صحيفة المثقف

في دروب الزمن

رشيدة الركيكتمر بنا السنين ولا نشعر بمحطات العمر، و من كثرة المشاغل والمسؤوليات قد ننسى العد العكسي الذي يشير اقتراب النهاية.

وباعتبارنا آباء نقذف في اتجاه المستقبل حين نعيش حياة أبنائنا، ثم تتماهى أحلامنا مع أحلامهم لنكتشف أننا كنا نعيش أوهاما صادمة، كلما رمت بنا أمواج الحياة العاتية إلى حيث لم يكن في الحسبان.

تقف بنا حافلة عمر الزمن عند آخر محطة يراودنا فيها شبح النهاية، ونعيش كل أحاسيس العجز، فتقل حركتنا وربما فهمنا أو سمعنا أو بصرنا.

يعم الضعف حواسنا، فتكثر معه الشكوى والحساسية المفرطة، لا نملك عندها سوى الإعجاب بماضينا، ونتكلم عن أنفسنا وكأننا فرسان الزمان الجميل.

لم نعد ننتظر إلا الرعاية و الاهتمام لتعود بنا الأيام كما كنا في الصغر، و لكن مع تجعد وجفاف الجلد يتغير معه لون شعرنا،وتترهل عضلاتنا فتضعف مع إحساس تام بالبرودة في حياة باردة .

إنه سن الشيخوخة وما بعد الستين تبدأ حكاية المسن مع عالم العزلة وحكايته مع القلق والاكتئاب والملل .  ومع كثرة المرض يزداد خوفه من مرض منتظر قد يتوهمه عند كل لحظة وفي أي مكان...

لم تعد قدراتنا العقلية تستوعب بنفس السرعة، وتبدأ قصتنا مع نسيان لكل جديد فنقول  ونعيد نفس الكلام مرارا وتكرارا حتى يسأم من يسمعنا، و تبدو ملامح خرف الشيخوخة، خصوصا عند نسيان الأشخاص والأحفاد وأسمائهم...

تكثر صلتنا بالأطباء من كثرة زيارتهم، وتصبح الأدوية متاعا لنا أينما ذهبنا.

ترتفع نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة من سكر وضغط الدم ،ومع ذلك يظل عجز مع صمود في وجه الحياة ورغبة في الاستمرار، غير أننا قد ينتابنا الإحساس بالذنب كلما أحسسنا أننا عبء ثقيل على ذوينا.

هكذا سيؤول واقعنا ولسنا أول أو آخر من سيعبر هذا الدرب، هكذا هي الحياة لكن ما تغير اليوم هو ظروف العيش وضغوط الحياة، ومع انشغال الأفراد، لم يعد الأبناء متفرغون لتقديم الرعاية لكبار السن التي يحتاجونها وإعطائهم الوقت الكافي.

في الماضي القريب كان المجتمع ينظر للمسن نظرة احترام ووقار، كانوا مصدر حكمة وتجربة وخبرة حياتية، نسقى من حديثهم ونأخذ العبر من شموخهم.

كانت حكاياتهم حاملة لمعاني الحياة وكانت تسافر بخيال أبنائنا وتقويه، وفي ذلك تناغم بين ثلاث أجيال في نفس البيت، امتزجت عقليات وأزمنة وإن اختلفت تآلفت.

لا زال صوتك أيها الزمن يسقط شعرنا الذي كنا نعجب به ونتباهى بجماله. اليوم هو شهيد على أنه لم يبق إلا القليل.

هي رحلة مع شيخ هرم أصبح اليوم يعيش الصمت التام، وإن اختلفت رسالته  بين حكمة و إحساس بالقهر، أم هو دخول في ضجيج من الكلمات في عالمه الداخلي؟ وكأنه جاء الوقت للإنصات لتاريخه الفردي يجتره من جديد في نوع من الحنين، يهيم في أحداث مضت وترى عيناه قد تلمع في لحظات افتقدها، وقد تعود مرة أخرى للذبول من جديد كلما عاد للحظة الشيخوخة قد يعم صوت من نوع آخر ربما هو انتظار للحظات الوداع.

حياة داخلية يعيشها المسن كما يريدها في ذاكرته، لكنه يفتقد لاختيار حياة خارجية واقعية وقد حكم عليه الزمن الفاعل اليوم في الأحداث بصيغة الأمر، ربما قد يفرض عليه التنقل من بيت لآخر لتقاسم تحمل مسؤولية رعايته، وربما قد يعيش وحدة قاتلة ولن يجد من يذكره بالحياة و دينامكيتها .

لقد  توقف النهر عن الجريان وحان وقت الجمود ليجف شيئا فشيئا. لم تعد الحياة ضوضاء كما كانت أثناء العمل تبشر بعطلة نهاية الأسبوع أو نهاية الشهر أوالسنة... لقد تشابهت عليه الأيام ولا جديد سوى انتظار لأحد الأبناء البار به، فما بالك إذا وضع في دور الرعاية الإجتماعية؟ منتهى القسوة والجمود العاطفي وكأنها دور انتظار للموت المحتوم.

لم تعد الإبتسامة تزورهم ولم يعد الأمل يدق بابهم ،يبدو أنه لم يعد لمنظر الغروب جمال سوى تأمل لظلام حالك مع إحساس مميت بالعجز.

كثر الحديث اليوم عن دور لرعاية المسنين باعتبارها حلا لواقع التغيرات المجتمعية، لكن أية تغيرات تدفع الإبن للتخلص من أبيه في لحظة ضعفه؟ هل فعل هو ذلك في أقوى لحظات قسوة الحياة؟ أليست المسألة تتعلق بالخلل في منظومة القيم، باعتبارها تعاني من خلل نعيشه كأفراد مثلما  تعيشه  الأسر و المجتمع على حد سواء؟

يبدو أننا نعيش اليوم في مجتمع متبرئ من القيم بل مقبر لها في جل اللحظات ومع أقرب الناس حتى من كانوا سبب وجودنا.

هو نوع من الجحود مفضوح ولكن من سيكشف الأمر سوى الأيام، عندما يفعل به ما فعله بآبائه.

جحود قد يتمظهر في التنقيص من قيمة وكرامة الأصول أو استغلال ما يمتلكون أو حرمانهم منه، بحكم أنهم ليست لهم القدرات العقلية الكافية للتصرف، هو تهميش لدرجة الإقصاء. فهل منحونا الحياة لنسلبها منهم بسبب حب جارف للذات؟ يفضل فيه نفسه عن سواه، أو حتى رغبة في الانفرادية تدفع الأفراد للإنعزال والإبتعاد عن العائلة الكبيرة مكتفيا بأسرته الصغيرة، خارقا لكل قيم التماسك الأسري والعائلي.

يبدو أنه كان علينا أن نلبس البذلة الإلكترونية التي صممتها شركة التأمين الأمريكية والتي تزن ثمانية عشر كيلوغراما وتجعل مرتديها يشعر بوهن كبار السن، لعلنا نتفهمهم  لنتعاطف معهم، لأن أحاسيسنا أثلجت بعد سيطرة النزعة الانفرادية في هذا العصر.

هكذا تهدم جسور الثقة بين الأجيال وتعم الأنانية وحب الذات بشكل مفضوح.

لقد تسلمت الإنسانية مفاتيح الشح العاطفي والجحود من خلال فتح دور المسنين لآباء تخلوا عنهم أبناؤهم ليعيشوا حياتهم غير أن وقتهم لا يكفي لمنح جزء منه لمن منحهم حياتهم كلها.

تتنامى الظاهرة خصوصا أمام ارتفاع عدد المسنين مما سيحمل الدولة تكاليف بناء المزيد من دور الرعاية ومن يرعاهم، الشيء الذي سيفقد الناس الثقة في أبناء سيرمونهم في سلة المهملات عندما تنقضي مدة صلاحيتهم في لحظات ضعفهم.

يبدو أن إنسانيتنا اليوم في محنة وأن علاقاتنا الأسرية في أزمة وأن الجفاء والجحود سيغدو من شيمنا وأننا سنقع فريسة للوحدة والإنعزال ، وسنضطر للتخلي عن كرامتنا في زمن حرمان بعضنا من بعضنا، لينتهي بنا المطاف بحياة يسودها الجفاف العاطفي تنتهي بالذبول والندم على من هم سر قوتنا وسند ضعفنا ومن أحبونا أكثر من أنفسهم، فاستيقظوا ونحن نيام، وأعطونا عندما حرموا أنفسهم ودعوا لنا في غيابنا، فحزنوا لحزننا وفرحوا لفرحنا،طالما رفعوا شأننا بينما رميناهم في سلة المهملات، كلمونا ونحن لا نتكلم وحاولوا فهمنا في وقت لم نكن لا نعرف إلا البكاء، ابتسموا ونحن نلطخ المكان بحجة أننا نتعلم، تألموا كلما لم يفهموا لماذا نصرخ بكاء...

ستصبح الحياة صعبة كلما ذهبنا لزيارة الأصول في دور الرعاية مع أبنائنا، ستصبح الحياة مهزلة، خالية من شحنات عاطفية حقيقية تجمع الناس وتخلق الود والوئام وتنشر قيم الحب والعطاء وقيم الإعتراف بالجميل .

هي ربطة عنق تبدو موضة مزركشة أضفت جمالية على صاحبها غير أنها في الحقيقة خنقت أنفاسه وحرمته من حرية الحياة البسيطة وجمالها في روعة التماسك والحب العفوي والتقدير المريح و النظرة الإنسانية التي تحيي المشاعر وتروي القلوب وترحمنا من قسوة الضمير، ومن القلق الوجودي وفوبيا العلاقات الإنسانية الصادمة...

فرفقا بأنفسنا وبأبنائنا وبآبائنا ولنركب مركب النجاة لنا جميعا وإلا ضاع الجميع وضاعت معه قيمنا الإنسانية السامية في شكل واجبات منقذة من أي ضلال.

 

بقلم رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم