صحيفة المثقف

صدمة التنوير!!

علي اسعد وطفة"أعني بالحكمة: النظر في الأشياء بما تقتضيه طبيعة البرهان" ابن رشد.

هل يمكن تحرير السُذج من الأوهام التي يبجلون؟ وهل هناك أشد عميا من ذاك الذي لا يريد أن يرى؟ يحاول أفلاطون  في "أسطورة الكهف" أن يحدد لنا طبيعة العلاقة بين عالمي النور والظلام. في هذه الأسطورة يحدثنا أفلاطون عن كهف مظلم فيه أسارى مثقلون بأصفادهم، مشدودون بأغلالهم، يستمتعون بالنظر إلى غور الكهف حيث ترتسم لهم ظلال وأشباح، تلقيها عليهم نار مشبوبة في الخارج، وهم يخالون ما يرونه على الجدار، من إسقاطات وخيالات وظلال وأشباح، حقائق كونية لا تقبل الشك أو الجدل. وحين يتاح لأحد الأسرى (وهو الفيلسوف المنوِّر) أن يتحرر من أغلاله وأن يكسر أصفاده ليخرج من بوابة الكهف، فيرى الشمس حقيقة مشرقة بضيائها وسحرها الكوني، يعود إلى الكهف ليساعد المخدرين بالأوهام على تحطيم أغلالهم وتبديد أوهامهم والخروج من عالم الظلام إلى عالم الحق والجمال والخير والنور، فيأبى المنوّمون ويرفضون الخروج لمواجهة الحقيقة ورؤية النور، مفضلين البقاء في ظلام الكهف، تحت سطوة أهوائهم وغرائزهم وأوهامهم، بعيداً عن العيش في الأنوار التي تفيض بها شمس الكون الساطعة.

فالتنوير إذن، كما ترمز إليه أسطورة أفلاطون، حالة ذهنية وقّادة، يدك فيها الإنسان جدران الأوهام، ويدمر عبرها أركان الوصاية على العقل بوصفه الجوهر الإنساني في الإنسان. إنها وفقاً لمنظور "كانط" الوضعية التي يخرج فيها الإنسان من دائرة الخرافات والأوهام، ليحطم كل أشكال العطالة الذهنية والجمود ومقاليد الوصاية على العقل. وفي هذا كله تأكيد لسيادة العقل وسلطانه حيث لا يكون سلطان فوق سلطانه؛ ولذا غالبا ما يقترن مفهوم العقل بمفهوم النور أو التنوير في الحضور والغياب، يقابله هذا الاقتران الكبير والجوهري بين الجهل والظلام. وضمن توجهات هذه المعادلة التنويرية، يكون حضور العقل حضوراً للتنوير وغيابه حضوراً للجهل والظلام. ومن الواضح تاريخياً في هذا السياق، أن حضور العقل والعقلانية كان في أصل كل حضارة وتقدم، حيث كان العقل، وما ينتجه من حكمة وعلم وبرهان، هو أداة الإنسان لفهم الكون والإفادة الرشيدة من الطبيعة؛ بما يحقق الغايات الإنسانية النبيلة. فالعقلانية هي التي منحت الإنسان القدرة على التحرر من غوائل الطبيعة والانتصار على كل أشكال الضعف والقصور لبناء حضارة الإنسانية والإنسان.

إنها حالة مأساوية في حقيقة الأمر عندما تأخذنا المؤشرات الإحصائية العالمية الموظفة عادة لقياس مدى تقدم الأمم وتحضرها، إلى استحضار الصورة المأساوية للتخلف الذي تعيشه أمتنا العربية في مختلف مستويات الحياة والوجود. فالمجتمعات العربية تصنف وفقاً لهذه المؤشرات، بين أكثر المجتمعات الإنسانية تخلفاً وجهلاً وعسكرةً وتسلطاً ودمويةً واستبداداً وغرقاً في مستنقعات الظلام. فالدول العربية تأتي دائما في أدنى سلم التحضر الإنساني من حيث التعليم والإبداع والبحث العلمي والتصنيع والديمقراطية وحقوق الإنسان!

إنها صورة صادمة حقاً، عندما نتأمل في مدى غياب العقل والنقد والتنوير والعقلانية عن العقلية العربية، وفي مستوى انحسار العلم وتراجع المعرفة العلمية والنظرة العقلانية إلى الوجود. وتكون هذه الصورة أكثر صدماً ومأساوية، عندما نتأمل في مستوى الانحدار الأخلاقي والقيمي، وفي مستويات انتشار الفساد والرشوة والتسلط والظلم والخرافة والأوهام والتعصب والتسلط والطائفية والحروب الدموية والانقسام، وغياب حقوق الإنسان، وتغييب حقوق المرأة والطفل، إنه عالم متخلف بنيوي التخلف بامتياز.

لقد أبلى المفكرون والباحثون العرب في الكشف عن عوامل هذا التخلف الأسطوري الذي تعيشه الأمة اليوم، وقد أجمعت غالبيتهم على أن غياب العقل وتغييبه كان من أبرز عوامل تخلف هذه الأمة، وأكثرها أهمية وخطورة. وقد بين كثير منهم أن تخلف هذه الأمة يتم تحت تأثير استبداد سياسي، يقوم على محاصرة العقل والعقلانية؛ بتغييب كل أشكال الحرية والديمقراطية، وإخضاع الأمة لحالة من الاستبداد الوجودي الشامل.

وفي مواجهة هذه الوضعية المتردية، حاول المفكرون والمصلحون العرب، منذ عصر النهضة حتى اليوم، اختراق جدار الظلام الحضاري للأمة، وتفجير أعتاب العتمة الوجودية التي لحقت بها. ومما يؤسف له أن المساعي التنويرية لهؤلاء المفكرين التنويريين لم تؤت أكلها، كما كان يتوخى أصحابها. ويعود هذا الإخفاق إلى نسق من العوامل الموضوعية والتاريخية التي حالت دون نهوض هذه الأمة وتحضرها، كما حالت دون استحضار الحالة التنويرية العامة في المجتمعات العربية، على غرار الحالة التي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر، إذ بقي الفكر التنويري سجين النخب، ولم يتحول إلى حالة تنويرية جماهيرية فاعلة في العالم العربي.

وضمن هذه الوضعية خفتت أضواء التنوير، وتراجع تأثيره، وبقيت الساحة الثقافية غارقة في العتمة، لأن محاولات النهضة في العالم العربي أخفقت تحت تأثير الطابع النخبوي للتنوير، فلم تستطع هذه المحاولات أن تخترق حجب الظلام، وبقيت الجماهير العربية تحت سيطرة الغرائز والعواطف والميول البدائية المناوئة بطبيعتها لكل أشكال العقلانية والتنوير. وكانت القوى المناوئة الظلامية أكثر قدرة على تدمير منصات التنوير، وحجب أضوائه، ومحاصرة مريديه، وتجريدهم من القدرة على التأثير حضاريا في الحياة والمجتمع.

ومع الزمن، وبفعل هذه العزلة التنويرية، تكاثفت في المجتمع عقلية سحرية خرافية ظلامية تنتفض، إيمانا بكل أشكال الخرافة والأساطير، لتتحول إلى عقلية عمياء تتميز بخصائص الانصياع والاتِّباع والخضوع والقبول الصاغر لكل الإيحاءات التقليدية، التي تفرضها نصوص وتعاليم مفرغة تماما من جدواها، لا تسندها أدلة وبراهين مقبولة، لترسِّخ ثقافة جماهيرية استلابية، بنيوية التخلف، تعاند كل توجه منطقي عقلاني.

ومن المدهش أن هذه الموجات الاغترابية التسطيحية، استطاعت أن تجد طريقها إلى فئات الأكاديميين الضالعين في حمل الشهادات العلمية العالية. حتى إنك لَتُذْهل عندما تجد أن جوهر ثقافة الأكاديميين قد لا تختلف كثيراً عن ثقافة العامة، ولاسيما في مدى قبولها لمختلف أشكال وأنماط التفكير الخرافي الأسطوري النصي المنغلق على الأصول الذي فرض نفسه في عقولهم كمقدسات غير قابلة للنقد والنقض والتحليل. ويبقى هذا دليلاً على أن الإنتاج الثقافي التربوي ما زال يعمل بقوة على إنتاج أجيال مصممة على القبول الصاغر لشكليات النص، والتناغم مع مستويات عالية من الانصياع التلقائي المبرمج، وإضفاء الطابع القدسي على كل ما تعلموه من خرافات ونصوص وتعاليم وأوهام وأساطير.

في مواجهة هذا الواقع الفكري العربي المأزوم، الذي يجأر بكل دلالات التخلف ومؤشرات السقوط، ما زالت فئة واسعة من المثقفين تحمل شعلة التنوير والضياء، وفي قلب هذه العتمة الوجودية التي خيمت على صدر الأمة بدأت الشموع الثقافية المضيئة تتلألأ هنا وهناك، حيث انبرت طائفة كبيرة من المفكرين -من كل الاختصاصات والمشارب العلمية والفكرية - للعمل بصمت وصبر وإيمان وعمق وتُؤَدَةٍ من أجل تشكيل حزمة هائلة من الضوء قادرة على تبديد الظلام الذي تعيشه الأمة.

ومما لا شك فيه، أن الساحة الفكرية العربية تضم بين جناحيها عددا كبيرا من المفكرين التنويريين الراغبين في عملية البناء الحضاري للأمة، ولكن تفرقهم وتشرذمهم في الأنحاء كان وما زال يضعف مسيرتهم التنويرية، ويقلل من دورهم الحضاري الفاعل، وهم اليوم في أمسّ الحاجة إلى تشكيل حزمة ضوء كبيرة قادرة على ممارسة الدور الحضاري المنشود في مجالي النقد والتنوير.

وإذا كانت الحكمة القديمة تقول:" أن تُشعل شمعة خير لك من أن تلعن الظلام"، وهو قول جميل نبيل، فإننا نقول لقد آن الأوان لمثقفي هذه الأمة المتنورين ان يوقدوا شمعة تنوير مضيئة تعزز الإيمان الكبير بالدور الحضاري للثقافة في بناء حضارة العقل والإنسان. وأن يحدثوا صدمة تنوير قادرة على إيقاظ هذه الأمة من غفلتها التاريخية وأن تهزّ غفوتها فتنهض بها من سباتها الأبدي في دياجير الظلام إلى يقظة حضارية تنهض بالحياة والحضارة والإنسان. .

نعم، نحن بحاجة اليوم إلى صواعق التّنوير لتبديد ظلام التخلّف وكسر جموده وتحطيم تصلّبه، نعم نحن بحاجة إلى "بروموثيوس" مزلزل قادر على تحطيم أصنام التخلّف وحمل شعلة الحق والخير والعقل التي تصعق ظلامنا وتبدّد تخلفنا، وتعيد لنا إنسانيتنا المهدورة. نعم، نحن بحاجة إلى نخبة فكرية شابّة جديدة تحمل نور المحبة والسلام والعقلانية إلى أوطاننا المقهورة. بل كم نحتاج إلى عمالقة من المفكّرين الجدد القادرين على حمل الصّواعق التنويرية من أمثال الجاحظ والمتنبيّ والمعرّي والتّوحيدي وابن عربي وجلال الدين الرومي، وابن خلدون، وابن رشد...نحتاج إلى عقول متفجّرة بالحبّ والسلام والبحث عن الحقيقية أمثال غاليلو غاليلي وفولتير وغرامشي ونيوتن وبورديو وجاك لاكان... نحتاج إلى جيل من المفكرين الجدد الذين يملكون القدرة اللاّزمة على تغيير المصير، والانطلاق قدما نحو عالم النور والحياة.

 

علي أسعد وطفة – جامعة الكويت

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم