ضرب أنفسهم باستخدام السكاكين والسلاسل الحديدية، مما يؤدي إلى برك من الدماء الحقيقية في الساحات العامة، يقوم بعض الآباء بإحداث إصابات طفيفة على جباه أطفالهم لإظهار عمق عذابهم الديني.

رفض عدد من رجال الدين الشيعة هذه الممارسة، المعروفة باللغة العربية بـ "التطبير"، مؤكدين أنها ضارة بدنيًا وعاطفيًا. لكن معظم الآخرين إما قد وافقوا عليها ضمنيًا، أو أعطوا الضوء الأخضر لها، أو على الأكثر حكموا بأنها يجب أن تتوقف مؤقتًا.

لقد أصبحت الثقافة الشعبية الإيرانية تعظم الحزن وتقدّر الاكتئاب، ليس كأزمة صحية عقلية ولكن كموقف من الحياة، مما يترك مجالاً ضئيلاً للفرح. على مدى خمسة عقود، تم غرس قدسية الحزن، وضرورة الانطوائية، وتركز التفكير في الموت في الناس. لقد تم تدريب الجماهير على تجاهل الابتسامات وتمجيد الدموع.

ليس فقط رجال الدين الحاكمين الذين ينشرون عقلية المأساة. بل إن الأسر العادية قد استوعبت   أيضًا هذه القيم. عندما يكون هناك حفلة عيد ميلاد أو زفاف في مبنى سكني، من المحتمل جدًا أن يتصل أحد الجيران بالشرطة للشكوى. ومع ذلك، إذا أقيمت مراسم حزن أو مناسبة دينية في نفس الموقع، فلن يشتكي أحد. إذا اشتكى أحدهم، فإن المجتمع قد يلصق بهم تهمة عدم التدين أو التشكيك في العقيدة.

قالت سحر حكيمي، الصحفية والكاتبة الإيرانية، إن هذه "الفاتورة الثقافية" التي دفعها الإيرانيون على مر الأجيال تعكس قسوة هذا الموقف في حياة الناس اليومية. وتابعت قائلة: "كلما كانت الدولة أكثر قمعية، كان من الصعب الحصول على فترات من الراحة، خاصة من الحزن الشديد".

" في الواقع، تنكر الدولة نفسها دورها في هذه الأنماط الثقافية وتجعل الناس يشعرون وكأنهم مسؤولون عن مشاعرهم، على الرغم من أن جميع المظاهر تُجسد الأسس الأيديولوجية للنظام".

تُشير الحكمة التقليدية إلى أن التركيز على الحزن قد أدى إلى موجة من سوء الحظ التي ألحقت الضرر بالبلاد، بشكل مباشر وغير مباشر. البلدان التي تعرف بكونها مبتهجة لا تضطر للعيش في ضيق غير إرادي يُفرض عليها من قبل قادتها. في إيران، يُفترض أن تكون الأماكن العامة أماكن للحزن، ويُتوقع من المواطنين ألا يتجاوزوا الحدود المقبولة في احتفالاتهم.

قال إريك لوبي، أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة فلوريدا الدولية: "في كل مكان ينظر المرء إليه، يرى لوحات إعلانات، جدران مغطاة بالرسوم، ملصقات، لافتات شارع، صور إعلامية، وأشياء أخرى تعرض قادة ثوريين ودينيين وقادة حرب وشهداء." وأضاف: "في هذه العملية، أنتجت الدولة واستمرت في خلق مساحة عامة من التقوى، الالتزام، النضال، التضحية والشهادة."

أشار لوبي إلى مثال ستة شبان إيرانيين تلقوا أحكامًا مع وقف التنفيذ تصل إلى عام واحد في عام 2014 بسبب نشرهم فيديو لأنفسهم وهم يرقصون على أغنية "Happy" لفاريل ويليامز على أسطح طهران. قبل أن تطلب الشرطة إزالة الفيديو من يوتيوب، حصل على أكثر من 200,000 مشاهدة خلال أربعة أيام. حتى الرئيس حسن روحاني انتقد حملة القمع ضد منتجي الفيديو.

يعتقد ميساج بارسا، مؤلف كتاب "الديمقراطية في إيران: لماذا فشلت وكيف يمكن أن تنجح" الصادر في عام 2016، أنه ليس من المستغرب أن نرى فترات من المعاناة الاقتصادية والقمع التي تستنزف البلدان حيث تهيمن الميل إلى السلبية.

قال بارسا: "من المنطقي تمامًا أن نناقش ونفترض أن مثل هذه الممارسات تزيد من خطر الغضب والاكتئاب والعجز." وأضاف: "بدلاً من زيادة الإنتاجية والتنمية الاقتصادية، فإن انشغال الدولة بالاهتمامات الأخروية يعرضها لمخاطر اتباع سياسات اقتصادية غير ملائمة ويقوض التنمية والنمو."

وفقًا لبارسا، فإن انشغال النظام الثيوقراطي بتدعيم امتيازات رجال الدين، وتقييد التحرك الاجتماعي، والحد من الفرص الاقتصادية للطبقة الوسطى قد حول إيران إلى واحدة من الدول التي تعاني من أعلى مستويات الهجرة الخارجية. وتزيد من هذه المشكلة البصمة السلبية لنفسية الحزن التي تروج لها الحكومة.

عندما توفي الرئيس إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة هليكوبتر في 19 مايو، وهو تاريخ يصادف عيد ميلاد الإمام الشيعي الثامن، الإمام رضا، ألغت الدولة جميع الاحتفالات بالمناسبة الدينية. كان عيد ميلاد الإمام الشيعي الوحيد الذي يحتوي على ضريح في إيران يعتبر عادةً أهم مناسبة في تقويم الدولة. وأبرز تعليق الاحتفالات المنتظرة للغاية أن في نمط الحياة الثوري، فإن السعادة الجماعية لا تقتصر فقط على كونها دون الحزن، ولكن الطقوس الدينية ذات الطابع الاحتفالي كذلك.

ومع ذلك، على الرغم من كل ما فعلته الدولة لتشويه البحث عن الفرح وتحويل الحزن إلى قيمة ثمينة، لا يقتنع كل المراقبين بأن الجمهورية الإسلامية هي المسؤولة بالكامل عن هذه الحزن الشامل.

لقد تم التحقيق من وقت لآخر في الدور الرائد للحزن في الثقافة الشعبية الإيرانية وأهمية الموت في تشكيل رؤية العالم للمتوسط الإيراني بعد عام 1979. لكن هناك القليل مما يسلط الضوء على كيفية أن هذا التيار الإيديولوجي المهيمن قد أدى إلى دورات من الأحداث المؤسفة التي لم تكن لتحدث لو كانت إيران مجتمعًا يروج للإيجابية.

في عام 2011، اكتشف الباحثون في جامعة كولومبيا وجامعة ستانفورد والمؤسسات الهندية الشريكة أن البيئات تثير مشاعر معينة وأن هذه الروابط يمكن أن تفسر تصور الجمهور لتلك الأماكن. هذه الظاهرة التي أطلقوا عليها "بقايا عاطفية" مسؤولة عن تقارير الزوار إلى معسكرات الإبادة في أوشفيتس ببولندا عن مشاعر الضيق في صدورهم، واهتزاز أيديهم، والاكتئاب.

في بيئة مثل إيران، التي تعاني من العزلة العالمية والسياسات المدمرة ذاتيًا، يمكن اكتشاف آثار البقايا العاطفية بشكل أسهل. عندما تكون المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الأمة مملوءة بمحاولة متعمدة لفرض الإحباط، من المحتمل أن تمتص ككيان جغرافي خصائص المزاج الجماعي الذي تم تدريبه على زراعته.

قال جامشيد شوشي، أستاذ متميز في قسم الدراسات الأوراسية الوسطى في جامعة إنديانا: "الأسس الدينية والسياسية للأصولية للجمهورية الإسلامية الإيرانية تقودها إلى مواقف محلية ودولية تخلق وتسبب وتديم وتكرس دورة من البؤس، وتؤسس للعبوس وحالة من العداء."

وأضاف: "أزل الفرح، اللون، المزاح والتفاعلات الإنسانية الطبيعية، واستبدلها بالسواد، الرقابة والتفاعلات الموجهة نحو رؤية مظلمة ودائمة التوبة للعالم بدلاً من رؤية المجتمع كواحد من المعرفة والشعر والتفاعلات الدولية التي كان الإيرانيون القدماء والوسطى مشهورين بها، وستحصل على الدولة الإيرانية الحديثة."

على الرغم من الخطاب المهيمن الذي يركز على أهمية الموت، والذي استخدمته الجمهورية الإسلامية لتعزيز أجندتها في إدارة الرعب، لم يمتثل الإيرانيون دائمًا للأوامر الرسمية. لقد وجدوا طرقًا لجعل حيويتهم معروفة واستغلوا رأس المال الاجتماعي الخاص بهم لإحداث التغيير عند الإمكان.

قالت سارا ميفار، الباحثة المقيمة في أمستردام: "يجب أن نتذكر أن الناس لديهم القدرة على مقاومة الثيوقراطية، واحتجاجات المرأة، الحياة، الحرية هي مثال جيد على رفضهم للقبول بالهندسة من قبل الدولة."

التفكير في المآسي الماضية هو بالطبع سمة من سمات اللاهوت الشيعي. تمامًا كما أن الضحية التي أثارها الهولوكوست تستمر في ملاحقة الشعب اليهودي، فقد جاء الشيعة ليتناولوا قهرهم التاريخي، الذي يتجسد في استشهاد إمامهم الثالث، كبداية لسلسلة من الظلم الذي لا يزال يظللهم.

لكن في إيران، لم يعد ثقافة الحزن تخدم غرضًا دينيًا، وأصبح مشروع السيطرة الاجتماعية والقمع السياسي أكثر إلحاحًا. التحذير هو أن أولئك المشاركين في هذا المشروع يواجهون أزمة في الشرعية.

قال كامران تالاتوف، أستاذ الدراسات الفارسية والإيرانية في جامعة أريزونا: "لطالما روجت المؤسسة الشيعية لهذه الأفكار، وتبنى الكثيرون الذين واجهوا صعوبات في حياتهم هذه الأفكار، باكين ليس فقط لضحايا قصة مشبوهة ولكن أيضًا لصعوباتهم الخاصة."

وأضاف: "ومع ذلك، فإن هذه المشاريع الإيديولوجية الآن مفلسة، حيث يلجأ النظام إلى القوة والإكراه والقمع للحفاظ على السيطرة. علاوة على ذلك، أدى تورط الوعاظ في الفساد وقتل الإيرانيين إلى جعل الناس يشككون ليس فقط في الرسل ولكن أيضًا في الرسالة نفسها."

يجب بذل جهد كبير لإثبات أن هذه الإفراطات هي التي تجعل الإيرانيين يتنازلون عن تدينهم. بعض الاستطلاعات قد قدمت إشارات مشابهة عن سباق الأمة نحو العلمانية، لكن نتائجها قوبلت بالجدل. ومع ذلك، هذا ما يردده تالاتوف: "إذا تم إجراء مسح لرؤية العالم في إيران اليوم، فلن يكون من المفاجئ العثور على أنها قد تكون واحدة من أكثر الدول إلحادًا في العالم."

من المؤكد أن هناك بعض الدراسات التي تشير إلى أن عناصر التدين بين الإيرانيين تتعرض للتقويض. يجب توسيع هذه الاستطلاعات لتقديم صورة أوضح. لكن كنقطة انطلاق، فهي مؤشرات قوية على نبض أمة يتم فهمها بشكل خاطئ.

في استطلاع لمركز بيو للأبحاث عام 2018، صرح 78% من المسلمين الإيرانيين أن الدين كان "مهمًا جدًا في حياتهم"، في حين وافقت أعداد أكبر في دول ذات أغلبية مسلمة على نفس التصريح، بما في ذلك 94% من المستجيبين في باكستان، و92% في أفغانستان، و83% في العراق، و81% في بنغلاديش. كان الاستطلاع جزءًا من مشروع بيو-تمبلتون لمستقبل الأديان العالمي.

أظهرت نفس الأبحاث أيضًا أن معدل حضور العبادة لدى الإيرانيين كان أقل بكثير من ذلك في الدول المسلمة الأخرى. بينما قال 38% فقط من الإيرانيين في استطلاع 2018 إنهم يحضرون خدمات العبادة "مرة واحدة على الأقل أسبوعيًا"، أفاد 72% من الإندونيسيين، و62% من المصريين، و59% من الباكستانيين، و44% من الأتراك بأنهم يذهبون إلى المساجد للصلاة خلال نفس الفترة.

تشير نتائج مسح القيم العالمية 2017-2022، الذي كلفته جمعية مسح القيم العالمية التي تتخذ من ستوكهولم مقرًا لها، إلى تحول محتمل ومؤثر في موقف الإيرانيين تجاه الممارسة الدينية. في تصنيف المسح لـ 64 دولة بناءً على درجات تدينها، جاءت إيران في المرتبة 16 بعد دول مثل إندونيسيا، الأردن، تونس، المغرب، باكستان وماليزيا، وكذلك دول غير مسلمة مثل أرمينيا، نيكاراغوا، كولومبيا واليونان.

العلاقة بين تفضيل الدولة للحزن وفصل الجمهور الإيراني عن المبادئ الدينية هي مسألة تخمينية، حيث يمثل الحداد جانبًا واحدًا فقط من ممارسة الإيمان. لكن الظاهرة الأوسع لتغير إيران بعيدًا عن التوحيد والألوهية التي يشير إليها تالاتوف لها أسس تجريبية.

الادعاء بأن الترويج النشط للحزن من خلال الهوس بالتأملات المأساوية قد أرهق الإيرانيين ليس موثوقًا به لأولئك المكلفين بتأطير الحزن. بعضهم، خاصة من رجال الدين الشباب الذين يسعون لجذب الجمهور من جيل الألفية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يعترفون أن الاستثمار في الحداد كان غير متناسب مع ذلك في الاحتفالات السعيدة، بما في ذلك الاحتفالات الدينية. ولكن حتى في تقديم هذا الاعتراف، يصرون على أن الحداد الإلهي هو شرط أساسي للتغذية الروحية للمجتمع، مما يضمن أن الناس متدينون بما فيه الكفاية، ومستنيرون وعميقو التفكير. التفكير العميق ليس بالضرورة أن ينتج مواطنين مبتكرين ومبدعين.

إن حقيقة أن رجال الدين الإيرانيين قد عارضوا المنتجات الجديدة للتكنولوجيا في السنوات الأخيرة لها دلالات على مصداقية تأييدهم للتفكير والمعرفة. كان آية الله العظمى ناصر مكارم الشيرازي قد حكم في فتوى مثيرة للجدل عام 2013 أن المكالمات الفيديو، التي ظهرت في البلاد لأول مرة، والتي قدمها مشغلو الاتصالات 3G، غير جائزة. وقد جادل بأنها ستنتج فسادًا وأن عيوبها تفوق فوائدها، إن وجدت.

تحدثت إلى حسين إبراهيم، رجل دين يعيش في مدينة مشهد المقدسة ولديه متابعون كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي. في الفترة التي سبقت انتخابات 28 يونيو الرئاسية، كان ينشط في حملته لصالح المرشح المحافظ، محمد باقر قاليباف، عمدة طهران السابق ورئيس البرلمان.

قال: "كطالب في العلوم الدينية الذي شارك في هذه الأنشطة لأكثر من 20 عامًا، أعتقد أن هناك انحرافًا في بلدنا، ونحن نتعامل مع بعض القصور عندما يتعلق الأمر بالفرح الديني والسعادة الحلال."

وأضاف: "تم تخصيص أوقات معينة للاحتفال الديني، لكن جودتها، سواء من حيث الامتداد أو من حيث التنسيق، لا تتطابق مع فترات الحداد الديني."

وواصل إبراهيم شرح أن ما يسميه "السعادة العميقة" هو أولوية الإسلام. "السعادة العميقة تعني مساعدة شخص ما لحل مشكلاته وفك تعقيدات حياته. هذا هو ما يسعى الإسلام لتحقيقه."

وأضاف: "بصرف النظر عن ذلك، من المهم بالطبع إظهار الابتسامة على وجه شخص ما، ولكن هناك فرامل وحدود حمراء عندما يتعلق الأمر بالأدبيات الدينية."

الأرقام الدقيقة حول مدى إنفاق الحكومة الإيرانية على الأنشطة الترويجية لفعاليات الحداد، بما في ذلك المواد المطبوعة، الإعلانات في الشوارع، الكتب، والمنتجات متعددة الوسائط، نادراً ما يتم الكشف عنها. هذه النفقات هي مصاريف متكررة، وقد نمت صناعة إعلامية وعلاقات عامة كاملة حول دفع المجتمع إلى حالة من الكآبة المستمرة.

أبرز مثال على ذلك هو الميزانية غير المقيدة المخصصة للترويج لذكرى قاسم سـليمانــي وأربع ذكريات له بعد عام 2020. تم طباعة عدد لا يحصى من اللوحات الإعلانية، والملصقات، واللافتات، وأغطية الحافلات، وأغطية أثاث الشوارع في فترة زمنية قصيرة، مما غلف المدن الإيرانية باللون الأسود. كانت جميع المواد تعرض صوراً للجنرال وهو ينظر بجدية إلى المتابعين.

على الرغم من نقص الشفافية، يمكن استخلاص بعض الأرقام من المصادر المتاحة. وفقًا لوكالة الأنباء شبه الرسمية ISNA، تم نشر 1,202 كتابًا عنه منذ وفاة سليمانــي، تحتوي عناوينها على اختلافات في اسمه. ومن المتوقع أن معظم هذه الكتب تم طباعتها باستخدام دعم حكومي سخي لا يُخصص للناشرين أو المؤلفين المستقلين.

وفقًا للأرقام الرسمية والمحلية، في مدينة القدس، إحدى مدن محافظة طهران، طبعت البلدية 16,000 ملصق، كان من المقرر توزيعها بعد مباشرة بعد اغتيال سليمانــي. في مدينة مشهد، تم تغطية 5,000 تاكسي بصور القائد، بتمويل من عمدة المدينة. في الذكرى الأولى للهجوم الذي قتل سليمانــي، طبعت نفس المدينة الشمالية الشرقية ووزعت 70,000 ملصق تحتوي على صورته.

في مدينة بوكان، التي يبلغ عدد سكانها 194,000 نسمة، طبعت الفرع المحلي لمنظمة التنمية الإسلامية 2,000 ملصق بعد قتل القائد. في عام 2021، وزع مسجد واحد في مدينة شيراز 1,000 ملصق بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته.

من المعقول أن نستنتج أن ملايين الدولارات من الأموال العامة قد تم إنفاقها لتكريم شخصية عسكرية مفقودة، والمواد الترويجية التي يتم إنتاجها هي مجرد تجسيد واحد لجهد دعاية متعدد الجوانب. هذه الطريقة في التذكير تختلف جوهريًا عن كيفية تكريم "الأبطال الراحلين" في حرب فيتنام في الولايات المتحدة أو من تذكرهم ذكرى القتلى في القصف الذري لهيروشيما وناجازاكي، على سبيل المثال.

يؤكد صادري أنه من المبالغة أن نقول إن إيران تبرز في طقوسها الاستثنائية للوفاة: "الصرب لا يزالون يتأملون هزيمتهم المدمرة في معركة كوسوفو في عام 1389. ذات مرة، حضرت مراسم مفصلة في اليونان تندب ذكرى سقوط القسطنطينية بيد محمد الثاني في عام 1453."

" الأمريكيون لا يزالون يتذكرون هزيمتهم في عام 1836 على يد الجيش المكسيكي تحت قيادة الجنرال أنطونيو سانتا آنا"، قال صادري. "إنهم لا يحاولون النسيان، بل 'تذكروا الألامو'."

"  والآن، لدينا أيضًا شعار 'تذكروا 11/9'"، أضاف صادري.

هذه وجهة نظر ليست نادرة. يتفق كيفان هاريس، أستاذ مساعد في علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، على أن زراعة الحزن والمأساة ليست فريدة من نوعها في الرموز السياسية الإيرانية.

" الديكتاتورية في البرازيل خلال السبعينيات، كما فعلت الاتحاد السوفيتي في الستينيات، ادعت أن الفرح الجماعي خطير وفاسق، وهو نتاج الفساد الغربي"، قال هاريس.

"تسبق هذه المشاعر عام 1979 في الأدب الإيراني والإنتاج الثقافي، تمامًا كما تسبق السخرية أو الميلودراما عام 1979 أيضًا. محبوب إيران روبرت دي نيرو يعاني من شعور بالذنب الكاثوليكي ويشخص حياته"، أضاف هاريس.

كان العديد من الأكاديميين الذين تحدثت معهم حذرين بشأن تقديم تقييمات تصور المجتمع الإيراني كمجتمع متجانس وتجاهل تطوراته السريعة. وكانوا واعين بعدم تخصيصه كأول دولة يتم فيها تسليح الدين. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التفاصيل عندما نحلل "ثقافة الوعي بالوفاة" السياسية الفريدة في إيران بعد عام 1979.

عندما ينعى النظام الإسلامي نخبته أو القديسين الشيعة المحترمين، فإنه يفعل ذلك بينما يفرض جوًا من المأساة، المعزز بعدم الراحة. لم يساعد هذا فقط في تشكيل عبادة شخصية لا يمكن الطعن فيها حول شخصيات مثل سـليمـانـي— الذين من المتوقع أن يُخلدوا في التاريخ كرموز مقدسة للجمهورية الإسلامية — ولكنه أيضًا شجع على الخضوع بين السكان الذي يتطلبه النظام.

تقول الصحفية تارا كنجارلو: " إذا نظرت إلى كل عطلة أو كل حدث يحتفل به النظام الإسلامي، فإنه غالبًا ما يكون استشهاد شخص ما، أو وفاة شخص ما، أو قتل شخص ما".

وتضيف:  "في حالات نادرة جدًا عندما يحتفلون بعيد ميلاد إمام، فإنها لا تزال ليست مفرحة وتظل تتماشى مع سلوك ديني ليس بالضرورة مفرح. من خلال إزالة الفرح والسعادة، قاموا بدمج المجتمع بنسختهم الخاصة من الحياة، وهي طريقتهم في التسلط الديني في هذه الحالة".

في كتابها "نبض إيران: أصوات حقيقية من بلد وشعبه"، تستكشف كنجارلو موضوع الحزن وتلمس ميل الحكومة لانتقاد نوروز بانتظام. وتقول إنه حتى دون العثور على علاقة بين الثقافة الرسمية للبؤس والأزمات النفسية التي تجتاح إيران، من الممكن أن نستنتج ملاحظات معقولة حول الصحة العاطفية للمجتمع.

قالت: عندما يُحرم المجتمع من الفرح ويتلقى باستمرار سردًا عن التضحية والاستشهاد والموت، حيث يُحتفل بالموت بدلاً من الأمل، النجاح، الأحلام والطموحات، إذا كان لديك طفل ينشأ في ظل كل هذا، فمن الطبيعي أن يكون لذلك تأثير على رفاهيته عندما يكون في سن المراهقة أو الجامعة"

ليس من السهل إلقاء اللوم فقط على هذه الثقافة من الحداد، التي تحفظها الحكومة بدقة، في الحوادث المؤسفة التي تحدث بوتيرة مثيرة للقلق في إيران. لكن من وجهة نظر المواطن العادي، فإن معظم هذه المصائب حصرية لإيران، وفي أماكن قليلة أخرى في العالم يمكن رؤية عدد كبير من المحن المتعاقبة.

يسأل الناس، لماذا لا يمكن لإيران أن تكون مثل فنلندا أو الدنمارك، حيث يكون الناس سعداء فقط؟ لماذا يخاف رجال الدين من سعادتنا؟ لماذا أصبحت الأفعال الأساسية مثل الرقص، وتماسك الأزواج، أو اجتماع الأصدقاء في الحدائق خطوط صدع مزمنة تتطلب تدخل الأجهزة الأمنية؟ لماذا الحياة هنا معقدة للغاية؟

على الرغم من الاتفاق العام بين العلماء الذين تحدثت إليهم على أن الحكومة قد قامت بتأصيل ثقافة الحداد، إلا أن معظمهم كانوا حذرين من الربط المباشر بين هذا والوضع المأساوي للاقتصاد، مؤشرات الصحة والأمن. اعترفت إحدى الأساتذة الجامعيين بأن هذه حجة مقنعة. لكنها قالت إن الوقت الحالي قد يكون مبكرًا لاستنتاج.

تحت قيادة الرئيس الأكثر تطرفًا، إبراهيم رئيسي، بدا أن الحرب ممكنة في عدة مناسبات. انتُهكت سيادة إيران لأول مرة عندما هاجم الجيش الباكستاني محافظة سيستان وبلوشستان في يناير. ثم في أبريل، استهدفت إسرائيل مواقع عسكرية بالقرب من مدينة أصفهان ردًا على عملية الجمهورية الإسلامية بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد الدولة اليهودية.

من المنطقي أن نفترض أن الإدارة التي عملت على تضخيم التوترات الاجتماعية من خلال حملة قمع عنيفة ضد النساء، وسوقت الحداد باعتباره أحد المساعي الثقافية القليلة التي تستثمر فيها، وشنت حربا خاطفة ضد مظاهر الفرح العام، ستجني في النهاية بيئة اجتماعية واقتصادية كئيبة تتخللها أزمات سياسية نادرة. ولكن هذا ليس صحيحا.

أصدرت مؤسسة ليجاتوم، وهي مركز أبحاث مقره لندن، النسخة لعام 2023 من مؤشر الازدهار، والتي رتبت 167 دولة بناءً على 12 مقياسًا للرخاء. وعند تعديل النتائج وفقًا لدرجات الدول في محور الحرية الشخصية، الذي يشمل أيضًا التسامح الاجتماعي، احتلت إيران المرتبة 165. وفي مؤشر تشاندلر للحكم الجيد لعام 2024، الذي يقيم الدول وفقًا لقوة مؤسساتها، سمعتها العالمية، سيادة القانون و"مساعدة الناس على الارتقاء"، تحتل إيران المرتبة 107 من أصل 113.

لا يوجد الكثير من أوجه التشابه بين الوضع الراهن في إيران، سواء في جوارها أو بين البلدان ذات الحجم والتركيبة السكانية المماثلة. فعلى مدى عقود من الزمان، كان اقتصادها مدمراً تحت وطأة العقوبات العقابية، ولكن بسبب عدم حدوث أزمة إنسانية فورية، لم تكن محنة شعبها في قلب نقاش عالمي. والفساد متفشٍ إلى الحد الذي يجعل الناس يتوقون إلى التعرف على المسؤولين التنفيذيين غير المتورطين في فضائح اختلاس شيطانية.

إن حكومتها المتعنتة، المكروهة في الداخل والمنتقدة دوليًا بسبب مغامرتها النووية المستمرة، لا تزال تمتلك قاعدة كبيرة من المؤيدين المحافظين الذين لا يقاومون فقط جهود المجتمع المدني للتغيير، بل يعملون أيضًا كمساعدين للقمع ضد مواطنيهم. يمكن أن تحدث هذه المجموعة من الظروف في أي مكان. هناك دول تتعامل باستمرار مع تعقيدات تشبه إلى حد كبير واقع إيران، بما في ذلك لبنان وكوبا وفنزويلا وليبيا. ولكن في أي من هذه البلدان لم تتول الحكومة حمل لواء الحزن والترويج له بهذه القوة.

هذه الحالة من التفكك العاطفي تُعتبر رمزا للمجتمع الإيراني. السبب، ربما، هو هيمنة غير متنازع عليها لثقافة الحزن. والنتيجة هي حلقة مدمرة من البؤس.

***

............................

المؤلف: كورس زيا باري / Kourosh Ziabar هو صحفي أمريكي من أصل إيراني يعيش نيويورك. وزميل معهد الصحافة العالمي لعام 2022 بجامعة سانت توماس. وهو خريج كلية الصحافة بجامعة كولومبيا وحاصل على درجة الماجستير في الصحافة السياسية. وفي عام 2022، حصل على جائزة التميز المهني من جمعية مراسلي الصحافة الأجنبية.

منذ أسابيع مضت، كتبْتُ هنا عن الانتخابات الأمريكية، وتساءلت: هل يمكن أن يأتي اليوم الذي يناظر فيه ترامب كامالا هاريس؟! جاء سؤالي هذا حتى قبل أن يقرر بايدن الانسحاب من السباق الرئاسي؛ إذ كانت حالته الصحية تشير لحتمية انسحابه لمصلحة الحزب الديمقراطي..

 وبعد مقالي السابق بأيام حدث الانسحاب وتمت تزكية كامالا هاريس باعتبارها المرشحة الأكثر حظاً، وظللت على يقيني بأن المناظرة قادمة بالتأكيد، حتى وإن أعلن ترامب غروراً وتكبراً أنه لن يحاور هاريس مطلقاً حتى لو ثبت ترشحها رسمياً. لكنه نزل مضطراً على حكم المسار الانتخابي، وها هي المناظرة التي وصفت بأنها تاريخية قد أجريت.

 فما هي دلالات هذه المناظرة وما تبعات نتائجها؟ وهل يصير حاكم الولايات المتحدة الأمريكية القادم ديمقراطياً فتُصبغ باللون الأزرق، أم جمهورياً فيُطلي وجهها باللون الأحمر؟!

مناظرة الحسم

 البعض يحلو له أن يقلل من قيمة المناظرات بين مرشحي الانتخابات الأمريكية، ويقع في ظنه أنها لا تستطيع التأثير على نتائج التصويت أو حسم أمر أحد المرشحين، غير أن الواقع يكذّب هذا الزعم؛ إذ أن المناظرة السابقة بين بايدن وترامب حسمت أمر ترشح بايدن واستبعدته من السباق الرئاسي في غضون أسابيع من المناظرة.

 الأرقام والإحصائيات لها دور في تحريك الكتلة المستقلة، وجذب انتباه أولئك الذين يقفون من المرشحين في منتصف الطريق. هناك سبع ولايات متأرجحة، وتصويتها القادم سوف يكون هو الحاسم. لهذا تم اختيار أهم ولاية من الولايات المتأرجحة لتستقبل المناظرة بين كامالا وترامب، وهي ولاية بنسلفانيا، وهي من أكبر الولايات من حيث عدد أصوات المجمع الانتخابي. وفيما أظهرت استطلاعات الرأي الأولية تعادلاً بين ترامب وهاريس قبل المناظرة لدي جمهور تلك الولاية، فإن الاستطلاعات التي تلتها أكدت تفوق هاريس على ترامب.

 اليوم التالي للمناظرة امتلأت فيه عناوين الأخبار في أشهر الصحف والقنوات الأمريكية معلنة فوز هاريس في أغلب استطلاعات الرأي، وفي مقدمتها استطلاع CNN الذي أكد تفوق هاريس بنحو 26 نقطة، وبنسبة 63: 37. وهو فوز أكبر من كل التوقعات.

 المحللون والمراقبون قبيل المناظرة توقعوا أن خبرة ترامب الكبيرة وأسلوبه الهجومي الحاد سيضمن له هزيمة هاريس الأقل خبرة بالضربة القاضية. ثم جاء اللقاء الذي بدأ بينهما بمصافحة باردة ونظرات متحفزة من هاريس. والغريب أن الهجوم الأول في المناظرة أتي من جانب كامالا، ثم بدا واضحاً لسائر المتابعين أن هاريس استعدت لهذه المناظرة بخطة مدروسة، وأن مدربتها أجادت اصطياد ترامب بعدد من الشراك والأفخاخ، لدرجة أن الصحفيين سألوا ترامب بعد اللقاء بقولهم: كيف التقطت الطُعم الذي ألقمتك هاريس إياه؟

 أكثر من هذا أن مناصري ترامب أنفسهم هاجموا ترامب بعد المناظرة، وأكدوا أن غروره أوحي له ألا يعد خطة للحوار، وأن يعتمد على العبارات المحفوظة التي يحلو له أن يكررها ويرددها في كل المؤتمرات الانتخابية واللقاءات الصحفية. تلك العبارات الجوفاء التي لا تخرج عن كونها اتهامات لأداء الحزب الديمقراطي خلال الأربعة أعوام الماضية. لهذا استطاعت كامالا أن تبادر بالهجوم ضد ترامب، ووصفته أكثر مرة بأنه كاذب وأن أداءه خلال فترة رئاسته يمثل عاراً على الرئاسة وأن الحكام والقادة يعتبرونه مهرجاً وأنه لا يتحلي بالجدية أو المسئولية في قيادة أمريكا. كما استطاعت هاريس الرد على جميع الاتهامات الجزافية التي ألقي بها ترامب في جعبتها نتيجة لاستعدادها وتدريبها المكثف بخلاف ترامب الذي اعتمد على ثقته الزائدة في ذاته.

انتخابات نارية

 انتخابات أمريكا هذا العام هي الانتخابات الستين، وسوف تجري في الخامس من نوفمبر القادم على أن يتم تنصيب الفائز بالانتخابات في 20 يناير 2025. وهي انتخابات شاملة لمقعد الرئاسة ومقاعد مجلس الشيوخ والكونجرس وحكام الولايات. ولها طريقة معقدة في احتساب أصوات كل ولاية، تعتمد في الأساس على أصوات المَجمع الانتخابي لا الأصوات الشعبية. ويبلغ عدد أصوات المجمع الانتخابي 538 صوتاً موزعة على جميع الولايات. ويلزم المرشح الرئاسي عدداً من الأصوات يبلغ 270 صوتاً أو أكثر للفوز بالرئاسة.

 فأما أصوات الجمهور رغم أنها مؤثرة، لكنها أصبحت عُرضة للتأثير الخارجي بشكل متزايد، خصوصاً وأن الأجيال الجديدة كلها صارت تتأثر في اختياراتها بمواقع التواصل الاجتماعي التي بات لها التأثير الأكبر على اختيارات الناخب الأمريكي. وربما نذكر في انتخابات 2016 كيف أن الاختراق السيبراني الذي قام به هاكر روسي للإيميل الخاص بهيلاري كلينتون تسبب لها في حرج بالغ مما أدي لفوز ترامب بمقعد الرئاسة. وقد نشر موقع إكسيوس مؤخراً خبراً عن عملية يقودها هاكر صيني يسيطر من خلالها على عدد من الحسابات المزيفة لأشخاص يزعمون أنهم أمريكيين ويبث من خلالها خطاب عدائي يؤلب الأمريكيين على بعضهم البعض.

 مثل هذه الاختراقات قد تزداد بشكل أكبر خلال الشهرين القادمين، وسوف تتسبب في زيادة حالة الاستقطاب بين نسيج المجتمع الأمريكي الذي شهد خلال السنوات الماضية تغيرات ضخمة تحولت على إثرها إحدي الولايات الديمقراطية على ولاية متأرجحة بسبب تغيرات ديموجرافية واسعة النطاق، وهي ولاية نورث كارولينا.

 يضاف إلى ما سبق تهديدات ترامب بأن فوز الديمقراطيين سيهدد استقرار المجتمع الأمريكي، وكأنه ينوي تكرار المشهد القديم لأنصاره باقتحام مبني الكونجرس وربما ما هو أسوأ.

قضايا شائكة

 قضية غزة فرضت نفسها كأهم القضايا المؤثرة على تصويت الناخبين الأمريكيين على غير عادة القضايا الخارجية. فالمعروف أن التصويت الانتخابي يعتمد في الأساس على قضايا الداخل الأمريكي وفى مقدمتها الاقتصاد.

 كلا المرشحين الديمقراطي والجمهوري أكدا دعمهما الكامل لإسرائيل من أجل استمالة اللوبي الصهيوني في أمريكا وهو من أقوي اللوبيات المسيطرة على تصويت المجمع الانتخابي سلباً أو إيجاباً. المدهش أن اليهود الأمريكيين أنفسهم يشهدون انقساماً حاداً في الرأي، البعض منهم ينحاز لرؤية نتنياهو وبن غفير في استمرار حرب الإبادة ضد غزة، والأكثرية يحضون على إبرام صفقة لإنهاء الحرب وتبادل الأسري. ما يعني أن أصوات اللوبي الصهيوني نفسها منقسمة على ذاتها ولا يمكن ضمانها.

 القضية الثانية من حيث الأهمية قضية الهجرة وأمن الحدود. أما بايدن فقد قام خلال فترة رئاسته بتوفير مسارات قانونية لتوفيق أوضاع المهاجرين وتسهيل إجراءات الحصول على تأشيرة للخريجين الأجانب، لضمان عدم تكرار تدفق المهاجرين غير القانونيين. وهو ما أدي لارتفاع معدلات الهجرة القانونية خاصة من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية.

 على الناحية الأخرى توعد ترامب المهاجرين بإجراءات أكثر صرامة وأشد قسوة. وأنه سوف يستعين بالجيش الأمريكي لتأمين الحدود، وسوف يستكمل بناء الجدار العازل على الحدود الجنوبية. وقد لوحظ أن خطاب ترامب ازداد حدة ضد المهاجرين، فوصفهم بأنهم حيوانات وأنهم يسممون دماء البلاد، وزعم أن دول الجنوب يصدرون لأمريكا المجرمين والمدانين!

 قضايا أخري جدلية شغلت الرأي العام باتت هي الشغل الشاغل للفريق الرئاسي لكلا المرشحين مثل الحرب الأوكرانية وقضية الإجهاض والحرائق الناجمة عن التغير المناخي وقضايا التعليم والاقتصاد والرعاية الصحية. وكلها قضايا رغم أهميتها إلا أنها غير قادرة على حسم الصراع الدائر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لأن حالة الاستقطاب لدي الجمهور من ناحية، وحالة الهجوم المتبادل بين المرشحين من ناحية تجعلان التصويت العقلي يتقهقر أمام سطوة العاطفة والانحياز. لهذا فإن الانتخابات الأمريكية القادمة سوف تشهد أضخم حالة انقسام مجتمعي لم يسبق لها مثيل. وأتوقع ألا تهدأ تلك الحالة من الانقسام حتى بعد إجراء الانتخابات وإعلان الفائز برئاسة أمريكا. إنها انتخابات استثنائية في نتائجها ومجرياتها ولها تبعات خطيرة على كل المستويات داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.

***

د. عبد السلام فاروق

تُستخدم القنابل الغازية السامة والقاتلة المسماة "المسيلة للدموع" لتفريق التظاهرات والحشود والتجمعات الجماهيرية، المطالبة بحقوقها المشروعة. ويعرف ُ مستخدموها جيداً ما تسببه من أضرار لمستنشقي غازاتها أثناء إنفجارها، والتي تتراوح بين إلتهاب العينين، والأنف، والحنجرة، والعمى المؤقت، وتهيج البشرة، والسعال، الى صعوبة التنفس، والإختناق، والتهاب الرئتين، وخفقان القلب، وإرتفاع ضغط الدم، والنزف الدماغي، والموت.إضافة لما تسببه من  حروق شديدة، وتقود في حالات إلى تقيؤ متواصل يفضي إلى الموت. ويكون تأثيرها أشد على الأطفال، والنساء الحوامل، وكبار السن، ومرضى الربو، وضغط الدم  العالي، وعجز القلب، وغيرهم.

لذا تعتبرها المنظمات الدولية الإنسانية والحقوقية أداة قمعية بيد الحكومات المتسلطة على رقاب شعوبها ، والحكومات المحسوبة " ديمقراطية" وهي تصادر الحقوق وتخنق الحريات العامة، تمسكاً بكرسي الحكم.

لليوم، لا تتوفر شفافية كافية في صناعة إنتاج هذه الأداة القمعية. ولا يُطلبُ من الشركات المصنعة لها الإفصاح عن مكوناتها.ولذا لا يُعرفُ إلا القليل عن المزيج الدقيق الموجود داخل كل ماركة من عبوات القنابل. ويختلف تركيز  مركبات الغازات المستخدمة فيها اختلافاً ملموساً بين المنتجات..

بيد أنه رغم التعتيم يعرف الخبراء المختصون ان العبوة تحتوي مركبات كيميائية، تتكون من جزيئات صلبة ،متناهية الصغر، تتحول عند إطلاق القنبلة في الجو إلى غازات سامة وقاتلة. وغالباً يُستخدم أكثر من مادة ومركب كيماوي سام في العبوة. وتكون المكونات عادة  صلبة عند حرارة الغرفة، وعندما تُسخّن أثناء إطلاقها تُنتج العامل الفعال الحارق والمهيج والمدمر، على هيئة غاز ضبابي، يتكون أساسًا من مجموعة من مركبات صناعية، كيمياوية عضوية، تحتوي على كبريتات الألمنيوم أو نترات البوتاسيوم (الملح الصخري) أو الكلور أو البروم. وكذلك السليكون، وكاربونات المغنيسيوم، والسكروز، والنيترو سيليلوز ، والفحم.

المركب الأكثر شيوعاً في الأدبيات العربية هو المكون من رذاذ الفلفل الأسود ومواد كيميائية يرمز لها بالحروف: (CS)- إختصار لسيانو كربون، و (CN)- اختصار لكلورو أسيتوفينون، و( (CR- اختصار لدايبنزوكسازبين، و(Bava)- اختصار لـ بلارغونيك أسيد فانيليلامايد (نونيفامايد)،ومركب (KNO) الذي يحتوي على كلورات البوتاسيوم والأوكسجين والبوتاسيوم والكلورين. ولكل واحد منها مفعوله الضار.ويعد الغاز (C.S) أكثر خطورة وهو محرم دوليا، وتبلغ قوة هذا الغاز نحو 10 أضعاف الغازات الأخرى ، وتعد القنابل التي تعتمد هذا الغاز نادرة الاستخدام ومحرّمة دوليا لآثارها بعيدة المدى، فضلا عن أنها قد تسبب الإصابة بالسرطان.

عموماً، تصنع هذه القنابل، في الغالب، من جسم خارجي من الألمنيوم، على شكل عبوة، توجد بأعلاها خمسة ثقوب، وأسفلها ثقب واحد، مغطاة بطبقة من الشمع اللاصق، تذوب عند إطلاق القنبلة، وينبعث منها مركب الغاز، مكوناً سحابة غازية ضبابية، عند إستنشاقها تحصل الأضرار السالفة.

تقول منظمة العفو الدولية: " جعلونا نعتقد أن استخدام الغاز المسيل للدموع يعد أسلوبًا آمنًا لتفريق المشاركين في الاحتجاجات"، بينما إتضح بأنها أسلحة كيمياوية. وعلى الرغم من توقيع معظم دول العالم على معاهدة عدم استخدام هذه الأسلحة، الا أن الكثير من الحكومات تستخدمها بشكل مفرط.

وتوصف بأنها أقل فتكاً، ولكنها ليست غير فتاكة، إذ تظل هناك إمكانية لإحداث تأثير مميت برغم أنها ليست مصممة للقتل. وغازاتها سامة، وتختلف مستويات سميتها باختلاف مواصفات المنتج، والكمية المستخدمة، والبيئة التي تُستخدم فيها القنابل.

علماً بان قانون الأسلحة النارية والمتفجرات وقانون التجارة الخارجية الدولية تُصنف:" الغاز المسيل للدموع" ضمن “المتفجرات” و”المواد الستراتيجية”.وتُلزِمُ بالحصول على إذن لتصديره من وكالات الشرطة الإقليمية وإدارة برنامج المشتريات الدفاعية.كما وتُلزِمُ قوانين الأنظمة الموصوفة بالديمقراطية قوات الشرطة بالتدرب جيدا على استخدام هذه القنابل، وعدم إطلاقها  مباشرة على التجمعات البشرية، وإنما في الهواء فقط.ولا تستخدمها إلا في حالة الضرورة، مع مراعاة المعايير القانونية المحددة لهذا الغرض. ونظراً لخطورتها لا يجوز بتاتاً إطلاق القنابل او المقذوفات أو عبوات الغاز المسيل للدموع، مباشرة على الأشخاص. ففي هذه الحالة يُعدُ إطلاقها كمقذوفات خطرة.ويمكن لارتطامها المباشر بأجساد الأشخاص أن يؤدي إلى إختراقها وحرقها،إضافة للعمى، لاسيما عند إطلاقها من مسافة قريبة أو استهداف أجزاء محددة من الجسد.

المعايير المذكورة لا يتم الإلتزام بها، ولا الالتفات إليها من قبل الدول التي تستخدمها أجهزتها الأمنية. وتثير إساءة استخدام هذه القنابل على نطاق واسع أسئلة حول غياب الأنظمة واللوائح المتعلقة بالاستخدام الصحيح، أو تحديد تركيباتها السامة، وكذلك وجوب تدريب أفراد الشرطة على إستخدامها الآمن.وعلى الرغمن من بواعث القلق الخطير ذات العلاقة بحقوق الإنسان، وبالإرشادات التي أصدرتها الأمم المتحدة في هذا الشأن، يستمر سوء التنظيم مرافقاً لصناعة الغاز المسيل للدموع وتجارته.

وقد وثَّقَت منظمة العفو الدولية إساءة استخدام الشرطة للقنابل الغازية السامة بعدة طرق، تضمنت إطلاقها على التظاهرات السلمية، ومباشرة على المتظاهرين، بما فيهم أشخاص أقل قدورة على الهرب، أو أكثر عُرضةً للتضرُر من آثارها، كالأطفال والمُسنين والأشخاص ذوي الإعاقة.

وشهد العالم إساءة استخدام قوات الأمن للقنابل الغازية السامة والقاتلة على نحو مُروِّع في إطار حملاتها القمعية الوحشية ضد المتظاهرين في فاسطين المحتلة، وإيران، والعراق، وبيرو، وسري لانكا، وبنغلاديش.

الى هذا، دعت ماريا ريستيتش، مديرة فريق التدقيق الرقمي في منظمة العفو الدولية الى: " وجوب إحترام السلطات في جميع أرجاء العالم  الحق في التظاهر السلمي، ومساءلة أي شخص يستخدم القنابل الغازية السامة ضد الأشخاص الذين يُمارسون حقوقهم الإنسانية الأساسية "!.

لكن هذه الدعوة وغيرها لم تتحقق، وبتواصل إنتاج الملايين من القنابل الغازية السامة والقاتلة، حيث كشفت وسائل الإعلام، قبل أسبوعين، ان كوريا الجنوبية هي أكبر مصنع وبائع لها ، مع ان قانونها يمنع قواتها الأمنية من إستخدامها ضد المتظاهرين. ووفقا للبيانات التي قدمتها (وكالة الشرطة الوطنية) إلى النائبة (يونغ هيه إن)،عضوة لجنة الإدارة العامة والأمن البرلمانية، صدرت كوريا الجنوبية 4 ملايين و730 ألف قنبلة غازية خلال الفترة 2019 إلى  حزيران 2024.

والطامة الكبرى ان العراق "الديمقراطي" جاء على رأس القائمة، مستحوذاً على أكثر من ربع صادرات كوريا الجنوبية من هذه القنابل،مستورداً خلال الـ 18 شهراً الأخيرة  مليوناً و 210 اًلاف قنبلة، منها 732 ألف قنبلة في العام 2023، و 478 ألف قنبلة إضافية في النصف الأول من العام الجاري..

جرى هذا والعراقيون لم ينسوا بعد مشاهد قتل المتضاهرين إيام انتفاضة تشرين، في عام 2019 عبر الاستخدام الكثيف  للآلاف من "أجود" انواع القنابل الغازية السامة والقاتلة التي وجهتها القوات القمعية للسلطة، ومليشياتها المسلحة وبلطجيتها، عشوائياً، الى أجساد المتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة التي كفلها الدستور النافذ (الرأس والوجه والصدر والبطن) ، فإنفجرت فيها وأحرقتها ومزقتها.

وفي وقتها أثبتت منظمة العفو الدولية استخدام نوعين من القنابل المسيلة للدموع، لم يسبق استخدامهما من قبل، لقتل المحتجين السلميين بدلاً من تفريقهم؛ وذلك بعد أن خلصت تحقيقاتها إلى أنهما تسببا في وفاة ما لا يقل عن خمسة محتجين خلال خمسة أيام. وقد أظهر التحليل أنه بالإضافة إلى القنابل الصربية الصنع (Sloboda Ĉaĉak M99) فإن جزءاً كبيراً من المقذوفات الفتاكة هو في الواقع قنابل غاز مسيل للدموع (65 (M651، وقنابل دخان (713  (M713 صنعتها منظمة الصناعات الدفاعية الإيرانية. وقد باعت الشركة البلغارية، “آ” Arsenal، القنابل اليدوية والأسلحة الأخرى إلى العراق، بما في ذلك قنابل الدخان التي ألقيت باليد.

وصرحت لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية بان جميع الأدلة أكدت قيام قوات الأمن العراقية باستخدام هذه القنابل العسكرية ضد المحتجين في بغداد، في تشرين الأول 2019، مستهدفة رؤوسهم أو جسدهم من مسافة قريبة وبصورة مباشرة. وكان لهذا نتائج مدمرة، في حالات متعددة اخترقت جماجم الضحايا، مما أدى إلى جروح مروعة وموت بعد أن تنغرس القنابل داخل رؤوسهم.

والحصيلة: إستخدام القنابل الغازية القاتلة والرصاص الحي أدى الى إستشهاد أكثر من ألف، وأصيب أكثر من 30 ألف شاب وشابة، منهم نحو 7 اَلاف معوق بعاهات جسدية مستديمة. وجرى ذلك أمام أنظار " نواب الشعب"، الذين كانوا يتفرجون ولا يحركون ساكناً، وكأن الأمر لا يعنيهم.. وذات الموقف وقفه الإدعاء العام ومجلس القضاء الأعلى..

وفيما تواصل عوائل الشهداء إنتظار معرفة قتلة ابنائها وبناتها، ويتم الافراج عن المتهمين بقتلهم، تقوم حكومة السوداني بإستيراد المزيد من القنابل الغازية السامة والقاتلة..ومع أنها صدعت رؤوس المواطنين بالوعو، خاصة بشأن الخدمات وفرص العمل، والتي لم تنفذها، مبررة التقصير بـ" ضعف الموارد"، بينما هي تنفق عشرات ملايين الدولارات على الوسائل القمعية.فرغم غياب الشفافية، والتستر على التعاقدات، والقومسيونات،تشير مصادر الكترونية إلى أن سعر القنبلة الواحدة يتراوح بين 15 و50 دولارًا. وبناء عليه، فإن الحكومة تكون قد استوردت قنابل بقيمة تقارب 20 مليون دولار، في حال كانت من  النوع الاسوأ. اما اذا كانت قد استوردت أفضل الأنواع، فإن ما انفقته عليها يصل الى 60 مليون دولار، وهذ هو المرجح طبعاً، من اجل ضمان التأثير الفعال لتلك القنابل في اسالة دموع المواطنين، وذلك كاجراء احترازي لتوفير الامن لهم ! "طريق الشعب" ليوم 20/8/2024.

وهنا، لابد من التساؤل: يدعي المتنفذون في السلطة ان نظامهم " ديمقراطي"، وهم يمثلون الغالبية، فلماذا إذا هم  مرعوبون من التظاهرات السلمية، ويستوردون بملايين الدولارات أداة لقمع أبناء وبنات شعبهم ؟!!.. وبأي حق، ووفق يا قانون " ديمقراطي" تشترونها وتستخدمونها ؟!

أليس الأحق بهذه المبالغ اَلاف الأُسر العراقية، التي جعلتها منظومة المحاصصة والفساد، تبحث في المزابل لسد رمق جوع أطفالها ؟ أو لدفع رواتب اَلاف الموظفين والمتقاعدين،الذين لم يستلموا رواتبهم منذ عدة أشهر؟!!

***

د. كاظم المقدادي

ظهر قبل الإسلام تعبير «أهل الله»(الأزرقيّ، أخبار مكة)، ومع تبلور المذاهب الإسلاميَّة برز مرادفه «الفرقة النَّاجيَّة»، وحديثاً طلع علينا «مشروع السماء»، شاهدنا كتاب «المرجعيَّة الدِّينيَّة: مشروع السماء في زمن الغيبة». لا أناقش المشروع، لأنه مشروع الله، ومن يناقشه جعل نفسه خصماً لصاحبه، شأنه شأن «حزب الله».

لقد أُغفلت المقولة المُثلَى: «الاختلافُ رَحمةٌ». لا ندري هل تمعنها مؤلف الكتاب أم لا، وكأن أول مبرزيها «إخوان الصّفا»(الرَّابع الهجري)، ثم تلقفها فقهاء، إلا أنَّ العمل بها فعلاً، على مدى تاريخ المذاهب، ليس بمستوى تداولها قولاً. مع أنْها ليست غريبة عن التُّراث القديم، فقد جرت على لسان شاعر.

شاع قبل الإسلام البيت التَّالي، واستشهدتُ به لمرات شغفاً بلفظه ومعناه: «نحن بما عندنا وأنتَ بما عن/ دك راضٍ والرَّأي مختلفُ»(الجاحظ، البيان والتبيين)، وبغض النَّظر عن المناسبة، يُخبرنا البيت بقبول الرَّأي المختلف مبكراً. قاله عمرو بن امرئ القيس(جاهليّ)، وقيل لغيره. لم نجد عند مؤرخي البيت الأولين، تفسيراً على أنّ معناه القبول بالآخر، إنما قصد الاعتصام بالرَّأي.

لكنْ نجد في القرآن ثلاث آيات واضحات جاهرات، في أنَّ الاختلاف هو «مشروع السَّماء»، لا مشروع مذهب مِن صنعة الرّجال، يخطئون ويُصيبون: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(المائدة: 48)، «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(يونس: 19)، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»(هود: 118).

لم ينل «النَّاسخ والمنسوخ» هذه الآيات بآية السّيف وغيرها، والمعنى ليست بين ما عُطل من آيات المسامحة(البغدادي، النَّاسخ والمنسوخ، وابن حزم، النّاسخ والمنسوخ). ناهيك عمَّا اعتبروه منسوخاً جزافاً، ويقرُ الاختلاف شرعةً: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(الحج: 17)، ومثلها ورد في «البقرة»: 62، و«المائدة»: 69، فهذا هو مشروع السَّماء واضح، لا يقبل تأويلاً.

نقرأ مقولة «اختلاف العلماء رحمة» في التّراث الفلسفيّ(إخوان الصّفا، الرسالة الأولى في الآراء والديانات)، وجاءت كتاباً «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» لمحمد العُثمانيّ(ت: 780 هجرية)، ولمحمد الحفنيّ(ت: 1181هجرية): «رسالة في قول النَّبيّ اختلاف أمتي رحمة». كما وردت «اختلاف أمتي رحمة» حديثاً (السِّيوطي، جامع الأحاديث).

على أرض الواقع، صَنف محمّد بن جرير الطّبريّ(ت: 310 هجرية) «اختلاف الفقهاء»، وبسببه اضطر ملازمة داره، ولما مات دُفن خفيةً، لمطاردته مِن قِبل حنابلة بغداد(مسكويه، تجارب الأُمم)، ثم جاءت بعده كتب بعنوان الاختلاف.

حسب ما تقدم، يكون الاختلاف بين المذاهب بريئاً مِن التزمت، ذلك إذا أُخذ بقول الفقيه سُفيان الثّوريّ (ت: 161 هجرية): «إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأمَّا التّشدد فيُحسنه كلُّ أحدٍ»(ابن عبد البرِّ، مختصر جامع بيان العِلم).

نعرف أنَّ الثَّوريَ قصد علوم الدّين، وهذه هي المشكلة اليوم، فالنّزاع بين المذاهب، والسباق على الكسب، للمسلمين وغيرهم، في ظل قحم الدِّين في الحزبيّة، أصبح محفوفاً بالمخاطر، فلا تبقى رحمة في الاختلاف، وقد قيل «الاختلاف رحمة»، ومعلوم أنَّ قصد الكسب المذهبيّ السّطوة، وما درجة خطورتها إذا اعتبر كلّ مذهب مقالاته «مشروع السَّماء»؟

أقول: إذا كان القائلون بالحاكميّة، وهو «مشروع السَّماء» نفسه، فبم فسر هؤلاء آيات الاختلاف، وهنّ باعتقادهم نازلات مِن السَّماء، ولا حِجُّة، إذا كانوا ينظرون إليها وفق «الناسخ والمنسوخ»، فلسنَ مِن المنسوخات، وحسب الآيات المذكورات يكون مشروع السّماء: الاختلاف رحمة، لا مقالات مذهب بعينه.

ختاماً، أياً من المراجع يمثل «مشروع السّماء»، فهم كثرٌ: الولاية الكبرى (السُلطة السّياسيَّة) أم الوسطى (السياسة دون السلطة) أو(الحُسبية) الصُّغرى (الصّغير، أساطين المرجعيَّة العليا)؟!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم