قراءة في كتاب

كيف نقرأ جورج طرابيشي من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث (1)

محمود محمد علييعد جورج طرابيشي واحدا من أهم واشهر المفكرين السوريين في العصر الحديث، نظرا للقيمة المعرفية المتنوعة التي تحوزها مؤلفات وترجماته، فقد ترجم لـ " فرويد " و" هيجل "، و"سارتر" وآخرين، كما انتقل من النقد الأدبي أو نقد الرواية خصوصاً إلي نقد التراث، حيث راوح في بداياته بين النقد النفسي والنقد الاجتماعي في دراسة الرواية العربية، فحلل أعمال توفيق الحكيم، إبراهيم المازني، سهيل إدريس... وخص نجيب محفوظ بمؤلف " الله في رحلة نجيب محفوظ، وبحث في "رمزية المرأة في الرواية العربية" .. لكنه، كما سبق الذكر، غادر هذا الحقل المعرفي وانشغل بقضايا الفكر ونقد التراث ليرتبط اسمه بـ" نقد نقد العقل العربي " . تنضاف إلي ذلك مؤلفات حركها شاغل النهضة ونقد الفكر العربي المعاصر منها : " هرطقات بجزأيه "، و"من النهضة إلي الردة، تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة "، و" ازدواجية العقل، دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي "، المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، " مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" .

وجورج طرابيشي (1939م - 16 مارس 2016م)، مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري. من مواليد مدينة حلب عام 1939، يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستير بالتربية من جامعة دمشق. عمل مديراً لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية (1972-1984)، ومحرراً رئيسياً لمجلة الوحدة (1984-1989). أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره، وقد بعد حربه الأهلية، إلى فرنسا -التي بقي فيها حتى وفاته متفرغاً للكتابة والتأليف.

تميز طرابيشي بكثرة ترجماته ومؤلفاته؛ حيث ترجم لفرويد وهيجل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين. بلغت ترجماته ما يزيد عن مئتي كتاب في الفلسفة والأيديولوجيا والتحليل النفسي والرواية.

وللدكتور طرابيشي مؤلفات هامة في الماركسية والنظرية القومية، وفي النقد الأدبي للرواية العربية التي كان سباقاً في اللغة العربية إلى تطبيق مناهج التحليل النفسي عليها. من أبرز مؤلفاته: "معجم الفلاسفة" و" من النهضة إلى الردة" و" هرطقات 1 و2 " ومشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاماً وصدر منه خمسة مجلدات في "نقد نقد العقل العربي" كان آخرها الجزء الخامس "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" (دار الساقي، بيروت، 2010)، أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، ويوصف هذا العمل بأنه موسوعي؛ إذ احتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي ليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي، وقد حاول فيه الإجابة عن هذا السؤال الأساسي: هل استقالة العقل في الإسلام جاءت نتيجةً لعامل خارجي، وقابلة للتعليق على مشجب الغير؟ أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟

وأهم نقاط المسار الفكري لطرابيشي هو انتقاله عبر عدة محطات أبرزها الفكر القومي والثوري والوجودية والماركسية. انتهى طرابيشي إلى تبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.

طبعا وكما هو معروف عن المفكر جورج طرابيشي فقد تنقل بين العديد من المدارس الفكرية، بدءً من الماركسية إلي القومية العربية، ثم الوجودية، وأخيراً النقد الجذري أو  النقد الذاتي وهو رائد فعلا في هذا المجال، وهو يقول بأن هذا النقد الجذري يجب أن يصدر عن المفكر العربي في ظل الوضع الراهن بين رؤية مؤمنة للماضي ورؤية مؤدلجة للحاضر.

وقد توفى المفكر والفيلسوف جورج طرابيشي يوم الأربعاء 16 مارس 2016م في العاصمة الفرنسية باريس عن عمرٍ ناهز 77 عاماً.

في هذا المقال سأقدم لكتاب من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث – النشأة المستأنفة للمفكر والفيلسوف السوري الراحل جورج طرابيشي، وهذا الكتاب قيل عنه أنه جاء كجزء خامس من مشروعه الضخم " نقد العقل العربي"، وهو ذلك المشروع الذي خصصه من أجل نقد مشروع الفيلسوف المغربي الراحل محمد عابد الجابري، الذي يشمل أربع كتب له: نقد العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل العربي الأخلاقي، والعقل العربي السياسي، وقد رد عليه الفيلسوف طرابيشي بخمسة مجلدات: العقل المستقيل في الإسلام، ووحدة العقل العربي الإسلامي، ونظرية العقل، وإشكالية العقل العربي، من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث.

عكف جورج طرابيشي في كتابه " من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث: النشأة المستأنفة" علي بناء اشكاليته الخاصة حول ما سماه :" استقالة العقل في الإسلام"، وكان من المفترض أن يأتي هذا الكتاب كحلقة أخيرة من سلسلة رده علي المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في " نقد العقل العربي"، ولكنه وجد نفسه يغادر ساحة سجاله مع الجابري ليصوغ رؤية مغايرة مستقلة، وفي الاتجاه المعاكس فإذا كان الجابري قد قرر أن " استقالة العقل في الإسلام"، إنما تمت بفعل عوامل خارجية من غنوصية وهرمسية وعرفان مشرقي وغيرها من تيارات الموروث القديم " للآخر" تسللت إليه كحصان طرواده، فإن طرابيشي علي النقيض من ذلك يؤكد أن تلك الاستقالة داخلية لا شأن "للآخر" بها، فالعقل العربي الإسلامي بحسب طرابيشي قد استقال وظل منكفئاً علي نفسه يراوح في حلقة مفرغة بفعل هيمنة " الأيديولوجية الحديثية" عليه ردحا طويلا من الزمن، وكان من أعظم جنايات تلك الأيديولوجية أنها غيبت صراحة أو ضمنا القرآن لصالح " الحديث"، وغيبت فاعلية العقل لصالح المعجزة، وقضت علي التعدديات، وهي برأيه – أيديولوجية ما تزال ماثلة حتي اليوم، تتبدي في ممانعة للحداثة وعجز عن استيعاب مفهوم التطور وجدلية التقدم، الأمر الذي ينذر – إن استمر – بالردة نحو قرون وسطي جديدة وذلك حسب محمد أبو الخير السيد.

والكتاب على جدّته وحداثة صدوره ينتمي كما يقول سعيد ناشيد إلى جنس الكتب المؤسسة والبناءة، إذ يؤسس لنظر جديد للواقع العربي وللتراث العربي الإسلامي بما لفه وغمره من غشاوات والتباسات عطلت تطوره أو اجتهاده. في الكتاب استدعاء للمدوّنة القرآنية الأساسية في التراث العربي الإسلامي، وفي نهل من المدوّنة الخلدونية الكثيفة بمقولات القطيعة والاستمرارية التي سماها طرابيشي النشأة المستأنفة، وفي الكتاب أيضا استدعاء نقدي لمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري. وإذا أضفنا للكتاب أثره في النظر إلى التحول الخطير من الإسلام القرآني إلى الإسلام الحديثي وتاليا إسلام الفقهاء، ومن إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، فإنه يكتسي أهمية وخطورة بالغتين. “الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وغروبه في الحضارة هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية” هكذا لخص طرابيشي في كتابه “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” تصوّره للازمة الفكرية والحضارية التي تطبع كامل الفضاء العربي الإسلامي، والتي حمّل فيها المسؤولية للمنظومة الفكرية الداخلية ونقد خلالها في آن واحد مدوّنة الجابري. كتاب طرابيشي هو محاكمة للتراث العربي الإسلامي الذي سمحت آلياته الفكرية بالزيغ من مرجعية القرآن إلى مرجعية الحديث بما أدى إلى “إقالة العقل” وتعطيل الاجتهاد، ولعل ما نعيشه اليوم من تمثلات إسلام القدامة تعبير عن أهمية أثر طرابيشي.

وكتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” كتاب بالغ الأهمية؛ لتسليطه الضوء على مناطق شديدة الحساسية في المنظومة التراثية، وتجاوزه خطوطًا يعدها كثيرون من المختصين في التراث، ومن أهل الثقافة غير العالِمة خطوطًا حمرًا ؛ حيث يضع جورج طرابيشي فيه أسس مساهمة فكرية قد تحقّق اختراقات وازنة في مسألة الإصلاح الديني، وذلك على أساس استعادة إسلام القرآن في مواجهة إسلام الفقهاء وإسلام الشيوخ. إن الكتاب لهو لبنة أساسية ضمن مشروع يتوجب علينا أن نواصله بحكمة وهدوء وتبصّر. علاوة علي أن الكتاب يقدم رؤية للنقد الذاتي وللفحص الابستمولوجي الدقيق من خلال عرض الأفكار علي المعرفة وأدواتها وليس البحث عبر الايديولوجيا، وكما قلنا فإن هذا الكتاب يقدم نموذجا رائعا للنقد الذاتي والفحص الابستمولوجي الدقيق لكامل المنظومة الفكرية للعالم الإسلامي كأمة وكحضارة .

يبني مؤلف الكتاب، جورج طرابيشي، كما يقول عمر كوش أطروحاته في الأبحاث التي يتطرق إليها، على مقدمات ومقولات، كبرى وصغرى، يخرج منها بنتيجة تعتبر أن التحول من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، الذي اقترن بتحول ذي خطورة تشريعية ولاهوتية هو التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، وما استتبعه، من حكم على العقل العربي الإسلامي، ابتداء من القرن الخامس الهجري، بالانغلاق والانكفاء على نفسه، ومنعه من اكتشاف مفهوم التطور وجدلية التقدم، الأمر الذي أسسه في خانة «ممانعة للحداثة».

يبين الكتاب أن الإسلام، والذي خرج إلى الفتوحات، حاملاً الرسالة القرآنية، ارتدّ بعدها نحو نفسه محملاً بما سيتم تكريسه تحت اسم السنة النبوية. وفي البداية، لم يكن للإسلام من أهل آخرين سوى أهل القرآن، لكن بعد الفتوحات الإسلامية ظهر أهل السنة، وانتزعوا الغلبة تدريجياً لأنفسهم ولمصطلحهم، وخاصة بعد تكريس الهزيمة النهائية للمعتزلة، والقضاء على التفكير العقلاني وعلى عقلانيات المتكلمين، فظهر الإسلام الحديثي، المنتصر على أثر «محنة» أحمد بن حنبل، ووقوف السلطة السياسية منذ أيام الخليفة المتوكل مع العامة من أهل السنّة. وكان لشعوب البلدان المفتوحة دور في تطوير علوم القرآن وشروحه، وفعلوا ذلك - في غالب الأحيان - تحت شعار "السنة هي القاضية على القرآن، وليس القرآن هو القاضي على السنة".

ويشير الكتاب إلي أنه كانت بداية "الانقلاب السني" أو التحول الخطير من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث مع مالك ابن انس، ثم اكتملت أبعاده مع الشافعي، واستأنفه ابن حزم، فيما يكاد أن يكون انقلاباً على الانقلاب في «نشأة ثانية». وكان الشافعي أول من نظر لتحويل الرسول (ص) من مشرَّع له إلى مشرِّع.

أما ابن حزم، فقد تخطى العتبة التي وقف عندها الشافعي في انقلابه ليجيز نسخ القرآن بالحديث، وليعطي التشريع الرسولي عين مكانة الصدارة التي للتشريع الإلهي، لكن الانقلاب الحزمي الظاهري، على خطورته هذه، يلابسه انقلاب «باطني» أكثر خطورة، من خلال تنصيب نفسه في الحقيقة مشرِّعاً، وإن وضع تشريعه على لسان الرسول (ص)، وبالتالي على لسان الله عز وجل، طبقاً للمعادلة الأقنومية الحزمية. وبهذا المعنى لا يكون الرسول(ص) قد تحول من مشرَّع له إلى مشرِّع إلا في الظاهر فحسب، أما في الباطن، فالعكس هو الصحيح. وإن كان الشافعي قد قام، حسب طرابيشي، بالمهمة الإيديولوجية والإبستمولوجية الأولى، وهي تأسيس السنّة، وربما كقرآن بعد القرآن، فإن الإمام ابن حنبل هو بحق المؤسس الثاني للسنّة، وربما كقرآن قبل القرآن، ليكتمل بذلك الانقلاب السني الذي يفترضه طرابيشي في إسلام العصر الوسيط. وهذا يقتضي أو يستجر المقايسة مع الغرب، الذي دخل طور التقدم بعد التحول من مسيحية الكنيسة إلى مسيحية الإنجيل، بواسطة الثورة التي قام بها مارتن لوثر، وبالتالي فإن الإسلام بحاجة إلى لوثري جديد أو ثائر مسلم، من أجل تحقيق الانتقال من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن.

ثم يفرق طرابيشي بين القرآن والسنة. وهو نفس التفريق الوارد لدى بلاشير وتلميذه أركون بين الحدث القرآني، والحدث الإسلامي. لماذا هذا التفريق؟ لأنه يوجد لدى الوعي الإسلامي خلط كبير بينهما حتى ليكادان يشكلان شيئا واحدا. ولكن القراءة التاريخية المتدرجة التي يتبعها طرابيشي تثبت العكس. فلحظة القرآن غير لحظة تشكل السنة والحديث النبوي والفقه والتشريع.. من هنا عنوان الكتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. هذا لا يعني أنه لا توجد علاقة بينهما! ولكن يوجد تمايز لا ينبغي إغفاله. من هنا تلك العبارة الشهيرة التي يستشهد بها طرابيشي ويضعها في مقدمة كتابه: السنّة هي القاضية على القرآن وليس القرآن هو القاضي على السنة. بالطبع لا ينبغي أن نفهم هذه العبارة المنسوبة إلى الإمام الشاطبي أو الإمام الأوزاعي قبله على أساس أنّ السنّة أعلى من القرآن أو أفضل منه. وإنّما ينبغي ان نفهمها على الأساس التالي: بما أن السنة جاءت بعد القرآن من حيث الزمن فإنها هي التي عن طريقها نفهم القرآن ونحكم عليه (قاضية)، وليس عن طريق القرآن نحكم عليها. القرآن ليس حكما أو قاضيا على السنة لسبب بسيط: هو أنه جاء قبلها وبالتالي لم يعرفها فكيف يمكن أن يحكم عليها؟.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...........................

1- جورج طرابيشي: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، دار الساقي للطباعة والنشر، 2010.

2- مناف الحمد : من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (قراءة نقدية) .. (مقال).

3- عمر كوش: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.. (مقال).

4- سعيد ناشيد: الحاجة الماسة لقراءة كتاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث".. (مقال).

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم