قراءة في كتاب

ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي (1)

محمود محمد عليإن قراءة الفكر السياسي عند شهاب الدين ابن الربيع (المتوفي 227 هـ / 842 م) تحتاح إلى ثلاث قراءات: أ- القراءة الأولى: أساسها اكتشاف الإطار الفكري للوجود السياسي الذي يسعى إليه ابن أبي الربيع لتحليله وتقديم خصائصه. فابن أبي الربيع، يُقدم للحاكم نصائحه في إدارة أمته، وهو من ثم يعيش واقعًا سياسيًا معينًا بما له وما عليه، ومن منطلق مدركات سائدة يفسر ويسوغ التعامل مع ذلك الواقع السياسي. القراءة الأولى تسمح لنا من خلال معايشة النص باكتشاف ذلك الإطار الفكري.

ب- تأتي القراءة الثاني: حيث نسعى لإعادة كتابة النص بمعنى اكتشاف المفاهيم الفكرية التي تسيطرعلى مدركات "ابن أبي الربيع"، وإعادة متابعة النص والحقيقة السياسية التي يعيشها "ابن أبي الربيع" من ذلك المنطلق. بعبارة أخرى القراءة الأولى قراءة حرفية على عكس الثانية التي تتضمن محاولة اكتشاف الباطن الذي لم يكتبه المؤلف، وإنما عبر عنه بوسائل غير مباشرة، وقد ترك للقارئ، استنتاج المفاهيم والتصورات من خلال التراكمات اللفظية، والمفاهيم المستترة خلف التراكمات اللفظية.

جـ- وتأتي القراءة الثالثة: حيث نحاول أن نكتشف فلسفة ابن أبي الربيع حول إطار التعامل البشري في عالم الإنسانية الاجتماعية. سوف نرى، كيف أن كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" والذي كتبه ابن أبي الربيع، ما هو إلا تنظير للحقيقة السلوكية كمحور لإطار الوجود البشري.

وهنا نحاول أن نقدم القراءات الثلاث لتحليل الفكر السياسي عند أبي الربيع، ولتحقيق هذا الغرض نبدأ أولًا في تحديد نقطة البداية، وهي الفهم الكلي للخصائص التي ينتمي إليها كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" والخلفية التاريخية - بكافة أبعادها السياسية والاجتماعية والعمرانية والثقافية - التي وجًهت إليه هذه الرسالة، بحيث إن التفاعل بين هاتين الحقيقتين سوف يسمح لنا بأن نكتشف الدلالات الحقيقية للمدركات السياسية؛ وذلك على النحو التالي:

أولاً: حقيقة الكتاب والعصر:

بدأ تدوين الفقه السياسي متأخرا جدا عن تدوين كثير من العلوم، كالحديث والتاريخ والتفسير والفقه والأدب. وامتدت فترة التمهيد له مدة طويلة، من أواخر الخلافة الراشدة إلى عصر المأمون العباسي. كما ساهم في تكوين بنيته الفكرية كل العناصر الثقافية المحلية والوافدة جاهلية وإسلامية.

ونظرًا لكون الأمة العربية كانت قبل البعثة وصدر الإسلام، شفوية الثقافة، فقد ظل التفكير السياسي لديها شفويًا تتداوله الألسن شعرًا وحكمة وأخبارًا. ولم تكن الحاجة ماسة إلى تدوينه في فجر الإسلام مثلما كانت بالنسبة للعلوم المتصلة اتصالًا واضحًا مباشرًا بالعقيدة والعبادة. لذلك تأخر التدوين السياسي إلى أوائل القرن الهجري الثاني، حيث ظهر ضمن مصنفات أدبية وأخبارية على هيئة مواعظ ونصائح وأساطير مقتبسة من تجارب الإنسان وتقاليد الأمم. ومن ثم انتقل إلى مرحلة ثانية هي مرحلة المصنفات المستقلة الخاصة به؛ ولكن على غير يد الفقهاء ومن مرجعية غير إسلامية. فقد ظهر أول المصنفات فيه ترديدًا للفلسفة الإشراقية، هندية وصينية وبابلية وآشورية وفـارسية ويونانية. وكان ذلك على يد شهاب الدين ابن الربيع (المتوفي 227 هـ / 842 م )، المتأثر بالآراء السياسية لأفلاطون وأرسطو؛ حيث تناول الفلسفة السياسية في كتابه "سلوك المالك في تدبير الممالك " ويضم الكتاب أفكارًا فلسفية سياسية مهمة، يتفق فيها ابن أبي الربيع مع علماء عصره وغيرهم من العرب المسلمين أو من غير العرب، من أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وأنه لا يكتفي الواحد منهم بالأشياء كلها. ثم ينتهي إلى حقيقة مهمة في الفلسفة السياسية قائلاً: " فقد تبين مما ذكرنا أن الناس مضطرون إلى تدبير وسياسة وأمر ونهي، وإن المتولين لذلك ينبغي أن يكونوا أفاضلهم" وهنا يستحق الإشارة إلى أمرين اثنين:

الأول: أن ابن أبي الربيع يعتبر العمل السياسي هو حتمية لالتقاء واجتماع البشر.

الثاني: أن يتصدى لهذا العمل أفاضل الناس.

وقد اختلف كثير من الدارسين حول شهاب الدين ابن أبي الربيع, فقد اختلفوا على وجه الخصوص في الحقبة الزمنية التي عاش فيها، وانقسموا إلى فريقين: الفريق الأول: ويؤكد أنه عاش في زمن الخليفة العباسي المعتصم (الخليفة الثامن) وله ألف كتابه "سير الملوك في تدبير الممالك"، ومن هؤلاء: حاجي خليفة، وإسماعيل البغدادي، وحامد ربيع، ويوسف إليان سيركيس، وعمر رضا كحالة، والزركلي، ويقول هذا الفريق بأن ابن الربيع أشار صراحة في بداية كتابه أنه ألفه للخليفة المعتصم المتوفي سنة 288هـ- 842م.

أما الفريق الثاني ويعول على أنه عاش في زمن الخليفة المستعصم (الخليفة الثامن والثلاثين)، ولهذا الخليفة ألف الكتاب، ويتبني هذا الرأي كل من: جورجي زيدان وناجي التكريتي: أما جورجي زيدان، فيقول: "واطلعنا على كتاب في السياسة اسمه سلوك المالك في تدبير الممالك تأليف "شهاب الدين أحمد بن محمد بن الربيع. وقد جاء في أوله أنه أُلف للخليفة المعتصم بالله العباسي (المتوفي سنة 227هـ)، فإذا صح ذلك كان مؤلف هذا الكتاب أقدم من الكندي والفارابي. ولكن موضوع الكتاب وأسلوبه يدلان على أنه وضع بعد ذلك التاريخ، لأنه مرتب على شكل المشجر في أسلوب يدل على وضوح الأفكار في ذهن مؤلفه. مما لا يتأتى إلا بعد نضج العلم نضجاً تاماً. وزد على ذلك أن اسم شهاب الدين من الأسماء التي لم تكن معروفة  في زمن المعتصم، وإنما هو مما طرأ على الإسلام بعد رسوخ الأتراك في الدولة. وفي كتاب الفهرست (لابن النديم) مئات من أسماء المؤلفين، ليس فيهم واحد اسمه شهاب الدين. والفهرست كتب سنة 377هـ، أي بعد وفاة المعتصم بقرن ونصف قرن. وهذا تاريخ ابن الأثير لم يرد فيه اسم شهاب الدين قبل انقضاء القرن الخامس للهجرة، فلا يُعقل أن ينفرد رجل بهذا الاسم في أول القرن الثالث، ولكل عصر أسماء وألقاب تابعة لأحوال اجتماعية خاصة به. ولعل الخطأ وقع في تحريف اسم الخليفة الذي وضع الكتاب له فكان "المستعصم" توفي سنة 656هـ، فقرئ المعتصم، وكثيرا ما يتفق ذلك في قراءة المخطوط. ثم إن الفهرست لم يذكر هذا الكتاب ولا مؤلفه، وإنما ذكره كشف الظنون بدون اسم المؤلف.

أما ناجي التكريتي فيؤيد رأي جرجي زيدان, فيذكر أنه ألفه للخليفة المستعصم للأسباب التالية:

1- ينطوي الكتاب على نضج فكري وفلسفي سياسي عميق يستبعد أن يكون قد جاء بعد الكندي والفارابي.

2- إن أسلوب كتابة ابن الربيع متأثر بدرجة كبيرة (ويثبت التكريتي ذلك) بكتاب يحي بن عدي المتوفي سنة 365هـ -975م، وقد نقل عنه ابن أبي الربيع أسلوب الجداول والتشجير، كما أن مقاطع عديدة من الكتاب تكاد تكون متماثلة مع مؤلف ابن عدي، وفي هذا يقول الدكتور التكريتي: "ومن تحليل الكتاب ومقارنته بكتاب آخر هو كتاب تهذيب الأخلاق لمؤلفه يحيى ابن عدي سنرى كيف أن ابن الربيع قد تأثر بآراء من سبقه من فلاسفة الإسلام وكيف أن فقرات وأفكار كثيرة من تهذيب الأخلاق نقلها ابن الربيع وكتبها بطريقة الجداول والتشجير".

ويخلص التكريتي فيقول: “لا شك أن وجهة نظر جرجي زيدان أقرب إلى الحقيقة. أما الفلسفة اليونانية قد انتقلت في زمن الرشيد والمأمون فهذا مما لا شك فيه فقد كان عصر ترجمة. أما أثرها فقد جاء بعد ذلك كما نقرأ في مؤلفات أبي بكر الرازي والفارابي وابن سينا وغيرهم.

ونحن لا نؤيد رأي جرجي زيدان وناجي التكريتي فيما ذهبا إليه، وسندنا في هذا ما ذهب إليه حاجي خليفة (توفي 1068هـ)؛ حيث يقول في كتابه "كشف الطنون": "سلوك المالك في تدبير الممالك -في مجلد –تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع سنة...ألفه للخليفة المعتصم بالله العباسي.

وهذه العبارة الأخيرة تعتبر بمثابة الرد النهائي على زعم جرجي زيدان بأن حاجي خليفة ذكر الكتاب دون أية إشارة إلى اسم مؤلفه هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يقول جرجي زيدان إن موضوع الكتاب وأسلوبه يدلان على أنه وضع بعد ذلك التاريخ، وهذا خاطئ تماما لأن موضوع الكتاب الذي يحدد فيه المؤلف أركان الملك ونظام الحكم، فقد عرف تمام المعرفة لا في العصر العباسي فقط، بل وأيضًا في العصر الأموي  كما ذكر المفكر الباكستاني المعاصر "هارون خان شيرواني" في كتابه دراسات في الفكر والنظام السياسي في الإسلام "، أن كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك قد ألفه صاحبه في عصر المعتصم، وأنه أول عمل سياسي في الإسلام".

ولعل أكبر دليل على دحض ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي القائل بأن هذا الكتاب لم يؤلف في زمن الخليفة المعتصم هو ما جاء في مقدمة الكتاب نفسه؛ حيث يقول صاحبه: "ومن السعادة لأهل هذا الزمان أن إمامهم ومتقلد سياستهم، من هو مجمع المحاسن المذكورة، ومعدن الفضائل المشهورة، ومن جمع هذه المحامد المشكورة، من جاد الزمان ببقاءه على الدين وذويه، ومن الدهر بوجوده في الإسلام ونبيه، وهو سيدنا ومولانا ومالكنا خليفة الله في العباد والسلك سبيل الرشاد المعتصم بالله أمير المؤمنين، نجل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، الذي اجتمعت فيه الخصال الموجبة للخلافة والإمامة من موتات الطبع لقبول الفضائل واستعمالها في مواضعها وإظهارها في نفسه أولا ثم في سائر أهل مملكته شريفها ودنيئها، عالمها وجاهلها كل واحد منهم على حسب ما توجبه طبقته فعمر الدنيا وحصنها، ونشر عدله فيها وأمنها... فقد خضعت له الأمم، وانقادت له الممالك، وخنع له الأعداء، وذلت له السادات، ورضيت برياسته الملوك، وسكنت الحروب وائتلفت القلوب، وكسد الجهل، وقامت سوق العلم وانتشر العدل وزال الظلم .

1- تحليل كتاب ابن أبي الربيع:

قسم ابن أبي الربيع كتابه إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة: بيّن في المقدمة بأسلوب متذلل دواعي التأليف بقوله: " وبعد، فإن الذي بعث المملوك على تأليف هذا الكتاب أمران، أما الأول فإنه وقف على كتاب مشجر في حفظ البدن  مختصر. ولا خفاء على كل ذي فطانة ومن به أدنى نظر في العلوم الحقيقية أن النفس أشرف من البدن، فمراعاتها إذا وإصلاح أخلاقها الصادرة عنها وتزكيتها بالعلم والعمل من أهم الأسباب، وأحرى بالتقديم عند ذوي الألباب؛ والثاني أن بعض من أوامره مطاعة مجابة، وعوارض العوائق عن ملتمساته منحسرة منجابة، ومن اصطفاه الجناب المقدس وقدمه ورفعه على أمثاله وكرمه، أمره أن يمضي ذلك الرأي في إنشاء الكتاب المقدم ذكره".

وفي الفصل الأول بين أن أكمل مراتب الإنسان، وأعلى درجات السعادة الأبدية تستحق بتوفر ثلاث عشرة فضيلة، هي: جودة تخيل، وصحة وفهم وحفظ وفطنة، ومحبة للعلم والصدق والعدل، وكبر نفس وقوة عزيمة، وترفع عن الشهوات واستهانة بالدينار والدرهم. وفي الفصل الثاني بين أحكام الأخلاق وأقسامها. وفي الفصل الثالث بين أصناف السيرة العقلية الواجب اتباعها والعمل بها. وفي الفصل الرابع تحدث عن أقسام السياسات، ووجوب تبجيل الملوك وتعظيمهم، لأن ذلك هو سبيل تحصيل السعادة. ثم تطرق إلى ما يفتقر إليه الناس من حفظ للنوع، غذاءً ولباسًا ومسكنًا وتناسلا وعلاجًا، وكل ذلك يتم بتدبير الملوك الذين هم الحفظة على الخلق، وتنصيبهم يكون من الله تعالى ... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم