صحيفة المثقف

سعد العاقولي الصحفي والخبير الإقتصادي

جمال العتابيوجدتك حين غادر المعزّون، وبكى القيثار

ها أنذا يا أبا قصي أحدق في وجهك البصري الداكن السمرة، تتصبب عرقاً من شدة لهاثك وأنت تحتضن خطى الفقر، تركض إلى أين؟ حيث الطريق ممهداً إلى السجن، نسيت أن الحياة لها طعم تفاحة، لكن مرّت السنوات بلا أي طعم، بلا أي لون، كانت الليالي حبالى تحملنا وتبعثرنا بين شك، وبين يقين! هل تخيرت وحدك هذا الطريق؟ أم إخترت مصيرك من بعض رضاك؟ كان يرافقك وطن، وقضية تخبئهما بين الضلوع، تخافُ عليهما إذا عثِرت، أو زلّت قدماك.

وجهك الأسمر يا أسعد يؤرخ انتماءك للبصرة، وعيناك ظلتا عالقتين بأرض الطفولة والصبا، مازلت تنطق (البصرة) بألف ممدودة (بصراااااا)، فما من سواك يحمل وشم مدينته، ويرن صوته كالصهيل، حين دارت الليالي، وثقلَ الحديد على معصميك، وأكلتم تراب نفق سجن الحلة، وعشتم مع الخوف، وأقسى ليالي السهر!

تكفي قصة واحدة في مسلسل حياة العاقولي أن تتحول إلى فيلم سينمائي يتلوى من الألم، هروبه من سجن الحلة ومن ثم القبض عليه، وإعادته الى السجن بأحكام ثقيلة، مستجيراً بأحلام السنين، القصة بمجملها تصلح ان تندرج ضمن سردية في الواقعية السحرية، كل ما من حوله، الشجر، العابرون، الطرقات، عيون تتلصص، لم يتعود على الصبر والإنتظار، فظل يجوب شوارع الحلة يبحث عن ملاذ يأويه، إلى أين والليل بحر كبير؟؟  يا أسعد؟ وجدت نفسك وحيداً، بعد أن غادر رفاقك على عجل فتحة النفق التي أفضت إلى الشارع، لم يعد الحارس يرقب بوابات السجن من الأسوار، ولم تعد القيود تلف معصميك، ها هما يداك راجفتان من الحرية، تبكيان وحدهما لائذتان، أين تدور  وأي الشوارع يحتمل إختباءك؟ كانت سمرة وجهك تحكي تبعثرك وإرتباكك، تفضحك لفافة تبغ تقاسمك ظمأ الأعوام.

أيام تمض، وأقفال تصدأ، وأسعد العاقولي يبحث عن مدن لايسكنها جلاد، أو يترصده فيها ثعبان، ما أن يطلق سراحه بعد العام68، حتى يودّع بصرته تاركاً فيها شهقات الروح والجداول، يختار العاقولي الصحافة، ليروي جفاف الكلمة، ويشفي غليلها، ربما يدرك يوماً حلمه؟ أو يجد فيها زمان الفرح، كان الدرب قد أدمى خطاه، وهو مايزال يهوى البحث عن عمر جديد، ليت بغداد تستقبل هذا الخارج من بطن الحوت؟ انه مدعو للحياة مرة أخرى، يلتقي بنا، ونعيش تاريخنا الصحفي المشترك، كما لو كان نبضة حيّة في وحدة الوجود، وإنتشر أسعد، غزارة في الإختصاص الإقتصادي، مفعماً بالحب، بقلب يتسع لكل الناس، لكن لا يتسع لضغينة.

يقول عنه الصحفي دكتور صباح ناهي الذي شاركه العمل في جريدة الجمهورية، ان أسعد إحتل موقع مؤسس الصحافة الأقتصادية العراقية بجدارة وإستحقاق، وأرسى تقاليدها المهنية الرصينة، بثراء معرفته، ومكانته العلمية، وحضوره، وجمال روحه ولطفه وأدبه الرفيع، من المؤسف يقول صباح:. أن يرحل العاقولي دون أن نودّعه أو نرثيه، كان روحاً عراقية خالصة، وحالمة، رفد الصحافة العراقية بآلاف التقارير ومئات الدراسات والبحوث.

إعتاد أسعد أن يحضر مبكراً للجريدة، لم يجرؤ احد من زملائه ان يقتحم عليه خلوته سوى الفقيد الصحفي المعروف رياض قاسم، وغالبا ما يشاكسه رياض بود ومحبة، لا تخلو من دعابة ومزاح جميل، كان يبادلها بوردة وعيون مضيئة، في أحد صباحات الحصار القاسية، إنتبه رياض لأسعد حين كان يرتشف شاياً بالحليب، ويقضم بهدوء أطراف قطعة صغيرة من النستلة بالكاكاو.

سأله رياض: أبو قصي شنو هذا؟

أجاب اسعد بحياء: دا أتريگ رياض

تعالى صوت رياض مجلجلاً بين الممرات، أبو قصي شنو أنت صوفيا لورين؟؟ مذهب الحلو إحنه دا ناكل خبز مال (نوى) وانت تتريگ نستله؟؟ وين العدالة والصراع الطبقي؟؟

ويتذكر الصحفي الأديب صباح محسن، فيقول ان العاقولي كان متواضعاً سلساً، يتبادل الحب مع الجميع، يهابه ويحترمه كل رؤوساء التحرير الذي تعاقبوا على الجريدة، لصراحته وشجاعته وثبات مواقفه الفكرية، كان أنيقاً رغم بساطة ملابسه، يميل إلى بدلة السبورت بألوان تتناسب مع قصر قامته المربوعة، وسمرته، ووجهه الضخم وأنفه الكبير.

كل ما مافيك إستثنائي يا أبا قصي! حتى طريقة كتابتك،  فريدة من نوعها،وبدون منافس، لا تتشابه مع أي كتابة لإمرء آخر، ماذا يدعوك لأن (تبرم) حروف الفاء الغين، العين الميم، الوسطية وفي بداية الكلام، كان أسعد يملأ تجاويف هذه الحروف بطريقة نادرة لانشاز فيها وبإمتياز خاص به وحده ، إنما تستوقفك الكتابة، وتتأمل نسقها الجميل.

في زحام القبور يضيع أسعد...... يضيع..... يضيع

أنت يا موقظ الذكرى بنفسي، يا صديق الدرب ترفّق بي،

عسى ان تشفع لي هذه الكلمات، إنقطاع سؤالي عنك، فما أشق رحيلك حين لا أجد له أثرا إلا بعد سنوات في خبر عابر، وأراك عندما غادر المعزّون، وبكى القيثار

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم