صحيفة المثقف

قراءة لمسألتي الملة والسياسة׃ أبو نصر الفارابي نموذجا

fatima almomaniالمقدمــة: البحث في تاريخ الفلسفة العربية هو بحث في علم قائم بذاته يستدرج الأحداث والتحولات والتطورات للفكر الفلسفي، هذا يعني أن هذا البحث هو بحث في القوانين التي تحول من الفلسفة فكرا كميا تراكميا وهو يظهر لنا جليا الاختلافات والصراعات وتضارب الأفكار يظهر لنا التقارب والتناسخ لبعض المباحث والأفكار الأخرى وهذا يعني إن الفكر الفلسفي هو فكر إلى حد ما تراكمي أي انه يكون ويتأسس نتاجا لما سبق وكذلك نتاجا للنقد الداخلي والخارجي والذي يبرز كمنهج أصيل لهذا الفكر. إن التناول الفلسفي لتاريخ الفلسفة الإسلامية جعلنا إزاء خطاب فلسفي لا يكتب من فراغ وإنما نتيجة تفاعل عناصر أدت إلى ولادته. هذا التاريخ إنما هو تاريخ مقاصد الفلاسفة، هو زمن الدفاع عن الملة، زمن المدينة الفاضلة، أي نقطة تقاطع الفلسفة والدين والسياسة عند الفارابي. وإن ما قدمه الفارابي ليس نظرية للعلاقات الممكنة بين الملة والفلسفة، بين الشيخ والرعية، بل هو تفكير في وضع الفلسفة في حيز عملي ونظري تسيطر عليه الملة، هو مجال الفكر الوسيط ويبلغ الدفاع عن الفلسفة عندما يتجاوز الفارابي الموازاة بين الفيلسوف والنبي، الإمام وواضع النواميس ومن ثمة هو دفاع عن الفلاسفة وأبعاد للمتكلمين والجمهور وتحديد لوضع الملّة بأنها تتوسّط العوام وأشباه العوام من جهة والفلسفة من جهة أخرى. وما يربوا إليه الفارابي هو تكوين رؤية فلسفية في علاقة مباشرة بالشرع، إلى تأسيس المدينة السياسية. لذلك فأهمية فلسفته تتمثل في تناوله لما يمكن أن نسميها مسألة الدينية السياسية أو الفلسفة الدينية السياسية والتي تتمحور حول قضيتين׃ النبوة والمدينة الفاضلة.

 

الملة عند الفارابي

إن مسألة الملة بقدر ماهي شائكة فهي هامة لأنها نقطة تقاطع الفلسفة والدين والسياسة عند الفارابي، ولكنها شائكة لأنها تظهر عند الفارابي بمظهر محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والشريعة، بين العقل والنقل ولكنها في واقعها دفاع الفيلسوف عن الفلسفة في زمن الملة.

إشكالية الملة نجدها بين أقوال الفارابي فكان كتاب"الملة" هو كتاب وضع الملة وتم هذا الوضع ك׃ « تحديد أراء وتقدير أفعال يرسمها للجمع رئيسهم الأول يلتمس أن ينال باستعمالها غرضا له فيهم أو بهم محدود». والمقصود بالملة الأنساق الدينية كما ظهرت وتشكلت عند الأمم. فالملل ظهرت بعد أن استلهمت تعاليم الفلسفة القويمة لغاية إيصال مفاهيمها ومضامينها المجرّدة إلى أذهان عامّة تجسيم المبادئ عن طريق فعل الاقتناع على الخطاب وعن طريق تجسيم المبادئ المجرّدة في صور حسية تقدّمها المخيلة حتّى تكون يسيرة على الفهم. والملة تحمل وحيا وهي تشتمل على أراء وأفعال وأن قلنا إنها تتم عن طريق الوحي فإنّ ذلك يعني أنها لا تملك براهينها في ذاتها لأن الوحي كآراء وأفعال. وحسب الفارابي فان الملة ليست مطالبة بتقديم البراهين بل ان براهينها توجد في الفلسفة.

إنّ الملّة هدفها تعليم الجمهور بالإقناع أو بالتخيل أو بهما جميعا، ولأن الملّة تخيل للجمهور الأشياء التي برهنت عليها الفلسفة فلا يتردد الفارابي في إعلان أن الأولى تخدم الثانية وذلك لأنها تابعة لها تبعية فهي تبعية زمنية. إن الملّة إذا جعلت إنسانية تلت في الزمان الفلسفة، لكن إذا كانت الملة مستندة إلى فلسفة "قديمة مضنونة أو مموهة " كانت "ملّة فاسدة " أما عندما تكون الفلسفة التّي تؤسس الملّة "فلسفة يقينية" فأن الملّة بدورها تكون "صحيحة". أن الملة الفاسدة أشبه هي كذلك "بالسيمولاكر" الأفلاطوني فهي تخيل ومثالات لأراء كاذب في حين تكون الملّة الصحيحة أشبه بالعلم إذ هي محاكمة لفلسفة يقينية هي "الفلسفة في الحقيقة" ويؤكد الفارابي ما سبق أن بينه في" رسالة التحصيل" من أن الملة شبيهة بالفلسفة ولكنه يركز هنا على رفع" محنة الفلسفة "׃ «إذ لا يؤمن أن تلحق الفلسفة وأهلها مضرة عظيمة من تلك الملة وأهلها». إن الملة في حال كونها نبوة تكون موضوع تعقل فلسفي يحددها ويؤسسها أي يعتقلها من جهة أصولها ومن جهة غاياتها.

بحث الفارابي في العلاقة بين الفلسفة والملة بحيث يرى أن الملة ليست كالفلسفة النظرية التي تكون مطلقة، الملة إذن هي مقيدة بشرائط نسبية. وواضع الملة له معرفة فلسفية، هي المعقولات النظرية المطلقة والتي لا تتغير. من ثمة الملة خادمة للفلسفة وهي أقل مكانة منها لسبب يقدمه الفارابي مفاده أن الفلسفة كونية في حين إن الملة خاصة لأمة معنية وهو ما يمثل نقدا ضمنيا كزعم الدين أن يكون لكل الناس. وينتج عن ذلك تأكيد تبعية الفقه والكلام للملة إذ ليس المتكلم إلا خادما للملة يصحح <مثالات الحق على أنها هي الحق ولذلك فالفارق بينه وبين الجمهور ليس كبيرا. أما الفقه فأنه يتشبه بالمتعقل. بين الفارابي أن صناعة الكلام والفقه متأخرتان عن الملة، والملة متأخرة عن الفلسفة يعني الفلسفة بالجملة تقدم الملة. ولقد أيد الفارابي موقفه هذا بمثال يرتبط بالصناعة فكما أن الصانع يسبق أدوات الصنع التي يستعملها فإن الفلسفة بالمثل تأتي أولا ثم تتبعها آلاتها وأدواتها التي يستعملها فإن الفلسفة بالمثل تأتي أولا ثم تتبعها آلاتها وأدواتها التي من ضمنها نجد علم الكلام والفقه .فإذا كان هذا العلمان تابعان للفلسفة فإن هذا يفضي إلى اعتبار الفارابي أن رغم المفكرين استعمال الفلسفة للكلام والفقه والملة هم مجرد أدوات للحكمة أدوات بمعنى انها وسائل تعليمية فالفقه إن كان يبحث في استخلاص القوانين والأحكام من النص والدينية لغاية ضبط أمور الناس في ما بينهم فانه لابد أن يعود إلى الفلسفة.

بما أن علم الكلام والفقه علوم خادمة للملة، فإن الملة أيضا تعتبر آلة للفلسفة وهي تخدم الحكمة في تبليغ تصوراتها المجردة استنادا إلى أولا فن التخيل وثانيا فن الإقناع والمقصود بالتخيل هو التصوير والتشخيص المرتبط بالمبادئ والكليات الفلسفية التي لا تستطيع العقول البسيطة استيعابها تحكم عدم تعودها على الرياضة الفكرية التي يمنحها صاحب الملة بعدا ماديا حتى تحصل المنفعة لكل الناس وتصبح بذلك وسيلة للإدراك المعرفي ودفعا للقيام بالأعمال الخيرية علاوة على التخيل .

لم يفرق الفارابي بين الدين والفلسفة بل حاول التوفيق بينهما أو توحيدهما لأنهما بنظرة يهدفان إلى غاية واحدة ويعالجان المسائل ذاتها، والنبي لا يختلف عن الفيلسوف بالوحي لان الفيلسوف يتلقى العلم مثل النبي من العقل الفعال وإنما يختلف عنه بالملكة التي يتصل بها بالعقل الفعال إنها المتخيلة عند النبي والعقل المستفاد عند الفيلسوف، يقول الفارابي ׃ «إن الملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة«. الملة وجدت لعامة الناس وهي عبارة عن أراء نظرية نزلت إلى النفس النبوية عن طريق العقل الفعال وبعلاقة مع المتخيلة وبما إن هذه الآراء نظرية لا يمكن لعامة الناس استيعابها.

 

الصلة بين الملة والفلسفة

يبدو طابع فلسفة الفارابي، طابع توفيقي بين الحكمة والملة بين الفلسفة (لغة برهانيه تجريدية) والدين (لغة حسية تصويرية) إذ يصدران عن العقل الفعال، وهذا العقل بنيته تتركب من "عقل هيولاني" (مادة غير متشكلة ليس لها صورة) و"عقل فعال"( هو الذي يهب الصور).

يبحث الفارابي في الصلة بين الملة والفلسفة يبحث فيها أسبقية الملة على الفلسفة وهي تهمنا بصفة خاصة، ماذا تعني الفلسفة الحقيقية بالنسبة للفارابي؟ الفلسفة هي التي تضمن شيئا مطلقا لطبيعة الإنسان. الملة ليست كالفلسفة، النظرية التي تكون مطلقة الملة إذن مقيدة بشرائط نسبية وضع الملة له معرفة فلسفية، هي المعقولات النظرية المطلقة والتي لا تتغير، سيضع ملة واضع الملة يبحث عن الغرض/الغاية ويزن الوسائل التي تسمح بتحقيق السعادة كمعقول نظري مطلق كلي مجرد في الواقع. يرى الفارابي أن الفلسفة خطاب كوني بمعنى أنها تتجه إلى جميع الأمم.حاصل القول، أن الملة خادمة للفلسفة وهي أقل مكانة منها لسبب يقدمه الفارابي مفاده أن الفلسفة كونية في حين أن الملة خاصة لأمة معينة وهو ما يمثل نقدا ضمنيا لزعم الدين أن يكون لكل الناس.

 

السياسة عند الفارابي

إن تحديد وجوه التناسب القائم بين التدبير الإلهي للمدينة الفاضلة والتدبير الإلهي للعالم وبين أجزاء العالم وأجزاء المدينة من شروط تأسيس هذه المدينة، ففي المدينة الفاضلة نجد الفارابي يهتم بالشروط التي يجب أن تتوفر في رئيسها. والاهم هو القدرة على إرشاد الرعية وتعليمها. ويبلغ أهل المدينة الفاضلة السعادة إذا حصلت لهم الخيرات الطبيعية الإرادية وتحصل لهم هذه الخيرات بمعرفة مبادئ الموجودات ومراتبها والسعادة والرئاسة الأولى والأفعال المحمودة المؤدية إلى السعادة.

إن التناول الفلسفي لفلسفة الفارابي السياسية ينتهي بنا القول إلى تحديد وجوه التناسب القائم بين التدبير الإلهي للمدينة الفاضلة والتدبير الإلهي للعالم، غير إن بلوغ هذه المرحلة يستوجب تحديد شروط المرور من العلم المدني للوجود بماهر العلم المدني الذي موضوعه الوجود ويتعلق الأمر بالإخضاع النظري إلى العملي أي بإخضاع ما من شأنه أن يعلم-لا- أن يعمل إلى جهة النظر التي نتناول بها ما شأنه أن يعمل׃ بنية المدينة ووضع الخيال بما يكشف عنه من علاقات مثيرة بين بنية المدينة وبنية المعرفة.

تتنزل الفلسفة السياسية للفارابي في هذا الإطار منزلا متميزا لهذه المسألة-الخيال- بما تكشف عنه من علاقات مثيرة بين بنية المدينة وبنية المعرفة. يتراوح القول الفلسفي الفارابي في الخيال والمخيلة وما بين قول يحدد وضعها في سلم المعرفة وقول يعين وظيفتهما في أسلوب السياسة وفي بنية المدينة. وينجم عن ازدواج التعامل مع هذين المفهومين اشتباه في معنى الخيال وفي وضع المخيلة ضمن جهة يتحدد التخيل كإحدى درجات الإدراك الحيواني كزيف موضوعه وزيف تمثيله لموضوعه أو تبدو المخيلة سيمة القوة الناطقة أن تتفاعل في أقصى درجاتها لتستفيد ما يرد عليها من لدن العقل الفعال من الحقائق الخالصة.

فالتخيل تكريس لمبدأ المشابهة واستغلال له وليست الملة من هذه الناحية باعتبارها نظام الاعتقاد في المدينة إلا نسق المتشابهات، فالتخيل آلية اختزال العالم في بنية المدينة وبعبارة أخرى فإن الوجود المدني هو الذي يؤسس آلية التخيل لكونه هو الذي يعطيها الإحداثيات التي يمكن بالرجوع إليها إعادة بناء العالم. هكذا تكون مدينة الخيال معلقة إلى النظر الإلهي فلا يروح فيها من الخيال إلا بمقدار محاكاته للحقيقة ولا يتدخل اللامعقول إلا بحسبان التعقل النظري وميزانه. منزلة المخيلة من قوى النفس الإنسانية (القوى الحسية، القوى المخيلة، القوى العقلية). قوة النفس الإنسانية تترتب بحسب تعقدها في سلم تصاعدي (الغازية، الحسية، المتخيلة، الناطقة) هو تدرج من قوى دنيا إلى قوى متوسطة إلى قوى عليا.

في كتاب""أراء أهل المدينة الفاضلة"يتكلم الفارابي على المدينة الفاضلة، ويهتم بالشروط التي يجب أن تتوفر رئيسها والشرط الأهم هو القدرة على إرشاد الرعية وتعليمها، والشرط الثاني هو عدم حاجته إلى من يرأسه أو يعلمه لأنه قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل. ولن تحصل هذه العلوم والمعارف إلا للطبيعة العظيمة الفائقة. وهي تحصل عندما ينتقل العقل من عقل بالفعل ثم إلى عقل بالفعل مستفاد. وهذا العقل المستفاد يستطيع أن يتصل بالعقل الفعال ويستمد منه العلوم والمعارف بطريق الفيض وبما أن العقل الفعال فائض بدوره عن السبب الأول أو الله لذا يقال إن الله هو الذي يوحي توسط العقل الفعال. وإذا لم تتوافر هذه الصفات في شخص بعد الرئيس الأول عمل الرئيس الأول عمل الرئيس اللاحق بشرائع الرئيس الأول.

وأهل المدينة الفاضلة ينقسمون إلى طبقات أو مراتب بحسب استعداداتهم الفطرية والآداب التي حصلوها. والرئيس هو الذي يرتب ذلك فيضع كل إنسان في المرتبة التي تليق به. وتتسلسل المراتب في الشرف حسب قربها وبعدها من رتبة الرئيس. ومراتب المدينة الفاضلة تشبه مراتب الموجودات في العالم. فكما أن مراتب الموجودات تبتدئ من الله وتنتهي إلى المادة الأولى، وترتبط وتأتلف بعضها ببعض كذلك مراتب أهل المدينة الفاضلة تبتدئ بالرئيس الذي يشبه الله وتنتهي بالطبقة الدنيا التي تخدم ولا تخدم. ويبلغ أهل المدينة الفاضلة السعادة إذا حصلت لهم الخيرات الطبيعية الإدارية. وتحصل لهم هذه الخيرات بمعرفة مبادئ الموجودات ومراتبها، والسعادة، والرئاسة الأولى والأفعال المحمودة المؤدية إلى السعادة. وهذه الأمور تعرف إما بطريقة البرهان وإما بطريقة التخيل والمحاكاة والطريقة الثانية هي طريقة العامة الذين لا قدرة لهم بالفطرة على تعقلها إما الطريقة الأولى فخاصة بالحكماء.

نرى أن الفارابي ربط سياسة المدينة بالنبي يحدد مجالا لممارسة السياسة مختلفا عن المجال الذي عرفته المدينة اليونانية ويختلف كذلك عن المجال الذي سيفتحه سبينوزا بفصله بين السياسي والديني. لكن لم يتوقف الفارابي في هذا الأمر عند مستوى تأكيده على الكيفية التي يتحول بها الإنسان إلى نبي وبالتالي إلى سياسي فهو بالإضافة إلى ذلك قد جمع في ذات الوقت بين النبي والفيلسوف. فحاكم المدينة الفاضلة هو في ذات الوقت نبي، فيلسوف، سياسي. واستمد الفارابي تصوره هذا انطلاقا من "نظرية الفيض" وعمل العقل الفعال حيث أنه إذا ما وهب الصور للعقل عند هذا الإنسان فهو يصبح فيلسوفا. فهو إذن في نفس ألان فيلسوف ونبي بحسب الملكة التي تتلقى الصور. نلاحظ أن الفارابي ينطلق من نظرة شاملة في إطار منظومة فلسفية متماسكة يعني ينطلق بها من مستوى المعرفة إلى المستوى السياسي والعمود الفقري لهذه المنظومة هو "نظرية الفيض" التي فيها استطاع أن يجعل من الإنسان الفرد يجمع بين خصائص النبي والفيلسوف وجمع بينهما ليعطيهما تصورا خاصا للنبي والفيلسوف والسياسي.

 

الخـــــاتمة

إن ابرز ما يحرك مساءلتنا لتاريخ الفلسفة لهذا الغرض هو في الحقيقة أن نتعقب الفحص عن فكر فلسفي يسعى للتوفيق بين الفلسفة والملة واستنادا على مفهوم "العقل" من أجل تبرير مسلمات وقع التسليم بها مسبقا׃ فخطاب العقل هو خطاب كوني، حقيقة مطلقة، وهو ليس خاص بدين أو مجموعة أو بأي علم هو عام للإنسانية، لكن أهمية مسألة الملة نظرا لأنها نقطة تقاطع الفلسفة والدين والسياسة عند الفارابي.

 

د. فاطمة المومني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم