شهادات ومذكرات

سامية عبد الرحمن.. أيقونة الفلسفة الحديثة والمعاصرة

هناك افتراض خاطئ في مضمونه بأنه ليس هناك إسهام نسائي في مجال الفكر الفلسفي؛ أي أن كل الفلاسفة رجال، وليس هناك نساء فيلسوفات. وهناك من يتخذ من هذا الافتراض الخاطئ، كدليل على أنه ليس للمرآه مقدره على التفكير العقلاني- الذي يعتبر التفكير الفلسفي شكل من أشكاله، ولهذا نحاول في هذا المقال المتواضع إثبات أن تاريخ الفلسفة افتقر لأصوات نسوية، مثل "سامية عبد الرحمن"، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة القيم بكلية البنات – جامعة عين شمس، استطعن أن يخترقن القلاع الفكرية المشيّدة بإحكام من قبل الوعي الذكوري المتغطرس، بل تكاد تخلو القواميس المعرّفة بالفلاسفة من أسماء فيلسوفات سجّلن حضورهن على نحو متشظّي عبر محطات تاريخ الفلسفة. وقد تهاطلت العديد من الأسئلة اللاّسعة على هذا الإقصاء المتعمّد، إن لم نقل الممنهج للمرأة في أن تكون وجه آخر للمعرفة الممكنة حول قضايا أنطولوجية وأخلاقية ومعرفية تمّس الإنسان، هذا الكائن ذو الطبيعة المزدوجة.

وقد يعود ذلك إلى "الصورة التي رسمها أرسطو" للمرأة، وأثر ذلك على التراث العربي- الإسلامي، إذ وجدنا بكيفية أو أخرى الإمام أبو حامد الغزالي يعرض ''بعض الحقائق الاجتماعية السائدة التي تحط من قيمة المرأة وقدرها، مستنداً إلى أحاديث متواترة يصعب الأخذ بصحة معظمها''، ويظهر هذا أيضا عند قراءة قواميس الفلسفة والفلاسفة وموسوعاتهم، سواء تلك التي أعلنت عن تقدميتها أو تلك التي قامت على أساس الفهم بغرض تجاوز الفكر الدوغمائي والجدلي، إذ نكتشف منذ الوهلة الأولى ذلك الوجود التراجيدي للمرأة كذات مفكرة، وكأن تاء التأنيث ثقيلة على مفهوم ''الفيلسوف''، مع أنّها لا تحمل بالمشروع الفلسفي، بل تصنعه وترسم آفاقه المستقبلية.

ولكن بفضل الجهود الإصلاحية والتي جاءت مع ثورة 23 يوليو 1952م، فُتحت أبواب العلم الموصدة في وجوه البنات فاجتزن المراحل إلي التعليم العالي في وقت وجيز، فدخلت أفواجاً من الفتيات حرم الجامعة، وميادين العمل، والصالونات الفكرية، واخترقت المرأة بجدارة عالم الصحافة وعوالم أخري بعد جهد جهيد، وبعد غياب حضاري مزري أضر بوضع الأمة بأسرها وبمنظومتها القيمية الصانعة لمجريات التاريخ.

في نهاية تلك المرحلة برز اسم "سامية عبد الرحمن"، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة القيم بكلية البنات – جامعة عين شمس، وهي واحدة من كبار الرواد في دراسة الفلسفة الحديثة والمعاصرة بمصر، والعالم العربي، وقد استطاعت من خلال بحوثها ومؤلفاتها أن تنقل البحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كانت في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديها هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

وشخصية الدكتورة " سامية عبد الرحمن " شخصية متميزة بطابع الجدية، وقد كان الحوار معها من أصعب الأمور، وخاصة مع أولئك الذين لا يحسنون استخدام عقولهم ؛ فهي لا تقبل هذراً ولا فوضي. والألفاظ لديها ينبغي أن تكون علي قدر معانيها، فالتزيد مرفوض، والفيهقة مستحيلة . لذلك كانت دائرة أصدقائها ضيقة جدا، ومعارفها قليلين، وصارت الفكرة التي شاعت عنها أن الصغار يخشون منها، والكبار يهابونها.

وللدكتورة سامية عبد الرحمن مجموعة كبيرة والأبحاث المنشورة؛ نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: تأملات في الفلسفة المعاصرة: الحقيقة، الزمان، الوجود الإنساني،" جدل الفکر والواقع ــ "قراءة جديدة فى فلسفة هيجل"، والميتافيزيقا بين الرفض والتأييد، والمرأة في فكر ستيوارت مل...وهلم جرا.

ولم تكن " سامية عبد الرحمن " ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان عملها العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكانت في ذلك متسقة مع نفسها تمام الاتساق، فقد كانت تبحث دائماً عن النوعية من الحياة، وتعرف كيف تتذوقها وتُرضي بها حسها المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفها عن الإنتاج الغزير، برغم قدرتها عليه، هو أنها كان من ذلك النوع النادر من المفكرين، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

ولم تكتف " سامية عبد الرحمن " بالإلمام بمقتضيات البحث العلمي في مجال الدراسات الفلسفية أو ترسيخها في قلوب وعقول تلامذتها وكل من يستمعون إليها، بل كان لها السبق في استبطان عقول من تشرف علي رسائلهم ؛ بمعني أنها كان مقتنعة تماماً بأن لكل باحث شخصيته وميوله، فمنهم من يميل إلي المنهج التاريخي المقارن، ومنهم من يميل إلي التحليل والتعمق، في حفر الأفكار، فلم تحرم " سامية عبد الرحمن " هؤلاء أو هؤلاء من ميولهم، ولكنها أضافت إليها، فحافظت علي شخصية تلاميذها والقواعد العلمية في آنا واحد، مما يندر أن يتوفر عند أساتذة كثيرين.

أضف إلي ذلك حبها العميق للغة العربية، فقد كان عاشقة لها، غيورة عليها، حظية بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبها في كل كتاباتها؛ حيث كان أسلوبها جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراتها قصيرة، لكنها واضحة الدلالة. هذا علاوة علي اتقانها الرائع للغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

ولن أنسي حوارها الجميل مع القصواء علي قناة Ten ذلك البرنامج الفلسفي الرائع والذي ناقشت فيه أكثر من قضية حيث قالت " سامية عبد الرحمن " عن التطور بأنه موجود منذ أيام الفكر اليوناني، لكن ليس بنفس الصيغة التي تحدث بها داروين"، متابعة "إذا كان داروين هو من بدأ نظرية التطور في عالم الطبيعة والعلم، وفسرها هربرت سبنسر".

وأشارت سامية إلى أن داروين لم يتحدث عن الإنسان في كتابه الأول، إذ كان متخصصا في النباتات والحيوانات فقط.

وأضافت سامية عبد الرحمن في لقائها مع الإعلامية قصواء الخلالي في برنامج "المساء مع قصواء" المذاع عبر قناة "TeN" الفضائية، إن مؤسس البراجمانية الفيلسوف تشارلز ساندرز بيرس، وضع نظرية المعنى فقط، لكن الفيلسوف وليام جيمس، توسع في هذا الفكر، وخرج به من حيز الدين رغم نشأته الدينية، وجعل أفاقها مرن.

وأشارت سامية عبدالرحمن، إلى أن الحالة النفسية للفيلسوف وليام جيمس، أثرت في كتابه، فعندما تعرض لأزمة نفسية كتب كتاب "مبادئ علم النفس" وبعدها كتب "إرادة الاعتقاد"، منوهة إلى أن "جيمس كان يرى أن معنى البراجماتية في الصدق، وكان يقول الصدق هو مرادف المنفعة أو ما يحقق للشخص المنفعة".

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور " سامية عبد الرحمن " بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكرة مبدعة في الفلسفة، ونموذج متفرد لأستاذه جامعية نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة والثقافة العربية، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لـ " سامية عبد الرحمن " التي لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في "سامية عبد الرحمن" قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين"، وأمد الله لنا في عمرها قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاها الله لنا إنسانة نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منها عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

في المثقف اليوم