صحيفة المثقف

أبو ذر الغفاري: المسئولية الفردية والتحدي الدائم

ميثم الجنابيمّثل أبو ذر الغفاري صورة رفيعة وأولية للمثقف الإسلامي المتنور بمعايير "حقائق المرجعية الأبدية للروح". إذ جّسد في أقواله وأفعاله، وحياته ومماته، أنموذجا فريدا وفذا في المواجهة العملية للسلطة الغاشمة. وبهذا يكون قد جّسد الصيغة التاريخية الأولى لمواجهة السلطة الخارجة على الحق. فقد كان هو إلى جانب ابن مسعود وجهان لموقف واحد، أو جسدان لروح واحدة هي روح الفعل بمعايير الحق والعدالة بوصفها الأوزان الداخلية التي تصنع توازن الشخصية المثقفة وأنغامها. ومن ثم تحدد مساره وسيرته وتنوع مواقفه المتوحدة في غاياتها. وليس مصادفة أن يحيا ويموتا في زمن متقارب، حيث توفي أبو ذر في عام ثلاثين للهجرة. كما نعثر في موقفه من نفسه شيئا شبيها بما قاله ابن مسعود عن نفسه بأنه "ودّ لو لم يبعث"، بمعنى أن يبقى رمادا في لهيب الوجود الدائم. فقد قال مرة "وددت أن الله خلقني يوم خلقني شجرة تعضد ويؤكل ثمرها!". وقد يكون أبو ذر أكثر من مثل هذه الصيغة الرمزية على حلبة الصيرورة الأولية للخلافة ودراما صراعها الروحي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي. وتحول بأثر مواقفه المتماسكة إلى شجرة تعضد ويؤكل ثمرها بالنسبة للثقافة الروحية والمثقفين الأحرار.

لقد كانت شجرة أبي ذر في فردانيته وتوحيده للعلم والعمل. إذ كان أنموذجا لتكامل المثقف بمعايير الحق والحقيقة، بحيث جرى تجريد شخصيته من حيث سموها الروحي للدرجة التي نسبت للنبي محمد كلمة بحقه تقول "‏أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم". ولم يكن بإمكان هذا الارتقاء أن يحدث دون التنقية الدائمة للإرادة الفردية الحرة، بوصفها إرادة أولها أنين الشوق‏ للمجاهرة بما يمليه العقل والضمير، وآخرها تحمل تبعاتها مهما كلف الثمن. وقد صور أبو نعيم الأصفهاني شخصيته بصورة دقيقة وأخاذة عندما وصفه بعبارة "رافض الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام. وأول من حيا الرسول بتحية الإسلام. لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم، ولا تفزعه سطوة الحكام والولاة"[1].

تكاملت شخصية أبي ذر بذاتها. إذ كان منذ البدء شخصية فردانية. وقد يكون كونه أول من ادخل في الإسلام تحية الإسلام إشارة إلى ذلك. إذ تكشف هذه التحية عن نزوعه العميق صوب السلام والهدوء والطمأنينة، باعتباره نزوعا مميزا للمسكونين بهموم الكفاح من اجل الحق. فقد كان إبداعه لهذه التحية نتاج صراع مرير وتضحيات في المواجهة والتحدي لقريش التي أشبعته ضربا بعد أن كان يبحث عن "الصابئ" (أي محمد). ولم يفق إلا بعد أن غابت الشمس ومسه برد الليل. عندها حمل جسده المرهق إلى زمزم. فاغتسل من مائها. وهكذا بقى متناثرا ما بين الكعبة وأستارها ثلاثين يوما، كما قال عن نفسه، ليس لديه غير شرب الماء وتنفس الهواء إلى أن جاء محمد ذات ليلة إلى البيت وطاف فيه ثم صلى خلف المقام. عندها اقترب منه أبو ذر وحياه بكلمات:"السلام عليك"، فجاءه الجواب "وعليك ورحمة الله". وعندما سألوه لاحقا عن عبادته قبل إسلامه، أجاب، بأنه كان يعبد الله. وعندما سألوه عن قبلته، أجاب: "حيث وجهني الله". وتصور هذه العبارة باطن وظاهر أبي ذر الغفاري وشخصيته المتراكمة في البحث عن الحق والعمل بموجبه. إذ لم تعن "حيث وجهني الله" سوى مرجعية الإخلاص المتراكمة في أعماقه بوصفها جوهر معاناته في الصراع من اجل ما يعتبره حقا. وهو جوهر فرداني ميز شخصيته في كل مراحل ارتقائها الذاتي. بل يمكننا القول، بأن جوهر شخصيته يقوم في الاستمتاع بالمواجهة مازالت محكومة بمعايير الحق والبحث عن الحقيقة. وقد برزت معالم هذه المواجهة قبل الإسلام في البحث عن إسلام للنفس يرتقى إلى مصاف السلام الأخلاقي الدائم. بينما جعل من إسلامه أمام محمد فعلا اقرب إلى التحدي الاجتماعي. وذلك لأن إسلامه الذاتي قد حدث قبل ذلك بسنوات طويلة، بوصفه حركة الروح التلقائية. وليس مصادفة أن يقول لمحمد في أول إسلامه أمامه:

يا رسول الله! أريد أن اظهر إسلامي!

إني أخاف عليك أن تقتل!

لابد منه!

ووجد هذا التحدي العنيد تعبيره في سكوت محمد عن البت في الرأي وترك الحكم النهائي لأبي ذر لكي يسلك ما يراه أمرا لابد منه. بعبارة أخرى، إن تحول القرار إلى حتمية هو التعبير العميق عن شخصيته التي تجعل من المواجهة صورة عادية وطبيعية للروح وليس الجسد، بوصفها الصفة المميزة لحقيقة الروح والأرواح الإنسانية الكبيرة. وقد صورها أبو ذر نفسه قائلا:"جئت وقريش حلقا يتحدثون في المسجد. فقلت: أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدا رسول الله!". فانتفضت الخلق فقاموا فضربوني حتى تركوني كأني نصب احمر. وكانوا يرون أنهم قد قتلوني. فأفقت فجئت إلى الرسول. فرأى ما بي من الحال. فقال لي: ألم أنهك؟ فقلت له: يا رسول الله! كانت حاجة في نفسي فقضيتها"!!

إننا نعثر في هذا السلوك والتحدي العنيد على حقيقة الأبعاد الدفينة والعميقة لشخصية أبي ذر الغفاري، أي حقيقة التحدي والمواجهة العلنية لما تختزنه النفس والروح والعقل. ومن ثم دفع هذا التحدي إلى نهايته من خلال مواجهة الواقع وقواه أيا كان شكلهما وحجمهما، باعتبارها حاجة طبيعية للوجود والحياة شأن الشهيق والزفير. لقد أجاب أبو ذر بكلمة قد تكون الأدق والأصدق والأعظم في شخصية المثقف حالما يعي ما يقول، ويفعل ما يعقل بمعايير الفردية، ويتحمل النتائج المترتبة على ما يقول ويعمل. فالمثقف الحقيقي لا يقول "نحن"، لأنها فكرة الأحزاب والسلطات، بل يقول "أنا"، لأنها مسئولية وحياة والتزام. ولازمته هذه الصفة حتى النهاية، بمعنى الإعلان والجهر في المواقف بصفة الأنا المباشرة، كما نراها على سبيل المثال في وقوفه بباب مسجد الرسول في المدينة زمن عثمان‏ وهو يقول: ‏أيها الناس من عرفني فقد عرفني! ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري!". ويأخذ بعدها في انتقاد سياسة عثمان.

بعبارة أخرى لقد نفّذ أبو ذر الغفاري "الحاجة"‏ الفاعلة في أعماقه بطريقة شخصية وخاصة. غير أن تنفيذع إياها لا يعني من حيث مضمونه الروحي سوى التمثل الفردي للمسئولية والالتزام في الدفاع عن الحق. بحيث جعل من حياته تحقيقا فعليا لها. وتجلت على حقيقتها في زمن عثمان بن عفان، بحيث أصبح هو شجرة التحدي الكبرى، التي أكل من ثمراتها في وقت لاحق جمهور المسلمين المنتفضين ضد ما اعتبروه خروجا على الحق والعدالة. بحيث تحول أبو ذر إلى الصوت الناطق بفكرة الاحتجاج والمواجهة. ولعل في الحادثة المروية أدناه مثالا ملموسا عن إدراك ماهية المسئولية الفردية وروح التحدي. فعندما أتاه رجل وقال له:

إن الذين يأخذون الصدقات من أتباع عثمان قد زيدوا طلباتهم فكيف نعمل؟

قل لهم "ما كان لكم من حق فخذوه، وما كان باطلا فذروه". فما تعدوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة.

وعندما قال فتى من قريش بعد أن سمع هذا الحوار:

أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟

أرقيب أنت عليّ؟ فوالذي نفسي بيده، لو وضعتم الصمصامة ههنا (وأشار على حنجرته) ثم ظننت إني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله قبل أن تحتزوا لانفذتها!

وتكشف هذه الحادثة عن شخصيته وطبيعة التحدي العنيد فيها. بحيث دفعت الإمام علي بن أبي طالب إلى مخاطبته مرة بعد إخراجه ونفيه إلى الربذة قائلا:"يا أبا ذر! انك غضبت لله فأرج من غضبت له. إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك. فأترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم إلى ما منعتهم وأغناك عما منعوك! وستعلم من الرابح غدا والأكثر حسدا... لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك". ويتضمن هذا الموقف بقدر واحد تقييم دقيق ورفيع لشخصية أبي ذر الفردية ومواقفه الشخصية باعتباره "الطرف الآخر" في معادلة الوجود والأخلاق. ومن الممكن رؤية هذه الحقيقة في العبارة القصيرة التي رد بها أبو ذر على محاولة عثمان بن عفان الأخيرة لشراء ذمته عبر رشوته بالمال قبيل نفيه من المدينة إلى الربذة، عندما قال:"تكفي أبا ذر صرمته!". وتمثل هذا الرد تاريخ موقفه من المال العام والخاص على السواء. ولعل النادرة المروية عنه بصدد موقفه من كعب الأحبار[2] حالما تجمع قوم حول عثمان لاقتسام مال عبد الرحمن بن عوف[3]، مثال حي على ذلك. فعندما قال عثمان بن عفان لكعب:

ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه ويعطي في السبيل ويفعل ويفعل؟

إني لأرجو له خيرا.

عندها غضب أبو ذر ورفع العصا على كعب وقال:

وما يدريك يا ابن اليهودية! ليودّن صاحب هذا المال يوم القيامة لو كانت عقارب تلسع السويداء من قلبه!

كما نعثر على صورة متكررة من مواقفه بهذا الصدد مثل الحكاية المروية عنه عندما دخل مرة على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان:‏

اترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات‏.‏

من أدى الفريضة فقد قضى‏.‏ (أجابه كعب).

عندها رفع أبو ذر محجنه فضربه فشجَّ رأسه. آنذاك قال‏ له عثمان:

- يا أبا ذر اتق الله واكفف يدك ولسانك‏.‏

وعندما أرسل له أمير الشام (حبيب بن مسلمة) ثلاثمائة دينار ليستعين بها، ردها إليه وقال: أما وجد أحدا أغر بالله منا؟ مالنا إلا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل". وعندما قيل له مرة:

ألا تتخذ ضيعة كما اتخذ فلان وفلان؟

وما اصنع بأن أكون أميرا؟ وإنما يكفيني كل يوم شربة ماء وفي الجمعة قفيز من قمح.

ووجدت مواقفه هذه تعبيرها السياسي الأكبر في موقفه من مختلف أساليب وطرق نهب الثروة العامة زمن عثمان بن عفان. فعندما كان معاوية بن أبي سفيان عاملا على الشام في خلافة عثمان، فإنه كان يتصرف بالمال العام تحت شعار ‏(‏المال مال الله ألا إن كل شيء لله‏)‏. وجعل من هذا الشعار غطاءا للنهب والسرقة والاستحواذ. مما دفع أبو ذر لمواجهة معاوية بسؤال:‏

ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ ‏

يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره‏؟‏

فلا تقله‏! ‏

فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين‏.‏

‏وقد شكلت هذه المجادلة باعث الهجوم السياسي الفكري العلني لأبي ذر على السلطة والفئات الاجتماعية المرتشية والمشاركة للسلطة في إثمها التاريخي. ومنذ ذلك الحين تحول شعار محاربة الغنى الفاحش إلى شعاره الشخصي. إذ اخذ يردده في كل مكان ومناسبة قائلا:"‏يا معشر الأغنياء والفقراء‏.‏ بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم‏"‏. وكان يستشهد بالآية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)[4].

وحصلت مواقفه هذه على تأييد شعبي، بحيث ولع بها الفقراء وتأفف منها الأغنياء. مما دفع بمعاوية إلى أن يشكوه عند عثمان قائلا، بأن أبا ذر قد أعضل به‏[5]. فكتب إليه عثمان:‏"‏إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، فلم يبق إلا أن تثب فلا تنكأ القرح، وجهّز أبا ذر إليّ، وابعث معه دليلا وزوده، أرفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، فإنما تمسك ما استمسكت‏"‏[6]. في حين رد عليه معاوية قائلا:"إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر". عندها رد عليه عثمان بضرورة طرده من الشام وتسفيره منها إلى المدينة. وهي المحطة النهائية لنفيه السياسي وبداية اندماجه الفعلي بتاريخ الثقافة الروحية والوجدان الصادق.

وبغض النظر عن اختلاف الروايات المتعلقة بكيفية تسفيره إلى المدينة ومعاقبته اللاحقة، إلا أنها تصب في اتجاه واحد ألا وهو تحول الخلاف مع السلطة الغاشمة إلى منظومة مواقف متكاملة. فاليعقوبي يقول بصريح العبارة، بأن عثمان طلب من معاوية تسفيره على "قتب بعير بغير وطاء‏"‏، بحيث وصل إلى المدينة وقد تهرأ لحم فخذيه‏. وإن طرده اللاحق إلى الربذة كان يحمل سمة المنفى. بينما يقول الطبري وابن الأثير وابن خلدون، بأن عثمان أذن لأبي ذر بالخروج إلى الربذة، بناء على طلبه، لأنه لم يطق الإقامة بالمدينة! وهي عبارة فضفاضة ولا معنى لها، باستثناء كونها المنطقة التي أصبحت بالنسبة له سجن الروح والعقل والضمير بسبب سياسة عثمان بوصفها "سياسة بني أمية". وليس مصادفة أن تنقل لنا كتب التاريخ المتعلقة بهذه القضية كيف أن أبا ذر كان يتحدث بحديث نبوي يقول:"إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا". وهو "حديث" أثار غضب عثمان الأموي بحيث أخذ يستفسر بجنون السلطة إن كانوا قد سمعوا "رسول الله يقول ذلك؟". فنراه يبعث إلي علي بن أبي طالب ويسأله:

يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر‏؟‏

نعم!

وكيف تشهد‏؟‏

يقول رسول الله "‏ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر"!

لقد جعل الإمام علي بن أبي طالب من صدق أبي ذر دليلا على صدق "الحديث". ومهما يكن من أمر الحديث إلا انه معقول بتاريخ المواجهة الفعلية الأولى بين النبي محمد وبني أمية. وقد لا يكون للحديث علاقة بمرحلة عثمان، لكنه يحتوي من حيث إمكانيته التأويلية على الأبعاد التي وجد أبو ذر في الحكم الأموي الأول (خلافة عثمان) دليلا عليه. ولا معجزة في هذه الحجة غير قوة الإدانة التي وجهها أبو ذر للسلطة التي تجعل من البلاد والعباد والدين دولا وخولا ودغلا. وسوف يضع أبو ذر هذا الموقف في حكم وموقف سياسي واضح لا لبس فيه عندما قال:"إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل. ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها! والفقر أحب إلي من الغنى!". ونعثر على نفس الموقف عند الإمام علي بن أبي طالب بعدما تحول الصراع مع القوى الساعية لتحويل البلاد والعباد والدين إلى أداة طيعة لخدمة مصالحهم الضيقة. وليس مصادفة أن يجعل عثمان منه الضحية السياسية الكبرى الأولى في تاريخ الإسلام، ومن منفاه دليلا على ما في النزعة الأموية من خروج على منطق الحق الإسلامي. لهذا لم يدعه طويلا في المدينة وطالبه في آخر مرة قائلا:

والله لتخرجن عنها!

أتخرجني من حرم رسول الله‏؟

نعم وأنفك راغم!

فإلى مكة‏؟

لا‏!

فإلى البصرة‏؟

لا‏!

فإلى الكوفة‏؟

لا!‏‏ ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها! يا مروان أخرجه ولا تدع أحدا يكلمه حتى يخرج‏!

فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته. فخرج وعلي والحسن والحسين‏ وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون‏.‏ فلما رأى أبو ذر عليا، قام إليه فقبّل يده ثم بكي وقال‏:‏ إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي! فذهب علي بن أبي طالب يكلمه‏.‏ فقال له مروان‏:‏

إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد‏!

فرفع عليّ السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال‏:‏

تنحّ! نحاك الله إلى النار‏![7]‏‏.‏

ثم شيّعه. بحيث وجدت الأموية في موقف هذا تحديا لها، مما أثار "الوحشة" بين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. بينما كانت حقيقة الوحشة تقوم في نفى أبو ذر إلى الربذة حتى موته فيها. فقد وجدت السلطة فيه مصدرا للفتنة! وهو أمر طبيعي بالنسبة لسلطة ترى في الخضوع والاستبداد أسلوبا للأمان والسلام والإسلام! بينما اعتبر أبو ذر حقيقة الأمان والسلام والإسلام في الدفاع عن حقوق الأمة. انطلاقا من فكرته عن أن العبادات إضافات إلى حقيقة الإيمان، وإن الإيمان حق وعدالة. من هنا إجابته على سؤال وجه إليه عن الدعاء قائلا:"يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الملح من الطعام".

كانت هموم أبي ذر الكبرى هموم الأرواح الكبيرة، ومن ثم هموم الكلّ الإسلامي للدولة الناشئة في ملكها وملكوتها وجبروتها، أي في كلّ عوالمها. مما جعله مهموما بالتفكر، بوصفها الحالة الطبيعية للمثقف الحقيقي. فعندما أراد رجل معرفة حقيقة أبي ذر من زوجته، أجابته:"كان النهار اجمع خاليا يتفكر". وأبرزت هذه العبارة ببساطتها الأعماق غير المتناهية في هموم أبي ذر الكبرى ومعاناته تجاه إشكاليات الفرد والجماعة والدولة والمبادئ. وهي هموم عبّر عنها بكلمات وجيزة عندما قال مرة، بأن النبي محمد أوصاه بوصايا بلورها بصيغة المخاطبة الذاتية قائلا:"أن أحب المساكين، وانظر إلى من هو تحتي، وألا انظر إلى من هو فوقي، وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن لا تأخذني في الله لومة لائم". وينبغي فهم هذه الوصايا على أنها وصايا المعرفة العملية التي تراكمت في مجرى معاناة إدراكه لحقيقة الإسلام بوصفه إسلاما لفكرة الحق والنضال من اجلها. إذ يتحمل المثقف مسؤوليتها المباشرة. من هنا عبارة الأنا الحية في التعبير عنها والالتزام بها، باعتبارها مسؤولية شكلت مضمون وباعث فلسفته الحياتية، التي عّبر عنها بصورة بليغة عندما خطب مرة في الكعبة قائلا:"يا أيها الناس! أنا جندب الغفاري! هلمّوا إلى الأخ الناصح الشفيق!". وبعد أن قدم نصائحه الأخلاقية والعملية صرخ بهم:"يا أيها الناس! قد قتلكم حرص لا تدركونه أبدا!". وكوّن هذا موقف صلب فلسفته الحياتية. فنسمعه مرة يقول عن الناس:"يولدون للموت، ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى، ويتركون ما يبقى. ألا حبذا المكروهان الموت والفقر!". بل نراه يقول لأبي الدرداء عندما مر عليه وشاهده يعمل في بناء بيت لأهله:"لو مررت بك وأنت في عذرة اهلك كان أحب إليّ مما رأيتك فيه!". كما ينتقد المال قائلا:"في المال ثلاثة شركاء – القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت. والوارث ينتظر أن تضع رأسك ثم يستاقها، وأنت ذميم". وعندما شوهد وهو بالربذة في ظلة له سوداء وتحته امرأة له سحماء وهو جالس فقيل له:

انك امرؤ ما يبقى لك ولد.

الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ويدخرهم في دار البقاء.

وفي إحدى المرات قالوا له:

يا أبا ذر لو اتخذت امرأة غير هذه؟

أتزوج امرأة تضعني أحب إلي من امرأة ترفعني!

ولم تكن هذه الفلسفة هينة الوقع على الجميع. ففي مراحل التحولات العاصفة عادة ما يتحول المثقف الكبير إلى قوة طاردة للجميع، لأنه يسعى من اجل جمع لا يجمعه شيء غير الخلل والعيش فيه. لهذا أجاب مرة على قول رجل له:

يا أبا ذر ما لك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟

أني أنهاهم عن الكنوز!

لقد كانت شخصية أبي ذر الغفاري متماسكة ومتكاملة بمعايير الإخلاص للحق والعدالة والنزعة الإنسانية. الأمر الذي جعل منه شخصية فريدة آنذاك في تجسيد حقائق المرجعية الأبدية للروح، بما في ذلك في موقفه من الموت. فقد كان موته دراما تعكس حجم الرذيلة السياسية للأموية وتحديا معنويا هائلا للروح الأخلاقي الذي يعي ما يقول، ويدرك ما يفعل، ويسعد بنهايته بوصفها بداية الأمل الدائم. ومن الممكن العثور على صورة هذه الخاتمة في الحادثة المروية عن زوجته. فقد بكت المرأة حالما رأت نهايته القريبة. وعندما سألها لماذا تبكي، أجابت:

ابكي انه لا يد لي بتكفينك! وليس لي ثوب من ثيابي يسعك كفنا، وليس لك ثوب يسعك كفنا!

لا تبكي! فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا منهم "ليموتن منك رجل بفلاة من الأرض فتشهده عصابة من المؤمنين". وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد مات في قرية أو جماعة من المسلمين. وأنا الذي أموت بفلاة. والله ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق!

أنى وقد انقطع الحجاج؟!

وكانت تشتد إلى كثيب تقوم عليه تنظر ثم ترجع إليه وهكذا إلى أن ظهر من وراء الأفق نفر تخب بهم رواحلهم، فلوحت بثوبها فاقبلوا حتى وقفوا عليها مستفسرين:

ما لك؟

امرؤ من المسلمين تكفنونه يموت!

من هو؟

أبو ذر!

وهو طلب كان محكوما بطلب أبي ذر نفسه عن ألا يكون الكفن من "أمير أو عريف أو نقيب أو بريد"، لأنه "ليس احد من القوم إلا قارف بعض الرذيلة". ووافق على من تقدم بردائه الذي غزلته وحاكته أمه. ومهما يكن من شأن هذه القصة المثيرة، فإنها تقص علينا حقيقة واحدة، وهي أن إخلاص المثقف في التحدي هو الأسلوب الوحيد لصنع وهج الروح الباحث عن سلام فردي واجتماعي وروحي.

 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

[1] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج1، 156.

[2] كعب الأحبار - هو كعب بن ماتع الحميري. توفي عام 34 للهجرة. أصوله من يهود حمير اليمنيين. اعتنق الإسلام زمن عمر بن الخطاب وتحول بفعل قربه من السلطة وثقافته النسبية (التوراتية) إلى شخصية مؤثرة آنذاك. وهي "ثقافة" بسيطة وشفوية. من هنا غلوها في إدخال هذا الكم الهائل من الأساطير التوراتية في الموقف من الأحداث السياسية والدرامية التي مر بها تاريخ الإسلام بعد موت النبي محمد. وقد لقط الذهبي هذه الظاهرة عندما أشار إلى حالته الغريبة التي جعلت منه وهو "التابعي" أو الذين اسلموا في خلافة عمر بن الخطاب، مصدرا لرواية الصحابة مثل أبو هريرة وغيره. (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج3، ص489-494). أما في الواقع فانه لا غرابة في الأمر. وذلك لأنهما يشتركان ويتكاملان. فقد اسلما في أوقات متقاربة نسبيا. أبو هريرة عام 7 للهجرة، وكعب زمن عمر (ويقال زمن خلافة أبي بكر). وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أصولهم اليمنية، بمعنى التقائهم بالفطرة والمكان والنفسية، و"ذكاء" كعب و"علمه" بوصفه حبرا من أحبار اليهود، وغباء أو سذاجة أبو هريرة بوصفه ناقلا مباشرا لما يسمعه، فإن من السهل معرفة سرّ ونوعية التأثير المحتمل لكعب الأحبار على أبي هريرة. وليس مصادفة أن يكون اغلب الحديث النبوي الزائف الذي نقله أبو هريرة مشبعا بالفكرة الأسطورية. فقد كان أبو هريرة ضمن هذا السياق أشبه ما يكون بحمار النقل. بمعنى انه لا يعبأ بما ينقل. لأن ملكته الوحيدة "ذاكرة" بلا عقل. من هنا ثقوبها المليئة بإمكانية تمرير كل شيء، والإسرائيليات بشكل خاص. وقد لقط ابن كثير الدس التوراتي من جانب كعب الأحبار، عندما كتب يقول، بأن القصص المروية عن ملكة سبأ وسليمان هي من وضع أهل التوراة مثل كعب ووهب بن منبه، أي أولئك الذين نقلوا ما اسماه ابن كثير بأخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرّف وبدّل ونسخ.(ابن كثير: تفسير القرآن، ج3، ص339.). وليس مصادفة أن يكذبه ابن عباس مرات عديدة في تفسيره للقرآن. بمعنى معارضته لفهم القرآن بمعايير ومفاهيم وصور التوراة. لكنها عملية طبيعية بالنسبة لكعب الأحبار، تماما بالقدر الذي لم تكن مثار حساسية دينية. لاسيما وان القرآن يحتوي على "إسرائيليات" عديدة، بوصفها جزء من تراث المنطقة وتقاليدها الدينية والأسطورية. فالأساطير الإسرائيلية جميعا من وحي تراث المنطقة وتاريخها، بمعنى أنها لا تخرج من وادي الرافدين ومصر وفلسطين وفارس. من هنا لم يكن "حشر الإسرائيليات" في الإسلام آنذاك من جانب عبد الله بن سلام ووهب بن منبه وكعب الأحبار فعلا متعمدا بقدر ما كان يسري بفعل ثقافتهم الأولية الخاصة. وفيما يخص كعب الأحبار فقد كان تفسيره للقرآن والأحداث بمعايير الرؤية اليهودية يهدف إلى جعل الإسلام نهاية الفكرة الوحدانية والحق. وبالتالي فإن "الدس التوراتي" كان بهذا المعنى يهدف إلى البرهنة على أفضلية الإسلام. ويمكن رؤية هذه الفكرة في كل الخطاب الديني والأخلاقي لكعب الأحبار. ومن الصعب توقع مواقف أخرى لكعب الأحبار بهذا الصدد، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار إسلامه المتأخر وهو في عمر تجاوز الثلاثين من العمر، إضافة إلى احترافه الديانة اليهودية بوصفها احد أعلامها و"أحبارها" في اليمن. لهذا لا نعثر في آرائه مواقفه على استشهاد بالقرآن والحديث مقارنة بما تمتلئ به مواقفه وآراءه من التراث الشفوي لليهودية التوراتية.

الأمر الذي حدد رؤيته للماضي والحاضر والمستقبل بوحي خزين تجاربه الدينية والمعرفية. وهو خزين يهودي. لكن مشاعره كانت تميل كليا للإسلام والدفاع عنه. (انظر أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء ج5، ص346-391، ج6، ص3-48.). وإذا كان اغلب تصوراته تسير صوب التجسيم وإمكانية رؤية الله، فلأنها الرؤية المميزة لليهودية. وهي مكونات تخدم على الدوام جمود الرؤية والمواقف وطابعها الأسطوري، التي عادة ما تكون أداة بيد السلطة بسبب ما في هذه الرؤية من بساطة وتسطيح للوعي. وليس مصادفة أن يصبح كعب الأحبار قريبا ومقربا من السلطة زمن عمر بن الخطاب وعثمان، رغم تباينهما الكبير. وان يحاول معاوية بن أبي سفيان تقريبه منه. وبهذا الصدد تنسب إلى كعب الأحبار فكرة يقول فيها بان مولد النبي بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام! وقد تكون تلك عبارة أطلقها معاوية ونسبها إلى كعب الأحبار. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كعبا لم يتقرب من معاوية رغم إغواء الأخير إياه. وفّضل أن يعيش في حمص ويموت فيها، قبل مقتل عثمان بسنة واحدة (عام 34 للهجرة).

لقد حبذ كعب الأحبار العيش بالقرب من السلطة والابتعاد عن مهمة "الجهاد" الكبرى آنذاك. لهذا لم نسمع عنه اشتراكه في حروب الفتح الإسلامي. لكننا نراه ينهمك في وضع الأفكار السياسية المتلفعة بالخطاب الديني الأسطوري. مما جعله قريبا من السلطة في غضون فترة سريعة جدا. فقد اسلم زمن خلافة عمر بن الخطاب وتحول إلى احد المقربين منه. كما احتل هذا الموقع زمن خلافة عثمان بن عفان. ولم يخلو هذا التقرب أحيانا من التملق. وقد يكون هو السبب الذي جعل بعض كتب التاريخ تنسب إليه إمكانية المؤامرة في مقتل عمر بن الخطاب. لكنه تأويل مفتعل. وذلك لأن العبارة المنسوبة إليه بهذا الصدد التي كان يقولها لعمر قبل مقتله بأيام بأنه شهيد، لا تعني فيما لو جرى وضعها ضمن تقاليد الرؤية الدينية سوى الصيغة المقدسة لنهاية المرء. كما انها كانت تداعب قلوب المسلمين الأوائل! وإذا كان كعب الأحبار يضع هذه الرؤية والمواقف حسب صور التوراة أو أنها "موجودة في التوراة"، فلأنها الصيغة التي تداعب الخيال الإسلامي آنذاك عما دعاه القرآن بعبارة "مطابق لما عندهم" أو "موجود في الكتاب" و"مصدق لما بين يديه" وما شابه ذلك. من هنا استغراب عمر أن يكون شهيدا، بينما كان الجواب، إن صفاتك موجودة في التوراة. ونفس الشيء كرره عندما تعرض عثمان لإمكانية القتل. وإذا كان عمر بن الخطاب قد رفض هذا التأويل انطلاقا من انه لا شهادة في ارض العرب، فإن عثمان رفضه حبا بالحياة! بينما نرى عمر يعارض فكرة بناء المسجد شمال الصخرة بحيث تصبح قبل القبلة في التوجه للصلاة كما دعاه إلى ذلك كعب الأحبار. من هنا بناء عمر للمسجد في مقدمة ما يسم بجبل الهيكل. وحتى في هذا الموقف لا ينبغي فهم رؤية كعب الأحبار إلا ضمن سياق محاولة إدخال التوراة في كل موقف، بوصفها الجزء الجوهري من ذخيرته المعرفية والدينية.

لقد جعل هذا التناقض الجلي في شخصية كعب الأحبار منه اشد عسرا بالنسبة لتاريخ الأفراد والأفكار. كما أن الأساطير والحكايات التي حيكت حوله جعلته اشد تعقيدا بالنسبة لتحديد موقعه الفعلي في الثقافة الإسلامية الأولى وموقع المثقفين من السلطة. أما في الواقع، فقد تمثل كعب الأحبار هذا التناقض وعاش معه حتى النهاية. بمعنى دخوله الإسلام بتراثه اليهودي. وعيشه وفعله بمقاييس اليهودية من اجل الإسلام. وكذلك محاولة الجمع بين واقعية الرؤية العربية المتربية بتقاليد الجاهلية وحبكة الرؤية الأسطورية لليهودية. وجعله هذا التناقض فريسة السلطة واستحالة الانفكاك عن تأييدها. الأمر الذي أثار حفيظة الوعي الإسلامي الأخلاقي النقدي، بحيث وجد في مواقفه شخصية غريبة عن الإسلام، ومن ثم رده دوما وتذكيره إياه بأصوله اليهودية. فعندما أراد عثمان اقتسام أموال عبد الرحمن بن عوف بعد موته، نراه يخاطب كعبا:

ما تقول فيمن جمع هذا المال، فكان يتصدق منه، ويعطي في السبيل ويفعل ويفعل؟

إني لأرجو له خيرا!

عندها غضب أبو ذر الغفاري ورفع العصا في وجه كعب قائلا:"وما يدريك يا ابن اليهودية! ليودّن صاحب هذا المال يوم القيامة لو كانت عقارب تلسع السويداء من قلبه!". وعندما كان عثمان يأخذ من مال المسلمين (يستقرضه بلا عودة!) نراه يسأل كعبا بهذا الصدد عما إذا كان مسموحا للخليفة أن يأخذ من بيت مال المسلمين عند الحاجة على أن يردها فيما يعد. فلم يعترض كعب. على العكس! بينما نرى أبو ذر يعارضه بشدة مخاطبا كعب الأحبار:"أتعلمنا يا ابن اليهودية؟!

وهو نفس الرد السريع الذي قال به المسلمون الذين حاصروا عثمان قبيل مقتله، عندما سمعوا قول كعب بان مقتل عثمان سوف يؤدي إلى حروب دامية. وهو "تنبؤ" سليم، يحمل من حيث أصوله ووسيلته معنى "الإخلاص" للسلطة. بمعنى إنها فكرة ليست محكومة بالرؤية التاريخية السياسية، بقدر ما كانت تعمل من اجل الإبقاء على عثمان حيا يرزق في سرقته وإفساده للدولة والأمة والفكر. وقد لقف معاوية وكل أولئك الذين كونوا عصابته الظاهرة والمستترة وراء عباءة الإسلام المزيف هذه الحالة. كما نراه على سبيل المثال في شخصية عمرو بن العاص. فقد كان، حسب كلماته يؤلب حتى الرعاة على أغنامهم على قتل عثمان! بينما نراه يتحول إلى مقدمة الرافعين لشعار الثأر لمقتل عثمان عندما جرى اختيار الإمام علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين للمرة الأولى بصورة حرة ومن جانب المجتمع وقواه الحية!

[3] عبد الرحمن بن عوف - توفي عام32- 33 للهجرة. اسلم بعد أن بلغ الثلاثين من العمر. وعادة ما يجري إدراجه ضمن أوائل المسلمين. وليس مصادفة أن يدخل ضمن ما يسمى بالعشرة المبشرين بالجنة. وهي العبارة التي تكشف عن قيمة واثر أولئك الذين كان إسلامهم دخولا في عالم مجهول. وبالتالي لم يكن التبشير بالجنة سوى الضوء الساطع في نهاية "الغيب" الذي قدمه الإسلام آنذاك. كان اسمه الأول عبد عمرو فغيره النبي محمد إلى عبد الرحمن. اسلم وهو كبير الثروة. وتعرض بأثر ذلك لمضايقات قريش وأذاهم. واضطر للهجرة مرتين (الحبشة والمدينة). تبرع بأمواله من اجل الإسلام. حيث تصدق مرة بأربعين ألف دينار وخمسمائة فرس! وعندما اضطر للهجرة إلى المدينة، فانه رفض مقاسمة الأنصار أموالهم. وكان طلبه الوحيد معرفة مكان السوق. إذ كان رجلا عمليا مولعا بالتجارة وماهرا بشروطها وأسرارها. عندها اخذ بتوسيع الثروة. وإليه تنسب العبارة القائلة:"لو رفعتن حجرا لوجدت تحته ذهبا!". وليس مصادفة أن يجمع ثروة هائلة بحيث نراه يوصي منها لأهل السبيل فقط بخمسين ألف دينار. وترك مما لم يوص به ألف بعير، وثلاثة ألف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع. بل ينقل عنه انه قال مرة عن نفسه "إني أخشى أن أكون قد هلكت! إني من أكثر قريش مالا". كما ينقل عنه بكاءه قبيل وفاته وقوله:"إن مصعب بن عمير كان خيرا مني ولم يكن له ما يكفن به. وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرا مني لم نجد له كفنا. وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياة الدنيا، وأخشى أن احتبس عن أصحابي بكثرة مالي". وفي النفس كان سلوكه الحياتي متواضعا، بحيث قيل عنه بأنه ما كان يعرف من بين عبيده بسبب تواضعه، كأنه مثل الرقيق يحمل كما يحملون، ويأكل كما يأكلون، ويسير كما يسيرون. وهي صفات متضادة ومتعارضة أثارت في زمنه تعارض الآراء واختلافها حوله. لهذا قال بعض المسلمين عنه عندما تصّدق للمرة الأولى في المدينة بأربعة آلاف دينار:"إن عبد الرحمن لعظيم الرياء!". غير أن سلوكه هذا كان جزء من شخصيته الغريبة التي نعثر عليها أيضا في مواقفه الحياتية والسياسية والعقائدية. فقد هاجر الهجرتين وشهد اغلب المعارك الأولى. ومن بين اكبر مآثره بهذا الصدد قتاله في معركة احد وإنقاذه النبي محمد وتعرضه إلى طعنات الحرب بحيث أصيب، كما يقال بأكثر من تسعين طعنة. وتعرض بأثر إحداها إلى شلل يده. بل أن كل ملامحه كانت تشير إلى اثر الحياة والمعارك من هتم وعسر وعرج! وبالقدر الذي كان يتصف باللين والنعومة، فإنه كان شجاعا مقداما. وبالقدر الذي اعتنق الإسلام وكان غنيا، فإنه كان سخيا كريما. وجعلت منه هذه الخصال، إضافة إلى كونه من أوائل المسلمين و"العشرة المبشرين بالجنة"، شخصية مرشحة لدخول مجموعة الستة المكونين لهيئة الشورى. لكن سلوكه الذي اتصف بالتخلي الشخصي عن الخلافة كان يحتوي على مؤامرة صغيرة في تسليمها إلى عثمان. وهو موقف سياسي لم يخلو من الرياء الأخلاقي واثر الثروة! كما انه الفعل الذي أسهم بوعي أو دون وعي في إثارة الحمية الأموية ونموها اللاحق واندثار معالم الإسلام الأول وعبث التضحيات الكبرى من اجل تحقيق مبادئه الاجتماعية والأخلاقية الكبرى.

[4] القرآن: سورة التوبة، الآية 34.

[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 3، ص11.

[6] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص 615‏‏‏.‏

[7] اليعقوبي: التاريخ ‏ص 89-90.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم