صحيفة المثقف

الموضوع: فقدان سلسلة

جمال العتابييستيقظ مدير مدرسة المصيفي الريفية بوقت مبكر، على صوت طرق شديد على باب داره الملاصق لبناية المدرسة، وجه داخل (فرّاش) المدرسة، مشتعل بلهفة النداء والحيرة، وجسده النحيل مثل جذع نخلة لفحته النيران.

أستاذ: لقد سرقوا القارب!!.وحرموا التلاميذ من العبور والدوام.

ماذا تقول يارجل؟ هذا ما كنت أخشاه وحذرتك من وقوعه! إسرع الآن، لا مفرّ لك إلا أن تذهب منذ اللحظة تجوب الشواطيء بحثاً عنه، وإلا لن يغفر لنا أحدٌ هذا الفعل!

سبحان من أضفى على طبيعة المصيفي سمة العذوبة والصفاء! في وسطها تبدو البناية مثل زنبقة يضوع الشذى في جنباتها، على يمين ضفاف الغراف شيدت منذ اربعينات القرن الماضي، تستقبل ابناء القرى من الصوبين يأتوها مثل أسراب الحمام، تحيط بها أشجار اليوكالبتوس والصفصاف كفراشات خضراء، أية يد إمتدت لترضعها الماء والجمال؟

موجات النهر يلزمها وقت للتوقف عندها لتغني لرائحة أشجار الغَرَب، وكأنها في مهرجان هادر يحتفي برفيف الأشرعة المباركة، وإختلاجات الصبح.

ونهر الغراف يأتي على براق من الريح، والموج يحث الموج، حاملاً سلال الرطب في قوارب تروي حكايا المغنين التعبى، ثم تعود لأوكارها كما يرجع السنونو لعشّه، في المدرسة تلتم نخبة من معلمين شباب يتقاسمون الخبز فيها وحب الأوطان، ويعيدون لعيون الصغار بهجة غائبة، هم وحدهم من يفتح نوافذ الأمل الوريف في عقول التلاميذ، ليس في الوعي محض حياد! (اصبح اسمها هذا، مدرسة الوعي، بعد تموز 58).

عاد داخل وهو يحمل بشرى العثور على (البلم)، راسيا على شاطيء قرية أبو هاون الجنوبية، لم يكن هو المقصود بالسرقة يا استاذ، نادى داخل بصوت عالٍ من بعيد، إنما سرقوا سلسلة الربط الحديدية المتينة الصنع، ليربطوا بها دوابهم عليهم اللعنة!

تقاسم المدير وداخل الغمغمات العابرة، والوجوم يخنق الكلمات، علينا حالا ان نعلم (المعارف) بحادث السرقة، سحب المدير قصاصة ورق على الفور وبدأ يكتب :

مديرية معارف لواء المنتفگ

الموضوع :سرقة سلسلة

وهنا توقفت حركة يده، وحيرة السؤال تتجمع في أعماقه، كيف السبيل لتوضيح قيمة السلسلة وأهميتها، وهي مثل تعويذة يرميها الساحر تلهث وسط النهر؟! كيف التعبير عن فرادتها؟ لم يسعفه كل خزينه من مفردات المخاطبات الرسمية! كان داخل يراقب نظرات مديره الحيرى ورعشة أصابعه لم تنقطع على سطح الورقة، فأنهمر قلمه مرة واحدة في السطر الأخير، وكتب :

علماً ان السلسلة لها منزلتها بين السلاسل، ثم استراح

 

جمال العتابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم