صحيفة المثقف

ضياء نافع: غوغول وسلفادور دالي

ضياء نافعكنت أتجول بين لوحات سلفادور دالي الغريبة والعجيبة والجميلة وأتأملها باندهاش واعجاب شديدين، فاقترب مني الفنان التشكيلي الغريب الاطوار دالي وسألني متعجبا – ما الذي جاء بك الى معرضي؟ فأجبته بسؤال ايضا – ولماذا هذا التعجب؟ فقال ضاحكا – لانك تتنفس هواء الادب الروسي فقط، ولا يوجد هذا الهواء هنا، وأخشى عليك ان تختنق بين لوحاتي،  فقلت له وانا اضحك ايضا – نعم، أنا أتنفس هواء الادب الروسي، هذا صحيح، ولهذا أنا هنا، اذ ان بعض الاجواء والملامح في لوحاتك تذكرني بنتاجات غوغول الادبية، فصمت دالي قليلا وبرم شاربيه المعقوفتين، ثم قال لي – ادعوك لشرب القهوة والدردشة عن هذا الموضوع الطريف جدا بالنسبة لي،  فهل تتقبّل دعوتي؟ قلت له – نعم وبكل سرور. وهكذا بدأنا بهذا الحديث الممتع ونحن نشرب القهوة معا، واظن ان هذا الحديث ربما سيكون ممتعا للقراء ايضا، ولهذا اقدم خلاصته لهم ...

سألني دالي في البداية – اين رأيت أجواء وملامح نتاجات غوغول الادبية في لوحاتي؟ فقلت له – في كل لوحاتك، اذ ان عوالكما الفنية، انت وغوغول، مشتركة ومتشابهة بشكل واضح، اذ انكما تستخدمان الخيال الجامح والجميل، الخيال الغريب جدا ولكنه مفهوم للمتلقي، بل وان المتلقي هذا يندهش امام هذا الجمال غير الاعتيادي في اطار هذا الخيال غير الاعتيادي، فقال دالي – لقد سمعت مثل هذه الآراء الغريبة جدا عندما تحدثت مرة مع بعض اللاجئين الروس في باريس، وحتى قال لي أحدهم – ان دالي هو غوغول في الفن التشكيلي، ولكن هذه اول مرة اسمع تلك الآراء من عراقي، ولهذا دعوتك لشرب القهوة والدردشة معك حول ذلك، لانني أعرف، ان العراقيين عموما ينظرون الى غوغول بعيون بيلينسكية بحتة . ضحكت أنا، وقلت له، هذه اول مرة ايضا اسمع بكلمة (بيلينسكية!) هذه، فما قصتها ؟ ضحك دالي وقال – لقد رسم بيلينسكي صورة غوغول في النصف الاول من القرن التاسع عشر، وعكس بيلينسكي في صورته تلك خصائص ذلك العصر ومشاكله باخلاص، واراد ان يؤكد على صحة آرائه الشخصية البحتة في كل شؤون الحياة (بما فيها الآراء السياسية) عبر نتاجات غوغول،  ولازالت هذه الصورة ذات الصفات النموذجية لذلك الزمان (ملصوقة!) في رؤوس وعقول الكثيرين من الروس طوال قرنين من الزمان تقريبا، اذ ان الاحداث الهائلة في ذلك البلد تسارعت، ولم تسمح لهم ان يتأملوا تلك الصورة القديمة لغوغول او تطويرها، او حتى تشذيبها في الاقل وجعلها تتناسق وتتناغم مع خصائص الازمنة اللاحقة المتنوعة جدا، التي تلتها، والعراقيون يكررون هذه الصورة القديمة ليس الا، الصورة التي (استنسخوها!) طبق الاصل في اواسط القرن العشرين بروسيا السوفيتية، عندما تعرفّوا على الواقع الروسي آنذاك . صمتنا كلانا، دالي وأنا، بعد هذه الاستطرادات الفكرية الحاسمة التي قالها دالي، ثم اضطررت أن اقطع هذا الصمت، وقلت له، انت لا تعرف الظروف الرهيبة، التي مرّت بنا في العراق، والتي جعلت المثقف العراقي (يستنسخ!) الصور والافكار، ولكن المثقف العراقي وبالتدريج بدأ يتطور، وهو اليوم يختلف عن هؤلاء، الذين (استنسخوا الصور طبق الاصل في ذلك الزمان!) كما قلت انت . ابتسم دالي وقال  لي، انه لا يتابع دقائق احداث العراق ابدا، ولا اي بلد من هذه البلدان المشابهة له، ولكن الصدفة فقط هي التي أتاحت له ان يستمع الآن الى أقوال عراقي، وقال - (المهم بالنسبة لي، هو اني اريد ان اعرف اين وجدت العناصر المشتركة بيني وبين غوغول) . انتعشت أنا، وقلت له – ان لوحتك الغريبة والرائعة (اصرار الذاكرة)، حيث  الساعات المائعة ذكرتني بغوغول، اذ انك اردت هناك ان توقف الزمن، واوقفته فعلا، لكن الاجواء المحيطة بهذا الفعل الفلسفي الجبار قد ماتت، اي انك اوقفت الزمن لكنك فشلت في ايقاف الحياة وديمومتها، وهذا ما فعله غوغول قبلك بالضبط في الثلث الاول من القرن التاسع عشر، اذ انه انهى مسرحيته المشهورة (المفتش) بمشهد صامت رهيب، حيث تجمّد فيه كل ابطال المسرحية، اي انه اوقف الزمن ايضا، ولكنه فشل بايقاف الحياة . انت كررت نفس الفكرة الفلسفية (التي يحلم بها الانسان دائما)، ولكن بشكل فني جديد ومدهش وجميل وخاص بك وحدك ويرتبط بخيالك الجامح، هذا  مثل واحد ليس الا، مثل وجدت به أنفاس غوغول في لوحاتك، واريد ان اتحدث لك عن مثل آخر، اذ انك عرضت في احدى افلامك كيف ان بطلك (أضاع فمه)، الا يذكرك هذا الشئ ببطل غوغول الذي (أضاع أنفه) في روايته القصيرة - الانف ؟ ضحك دالي، وقال، هذه ملاحظات دقيقة جدا، وربما انعكست في نتاجاتي عبر اللاوعي ليس الا، وهي تحتاج الى تأمّل عميق وهادئ، واراد ان يضيف شيئا، الا ان جرس المنبّه اللعين ايقظني من نومي ... 

 

أ. د. ضياء نافع       

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم