تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

نجاح موسي.. عاشقة الفلسفة الخلقية

محمود محمد علييقال أن الباحث في المجتمعات العربية عندما يتحدث عن المرأة فإنه يسير علي أرض مليئة بالألغام .. ونحن هنا في صحيفة المثقف الزاهرة نغرف غرفا، لنتحدث عن امرأة عزيزة علي القلب والروح؛ ألا وهي الدّكتورة "نجاح موسي علي"  - الأستاذ المساعد بقسم الفلسفة - بكلية الآداب – جامعة سوهاج بجمهورية مصر العربية ، والذي خطفها الموت خطفا بعد صراع طويل مع المرض، لتصعد روحها إلي باريها وذلك في يوم الجمعة الموافق 20 سبتمبر 2019 عن عمر يناهز 64 عاما، تاركة سمعة وسيرة عطرة ستخلّدها في قلوب من عرفوها.. صمتّ وحدي عندما اتصل بي صديقي الدكتور علي قاسم (الأستاذ المساعدة بقسم الفلسفة بسوهاج)  ليبلغني بذلك الخبر الفاجع.. تعطّلت قواي، عادت بي الذّاكرة إلى مواقف كثيرة لا تنسى.

تذكّرت مقولة للإمام عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول فيها: "أكره الحق، وأهرب من رحمة الله، وأصلي دون وضوء! فسئل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أكره الموت وهو حق، وأهرب من المطر وهو رحمة من الله، وأصلي على الرّسول دون وضوء.

ووالله إنّ الموت مكروه مع أنّه حقّ على الأحياء كلهم، خصوصا إذا ما اختطف إنسانة وأستاذة شرفت بالتدريس علي يديها، كانت أستاذة لا مثيل لها في القيم الأخلاقية ؛ فقد كانت تنضح حبّا إنسانيّا قلّ مثيله. رحلت عنا.. وهي لم تحمل ضغينة لأحد.. رحلت لتترك غصّة في قلوب من عرفوها كلهم، فوالله إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن، "وإنّا لفراقك  يا دكتورة نجاح لمحزونون".

ولعلى بهذا المقال أوفيها شيئا من حقها وفضلها في حق التتلمذ على يديها سنين طوال، وإن لم أستطع ملازمتها طويلا، لكنى استلهمت بعضا من روحها الجميلة وحنوها مع صلابته وقوتها، فهو نموذج نادر لتلك المرأة الصعيدى التي جمعت الصلابة فى الحق والصدع به، مع الرحمة بالخلق والعطف عليهم والمودة لهم.

وتعد الدكتورة نجاح موسي علي نموذج حقيقي لنضال المرأة المصرية فى سعيها للتميز والنجاح؛ حيث أبحرت بين أصعب القضايا الفلسفية الحديثة والمعاصرة في لغاتها الأصلية، وظلت تثق بنفسها وصريحة إلي حد التطرف في المصارحة والبعد عن المداهنة ولا تقول لنا إلا الحق، وهي من جيل جاء فى زمنٍ كان يقتصر فيه دور المرأة على المنزل فقط، ولا شك أن إسهاماتها ستظل علامة مضيئة للمرأة المعاصرة، وهي ظاهرة لا تتكرر كثيرا بين النساء  الصعيديات بمصر المحروسة.

وقد حصلت الدكتورة نجاح موسي علي ليسانس آداب قسم الفلسفة بتقدير "جيد جًدا" من كلية الآداب جامعة المنيا عام 1977م، ودرجة الماجستير في الآداب بتقدير "ممتاز" من جامعة أسيوط 1984م، ودرجة الدكتوراه في الفلسفة مع مرتبة الشرف الأولي من جامعة الزقازيق سنة 1989م؛ وعلي إثر ذلك تم تعيينها مدرسا للفلسفة الحديثة والمعاصرة عام 1989 ومن قبل كانت معيدة خلال عام 1977، ثم مدرسا مساعدا عام 1984، وشاءت عناية الله أن ترقي درجة أستاذ مساعد لتكون أول امرأة تشرف علي قسم الفلسفة بكلية الآداب بسوهاج.

وللدكتورة نجاح موسي العديد من الكتب والأبحاث المنشورة منها بحث بعنوان "الحب العقلي لله وعلاقته بالسعادة عند سبينوزا، والاتجاه النسبي في الأخلاق في إحدى الفلسفات المعاصرة - "وليم جيمس نموذجا"، وبحث بعنوان "مشكلة وجود الشر في العالم عند ليبنتز"، وبحث بعنون "تصور هوبز للإلزام الأخلاقي، والمنفعة الحدسية عند سدجويك"، وكتاب من أعلام الفلسفة الحديثة، وكتاب بعنوان دراسات في فلسفة الأخلاق، وكتاب المنفعة الفردية عند توماس هوبز، علاوة علي ترجمتها لكتا مقالات في الأخلاق البيولوجية؛ كما أشرفت علي العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه . علاو ة علي أنها حضرت الكثير من الندوات والمؤتمرات خلال الأعوام من 2001 وحتي أعوام 2009.

كانت الدكتورة نجاح موسي من جيل الأستاذة الذين يؤمنون بأن الأخلاق تمثل الأخلاق الجانب المعنوي والروحي في الحضارة الإسلامية وجزءً أصيلا من بنيتها الثقافية، كما أن للأخلاق دورا حاسما في التطور الفكري والتقدم الحضاري، فهي تلمس كل مظاهر الحياة الإنسانية، وتقرر مواقفنا إزاء الظواهر والمعطيات الخارجية. وبالتالي، يتميز الحديث عن الأخلاق بكونه يتصل بوجودنا الإنساني مع الحياة بتفاعلنا مع ما تطرحه من تحولات ومسارات.

وفي ذات الوقت كانت تؤمن الدكتورة نجاح موسي بأن الفلسفة هي في أصلها نظرية أقرب ما توصف بأنها عمليه، وهذا قد لا ينطبق على الأخلاق من حيث أنها سلوك والسلوك أمر لا يفسر لمجرد النظر بل أقرب ما يكون بالعمل وكثيرا ما كنت أسمعها تبين أن الفلسفة نظر استدلالي، بحيث لا نحتاج إلا لاستخدام العقل والنظر للوصول إلى الحقائق سواء بالكونيات أو الغيبيات أو السلوكيات.

ومع بداية بزوغ البحث الفلسفي في بلاد اليونان تؤكد الدكتورة نجاح موسي أن الفلسفة بمعناها العام انشطرت إلى قسمين أساسيين: قسم نظري وآخر عملي. وإذا كان ثمة خلاف في عديد مباحث القسم النظري، فلا يوجد مثل ذلك الخلاف فيما يرتبط بالقسم العملي، فقد تلقّى الباحثون منذ القدم هذا القسم في أبحاث ثلاثة: سياسة وأخلاق وتدبير المنزل. فالأخلاق تمثل ضلعًا من ثلاثي أضلاع الحكمة العملية التي تهتم بتكاليف الإنسان ووظائفه.

علاوة على ذلك، فإن البحث الأخلاقي في نظر الدكتورة نجاح موسي له جانبان؛ يرتبط أحدهما بالنظر والأسس والتصورات العامة عن الأخلاق، فيما يتعلق الجانب الآخر بالعمل وبيان أنماط السلوك الفردي والجمعي، ووفق هذا التقسيم فإن الجانب الأول يتكفّل وضع النظريات والمبادئ العامة التي يستند إليها السلوك البشري، وكذا عرض ونقد مختلف وجهات النظر والمقولات التي يمكن أن تطرح في هذا الشأن. فيما يتكفّل الجانب الثاني البحث في التطبيقات العملية للسلوك الأخلاقي بوجوده المحدّد الخارجي.

وحول التفرقة بين بين حقلي علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق، فمن جهة أولى تعتمد فلسفة الأخلاق في  نظر الدكتورة نجاح موسي علي العقل كأداة في البحث والتحليل والاستدلال، فيما يمكن لعلم الأخلاق أن يعتمد أدوات ومصادر متعددة كالعقل والنص الديني وتواضعات الناس واتفاقاتهم وسائر نتائج البحوث الإنسانية. ومن جهة أخرى فإن فلسفة الأخلاق لا تتكفّل البحث في تفاصيل المسائل الأخلاقية، خلافًا لعلم الأخلاق فإنه يقدم الفتاوى الأخلاقية وما ينبغي وما لا ينبغي فعله من تفاصيل المواقف العملية السلوكية ؛ كما أن فلسفة الأخلاق ليست أخلاقًا في نظر الدكتور نجاح موسي، بمعنى أنها لا تمثل مجموعة قواعد سلوك خاصة، وإنما هي إطار نظري واقع خلف الأخلاق (ميتا أخلاق)، فهي نظرية عقلية عن الخير الشر والقيم والسلوك الأخلاقي؛ تفكك قواعد الأخلاق وتحلل بناها، وتقدم رؤية متكاملة عن الأخلاق.

وكانت تعول الدكتور نجاح موسي علي أن أفعال العقل كثيرا ما تكون أفعال خُلقية، حيث تري أنه طالما أن جميع أفعال الإنسان بما فيها أفعال العقل أفعال خلقية، فيلزم أن يكون العقل جزء من الأخلاق، بحيث يصبح العقل تابع للأخلاق. أي أن قابلية الأفعال النظرية والفكرية للتقويم الخُلقي هي ما يجعل العقل تابعاً لمجال الأخلاق. بل أكثر من هذا، حيث أن التصرفات التي تعد تصرفات لا أخلاقية هي لا توصف على أنها تصرفات لاعقلانية بل توصف بأنها لا إنسانية، حين نقول بأنه تصرف لا أخلاقي فإنه يعتبر تصرف لا إنساني. أما حين نقول أنه تصرف لاعقلاني لا يلزم عنه أنه تصرف لا إنساني.

وحول الأخلاق في الفلسفة العملية (البرجماتية) كانت الدكتورة نجاح موسي تبين لنا أن المذهب النفعي تفرع في النصف الأول من هذا القرن فروعًا شتى وانتصر له طائفة من الفلاسفة الأمريكيين بوجه خاص وأصبح من الجائز في منطق هؤلاء النفعيين أن يوضع لحل المشكلة الواحدة مجموعة من المذاهب قد تصدق كلها أو يصدق الكثير منها في وقت واحد، متى أفضت هذه الفروض إلى تحقيق منفعة بغير اعتراف للحق لذاته أو الباطل لذاته، ويتضح المذهب بصورة أوضح عند أحد كبار فلاسفته وهو "وليم جيمس" الذي يرى أن الخير يقوم في إشباع مطالب الإنسان وتحقيق رغباته، جاء بعده "جون ديوي" الذي اعتبر الأفكار والمثل العليا والمبادئ مجرد وسائل وذرائع يستعين بها الإنسان فيتوجه سلوكه إلى حيث تتحقق مطالبه وغاياته.

وعن نقد البعد الأخلاقي عند البرجماتية كثيراً ما نجد الدكتورة نجاح موسي تعول في ذلك علي ما قاله أستاذها الدكتور الطويل في تقييم هذه الفلسفة والذي يقول :"ويكفي أن نعتبر البرجماتية الحق أو الخير كالسلعة المطروحة في الأسواق، قيمتها لا تقوم في ذاتها بل في الثمن الذي يدفع فيها فعلًا فالحق فيما يقول جيمس كورقة نقد تظل صالحة للتعامل حتى يثبت زيفها، ولم يجد أصحاب البرجماتية غضاضة في النظر إلى الحق أو الخير، كما ينظرون إلى السلعة التي تطرح في الأسواق، هذه هي العقلية الأمريكية في الفلسفة وفي الأخلاق وفي السياسة وفي كل مجال"، بيد أن الدكتورة نجاح موسي تضيف إلى ذلك أن هذه الفلسفة كانت ملهمة للنظام الرأسمالي القائم على مبدأ المنافسة الحر، ثم ظهرت مساوئه عند التطبيق واستفحلت أخطاره التي تتضح في اللا أخلاقية بالرغم من التقيد ببعض الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد، ثم الارتباط الوثيق بالحرب، وأخيرا الانحرافات السلوكية وأظهرها الإجرام، إذ أن فتح الباب على مصراعيه للمنافسة والصراعات من شأنه تمجيد العنف.

وأخيرا تصل الدكتورة نجاح موسي إلي نتيجة هامة ومهمة وهي أن الأخلاق الحقة هي التي تبقى لجوهرها وتصلح لكل زمان ومكان. إنها تتطور وتسمو بالفرد إلى الأفق، نحو نظام متكامل منسجم، وإلا فالباقي هو قيم الانحطاط والارتداد. لذلك نجد في الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية تشديدا على الأخلاق، ليس كمحدد لطريقة تصرف الإنسان وسلوكه مع كل مظاهر الحياة فقط، بل أيضا كعلم يهدي إلى التي هي أقوم.

وفي النهاية لا أملك ألا أقول: أستاذتي الدكتورة نجاح لكِ منا كل الثناء والتقدير، بعدد قطرات المطر، وألوان الزهر، وشذى العطر، على جهودك الثمينة والقيمة .. فمنك تعلمنا أنّ للنجاح قيمة ومعنى .. ومنك تعلمنا كيف يكون التفاني والإخلاص في العمل، ومعك آمنا أنّ لا مستحيل في سبيل الإبداع والرقي.. ومنك تعلمنا أنّ للنجاح أسرار .. ومنك تعلمنا أنّ المستحيل يتحقق بثانويتنا.. ومنك تعلمنا أنّ الأفكار الملهمة تحتاج إلى من يغرسها بعقول طالباتنا .... فلك الشكر على جهودك القيمة لكونك كنت ملاكاً يمشى على الأرض فى زمن يتكالب فيه الناس على الحطام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم