صحيفة المثقف

جمال العتّابي: كنت بعثيّاً (1): مراجعة نقدية موضوعية، أم محاولة للافلات من الإتهام؟

جمال العتابييُسجّل للدكتور طارق مجيد العقيلي نجاحه أخيراً في إقناع محسن الشيخ راضي في تدوين مذكراته، وفقاً لما كان يدلي به الشيخ راضي للسيد العقيلي، وسبق لي ان كتبت للدكتور طارق ساعة الاعلان عن صدور المذكرات، متسائلاً عن الوسيلة التي استطاع بها الوصول الى هذه النتيجة المرتقبة، فذكر لي، ان عامين من المحاولات واللقاءات والزيارات والحوارت، قادت الشيخ راضي لتخفيف هواجسه، ومخاوفه في خوض هذه التجربة، وأقول ان هذه المحاولة بدأها الكاتب مع الشيخ راضي، منذ عام 2009، اذا كانت تسعفه الذاكرة، حين زرته في منزله مع الباحث حيدر حنون، الذي كان يعدّ دراسته للماجستير عن شخصية ناجي طالب، وأبدى السيد محسن  استعداده، بادئ الامر، للتعاون في تدوين مذكراته،إلا انه تراجع واعتذر في اللقاء الثاني معه.

صدرت المذكرات في جزئها الاول عن دار الكتب العلمية في بغداد، 2021، قدّم لها وحررها الدكتور طارق مجيد العقيلي، الذي بذل جهداً أكاديمياً مهما، في تعامله مع وقائع السيرة، إذ إلتزم بدور الناقل المحايد، بأمانة تاريخية، وإلتزام بالمروي، أما ماورد من هوامش وتعليقات فهي تعبر عن رأي وقناعة العقيلي.

ان السبل المعتمدة في علميات التحري والبحث عن احداث اشكالوية في التاريخ السياسي العراقي، ما تزال سبلاً موجعة، لهذا الطرف أو ذاك، في ظل ظاهرة الفوضى، وصراع القوى والأحزاب السياسية، ولا سيما في المدة التي أعقبت قيام الجمهورية الاولى في تموز1958، إذ يحاول كل طرف بإلقاء تبعات المأزق العراقي على الخصوم السياسيين، ويحملهم اسباب الفشل والتراجع والإنتكاس في تاريخ العراق السياسي المعاصر، وفي إدارة الدولة.

مالذي يميز هذه المذكرات عن سواها من المذكرات التي كتبها قادة بعثيون في فترات سابقة؟ أذكر منها على سبيل المثال مذكرات(هاني الفكيكي، ستار الدوري، طالب شبيب، خالد الصالح، حازم جواد، فخري قدوري)، وغيرها، في الإجابة على هذا السؤال، تكمن الاشكالية الأولى في هذه المذكرات، فالعودة الى مذكرات العديد من القادة الشيوعيين، وفي مقدمتها(سلام عادل، سيرة مناضل) إعداد ثمينة ناجي يوسف، مايشير الى دور الشيخ راضي، في اللجان التحقيقية، المشكّلة بعد انقلاب 8 شباط 63، في تصفية وتعذيب الشيوعيين، في معتقل قصر النهاية، والمعتقلات الاخرى.

أعتقد ان الشيخ راضي أراد ان يكون حاضرا الآن، وبحضوره هذا يريد ان يقول كلمته، وادانته بشدة انقلاب 8 شباط إذ يعترف بالقول: ان طيش الشباب ذهب بالبعثيين الى أقصى حد من التهور وانتهاك الحرمات، وسلب الناس لحرياتهم، ويؤكد بالقول: اننا البعثيون لم نقدم للعراق الخير والتقدم المنشود، لكنه في الوقت ذاته يريد ان يحمل الجناح العسكري في الحزب مسؤولية ما حصل، وهو المتمثل، بالبكر وعماش، عبد الستار عبد اللطيف، كذلك عبد السلام عارف، ورشيد مصلح، وعبد الغني الراوي  ويلقي بالمسؤولية على هؤلاء اندفاعهم  الهستيري لتصفية معتقلي قطار الموت بعد حركة حسن سريع، تموز 63، لا أبالغ اذا ما ذكرت ان اعداد المرشحين  للاعدام بلغ رقماً كبيراً ومخيفاً، يصل الى حد ارتكاب مجازر دموية لو نفذ فيهم الاعدام، ولكي يدعم العسكريون موقفهم واصرارهم  على ذبح الشيوعيين بالجملةبغطاء (شرعي)! وديني، زعم عارف ان لديه نص فتوى من الشيخ امجد الزهاوي تبيح له قتل الشيوعيين،  وفتوى أخرى من المرجع محسن الحكيم تؤيد ذلك، وهنا ينفي الشيخ راضي هذه الرواية، انما يؤكد على الفتوى التي صدرت عام 59 بتحريم الانتماء للشيوعية، ووجدت لها صدى ايجابياَ لدى البعث، بما يخدم توجهاتهم السياسية في ظل اجواء الصراع مع الحزب الشيوعي، ويذهب محسن الى ابعد من ذلك محملاً العسكر  المسؤولية  منذ  عام 58 (ص166).

يقول الشيخ راضي :كلنا مسؤولون عما حصل في شباط 63،لكن المسؤولية المباشرة، تقع على المسؤولين عن قصر النهاية، المتعطشين لتعذيب الشيوعيين وابادتهم، كما يصفهم راضي، وهم(مدحت ابراهيم جمعة، عمار علوش، عبد الكريم الشيخلي، محمد حسين المهداوي، احمد طه العزوز، هاشم قدوري، وبهاء شبيب)، وهو ينفي إدعاء القائد الشيوعي آرا خاجادور، من أن علي صالح السعدي أطلق على سلام عادل رصاصة الرحمة، يوم 23 شباط، حسب مقررات مجلس الوزراء المحفوظة في المكتبة الوطنية، إذ تشير الى سفر السعدي، الى القاهرة لحضور احتفالات ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا.

ويروي محسن رواية اخرى مخالفة لرواية ثمينة ناجي، وآرا، محاولاً نفي الاتهامات الموجهة له بهذ الصدد، إذ يذكر في (ص 157): رأيت سلام عادل في المعتقل، لمدة لاتزيد على خمس دقائق ليلة23 شباط، ولم تكن حالته تسمح بإجراء حديث معه، كان جالساً قبالة حازم جواد ليحقق معه،، ولا أنكر انه كان في حالة يرثى لها نتيجة التعذيب القاسي الذي لقيه، وانه تحمل بشجاعة فائقة، شتى انواع التعذيب، وفيما سمعت انه تمت تصفيته تحت التعذيب مساء يوم 23 شباط، ولم يعدم. ونقيض هذه الرواية يذكر حنا بطاطو في كتابه ( العراق، ج3، ص 301) ان الحكومة العراقية اعلنت الحكم بالإعدام على سلام عادل، وحسن عوينة، ومحمد حسين ابو العيس، يوم 9 آذار 63.

وفي إحدى المنعطفات التاريخية الحاسمة بعد إنقلاب  شباط، كان يوم 9 منه عصيباً، وقريباً من القضاء على نظام قاسم نهائياً، وشهدت غرفة عبد السلام عارف في مبنى الاذاعة اجتماعات ولقاءات، لإعداد وكتابة البيان رقم 13، الذي يعد منعطفاً خطيراً في تاريخ حزب البعث، وأساء الى تاريخه بمجمله، كذلك يجد راضي المبرر لدعوة البيان الى إبادة وسحق الشيوعيين، كرد على البيان الذي كتبه سلام عادل لمقاومة الانقلاب، إلا انه لا يدعي البراءة من البيان، غير انه ليس على علم بشكل (دقيق) بكاتبه.

ان تصوراتي وظني كما يقول راضي، هي ان الإندفاع القوي للعسكريين المتعطشين لابادة الشيوعيين، واكثرهم حقداً، البكر وعماش، وعارف، هم من أعدّ صياغة البيان، ويبدو ان الحاضرين من البعثيين المدنيين والعسكريين على حد سواء لم يعترضوا على مضمونه.

ويصف الشيخ راضي المشهد الدموي لإعدام عبد الكريم قاسم ورفاقه، كونه الشاهد الحي على عملية التنفيذ، ويتذكر من أسماء الرماة، الملازم نعمة فارس المحياوي، وهو من القيادات البعثية في الجيش.

وعلى الاغلب يدعو الشيخ راضي دائماً لفهم السياقات والظروف التاريخية، التي أحاطت بفشل تجربة حكم البعث، ويمضي ايضاً نحو القوى السياسية الاخرى، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي، ليحملها تبعات ومسؤولية ما حصل بعد تموز 58، ويدعوها لمراجعة تاريخها، وكتابته بأمانة وموضوعية، وعلينا ان نناقش بحيادية تامة ماذكره الدكتور طارق في مقدمته للكتاب، انما يحسب لصاحب السيرة، انه أدان نفسه بقسوة، قبل ان يدينه أحد، وقدّم اعتذاره لكل عراقي شعر في يوم ما انه كان سبباً في إضهاده، والحق ان تأخر الاعلان عن الإعتذار والإدانة خير من ان لا يأتيا بعد.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم